جواهر الكلام - ج ٢٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

قال : « أخبرني أبو عبد الله عليه‌السلام أن أباه حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أعطى خيبرا بالنصف أرضها ونخلها ، فلما أدركت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة فقوم عليهم قيمة ؛ وقال لهم إما أن تأخذوه وتعطوني نصف الثمن ، وإما أن أعطيكم نصف الثمن وآخذه فقالوا بهذا أقامت السماوات والأرض » ‌وفي التهذيب (١) عوض الثمن في الموضعين الثمرة ؛ وهو الأنسب بالخرص الاتى ، وإن كان الثمن أنسب بالتقويم.

و‌صحيح أبى الصباح الكناني (٢) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما افتتح خيبر تركها في أيديهم على النصف فلما بلغت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة إليهم فخرصها عليهم ، فجاؤا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا إنه قد زاد علينا ، فأرسل إلى عبد الله بن رواحة فقال ما يقول هؤلاء ؛ فقال : خرصت عليهم بشي‌ء ، فإن شاؤا أخذوا بما خرصنا ، وإن شاؤا أخذنا ، فقال رجل من اليهود : بهذا قامت السماوات والأرض ». و‌صحيح يعقوب بن شعيب (٣) الأخر عن الصادق عليه‌السلام أيضا « قال فيه : فلما بلغ الثمرة أمر عبد الله بن رواحة فخرص عليهم النخل ، فلما فرغ منه خيرهم فقال قد خرصنا هذا النخل بكذا صاعا ، فإن شئتم فخذوه ، وردوا علينا نصف ذلك ؛ وإن شئتم أخذناه وأعطيناكم نصف ذلك ، فقال اليهود : بهذا قامت السماوات والأرض » ‌و‌مرسل محمد بن عيسى (٤) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام ان لنا أكرة فنزارعهم فيقولون قد حرزنا هذا الزرع بكذا وكذا فأعطوناه ونحن نضمن لكم أن نعطيكم حصة على هذا الحرز قال : وقد بلغ؟ قلت : نعم قال : لا بأس بهذا ، قلت : فإنه يجي‌ء بعد ذلك فيقول لنا الحرز لم يجي‌ء كما حرزت قد نقص قال : فإذا زاد يرد عليكم : قلت : لا قال : فلكم أن تأخذوه بتمام الحرز ، كما أنه إذا زاد كان له ؛ كذلك إذا نقص كان عليه ».

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٣ باب المزارعة الحديث ـ ١.

(٢) و (٣) و (٤) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ـ ٣ ـ ٤

١٢١

و‌خبر سهل (١) « سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل يزرع له الحراث الزعفران ويضمن له على أن يعطيه في كل جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهما ، فربما نقص وغرم وربما استفضل وزاد ، قال : لا بأس به إذا تراضيا » ‌و‌خبر عبد الله بن بكير (٢) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن الرجل يزرع له الزعفران فيضمن له الحراث على أن يدفع له من كل أربعين منا زعفرانا رطبا منا ويصالحه على اليابس واليابس إذا جفف ينقص ثلاثة أرباع ، ويبقى ربعه وقد جرب قال : لا يصلح ، قلت : وإن كان عليه أمين يحفظه لم يستطع حفظه ، لانه يعالج بالليل ولا يطاق حفظه ، قال : يقبله الأرض أو لا على أن له في كل أربعين منا منا » ‌إلى غير ذلك من النصوص التي لا أجد خلافا بين الأصحاب في العمل بمضمونها في النخل والثمار والزرع ، فهو إن كان بيعا فمستثنى من المحاقلة والمزابنة ، ومن قاعدة مغايرة الثمن للثمن ؛ ونحوهما مما يخالف قواعد البيع ، مع أنك ستعرف كون التحقيق أنها ليست بيعا.

لكن في السرائر وان زارع أرضا أو ساقاها على ثلث ، أو ربع أو غير ذلك وبلغت الغلة جاز لصاحب الأرض أن يخرص عليه الغلة والثمرة ، فإن رضي المزارع أو المساقي بما خرص أخذها وكان عليه حصة صاحب الأرض ، سواء نقص الخرص أو زاد وكان له ، كما فعل عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأهل خيبر وهو عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي ، فأن هلكت الغلة والثمرة قبل جذاذها وحصادها بآفة سماوية لم يلتزم العامل الذي هو الا كار بشي‌ء لصاحب الأرض ؛ والذي ينبغي تحصيله في هذا الخبر والسؤال أنه لا يخلو إما أن يكون قد باعه حصته من الغلة والثمرة بمقدار في ذمته من الغلة والثمرة ، أو باعه الحصة بغلة من هذه الأرض فعلى الوجهين معا البيع باطل ، لانه داخل في المزابنة والمحاقلة ، وكلاهما باطلان ، وإن كان ذلك صلحا لا بيعا فإن كان ذلك بغلة وثمرة في ذمة الأكار الذي هو المزارع فإنه لازم له ؛ سواء هلكت الغلة بالآفات السماوية أو الأرضية ، وإن كان ذلك الصلح بغلة من تلك الأرض ، فهو صلح باطل ، لدخوله في باب الغرر ، لانه غير مضمون ، فان كان ذلك فالغلة بينهما سواء زاد الخرص أو نقص‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام المزرعة الحديث ـ ١ ـ ٢

١٢٢

تلفت منهما أو سلمت لهما ، فليلحظ ذلك ، فهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا وتشهد به الأدلة ، فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ؛ وإن كررت في الكتب.

