جواهر الكلام - ج ٢٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأخرى المسبوق ، وفي الثانية إلى ثلاث رقع ، يكتب في الثالثة الاقتران ، ليحكم معه بالبطلان ، واما قول المصنف وفي رواية أخرى يذرع الطريق بينهما ويحكم للأقرب فلم نجدها بل لو وجدت لم يكن لها معنى محصل ، إذ الفرض حصول الاتفاق في الوقت الواحد ، فلا مدخلية لذرع الطريق وحينئذ فلا ريب في ان الأول أي البطلان أظهر لما عرفت كما انك قد عرفت ان الأقوى القرعة في غيره.

لكن‌ روى أبو خديجة (١) كما في الدروس وغيرها وفيما حضرني من نسخة الوسائل والحدائق أبو سلمة عن أبى عبد الله عليه‌السلام « في رجلين مملوكين مفوض إليهما يبيعان ويشتريان بأموالهما ، كان بينهما كلام فخرج هذا يعدو الى مولى هذا وهذا يعد والى مولى هذا ، وهما في القوة سواء فاشترى هذا من مولى هذا العبد والأخر كذلك وانصرفا الى مكانهما فتشبث كل واحد منهما بصاحبه ، وقال له أنت عبدي وقد اشتريتك من سيدك قال : يحكم بينهما من حيث افترقا بذرع الطريق فأيهما كان أقرب فهو الذي سبق الا بعد وان كانتا سواء فهما ردا على مواليهما جاءا سواء وافترقا سواء الا أن يكون أحدهما سبق صاحبه ، فالسابق هو له ، إنشاء باع ، وإنشاء أمسك وليس له أن يضربه » ‌قال الكليني والشيخ و‌ في رواية أخرى (٢) « ان كانت المسافة سواء أقرع بينهما ، فأيهما وقعت القرعة عليه كان عبده » ‌وهو كما ترى صريح في ان المسح للاشتباه لا للعلم بالاتفاق الذي هو كالصريح في البطلان معه ، وان كان ما فيه من الحكم بذلك لتساوى الطريقين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٨ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ١٨ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ٢.

٢٦١

واضح الاشكال ، كالإشكال فيما فيه من الحكم بالسبق لا قربية الطريق إذ هو مع قصوره عن الحجية بالضعف ، واعراض الأكثر بل لم يعمل به الا النادر كالشيخ في النهاية التي هي متون أخبار وبعض أتباعه ، ومخالفته للضوابط الشرعية محتمل لإرادة حصول اليقين بذلك.

وعلى كل حال فلا دلالة فيه على المسح مع الاقتران بل هو دال على خلافه ، بل قيل ان مرسل القرعة لا دلالة فيه أيضا ، على أن محله الاقتران وان كان قد يناقش فيه بأن الظاهر إرادة الكليني والشيخ من قولهما وفي رواية أخرى الى آخره أنها كهذه الرواية في السؤال والجواب الى قوله وان كانتا سواء اختلفا فالأولى حكم فيها بالبطلان ، وفي الأخرى بالقرعة ، ولا ريب أن رواية القرعة أولى لاعتضادها بعموم‌ ما دل على « انها لكل أمر مشكل » (١) ولان استواء الطريق أعم من الاقتران فهي مؤيدة لما ذكرناه من مشروعيتها للاشتباه في السبق أو السابق لكن قد يقال ان الخبر صريح في القرعة ليتعين أحدهما خاصة من دون تعرض لاستخراج الاقتران المقتضى للبطلان. بل ظاهره أو صريحه عدمه.

هذا كله إذا كان الشراء لهما ، اما إذا كان لسيدهما فعقد السابق منهما صحيح ماض ، والأخر محتاج إلى الإجازة ، بناء على انقطاع الاذن عنه بزواله عن ملك السيد وان به تفترق الاذن عن الوكالة وان عقده حينئذ للغير فضولي موقوف على اجازة ذلك الغير ، وان اقترنا ، فالمعروف بين المتأخرين البطلان ، لتوقف الصحة على بقاء الاذن الموقوف على عدمها لكن الظاهر ارادة التوقف على الإجازة من البطلان ، إذ لا وجه له معها فيصحان معا لو اجيزا ، والا فالمجاز منهما ، لعدم استناد الصحة حينئذ الى الاذن بل إليها وفيه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث ـ ١١ باختلاف يسير.

٢٦٢

انه يمكن القول بالصحة من دون توقف على اجازة بل به جزم الكركي لأن الإذن مقارنة لتمام العقد ، فالانتقال وانقطاع الاذن قد ترتبا معا على تمام العقد ترتبا ذاتيا ، ولا يعتبر في الاذن أزيد من ذلك فتأمل جيدا.

وان علم السبق واشتبه السابق ، وقد حصل الرد من أحدهما فالقرعة ، ولو كانا وكيلين صح العقدان على كل حال ، بناء على عدم انقطاعها بالخروج عن الملك ، وفي شرح الأستاد « إلا مع قرينة التقييد ، فلو عقد على انه عبد مأذون فظهر حرا ، أو ملكا لغير الاذن بطل عقده على نحو ما تقدم ، ولو كان وكيلا صح ولو توكل على انه حر فعقد فظهر عبدا لغير موكله ، بطل ، ومع الإجازة من مولاه تقوى الصحة كما لو ظهر عبدا لموكله.

وفيه سؤال الفرق بين الاذن والوكالة ، ولو اذن له ثم باعه فعاد اليه لم تعد اذنه على الأقوى ، كما لو حرر فعاد ملكا له ، والزوجة والخادم والشريك المأذونون تزول الاذن عنهم بزوال الصفات ولا تعود ، لو عادت ، على الأقوى » وهو جيد على الفرق بين الاذن والوكالة ، وفيه بحث ، وعليه فلو كان احد العبدين وكيلا والأخر مأذونا صح شراء الوكيل مطلقا ، واما المأذون فإن تقدم شراؤه صح ، والا كان موقوفا على الإجازة والله أعلم.

المسألة الثانية عشر من اشترى جارية سرقت من ارض الصلح قطعا أو بمنزلته ، والا فلو سرقت من ارض الحرب مع احتمال كونها من أهل الحرب أو منهم ولو في غير أرضهم ، فللسارق ، بل في شرح الأستاد انها لو سرقت من كافر في غير تلك الأرض ، ولا يعلم حاله أو بين الحدين ولا يعلم حاله احتمل عدم العصمة وثبوتها وهو الأقوى ، وان كان فيه ان ما ذكره احتمالا هو الأقوى على الظاهر ، وعلى كل حال ففي مفروض المسألة كان له ردها على‌

٢٦٣

البائع واستعادة الثمن ولو مات أخذ من وارثه ولو لم يخلف وارثا استسعيت في ثمنها على‌ ما رواه مسكين السمان (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل اشترى جارية سرقت من ارض الصلح فقال فليردها على الذي اشتراها منه ، ولا يقربها ان قدر عليه ، أو كان مؤسرا قلت جعلت فداك انه مات ومات عقبه قال : فليستسعها » ‌وأو فيه بمعنى الواو اى لا يقرب الجارية باستسعاء ان قدر على البائع وكان مؤسرا ، ويحتمل ان يكون المراد أو كان المشتري موسرا اى لا يقربها مع أحد الأمرين ، الا انه مع قصوره سندا ولا جابر مخالف للقواعد الشرعية بالرد إلى البائع الذي هو ليس مالكا ولا وليه ولا وكيله ، بل ربما كان هو الظالم السارق ، وباستسعاء مال الغير فيما لم يصل اليه وهو ظلم فوق ظلم.

وزاد في شرح الأستاد مخالفته بإطلاق ما دل فيه على رد الثمن ، مع انه لا يتم بناء على عدم الرجوع به مع تلفه وعلم المشتري ، وبترتيب الاستسعاء على موت الوارث وعقبه ـ من غير اعتبار لفقد باقي الورثة وعدمه ، وبقاء مال للميت وعدمه ، وبان ظاهره انه ان لم يكن قادرا على البائع أو الرد عليه وكان البائع معسرا ، أو المشتري على اختلاف الوجهين فلا رد ، ويكون له عوض الثمن ، وان كان يمكن دفع ما ذكره جميعا ، بل بعضه واضح الدفع. فالعمدة حينئذ الأولان اللذان اقتصر عليهما الأصحاب.

لكن في الدروس « والأقرب المروي تنزيلا على ان البائع مكلف بردها إلى أهلها اما لانه السارق ، أو لأنه ترتبت يده عليها ، اى فهو أقدم ، وخطابه بالرد الزم خصوصا مع بعد دار الكفر واستسعاؤها جميعا بين حق المشتري. وحق صاحبها ، والأصل فيه ان مال الحربي في‌ء في الحقيقة ، وفيه أن ذلك يصلح ان يكون تقريبا للنص الجامع لشرائط الحجية لا انه به يكون موافقا للقواعد ، ضرورة عدم اقتضاء سرقته ، وترتب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ١.

٢٦٤

يده ، وخطابه بالرد جواز تمكينه من مال الغير بعد الوصول الى يد غيره الذي صار مخاطبا بالرد ، ومع الاحتياج الى المؤنة يلتزم بها السارق.

نعم قد يحتمل ذلك في خصوص ما لو كانت في يد البائع أمانة شرعية ، كما انه لا معنى للجمع بين حق المشتري والمالك بذلك ، بعد ان لم يكن حق له عليه ، إذ ( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (١) والمحترم بالعارض كالمحترم بالأصل ، كما هو واضح ومن هنا قيل كما عن الحلبي انها تكون بمنزلة اللقطة والموجود في السرائر بعد ذكر الخبر السابق « كيف تستسعى هذه الجارية بغير اذن صاحبها ، وكيف تعتق ولا على ذلك دليل ، وقد قدمنا انها ملك الغير ، والاولى ان تكون بمنزلة اللقطة ، بل يرفع خبرها الى حاكم المسلمين ويجتهد على ردها على من سرقت منه ، فهو الناظر في أمثال ذلك ، ولعله يريد ما ذكره المصنف بقوله ولو قيل تسلم الى الحاكم ولا تستسعى كان أشبه بأصول المذهب وقواعده واختاره جماعة ممن تأخر عنه بل في الرياض « نسبته الى كثير من المتأخرين » لكن في الرياض « ان ذلك بعد تعذر الرد على المالك ووكيله ، وقال يمكن تنزيل الإطلاق عليه ، لغلبة بعد دار الكفر ، ووجهه حينئذ واضح ».

قلت : هو كذلك بعد ان تكون من مجهول المالك في يده ، بل قد يقال : بجواز تسليمها له قبل وصولها حد مجهول المالك كما هو صريح شيخنا في شرحه ، باعتبار انه ولى الغائب فيبحث حينئذ هو عن صاحبها ويردها اليه والا وضعها في بيت المال أو تصدق بها عن صاحبها من دون شرط الضمان أو مع نيته من بيت المال أو من البائع أو من المشتري‌

__________________

(١) سورة النجم الآية ٣٧.