قلت : قد لحظناه فوجدناه كالاجتهاد في مقابلة النص المعمول به بين الأصحاب بل الظاهر إن الاشكال في لزومها كما في التذكرة بل في التنقيح ومحكي إيضاح النافع والميسية ، الجزم بعدمه من ذلك أيضا ، ضرورة صراحة بعض النصوص السابقة فيه ، وظهور آخر كالفتاوى التي لا يقدح ما في بعضها كالمتن وغيره من التعبير بالجواز المراد به رفع الحظر ، لا نفى اللزوم الذي هو مقتضى الأمر بالوفاء بالعقود ؛ فما في مزارعة القواعد من أن الزائد إباحة على إشكال ، في غير محله قطعا ، بل هو ملك للمتقبل كما كاد يكون صريح المرسل السابق ، وظاهر غيره ، والربا لو قلنا بعمومه معفو عنه في المقام ، على أنه إن كان هو منشأ الاشكال ، فلا يخص الزيادة ، بل آت في النقيصة أيضا.

ثم إن المنساق من النصوص السابقة ما هو صريح جماعة ، بل المشهور بل ظاهر جامع المقاصد نسبته إلى تصريح الأصحاب من كون كيفية التقبيل المزبور اعتبار العوض من الثمرة المخروصة ، ولا يقدح في ذلك اتحاد الثمن والمثمن بعد ظهور النصوص المعمول بها بين الأصحاب فيه ، سواء قلنا أنها بيع كما احتمله في التذكرة ، وإن كان بعيدا لشدة مخالفته لقواعد البيع مع عدم ظهور شي‌ء من النصوص في أنه منه ؛ وذكر الأصحاب له في بيع الثمار أعم من ذلك ، أو معاملة برأسها ، أو صلح سيما بعد عدم الاتحاد حقيقة هنا لكون المعوض عنه الحصة المشاعة ، والعوض المقدار المخصوص من مجموع الحصتين بل لا يبعد جواز مثل ذلك في الصلح مع قطع النظر عن نصوص المقام لعموم‌ قوله عليه‌السلام « الصلح جائز بين المسلمين » (١) ‌الذي استفيد منه قيامه مقام الهبة وغيرها ، فجوزوا الصلح عن المال ببعضه وإن انحل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ١ ـ ٢.

١٢٣

إلى الهبه.

ولعله هنا كذلك من طرف القابل والمقبل وحينئذ فبناء على أن القبالة نوع من الصلح كما هو صريح بعض وظاهر آخر لا تكون مخالفة للقواعد أصلا اذلا محاقلة ولا مزابنة فيه ولا ربا أيضا وإن قلنا باختصاصه بالبيع ، ولامنع من مثل هذا الاتحاد فيه ؛ وكذا لوقلنا بأنها معاملة برأسها كما هو مقتضى جوازها بلفظ التقبيل ؛ بل في المسالك ظاهر الاصحاب أن الصيغة تكون بلفظ التقبيل ، وإن كان قد يشكل إن أريد الإختصاص ، بخلوا أكثر النصوص السابقة عن اللفظ المزبور، بل ظاهرها خصوصاً الاول الإكتفاء بغيره ، وفي جامع المقاصد هل يحتاج ذلك اي التقبيل إلى صيغة عقد الظاهرنعم ، لانها صلح في المعني ؛ ولان الافعال لما لم تكن لهادلالة بنفسها على المعاني تعيين المصير إلى الالفاظ حينئذ، فيحمل على العقدلانه الموظف شرعا لنقل الملك ؛ ولان الاصل بقاء الملك لمالكه حتى يقطع بسببه ، فإن قلت : عبارة الصحيح الاول دالة على خلاف ذلك ، قلت : ليس فيها دلالة على أن المسئول عنه فيها هو الجاري في المعاوضة ، فيجوز أن يكون المسئول عنه هو صحة إيقاع ما اراده.

قلت : لاريب في اعتبارالصيغة في لزومها وخلو نصوصها عنها كخلو أكثر نصوص العقود عن ذلك ، إنما الكلام في أن صيغتها صيغة الصلح لعدم تعارف غير العقود المعهودة المفردة بالتبيوب ، ولعدم ظهور في نصوص المقام بالاستقلال ، إذليس فيها إلاالجواز الذي يمكن أن يكون بناؤه على أنها من الصلح ، بل ربما كان في بعضها إيماء إلى ذلك ، أو أن صيغتها خصوص لفظ التقبيل المعبربه في الفتاوى وبعض النصوص ، لعدم ذكرهم ذلك في باب الصلح ؛ بل لاإشارة في شيء من كلامهم إلى أنه منه وما في المختلف كالذي سمعته من جامع المقاصديراد منه أنها كالصلح في المعني ، لاأنها تنعقد بصيغته.

نعم صرح في الدروس بأنها نوع منه ، ويمكن أرادته ذلك أيضاً على إشكال وتردد؛

١٢٤

نعم بناء على جواز الاتحاد المزبور لا ينبغي التأمل حينئذ ؛ في صحة وقوعها ، بصيغة الصلح ، وإن لم تتم قبالة ، كما أنها كذلك لو وقع العوض من غيرها أو مطلقا بعقد الصلح ، بل قد يستشكل من وقوع العوض من غيرها والصيغة لفظ التقبيل ، لما عرفت من أن وضعها على كون الثمن منها ، كما يشهد له ما ذكره الشيخ وابنا حمزة وإدريس والفاضل والشهيد والمقداد وغيرهم من عدم الضمان لو تلفت الثمرة بآفة سماوية بل في مزارعة جامع المقاصد نسبته إليهم مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، ضرورة توقف صحته على كون الثمن منها ، حتى يكون التلف حينئذ للعوض ، ولا دليل على الانتقال إلى بدله بعد عدم الدليل على ضمانه في يده ، ولا ينافي ذلك صحته العقد ، إذ ليس هو بغير عوض ، بل عوضه من العوض ، فمع فرض التلف بالافة يتحقق تلف العضوين معا من غير ضمان ، فما في التذكرة من التردد فيه ـ كالمحكي عن تعليق الإرشاد ، بل في المسالك أن دليله غير واضح في غير محله ؛ بل لا يحتاج ذلك إلى تنزيل العوض على الإشاعة ، إذ يمكن أن لا يكون كذلك ، وإن كان كليا مضمونا في العين بشرط السلامة ، للدليل نحو ما سمعته في خبر الأطنان (١) في الجملة.