٢٦٥

أو كليهما ، وان كان قراره على الغار والظالم. وعدم وصول العوض لا ينافي التعبد ومئونة الرد على البائع ، قيل أو المشتري ان لم يكن مغرورا ، والا فعلى الغار كسائر الغرامات ، وفيه انه يمكن التشريك بينهما فيهما مع عدم الغرور ، وكذا قيل ان النفقة لو أدخلها في بيت المال من كسبها أو منه ونفقة مدة البقاء لو قبضها عن الفقراء من كسبها أو منهم ، ولو قبضها لصاحبها فالنفقة عليه ، وفيه أنه يقوى كون النفقة في الأخير على الظالم.

وكيف كان فظاهر من قال بالدفع الى الحاكم ان ذلك لأنه ولي عن الغائب ، لا انه لكون الجارية للإمام الذي هو وارث من لا وارث له ، وهو نائب عنه ، كما عن الأردبيلي ، إذ ليس في شي‌ء من النص والفتوى ما يشهد بذلك ، والموت في الرواية لغير المالك قطعا ، كما هو واضح.

ثم انه على العمل بالخبر المزبور ينبغي الاقتصار فيه على مضمونه ولا يتعدى منه الى غيره حتى بالنسبة إلى خصوص الجارية فلا يتعدى الى غيرها من الأموال الصامتة والناطقة وخصوص أرض الصلح ولا يلحق بهم غيرهم من محترمى المال ، بل لا يبعد الاقتصار على كون المشتري رجلا ، وبالجملة متى قام احتمال الفرق وجب العمل على مقتضى القواعد والضوابط ، أوجب الله لنا كتابة ذلك في صحائف الحسنات وأقالنا من موبقات العثرات بحق خير خلقه محمد وأهل بيته السادة الهداة.

ثم المجلد الثاني من العقود بعون الله الرؤف الودود ويتلوه في المجلد

الثالث السلف نرجو من الله التوفيق لإتمامه

والعفو عما سلف والحمد لله.

٢٦٦

( الفصل العاشر )

من فصول كتاب التجارة في السلف والنظر فيه يستدعي مقاصد‌

الأول في حقيقة السلم بفتح السين واللام الذي هو مرادف للفظ السلف قال في مختصر النهاية السلف السلم ، وفي المجمل بالعكس ، وزاد والسلم معروف كما أنه في الأول عطف القرض عليه ، ولعل اشتراكهما لفظا فيه لاشتراكهما في أن كلا منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال والأمر سهل ، وعلى كل حال فالظاهر جريان البحث السابق في لفظ البيع أنه اسم للعقد أو النقل والانتقال أو غير ذلك من الاحتمالات السابقة في لفظه أيضا ، فقول المصنف هنا هو ابتياع مال مضمون إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه مما يؤيد كون لفظ البيع عنده للانتقال المراد من الابتياع هنا ، لا خصوص الشراء.

كما انه في الدروس عرفهما معا بالعقد ، وانسياق الكلي في الذمة من المضمون خصوصا بعد قوله إلى أجل معلوم ، أغنى عن ذكر ما يحترز به عن المبيع المضمون قبل القبض ، فلا وجه لما في التنقيح ، كما أن ذكر اشتراط المعلومية في المبيع والثمن سابقا ولاحقا أغنى عن ذكر ذلك في التعريف ، وأخرج بقوله بمال حاضر أو في حكمه النسيئة لعدم اعتبار ذلك فيها ، إذ المراد بالحاضر المشخص الموجود في مجلس العقد والذي في حكمه المقبوض قبل التفرق وان لم يكن موجودا في مجلس العقد ، أو يراد بالحاضر المشخص ، وما في حكمه الكلي في الذمة المدفوع قبل التفرق ، أو الدين الذي في ذمته بناء على جواز جعله ثمنا للسلم ، أو نحو ذلك مما لم يعتبر في النسيئة قطعا ، وأما اعتبار الأجل فيه فهو المشهور على الظاهر ، وقيل بجوازه حالا ، وستعرف تحقيق الحال فيه ، وكان المناسب ممن يقول بعدم اعتباره فيه كالشهيد في الدروس‌

٢٦٧

عدم أخذه في التعريف.

وكيف كان فقد أجمع المسلمون على جوازه ، كما أن السنة قد تواترت فيه بل عن ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه ، أي في قوله (١) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ولعله لعموم اللفظ ، نعم هو نوع من البيع قطعا فلا بد فيه من إيجاب وقبول ، بل ينعقد بلفظ أسلمت إليك أو أسلفت ك‍ كذا في كذا الى كذا من المشتري ، فيقول المسلم إليه أي البائع قبلت وشبهه ، بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع عليه ولا يقدح كون الإيجاب فيه من المشتري والقبول من البائع إذ ذلك من جملة أحكامه التي اختص بها عن باقي أفراد البيع وشارك الصلح بها بل الإيجاب بهذا اللفظ مختص بالمشتري ، ضرورة عدم تعقل معناهما من غيره ، كما صرح به في جامع المقاصد وقد الحق بهما المصنف والفاضل في القواعد جميع ما أدى معنى ذلك وظاهرهما جواز العقد به وان كان مجازا ، وفيه بحث ليس ذا محله ، والاولى الاقتصار عليهما ، وسلفت في إيجاب المشتري ، وأما سلم فقد قيل ان الفقهاء لم يستعملوه ومنه ينقدح الشك في العقد به ، إذ الواجب الاقتصار على المتيقن فيما خالف أصالة عدم النقل وآية (٢) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) غير مراد منها العموم قطعا والا لكان الخارج أضعاف الداخل ، بل لا يبعد كون المراد منها الأمر بالوفاء بعقد البيع ، وعقد الإجارة وغيرهما ، لا أن البيع مثلا ينعقد بكل لفظ ، ولتمام الكلام محل آخر هذا كله في الإيجاب من المسلم أي المشتري.