وعلى كل حال فليس مثل هذا انفساخا لا من الأصل ولا من الحين ، لكن في الدروس أن قرار ذلك مشروط بالسلامة ، والمراد كما في جامع المقاصد أنه إن هلكت لا صلح ، وإن سلمت ثبت ووجب العوض ، وربما أشكل بأنه لو هلك بعضها يجب القول بعدم بقاء الصلح ، فلا يلزمه ما بقي من العوض ، ويدفع بأن سلامة الجميع شرط للصلح في الجميع ، وسلامة الأبعاض شرط للصلح فيها ، نعم قد يشكل بأنه قد صرح في الدروس بالجواز لو تقلبها بعوض غير مشروط فيها ، ولا دليل على اشتراط مثله بالسلامة ؛ لأن المعوض إذا قبض بعوض وجب أن يكون مضمونا ؛ فإذا تلف يجب أن يكون عوضه في الذمة ؛ ويمكن تنزيل ما في الدروس على ما إذا كان العوض منها بالسلامة لا مطلقا بل قد سمعت سابقا أن ذلك وإن جاز ؛ إلا أنه ليس قبالة على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ـ ١.

١٢٥

الظاهر ، لكن في جامع المقاصد « إن كلا من القولين لا يخلو من اشكال ، أما اشتراط كون القبالة من الثمرة المتقبلة فيه إشكالان ، الأول أن اشتراط العوض من المعوض ينافي صحة المعاوضة عند الجميع ، وليس في النصوص ما يدل على الجواز هنا ، الثاني لو نقصت الثمرة بغير آفة بل كان من جهة الخرص يجب على تقدير كون العوض منها أن لا يجب الناقص على المتقبل مع أنهم حكموا بعدم وجوبه عليه ، وأما على الجواز مطلقا فإشكالان مع ثالث ، وهو عدم إمكان اشتراط السلامة في قرار القبالة حيث يكون في الذمة لما قلناه من ، امتناع كون محل العوض الذمة ويذهب بتلف الثمرة.

وفيه ما عرفت سابقا من ظهور النصوص والفتاوى في كون العوض منها ، وحينئذ وجه عدم الضمان بالافة واضح ، بل هو قد اعترف في باب المزارعة بأن هذه المعاوضة لا تخرج باشتراط السلامة عن نهج المعاوضات ، فإن المبيع في زمان الخيار من ضمان البائع وإن تلف في يد المشتري ، لكن بغير تفريط ؛ إذا كان الخيار للمشترى ؛ وهي لا تزيد علي ذلك ، ومنه يعلم وجه اندفاع الأخر. نعم يبقى المطالبة بالدليل على ذلك ، فيما لو كان العوض من غيرها ، وإقامته عليه ـ سيما مع عدم تصريح الأصحاب بأن القبالة تكون من غير الثمرة ـ لا تخلو من صعوبة

وإن كان الظاهر بناء هذه المعاوضة على الزيادة والنقصان من حيث الخرص لا غير ، وربما كان من‌ قوله عليه‌السلام (١) « إذا كانت الزيادة له فالنقيصة عليه » ‌إيماء إلى ذلك في الجملة ، فيرجع حاصلها أن المتقبل ضامن للمقدار المعلوم مع سلامة الثمرة وعدم تلفها ، بل يمكن دعوى براءته لو كان المتلف غير الآفة من غاصب وشبهه ، وإن استبعده في جامع المقاصد قال : « والظاهر أن المراد بالافة السماوية والأرضية ما يكون ممن لا يعقل تضمينه. فلو أتلفها فتلف فالظاهر أن القبالة بحالها ، عملا بالاستصحاب ويطالب المتقبل المتلف ، ويحتمل أن يراد بالارضية ما يعم هذا ، فيسقط القبالة أيضا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ٤.

١٢٦

بإتلاف المتلف ، وهو بعيد » وأما ما ذكره من عدم وجوب النقص على المتقبل لو كان النقصان من حيث الخرص ، فيدفعه صريح بعض النصوص السابقة ، وظهور آخر وكون الثمن منها لا ينافي ذلك ، إذ يلزم بالتأدية من حصته.

نعم لو فرض نقصان المجموع من المقدار اتجه ذلك ، إلا أنه نادر لا يحمل عليه إطلاق النصوص والفتاوى ، فتأمل جيدا ، ثم إنه لا يخفى ظهور النص السابق في اعتبار البلوغ كما أنه صرح غير واحد بعدم وجوب القبول على الشريك ، للأصل وغيره لكن قد يظهر من النصوص السابقة الالتزام بإحدى فردي التخيير ؛ مؤيدا بوجه مشروعية التقبيل من خوف الخيانة ونحوها ، والظاهر أنه لا يعتبر في القبالة ما تقدم في العرية من وجوب الأخذ بمقدار الخرص من غير زيادة ولا نقيصة ، بعد ما سمعت من عدم الربا في المقام « والناس مسلطون على أموالهم » كما أنه قد ظهر لك مما قدمنا إمكان جريان التقبيل بالنسبة إلى غير الشريك بل في غير الثمار ، بناء على أن القبالة نوع من الصلح ؛ وإن ذلك كله جائز فيه ، لعموم‌ قوله عليه‌السلام (١) « الصلح جائز بين المسلمين » ‌لكن ظاهر الأصحاب الاقتصار وهو مؤيد لكون القبالة قسما مستقلا برأسها ، فيقتصر في موردها على المتيقن. والله أعلم.