__________________

(١) سورة البقرة آية ـ ٢٨٢.

(٢) المائدة الآية ـ ١.

٢٦٨

وأما الإيجاب من البائع فيقع بلفظ البيع فإذا قال المسلم إليه أي البائع بعتك كذا ، وصفته كذا إلى أجل كذا ، بثمن كذا ، وقال المشتري : قبلت ودفع الثمن في المجلس انعقد سلما ، لا بيعا مجردا عن كونه سلما ، ولا تجوز فيه على حسب باقي استعمال العام في الخاص ، ومنه يعلم حينئذ عدم اعتبار قصد السلمية في صيرورته سلما. بعد أن كان مورده متشخصا في نفسه ، إذ ظاهر النص والفتوى تحقق مسماه بذلك من دون اعتبار شرط آخر بل قد يقال : انه لا يقدح قصد غير السلمية في تحقيق كونه سلما فضلا عن عدم القصد وان أقصاه الغلط في القصد بعد ان كان ذلك وظيفة الشارع ضرورة ان مرجعه إلى إثبات أحكام شرعية ، كالقبض في المجلس ونحوه على هذا الموضوع الخاص ، فقصد عدمها كالمعارضة للشارع ولئن فرض كونه تشريعا على وجه لا يريدان النقل والانتقال الا على هذا التقدير لم يبعد القول بالبطلان فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فما عن بعض الشافعية من أن ذلك بيع لا سلم فلا يجب القبض في المجلس وغيره من أحكامه نظرا الى كون الإيجاب بلفظ البيع فواضح الفساد ، إذ مع كون الاولى النظر إلى المعاني لا تنافي هنا بين اللفظ والمعنى ، ضرورة كون السلم نوعا من البيع ، فليس في لفظ البيع ما يقتضي كونه غير سلم ، حتى يحتاج الى ترجيح النظر الى اللفظ على المعنى ، كما سمعته عن بعض الشافعية ، أو العكس كما في قواعد الفاضل ، فمعنى السلم حينئذ لا معارض له ، أقصاه عدم وجود اللفظ المخصوص كما هو واضح ، وكذا يقع بلفظ استلفت واستلمت ، وتسلفت وتسلمت ، بناء على جواز سلم فيقول المسلم : قبلت ونحوه.

وأما عقده بلفظ الشراء الذي ليس بمعنى البيع ، فالظاهر كونه من‌

٢٦٩

السلم قال في التذكرة : « ولو أسلم بلفظ الشراء فقال : اشتريت منك ثوبا أو طعاما صفته كذا الى كذا بهذه الدراهم ، فقال : بعته منك انعقد » ، قلت : لكن فيه تقديم القبول على الإيجاب ، أما لو قال قبلت ونحوه فقد يقال بصحته هنا ، بناء على ما سمعته من اختصاص السلم بجواز كون الإيجاب من المشتري ، والقبول من البائع ، فيكون حينئذ هذا منه. وكيف كان ف هل ينعقد البيع الذي ليس بسلم بلفظ السلم كان يقول : أسلمت إليك هذا الدينار في هذا الكتاب ، الأشبه نعم عند المصنف والفاضل والكركي والشهيدين ، بل قال ثانيهما انه مذهب الأكثر اعتبارا بقصد المتعاقدين وان لم يكن اللفظ حقيقة فيه ، وفي التحرير كما عن الإيضاح التوقف فيه.

قلت : تفصيل القول في ذلك أن النزاع ان كان في قيام صيغة أسلمت مقام بعت كالعكس فمحله في صيغة البيع ، ولعل التحقيق عدم الجواز ، لانه مجاز بخلاف العكس ، فإنه حقيقة مع عدم قصد الخصوصية ، إذ السلم نوع من البيع ، فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له ، أقصاه أن لهذا الفرد من البيع أحكاما خاصة ، أما استعمال صيغة أسلمت مرادا منها معنى بعت المجردة عن السلم ، فان جاز فإنما هو مجاز ، والاحتياط في العقود اللازمة باعتبار الاقتصار فيها على المتيقن من العقود في النقل الذي مقتضى الأصل خلافه يقتضي عدمه. ومن هنا قال في المسالك : ان القول بالعدم لا يخلو من قوة.

ودعوى ـ ان البيع يصح بكل ما ادى ذلك المعنى المخصوص ، والسلم نوع منه اعتبره الشارع في نقل الملك فجاز استعماله في الجنس مجازا تابعا للقصد ـ واضحة المصادرة ، كدعوى انه إذا جاز استعماله لما في الذمة المحتمل للغرر ، كان مع المشاهدة أدخل ، لأنه أبعد من الغرر ، إذ مع المشاهدة يحصل العلم أكثر من الوصف‌

٢٧٠

والحلول يتيقن معه إمكان التسليم والانتفاع ، بخلاف الأجل فكان أولى بالصحة ، إذ هي أوضح من الاولى بطلانا ، كالقول بأن البيع ينعقد بملكتك كذا بكذا ، ولا ريب ان السلم أقرب الى حقيقة البيع من التمليك المستعمل استعمالا شائعا في الهبة ، فإذا انعقد بالأبعد لتادية المعنى المراد ، فالأقرب إذا أداه أولى ، إذ فيه بعد إمكان الفرق منع الانعقاد به على تقدير المجازية هذا.