المسألة الثامنة : إذا مر الإنسان بشي‌ء من النخل أو شجر الفواكه أو الزرع أو قريب منها ، بحيث لا يعد قاصدا عرفا بل كان ذلك منه اتفاقا جاز أن يأكل من غير إفساد مع عدم العلم والظن بالكراهة على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا بل في المختلف « عن السرائر إذا مر الإنسان بالثمر جاز له أن يأكل منها قدر كفايته ، ولا يحمل منها شيئا على حال ، من غير قصد إلى المضي إلى الثمرة للأكل ، بل كان الإنسان مجتازا في حاجة ثم مر بالثمار ، سواء كان أكله منها لأجل الضرورة ، أو غير ذلك ، على ما رواه أصحابنا وأجمعوا عليه لأن الاخبار في ذلك متواترة ، والإجماع منعقد منهم ، ولا يعتد بخبر شاذ أو خلاف من يعرف باسمه ونسبه ، لان الحق مع غيره‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الصلح الحديث ١ ـ ١٢.

١٢٧

وعن الخلاف الإجماع أيضا في النخل والفواكه ؛ وفي الرياض لم نقف على مخالف فيه من قدمائهم إلا ما يحكى عن المرتضى في بعض كتبه ، بل في شرح الأستاد أنه قيل بإضافة الزرع والخضر ؛ ونقلت عليه الشهرة ، ونسب إلى بعض نقل الإجماع فيه.

وكيف كان فيدل عليه مضافا إلى ذلك‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الله بن سنان (١) « لا بأس بالرجل يمر بالثمرة ويأكل منها ولا يفسد ؛ قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تبنى الحيطان في المدينة ، لمكان المارة ، قال : وكان إذا بلغ نخلة أمر بالحيطان فخرقت لمكان المارة » ‌ونحوه‌ خبر أبي الربيع (٢) عنه أيضا ، إلا أنه قال : « ولا يفسد ولا يحمل » ‌كمرسل الفقيه (٣) عنه أيضا « من مر ببساتين فلا بأس أن يأكل من ثمارها ، ولا يحمل شيئا ».

وقد‌ قال محمد بن مروان للصادق عليه‌السلام في المرسل (٤) المروي بطرق ثلاثة « أمر بالثمرة فآكل منها؟ قال : كل ولا تحمل » ‌و‌زاد في أحد طرقه « قلت : جعلت فداك إن التجار قد اشتروها ونقدوا أموالهم ، قال اشتروا ما ليس لهم » ‌و‌سأله أيضا يونس (٥) « عن الرجل يمر بالبستان ، وقد حيط عليه أو لم يحط عليه ، هل يجوز أن يأكل من ثمره ، ليس يحمله على الأكل من ثمره الا الشهوة له ، وله ما يغنيه عن الأكل من ثمره ، وهل له أن يأكل من جوع؟ قال : لا بأس أن يأكل ولا يحمله ، ولا يفسده » ‌و‌سأله « ابن أبى عمير (٦) عن الرجل يمر بالنخل أو السنل أو الثمرة ، فيجوز له أن يأكل منها من غير إذن صاحبها ضرورة أو غير ضرورة؟ قال : لا بأس » ‌و‌خبر علي بن جعفر (٧) عن أخيه المروي عن كتاب مسائله لأخيه قال : « سألته عن الرجل يمر على ثمرة فيأكل منها ، قال : نعم قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تستر الحيطان برفع بنيانها » ‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) و (٥) و (٦) و (٧) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ـ ١٢ ـ ٨ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٣ ـ ٢

١٢٨

إلى غير ذلك من النصوص التي لا يبعد تواترها كما سمعته من ابن إدريس ؛ ولذا عمل بها هو كغيره ممن لا يرى العمل إلا بالقطعيات.

فمن الغريب بعد ذلك التوقف في الحكم المزبور فضلا عن الجزم بعدمه لقاعدة قبح التصرف في مال الغير بغير إذنه ؛ المعلومة بالعقل والنقل ، كمعلومية حرمة الظلم والجور والخيانة والسرقة ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل ، و‌صحيح علي بن يقطين (١) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يمر بالثمرة من الزرع والنخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر أيحل له أن يتناول منه شيئا ويأكل من غير إذن صاحبه وكيف حاله إن نهاه صاحب الثمرة ، وأمره القيم ، وليس له وكم الحد الذي يسعه أن يتناول منه؟ قال : لا يحل له أن يأخذ منه شيئا » ‌و‌مرسل مروان بن عبيد (٢) قلت للصادق عليه‌السلام : « الرجل يمر على فراخ الزرع يأخذ منه السنبلة؟ قال : لا قلت : أي شي‌ء السنبلة ، قال : لو كان كل من يمر به يأخذه منه سنبلة لا يبقى منه شي‌ء » ‌و‌خبر مسعدة بن زياد المروي عن قرب الاسناد (٣) « عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه سئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو حلال لهم؟ فقال لا يأكل أحد إلا من ضرورة ولا يفسد ؛ إذا كان عليها بناء يحاط ومن أجل الضرورة نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبنى على حدائق النخل والثمار ، بناء لكي لا يأكل منها أحد » ‌مؤيدا ذلك كله بنصوص التقبيل والخرص في الزكاة والخراج ، بل وبما دل على إخراج النخلة ونحوها لأجل المارة ، الظاهر في التساهل بأمر المارة وباستمرار السيرة علي بناء الجدران ووضع الأبواب ومنع الناس وامتناعهم ، مع أنه لو كان مثل ذلك جائزا لشاع ، حتى بلغ التواتر ، لا أنه تعارف خلافه وبأن فتح هذا الباب يقتضي بأن تضمحل أموال الناس كما أومأ إليه خبر السنبلة ، سيما مع كثرة الثمار على الطرق المسلوكة ، بل يبعث على التجري على الحرام ، حتى أن كل من يجي‌ء يقول لم أكن قاصدا له ، ومن كان له عداوة مع أحد يتقصد إضراره‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ـ ٧ ـ ٦ ـ ١٠

١٢٩

وله عذر واضح ؛ بل يلزم منه أيضا استباحة الأغنياء زكاة الفقراء غير السادات ، وخمس السادات مع القول بالتعلق بالعين.