ولتحقيق المسألة مقام آخر الا ان المتجه على تقدير كون المراد من النزاع هنا ذلك أن يكون المقال أسلمت هذا الكتاب في هذا الدينار حتى يكون النقد ثمنا كما هو الغالب ، وبه مثل في القواعد ، اللهم ان يكون مراده انعقاد البيع بعقد السلم ، بمعنى انعقد السلم بكيفية يصح عقد البيع به فيقول المشتري حينئذ أسلمت إليك هذا الدينار في هذا الكتاب فيقول البائع : قبلت فينعقد بيعا باعتبار ان مورده العين التي لا يصح السلم فيها ، وربما يومي اليه ما في المسالك من تفسير ما في المتن أى قال ذلك المشتري فيكون ذلك على نهج السلم من كون المسلم الثمن والمسلم فيه هو المبيع وهذا وان كان يناسب وضعه في هذا الباب الا ان الأصح العدم فيه إذ لا يخلو من أن يكون العاقد قصد في هذا العقد السلم ولو للجهل منه بأنه (١) يصح أن يكون مورده العين ، فيصح حينئذ بيعا قهرا عليه لعدم مدخلية قصد الخصوصيات ضرورة أن من قصد الصرف مثلا في غير مورده لا يبطل كونه بيعا وربما أومى الى ذلك قولهم يشترط كون المسلم فيه دينا فلا ينعقد في عين نعم ينعقد بيعا أو يكون قد قصد البيع في ذلك من الأول الأمر.

وعلى كل حال فهو باطل إذ مرجع الأول إلى الغلط الذي لا يصلح لان يكون عقدا إذ ليس هو من الحقيقة والمجاز وقصد الصرف في مورد غيره أمر خارج لا يورث‌

__________________

(١) هكذا في النسخة المصححة ، لكن الصحيح ( لا يصح ) كما هو واضح.

٢٧١

استعمالا للفظ ، لعدم جعل الشارع إياه قسما مستقلا له صيغة تخصه ، ومرجع الثاني إلى استعمال عقد السلم في البيع ، ولا دليل على صحة عقد غيره به ، سيما إذا كان بكيفية وقوع الإيجاب فيه من المشتري والقبول من البائع الذي لا يصح في غير السلم من البيع ، هذا وفي القواعد بعد أن ذكر أن الأقرب انعقاد البيع بلفظ السلم قال : « وكذا لو قال : بعتك بلا ثمن أو على أن لا ثمن عليك فقال : قبلت ففي انعقاده هبة نظر ، ينشأ من الالتفات الى المعنى واختلال اللفظ ، وهل يكون مضمونا على القابض فيه إشكال ينشأ من كون البيع الفاسد مضمونا ، ودلالة لفظه على إسقاطه ، ولو قال : بعتك ولم يتعرض للثمن فإنه لا يكون تمليكا ويجب الضمان. » ‌

ونحوه في التذكرة « وفيه ان التنافي يندفع إذا عدل باللفظ عن مدلوله الى معنى أخر لا يكون سببه التنافي ، لأن هذا غير كاف في الصحة ، والا فلا يبطل شي‌ء من العقود المشتملة على ما ينافيها ، لوجود المندوحة في المعدول به الا ما لا ينافي ، والاولى جعل منشأ النظر وجود لفظ البيع المقتضى للثمن ، ووجود المنافي لصحته وهو اشتراط عدم الثمن فيكون بيعا فاسدا ، ومن ان التقييد بعدم الثمن قرينة على إرادة الهبة من لفظ البيع لان الهبة هي التمليك بغير عوض ، فهو مساو لها في المعنى » وفيه « ان عقد الهبة وان كانت من الجائز الا ان عقدها بمثل ذلك محل نظر أو منع. » ‌

ومنه يعلم ما في المحكي عن بعضهم من ان المدار في ذلك على القصد ، فان قصد الهبة صح وان قصد البيع. بطل بل وما عن حواشي الشهيد من أن ذلك مبنى على ان العقود توقيفية أو اصطلاحية ، فعلى الأول لا يصح ، لان البيع لا بد فيه من العوض ، وانتفاء الجهالة ، و، على الثاني يصح ، إذ من الواضح ان الثاني ليس قولا لأحد منا ، بل ولا احتمالا ، واما الضمان فهو المتجه بناء على انه بيع فاسد ، ضرورة كون المنع في العبارة على‌

٢٧٢

تقدير صحة هذا العقد فمع عدمها يبقى ما دل عليه من عموم‌ « على اليد » ‌وغيره سالما اللهم الا ان يقال ان ذلك هبة فاسدة و « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » وهو لا يخلو من وجه بنا على انه قصد بذلك الهبة فتأمل جيدا والله اعلم.