ومن ذلك يظهر أن أدلة الجواز لا تقوى على تخصيص هذه الأدلة ، سيما مع اختلاف نقل الإجماع ؛ وعدم خلو كثير من النصوص السابقة عن البحث في السند أو الدلالة ، وإمكان حمل جملة منها على شهادة القرينة بالإذن ، كما يرشد اليه خبر الجدران ، أو على أن لذلك العصر خصوصية على شهادة القرينة بالإذن أو على حال الضرورة أو على تعليم أهل الثمار الرخصة ، وأنه ينبغي لهم ذلك نحو ما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و‌في المروي عن صاحب الزمان عجل الله فرجه (١) في جواب مسائل العمري ، « أما ما سألت من أمر الثمار من أموالنا يمر به المار فيتناول منه ويأكل هل بحل له ذلك؟ فإنه يحل له أكله ، ويحرم عليه حمله » ‌ولا أقل من أن يفيد ذلك كله الشك والأصل الحرمة.

هذا أقصى ما يقال في ترجيح القول بالعدم الذي هو مختار المرتضى في المحكي عنه في المسائل الصيداوية ، والفاضل في مكاسب المختلف ، وإن توقف في الأطعمة ، والمحقق الثاني وغيرهم من المتأخرين ومتأخريهم ، واختاره الأستاد الأكبر ، إلا أن الجميع كما ترى ، بل يشبه أن يكون اجتهادا في مقابلة النص ، إذ القاعدة بعد تسليم حكم العقل بإقعادها حال عدم العلم بالكراهة يجب الخروج عنها ببعض ما عرفت ، فضلا عن جميعه كغيرها من القواعد ، إذ مرجعه إلى الإذن الشرعية التي هي أقوى من المالكية ، وبها مع فرض كون موضوع البحث عدم العلم بالكراهة ، يخرج ما نحن فيه عن موضوع الظلم والخيانة والسراقة والجور والأكل بالباطل ونحو ذلك.

والصحيح مع معارضته بغيره محتمل للحمل منها وللكراهة ، ولإرادة بيان حكم التناول مع نهى المالك وأمر القيم ، ولغير ذلك ؛ والمرسل مع عدم الجابر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ـ ٩.

١٣٠

ومعارضته بما سمعت محتمل أو ظاهر أو صريح في غير التناول للأكل ، ضرورة استبعاده في السنبلة الواحدة لعدم تعارفه بل ظاهر السائل الإقدام على ذلك باعتبار قلة الإكتراث بالسنبلة ، فأجابه عليه‌السلام بالحكمة المزبورة.

وفي الحدائق « الظاهر أن هذا الخبر لا يدخل في سياق هذه الاخبار ، فلا معنى لإجرائه في هذا المضمار ، فإن موضوع المسألة الأكل من الثمار في مكانه من غير أن يحمله ، والظاهر أن السنبل ليس من المأكول على تلك الحال ، فالظاهر إرادة حمله ، والمنع فيه مما لا خلاف فيه وهو حسن.

لكن قيل يتعارف أكله مقلا ونحوه ، وخبر قرب الاسناد محتمل للكراهة ، خصوصا مع استثنائه الضرورة ، وعدم بيان حدها ، بل الظاهر منها عدم الوصول إلى حد الخوف على النفس ؛ أو أن المراد منه المنع منه مع قيام شاهد الحال على العدم كالحائط ونحوه ، والخرص والتقبيل مع كونه في الغالب عند البلوغ ، يمكن اعتبار أمر المارة فيه وإخراج النخلة لإرادة المارة بصاحب البستان ، فإن من المتعارف بذل شي‌ء من الثمرة لمن يمر به ، والمسلم من قيام السيرة على ما يفسد وبناء الجدران ووضع الأبواب للخوف من ذلك ، على أنه إذا كان قد تعارف المنع خرج عن موضوع المسألة الذي هو الأكل مع عدم العلم بالمنع ، وعدم البلوغ إلى حد التواتر لا يقضى بالمنع كما في غيره من الاحكام التي هي أهم منه ، مع أنك قد سمعت دعواه ودعوى الإجماع وغيرهما ، وليس في الأكل مع عدم الإفساد اضمحلال لأموال الناس ، بل ربما أدى إلى البركة فيها ، ومثل هذه الباعثية لا تصلح دليلا للمنع ، كوضوح العذر له ، ولو أن نحو ذلك صالح لامتنع كثير من الأحكام الشرعية ، وإباحة الشارع الثمرة للمارين أغنياء كانوا أو فقراء تجرى على الجميع كما اعترف هو به في آخر كلامه ؛ لانه المالك الحقيقي ، وليس مثل هذا الاختلاف في نقل الإجماع قادحا ، كما أن عدم خلو النصوص عن البحث في السند أو الدلالة بعد الاعتضاد بما عرفت غير قادح أيضا.

١٣١

ومن ذلك كله ظهر لك قوة القول بالجواز. نعم ليس في شي‌ء من نصوصه تعرض لغير الثمرة والنخل ، واقتصار بعضهم على الثاني ، كما عن الشيخ في المسائل الحائرية في غير محله إن أراد عدم الجواز في غيره ، أما الخضر فقد عرفت عن بعضهم دعوى الشهرة عليه ، وآخر نقل الإجماع ، وقد يدعى تناول لفظ الثمرة له كما يشهد به صحيح ابن يقطين (١) السابق وغيره ، كتناول لفظ البستان المراد منه ما فيه ، بل قد يدعى تناولهما لمطلق الزرع خصوصا الثاني متمما حينئذ بعدم القول بالفصل مضافا إلى مرسل ابن ابى عمير (٢) السابق لكن تردد فيهما المصنف في النافع وأطعمة الكتاب ، لاختصاص كثير من الأدلة السابقة بغيرهما ، وللصحيح (٣) والمرسل (٤) السابقين في دليل المنع مضافا إلى الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقن ، وفي الرياض ـ « لا ريب أن الترك هنا بل وسابقا أيضا أحوط وأولى ، بل ربما كان متعينا ، ولا وجه لتخصيص التردد بالحكم هنا مع جريانه في غيرهما إلا وجود القائل بالمنع هنا زائدا على المرتضى وعدم حكاية إجماع هنا مع اختصاص كثير من الفتاوى المجوزة المحكية في المختلف بالحكم سابقا ».

قلت : قد عرفت عن بعضهم نقل الإجماع ، كما أنك عرفت وجه الاختصاص بالتردد ، وعلى كل حال فلا ريب أن الأحوط الترك فيهما ، بل وفي غيرهما وإن اختلف شدة وضعفا ؛ ثم إن ظاهر المتن كغيره اشتراط الجواز بأمور ثلاثة ، أحدها ـ كون المرور اتفاقيا ، فلو كان مقصودا لم يجز له ، اقتصارا على المتيقن ؛ وقد يظهر من الرياض دعوى الإجماع عليه ؛ كما في الحدائق نسبه إلى الأصحاب ، وفي شرح الأستاد « اعتبار عدم قصد المرور منه ولا من وليه لخصوص تلك الثمرة ونحوه ، لا في مبدء المسافة ؛ ولا في أثنائها ، ليتحقق صدق اسم المرور ؛ وللإجماع عليه ، ولو عينها بالإشارة واختلف الاسم كان قاصدا ؛ بخلاف العكس ، والعمدة ما عرفت من الاقتصار على المتيقن وخبر عبد الله بن سنان (٥) السابق مع قصور سنده وعدم الجابر له ، يمكن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ٧ ـ ٣

(٣) و (٤) و (٥) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ـ ٧ ـ ٦ ـ ١٢

١٣٢

أن يكون نفي الباس فيه عن الأكل ، فكأنه قال : لا بأس بالأكل بعد المرور اتفاقا ».

لكن قد يقال : ان ظاهر النصوص الجواز بتحقق اسم المرور وإن كان مقصودا.

نعم إذا كان المقصود المجي‌ء إلى البستان مثلا لم يصدق عليه اسم المرور بها ، وهذا لا يقتضي اعتبار الاتفاق في المرور ، ضرورة أعمية مفاد النصوص من ذلك ، فالتحقيق دوران الحكم مداره ، فيرجع هذا الشرط إلى تحقق مسماه لا أمر زائد ؛ وقاعدة الاقتصار على المتيقن لا وقع لها مع فرض ظهور الأدلة الذي عليه المدار في جميع الاحكام كما هو واضح.

الثاني : عدم الإفساد بلا خلاف أجده فيه بل ادعى بعضهم عليه الإجماع ، وهو الحجة بعد الاقتصار المزبور ، وانصراف إرادة الشرطية من النهي في المقام في النصوص السابقة عنه وعن الحمل ، ومنه يظهر وجه الشرط الثالث الذي أشار إليه المصنف بقوله ولا يجوز أن يأخذ معه شيئا بل في الرياض بعد نسبة الحكم به إلى القطع به بين الطائفة ـ لعله إجماع ، لكن قال بعد ذلك : « ان إثبات شرطيته وسابقه من الأصل والنصوص مشكل ، لاندفاع الأول بإطلاق الرخصة ، ولعدم نهوض الثاني إلا بالنهي عنهما ، وغايته الحرمة ، وهي أعم من الشرطية ؛ فإثباتها بذلك في كلام جماعة لا تخلو من مناقشة. نعم الظاهر التلازم بينهما في النهي عن الإفساد ، إذا فسر بما مر ؛ وهو عدم الأكل كثيرا بحيث يؤثر فيها أثرا بينا ، ويصدق معه مسماه عرفا ويختلف ذلك بكثرة الثمرة والمارة وقلتهما جدا ، لا إن فسر بالمعنى الأخر وهو عدم الحائط أو كسر الغصن أو نحو ذلك » قلت : قد عرفت ظهور النهي المزبور في الشرطية هنا كغيره من المقامات سيما بعد الاعتضاد بظاهر كلام الأصحاب ، وإن كان في ظهور العبارة ونحوها بالشرطية نوع مناقشة ، ولكن مع الالتفات الى كلام الأصحاب ـ واستبعاد اقترانها بالإباحة على معنى إرادة الحرمة الخارجية منها على حسب غيرها من المحرمات ـ تندفع المناقشة المزبورة.

١٣٣

وأما ما ذكره من التلازم المزبور فلا يخلو من مناقشة مع فرض تحقق الفساد بالاخر ، فإنه لا مانع حينئذ من القول باختصاصه بالحرمة دون الأول نعم لو قلنا بالأخير يتحقق الفساد في الجميع على وجه يكون تمام ما أكله مندرجا في النهي اتجه ذلك ، ولكنه خلاف المنساق من قوله كل ولا تفسد. ثم إن الظاهر من هذا الشرط وسابقه كونه من الشرائط الكاشفة ، لو فرض تأخيرهما عن الأكل المباح ، وقلنا بالشرطية في هذا الحال ؛ لإطلاق الأدلة ، ولكن الكشف بالنسبة إلى الضمان متجه ، أما بالنسبة إلى الإباحة فلا يخلو من منع ، ودعوى أن الشرط فيهما قصد الحمل وقصد الإفساد يدفعها ظهور الأدلة في خلافها ؛ بل لا إشعار في شي‌ء بالقصد. نعم قد يقال : بتصور الكشف فيها على بعد ؛ بل يمكن القطع بفساده بملاحظة الأدلة فتأمل.

وكيف كان فظاهر الأستاد الأكبر ثبوت الحرمة بقصد الإفساد بلغ حده أولا قال : « ومع عدم القصد ينتفى الجواز عند خوفه ، ولا فرق بين حصول الفساد من واحد أو من جماعة ، فلو أكلت المارة حتى قرب الفساد حرم على الأخير ، وإذا علم ترتب الفساد على المجموع ، اقترعوا على التناول ، فيجوز لكل من طلعت له القرعة ( ثم قال ) :

والمنع مع الفساد في الجملة مما يقضى به الأصل والعقل والكتاب والسنة والإجماع محصله ومنقوله ، وبعض أخبار الباب.