وعلى كل حال ف يجوز إسلاف الاعراض في الاعراض إذا اختلفت أو اتفقت ولم تكن مقدرة بأحد الأمرين أو الثلاثة لإطلاق الأدلة و‌في خبر وهب (١) « لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن » ‌والمناقشة في سنده يدفعها الانجبار بالشهرة العظيمة ، بل في المختلف عن المرتضى الإجماع عليه ، وانه قال : يجوز عندنا ان يكون رأس المال في السلم غير ثمن من سائر المكيلات والموزونات ويجوز ان يسلم المكيل في الموزون ، والموزون في المكيل ليختلف جنساهما ، وما أظن في ذلك خلافا بين الفقهاء ، فما عن ابن ابى عقيل من أنه لا يجوز السلم الا بالعين والورق ولا يجوز بالمتاع واضح البطلان ، وكالمحكي عن ابى على من انه لا يسلم في نوع من المأكول نوعا منه إذا اتفق جنساهما في الكيل والوزن والعدد وان اختلفت أسماؤها كالسمن في الزيت لانه كالصرف نسيئة وان كان قد يوهمه‌ صحيح عبد الله بن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أسلف رجلا زيتا على ان يأخذ سمنا قال : لا يصلح‌ ، كحسنه (٣) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا ينبغي إسلاف السمن بالزيت ، والزيت بالسمن » ‌الا أن الظاهر إرادة الكراهة منهما ، وأوضح من ذلك فسادا ما حكى عنه أيضا لا اختار أن يكون ثمن السلم فرجا يوطأ ، لأنه قد يتطرق الفسخ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب السلف ـ الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب السلف ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب السلف ـ الحديث ٣.

٢٧٣

الى العقد ، بسبب تعذر المسلم فيه فيصادف الفسخ الحبل ، وهو يوجب انتقال أم الولد إذ هو كما ترى.

وأما إسلاف الاعراض في الأثمان فقد نص عليه غير واحد لإطلاق الأدلة خلافا لأبي حنيفة فلا يجوز ، لأنها لا تثبت في الذمة إلا ثمنا فلا تكون مثمنة ، وفيه منع واضح ، إذ لا ريب في جواز بيع الذهب والفضة بهما ، اللهم الا ان يريد إذا كان احد المقابلين عرضا ، وفيه منع واضح أيضا ، و‌في خبر غياث (١) « عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام قال : لا بأس بالسلف في الفلوس » فالحق أنه يجوز كجواز إسلاف الأثمان في الاعراض الذي لا خلاف فيه بيننا بل ولا بين المسلمين نعم لا يجوز إسلاف الأثمان في الأثمان ولو اختلفا لا لان التقابض شرط ، إذ يمكن فرض حصوله بقصر الأجل في المسلم فيه ونحوه ، بل لظهور النصوص (٢) المتقدمة سابقا في عدم جواز الأجل في النقدين إذا بيع أحدهما في الأخر ، وأنه لا بد من الحلول في بيعهما والتقابض في المجلس ، كما أوضحناه سابقا ، فتوقف ثاني الشهيدين فيه هنا في غير محله ، هذا كله بناء على اشتراط الأجل في السلم ، والا جاز اسلافها فيها مع التقابض ، وجاز اسلاف الربويات بعضها في بعض كما هو واضح ، والله اعلم.

المقصد الثاني في شرائطه

الزائدة على شرائط البيع وقد قيل هي ستة‌ الأول والثاني. ذكر الجنس أي الحقيقة النوعية كما سمعته في الربا والوصف المائز بين أفراد ذلك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب السلف في ذيل الحديث ـ ١٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب الصرف.

٢٧٤

النوع. وقد يستغنى به عن ذكر الجنس ، لكن قد يناقش في ذلك بأنه غير خاص في السلم ، ضرورة كون المدرك في ذلك رفع الجهالة التي لا فرق في اعتبار رفعها بين السلم وغيره ، ومن هنا قال المصنف وغيره الضابط فيه أن كلما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله في السلم فذكره لازم والمرجع في ذلك الى العرف ، ضرورة أنه ربما يكون العامي أعرف من الفقيه في ذلك ، ولذا كان حظ الفقيه منها الاجمال ، وستسمع تعرض جملة من الأصحاب إلى جملة منها ، وان أو كلوا الأمر فيه أيضا الى ما عرفت ، كما أن المرجع إليه أيضا في معرفة الوصف الذي يحصل الجهالة بترك التعرض له وغيره ، فان كثيرا من الأوصاف تختلف الثمن بها اختلافا لا يتسامح فيه ، لكن لا جهالة في عدم التعرض لها ، وانما ينص عليها من له غرض خاص فيها ، والا فلا.

وكان إطلاق المصنف اتكالا على قوله ولا يطلب في الوصف الغاية ، بل يقتصر على ما يتناوله الاسم بناء على أن المراد منه عدم وجوب الاستقصاء في الوصف ، بل يجوز الاقتصار منه على ما يتناوله اسم الموصوف بالوصف الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في العين ، إذ مرجعه حينئذ إلى العرف ، وعلى ذلك فان استقصى كذلك ووجد الموضوع صح السلم ، وان عز وجوده بطل ، فعلى هذا النهي والأمر الواقعان في العبارة قد يكونان على وجه المنع واللزوم ، كما إذا استلزم الاستقصاء عزة الوجود ، وقد يكونان على وجه نفى اللزوم والجواز كما إذا لم يستلزم ذلك.

ومن هنا قيل أنها أحسن من عبارة القواعد ، حيث يجوز ، فجمع بين الفردين المختلفين في الصحة وعدمها ، « فقال : ولا يجب في الأوصاف الاستقصاء لعسر الوجود، » ‌

٢٧٥

إذ التعليل بعسر الوجود لعدم الجواز ، لا لعدم الوجوب كما قد عرفت ، ويمكن أن يراد مما في المتن أنه لا يجب أن يطلب في الوصف الغاية ، بل يقتصر على ما يتناوله اسم الوصف ، فيكتفى حينئذ في وصف الحنطة مثلا بالحمراء ، ولا يطلب الغاية في الاحمرار ، وهو وان كان ألصق بقوله بل يقتصر الى آخره ، لكنه فيه أولا انه لا يجوز الاقتصار على اسم الوصف مع فرض اختلاف أفراده بما لا يتسامح فيه ، ويؤدى تركه إلى الجهالة ، وثانيا لا تكون العبارة عامة ، للمعروف من الأصحاب هنا النص عليه من المبالغة في كثرة الأوصاف ، فلا ريب في أن حمل العبارة على الأول الذي هو أعم من ذلك اولى ، ولا ينافيه الإضراب بناء على ما عرفت.