والظاهر أنه لا فرق بين الفساد في الشجر والثمر ، وفي الجدران والسواقي والمساقي ، وبمثل ذلك يظهر قوة التحريم ، لان المار لا يعلم قدر الثمرة ابتداء حتى يعرف الفساد ، فربما أكل من صاع هو بقية ألف صاع من حيث لا يعلم ، والظاهر ثبوت الضمان عليه مع العمد في الإفساد بدونه ، وأجرة المثل لو مكث زائدا على مقدار ما يحتاج إليه في التناول ، إلى أن قال : ، ولا بد أن يقتصر في الأكل على أكله المعتاد على وفق المعتاد ، فان زاد ضمن الجميع ، وله الخيار في اختيار أقسام الثمرة ، ولو عين المالك شيئا تعين » وفيه مواضع للنظر ، كما أن ما فيه أيضا من أن الظاهر اعتبار كون الثمرة على الشجر ، اقتصارا على المتيقن ، وكون المار مسلما حيث‌

١٣٤

يكون المالك كذلك ، إذ لا سبيل عليه لغيره ، واعتبار الايمان من المؤمن لا يخلو من وجه ، واشتراط أن لا يكون له ثمر متصل بثمر الغير ، وأن لا يكون حاملا من جنسه لا يخلو من قوة ، واشتراط عدم علم الكراهة أو ظنها ، وعدم السور والباب ينافيه ما في بعض روايات الباب ، ولا محيص عن القول به كذلك » فيه مواضع للنظر أيضا.

نعم ما فيه « من أنه لا يجوز أن يهب مارا ولا غيره أو يجعله نائبا وما أكلته المارة حين تعلق الزكاة أو الخمس جار على الجميع ، فلا شي‌ء للفقراء على المالك ، وليس حق المارة مما يجوز نقله ، ولو استناب أحدا في التناول له جاز على إشكال » جيد بل الإشكال في الأخير ضعيف ، ثم إن ظاهر خبر ابن سنان السابق (١) اعتبار البلوغ في الثمرة فلا تباح حينئذ للمارة قبل بلوغها ، كما هو مقتضى الاقتصار على المتيقن نعم لا يبعد أن يكون المراد من ذلك الوصول إلى حد اعتياد التناول ، وربما ظهر من بعض مشايخنا تعميم الحكم للثمرة وإن لم تبلغ حد اعتياد الأكل ، وهو وإن كان قد يشهد له إطلاق كثير من النصوص ؛ لكن ما ذكرنا أقوى وأحوط ؛ ولا فرق بين الثمرة المعتادة وغيرها من سائر الشجر والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ١٢.

١٣٥

( الفصل التاسع )

في البحث عن بيع الأناسي من الحيوان وتمام القول فيه يتوقف على النظر فيمن يصح تملكه وأحكام الابتياع ولواحقه.

أما الأول فلا خلاف في أن الكفر الأصلي بأحد أسبابه سبب لجواز استرقاق الكافر المحارب الخارج عن طاعة الله ورسوله ، ولم يكن معتصما بذمة أو عهد أو نحوهما ويلحقه في هذا الحكم ذراريه وإن لم يتصفوا بوصفه ويسري الرق في أعقابه وإن زال وصف الكفر عنه ، لأنهم نماء الملك الذي قد فرض حصوله بحصول سبب التملك حال الاسترقاق ، ما لم يعرض الأسباب المحررة فيتبعه حينئذ أعقابه بعد الحرية فيها ، لخروجه عن الملك المقتضي لملكية النماء حينئذ ، وخرج بالأصلي المنتحل للإسلام المتحصن به عن الاسترقاق إجماعا ، والمرتد الذي خرج كفره المتجدد بتخلل الإسلام أو ما في حكمه عن كونه أصليا ؛ لأصالة الحرية السالمة عن المعارض بعد اختصاص الفتاوى والنصوص ولو بحكم التبادر في غيره ، بلا خلاف أجده في ذلك هذا.

وفي الحدائق « المرتد وإن كان بحكم الكافر في جملة من الأحكام إلا أنه لا يجوز سبيه ، وفي جواز بيع المرتد الملي قول قواه في الدروس وأما الفطري ، فلا ، قولا واحدا فيما أعلم » قلت : الموجود في الدروس هنا « ويصح بيع المرتد عن ملة‌

١٣٦

لا عن فطرة على الأقوى » والظاهر كون المراد بيع المالك للعبد المرتد عن ملة لا عن فطرة ، وغير الأقوى جواز بيعهما معا ، قال في التذكرة : « المرتد إن كان عن فطرة ففي صحة بيعه نظر ، ينشأ من تضاد الحكمين ، ومن بقاء الملك ، فإن كسبه لمولاه ؛ وأما عن غير الفطرة فالوجه صحة بيعه ، لعدم تحتم قتله لاحتمال رجوعه إلى الإسلام. » ‌

وعلى كل حال فهذا غير ما نحن فيه ، ثم إن مقتضى إطلاق المتن وغيره ما هو صريح الفاضل وغيره من عدم الفرق في سبب الملك بين الكافر والمسلم ؛ بل في شرح الأستاد أن الإجماع بقسميه عليه ، و‌قال رفاعة في الصحيح (١) « لأبي الحسن عليه‌السلام : إن القوم يغزون على الصقالبة والروم (٢) فيسترقون أولادهم من الجواري والغلمان ، فيعمدون إلى الغلمان فيخصونهم ثم يبعثون بهم إلى بغداد إلى التجار فما ترى في شرائهم ونحن نعلم أنهم قد سرقوا وإنما أغاروا عليهم من غير حرب كانت بينهم فقال لا بأس بشرائهم ، إنما أخرجوا من الشرك الى دار الإسلام ».