نعم لولاه لأمكن حمل النهي في العبارة على حقيقته ، على معنى أنه لا يفعل ذلك بحيث يؤدى الى عزة الوجود ، لبطلان السلم فيه حينئذ لما ستعرف من اشتراط كون وجوده غالبا ، مع احتمال أن يقال فيه ان المراد من الأمر بالاقتصار ، بيان ابتداء الرخصة في جواز ذلك ، حتى ينتهي إلى الوصف المؤدي الى عزة الوجود ، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح كون المراد على كل حال بيان جواز السلم في غير عزيز الوجود ، والمنع فيه ، بل قيل انه لا خلاف فيه ، بل ربما ادعى الإجماع عليه بل قيل انه الدليل له ، مضافا الى التعليل بأن عقد السلف مبنى على الغرر ، لانه بيع ما ليس بمرئي ، فإذا كان عزيز الوجود كان مع الغرر مؤديا إلى التنازع والفسخ فكان منافيا للمطلوب من السلف ، وان كان هو كما ترى.

وعن الإيضاح توجيهه بأنه لما جل جناب الحق جل شأنه عن التكليف بما لا يطاق واقتضت حكمته البالغة عدم خرق العادات غالبا بمجرد ما يرد على العبد من متناقض الإرادات أبطل السلم فيما يؤدى الى أحدهما قطعا ، وما تجد أداؤه تجدد بطلانه ، قال : فظهر من ذلك‌

٢٧٦

أن ما يعز وجوده لا يصح السلم فيه ، وبقي ما لا يعز ، لكن وجوده أقلى في الأغلب لاستقصاء الصفات والأقرب فيه الصحة. لعدم استلزامه المحال ، مع إمكانه في نفسه ، وجواز ثبوته في الذمة ولوجود المقتضى وهو عقد البيع ، وانتفاء المانع : وهو عزة الوجود ، وفي التذكرة « قد بينا ان الاستقصاء في ذكر الأوصاف المخرج الى عزة الوجود وعسر التحصيل مبطل للسلم ، لما فيه من تعذر التسليم الذي هو مانع من صحة البيع ، ( الى أن قال ) والضابط عزة الوجود وتعذره يبطل معه ، ويصح بدونه »

قلت ومن ذلك يعلم ان المراد بعزيز الوجود ممتنعة ، وبطلان السلم فيه حينئذ واضح ـ وصحيح عبد الرحمن (١) وغيره دال عليه ، مضافا الى معلومية اشتراط القدرة على التسليم ، بل الظاهر بطلان غير السلم فيه من المعاوضات ، كجعله ثمن مبيع ونحوه ، بل لا يبعد إلحاق الندرة التي تعد المعاملة معها سفها به. نعم لا بأس بها إذا لم تكن كذلك وان حصلت المشقة معها ، كما نص عليه في القواعد والدروس وغيرهما ، وتسمع تمام الكلام في ذلك في اشتراط غلبة الوجود ، بناء على ان المنع في عزيز الوجود يؤول إلى فقدان هذا الشرط ، لا أنه شرط آخر فتأمل جيدا والله أعلم.

( ويجوز اشتراط الجيد والردى ) بلا خلاف ، للإطلاق السالم عن المعارض من عزة الوجود وغيرها ، بل قد يقال بكونهما من الأوصاف التي يتوقف رفع الجهالة على ذكرهما ، ومن هنا حكى عن المبسوط والتذكرة وجوب التعرض لهما ، بل في التحرير الإجماع واقع على ذكر الجودة ، وفي الدروس قيل يجب ذكر الجودة والرداءة بالإجماع ، وان قال فيه نظر ولعله كذلك ولو بالنسبة إلى البعض وعلى كل حال فلا ريب في جواز ذكرهما. نعم لو شرط الأجود لم يصح لتعذره‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ـ ٣.

٢٧٧

بلا خلاف أجده ، بل في التذكرة إجماعا ، وفي الروضة أنه موضع وفاق ، لعدم تناهى مراتبهما ، وعلى كل تقدير فهو غير معلوم ، لكن في التذكرة بعد دعوى الوفاق المزبور قال : « فيه إشكال لإمكان ضبطه في بعض الأمتعة كالطعام ، فإنه قد يتناهى جودته » قلت : لا ريب في جوازه مع هذا الفرض وأنه لا يؤدى الى عزة الوجود ، بل ينبغي الجواز أيضا مع ارادة ما يصدق عليه أنه من الأجود عرفا ، لا المرتبة التي ليس فوقها أجود منها ، وكأنه الى ذلك نظر الأردبيلي وصاحب الكفاية فيما حكى عنهما من احتمال الجواز ، كما أن نظر الأصحاب لإرادة حقيقة اللفظ لغة ، فيتجه المنع حينئذ وكذا لو شرط الأردى فإنه ما من ردى الا وهناك أردى منه. ويأتي فيه ما سمعت.

بل قال المصنف ولو قيل في هذا بالجواز لكان حسنا لإمكان التخلص يدفع الردى ، لأنه ان كان هو الأردى ، فهو عين الحق والا زاده خيرا ويجب عليه القبول لانه وفاء وزيادة ، كما يومي اليه النصوص في باب القرض (١) بل عدته من حسن القضاء ، وانه من الفضل الذي قد نهينا عن نسيانه (٢) بل في التحرير والإرشاد الحكم بالصحة ، وحكاه في التذكرة قولا لبعض أصحابنا ، وان كنت لم أجده لأحد قبله ، بل هو قد استشكل في القواعد ، وحكم بالبطلان في التذكرة ، كالشيخ وفخر المحققين والشهيدين والكركي وغيرهم ، لعدم الضبط ، ووجوب قبض الجيد عنه لو دفع لا يصيره مضبوطا عند العقد ، لانه ليس من أفراده ، على أنه إذا امتنع من الأداء لم يتمكن الحاكم من إجباره. لعدم ضبط الأردى ، وعدم استحقاق غيره عليه ، والتحقيق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ و ٢٠ ـ من أبواب القرض وباب ١٢ ـ من أبواب الصرف.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٣٧.

٢٧٨

ما سمعته في الأجود ، فتأمل جيدا.

ثم انه لا بد مع ذلك أن تكون العبارة الدالة على الوصف معلومة بين المتعاقدين ظاهرة في العرف أو اللغة حتى يمكن استعلامها عند اختلافهما ، فلو جهلاها أو أحدهما بطل ، ولا يكفي الإحالة على المراد لغة أو عرفا. ضرورة عدم صدق ارتفاع الجهالة بذلك ، بعد ظهور ما دل على شرطيته فيما بين المتعاقدين ، والمراد بظهورها في العرف أو اللغة معروفية اتصاف العين بالوصف المشترط في أحدهما : كي يحصل به قطع النزاع لو حصل ، ولعله لذا قال في القواعد « الصفات ان لم تكن مشهورة عند الناس لقلة معرفتها كالأدوية والعقاقير ، أو لغرابة لفظها ، فلا بد ان يعرفها المتعاقدان وغيرهما ، وهل تعتبر الاستفاضة أم يكفي معرفة عدلين؟ الأقرب الثاني » ، كما عن الإيضاح أيضا ، بل في جامع المقاصد ان الأقرب الأول ، لإمكان موت أحدهما أو غيبته ، لكن قال : ان هذا اى ما ذكره المصنف لا يناسب ما بنى عليه الباب من عدم الجواز فيما لا يعم وجوده ، ويعز حصوله ، وفي المسالك « المراد بظهورها في اللغة كونها على وجه يمكن الرجوع إليها عند اختلافهما كما قيده ، وانما يتم ذلك إذا كان مستفاضا ، أو يشهد به عدلان.

وعلى كل حال فلو ذكرا وصفا لا يمكن معرفته وتحققه في أحدهما بطل السلم فلا يجوز ، ولعل من ذلك بعض الأوصاف التي يذكرها الأطباء من درجات الحرارة أو البرودة ونحوهما ، وكان المرجع في ذلك اما الجهالة عرفا أو ما يساويها في الأول إلى النزاع الذي أراد الشارع حسم مادته بالعقود المعروفة ، لا اثارته ، بان يشرع منها ما يؤدي إليه مما نحن فيه وغيره ، فتأمل جيدا ، فإنه لا دليل واضح على اعتبار ظهور العبارة في العرف واللغة بعد فرض المعلومية بينهما ، واحتمال الاختلاف‌

٢٧٩

يرجع فيه الى قواعد التداعي ، فما في المتن مجرد اعتبار. نعم لو كان المراد ما يؤدى الى المعلومية في المبيع اتجه حينئذ ، اما الزائد على ذلك فلا دليل عليه والله العالم.

وكيف كان فقد بان لك من ذلك كله انه إذا كان الشي‌ء مما لا ينضبط بالوصف على وجه يرتفع جهالته ولا يؤدى الى عزة وجوده لم يصح السلم فيه قطعا. نعم قد يشك في بعض افراده كاللحم نيه ومشويه والخبز وان نفى الخلاف في الرياض فيهما ، بل حكى عن الغنية الإجماع عليه ، فإنه ربما استشكل في الأول بأنه لا فرق بين الحيوان ولحمه ، وبينه وبين الشحم ، فإذا جاز فيهما جاز في الأخر ، وفي الثاني بأن النصوص (١) قد جوزت قرضه ، وانه لا بأس بالتسامح فيه ، ولو كان مما لا ينضبط وصفه لم يجز قرضه مضمونا بمثله ، وقد يجاب عن الأول بأن الشارع قد كشف عن عدم ضبطه بالوصف. ففي خبر جابر (٢) « سألت الباقر عليه‌السلام عن السلف في اللحم فقال : لا تقربنه ، فإنه يعطيك مرة السمين ، ومرة التاوي ، ومرة المهذولة ، واشتر معاينة يدا بيد. ( بل قال أيضا ) وسألته عن السلف في روايا الماء فقال : لا تقربنها فإنه يعطيك مرة ناقصة ، ومرة كاملة » ‌اللهم الا ان يحمل ذلك منه عليه‌السلام على الإرشاد لعدم الوفاء كما استظهره في الحدائق حاكيا عن بعض مشايخه. أنه حمله على الكراهة ، لا ان مراده عدم جواز السلم فيه ، لعدم الانضباط بالوصف ، وعن الثاني بالفرق بين القرض والسلم : فإنه قد يتسامح في الأول بما لا يتسامح في الثاني ، المبنى على رفع الغرر والجهالة ، كما لا يخفى على من لاحظ أحكامهما معا ، وما ورد فيهما من النصوص.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب السلف وباب ٢١ من أبواب الدين والقرض.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب السلف الحديث ١.

٢٨٠