و‌في خبر إبراهيم بن عبد الحميد (٣) عن أبي الحسن عليه‌السلام أيضا « في شراء الروميات فقال : اشترهن وبعهن » ‌و‌سأل عبد الله اللحام (٤) أبا عبد الله عليه‌السلام « عن رجل يشترى من أهل الشرك ابنته فيتخذها قال : فقال : لا بأس » ‌و‌سأله أيضا « عن الرجل يشتري امرأة رجل من أهل الشرك يتخذها قال : فقال : لا بأس » ‌بل ظاهر خبر اللحام الأول ملكه من ينعتق عليه ، وقد استشكل فيه الفاضل من دوام القهر المبطل للعتق لو فرض ودوام القرابة الرافعة للملك بالقهر ؛ قال : « والتحقيق صرف الشراء إلى‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ١.

(٢) هكذا كان في النسخ المصححة ، وفي الكافي « ان الروم يغيرون على الصقالبة ، الى آخر الحديث.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب بيع الحيوان الحديث ـ ٢ ـ.

١٣٧

الاستنقاذ ، وثبوت الملك للمشترى بالتسلط » قلت : المتجه على هذا عدم لحوق أحكام البيع من الخيار والأرش ونحوهما ، لكن مع ذلك توقف فيه الفاضل ، وهو في غير محله قطعا.

نعم قد يقال ببقاء الملك لأنه إن قلنا بتوقف العتق على تقدمه زمانا ، فمن الواضح حينئذ عدم وقوعه مع المقارنة ؛ لأن كل حين من أحيان العتق يقارنه سبب الملك ؛ فلم يزل مملوكا عتيقا ، وإن قلنا بتوقفه على التقدم الذاتي فكذلك أيضا ، إذ السببان كفرسي رهان ، وقاعدة سلطان الملك « وتسلط الناس على أموالهم » أصل لا يخرج عنه في محل الشك ، أو يقال إن عدم جواز التمليك عندنا ، مع الجواز عندهم غير قادح في جواز الأخذ منهم ، إلزاما لهم بمذهبهم ، ولو قلنا بعدم الجواز فالظاهر جواز أخذ الثمن منهم ، لو وقع البيع بينهم ، وإن كان الدافع ذميا أو معاهدا هذا.

ولكن الانصاف عدم خلو أصل المسألة من إشكال إن لم يكن إجماع على كون الاستيلاء من بعضهم على بعض مملكا ، كاستيلاء المسلم ، خصوصا بعد أصالة الحرية وعدم ملك الناس بعضهم لبعض ، والنصوص المزبورة محتملة لإرادة التسلط العرفي من الشراء فيها خصوصا في الرواية الأولى المقتضى خصي الغلمان فيها العتق ، لكونه تنكيلا ، بل من المحتمل إرادة المخالفين من ملوك أهل الجور من القوم فيها ، ومن الغريب الجزم من بعض الناس بالملكية في السبب بالتقرير الذي سمعته ، مع أنه يمكن منع كون السببين فيه على ما ذكر ؛ باعتبار تقدم القرابة المتحققة بانعقاد النطفة ، ولا ريب في أنها قبل القهر والله اعلم.

ويملك اللقيط من دار الحرب التي ليس فيها مسلم يمكن تولده منه بالاستيلاء عليه ، بلا خلاف أجده فيه ، إلحاقا له بأهل الدار الذين قد عرفت كون حكمهم ذلك ، ولا يملك إذا كان فيها مسلم يمكن تولده منه بلا خلاف أجده فيه ، بل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه لأصالة الحرية ، لكن قد يناقش فيها بظهور الوجدان‌

١٣٨

في الدار في كونه منهم ؛ وهو كاف في قطع الأصل ، وإلا لم يترتب الملك على ـ الالتقاط إلا نادرا ، لندرة عدم الاحتمال ؛ ولو جرى الحكم في الأسر أيضا لوحدة المدرك ؛ لقل ما يحكم بترتب الملك فيه أيضا ؛ ولوجب في الغالب الفحص والسؤال إذ قل ما ينتفى الاحتمال ، قلت : يمكن أن يكون المستند في ذلك إطلاق النصوص لا الأصل المزبور ، كقول الصادق عليه‌السلام في خبر زرارة (١) « اللقيط لا يشترى ولا يباع » ‌و‌في خبر المدايني (٢) « المنبوذ حر ، فإن أحب أن يوالي غير الذي رباه والا فإن طلب منه الذي رباه النفقة ، وكان مؤسرا رد عليه ، وإن كان معسرا كان ما أنفق عليه صدقة » ‌:

و‌في خبر عبد الرحمن العزرمي (٣) عن أبيه عن الباقر عليه‌السلام « المنبوذ حر فإذا كبر فإن شاء يوالي الذي النقطة ، وإلا فليرد عليه النفقة ، وليذهب فليوال من يشاء » ‌و‌سأله محمد بن مسلم (٤) في الصحيح « عن اللقيطة فقال : حرة لاتباع ولا تشتري ولا توهب » ‌اللهم إلا أن يدعى أن الاخبار لا يفهم منها إلا ما في دار الإسلام ، كما يفهم من أخبار لقطة المال والحيوان ويدفع بمنع اختصاصها في ذلك ؛ ولو بمعونة فهم الأصحاب.

نعم لا ريب في خروج ما كان منه في دار الحرب على الوجه السابق منها ، ترجيحا لما دل على جواز تملك مثله عليها إن قلنا بشمول إطلاقها لمثله ، كما أنه لا ريب في اختصاص الحكم المزبور بالالتقاط ؛ لما عرفت من إطلاق النصوص الحرية ، أما الأخذ ونحوه مما لا يعد التقاطا فيترتب عليه أحكام الملك ، بظاهر الدار ؛ ولا يلتفت إلى الاحتمال المذكور ، بل قد يمنع إلحاق المعتصم بالمسلم في الالتفات إلى الاحتمال المزبور ، لعدم انجبار الإطلاق بالفتوى ، بل ظاهر الفتوى القطع بوجود المسلم الممكن التولد منه » فلا يجزى الظن بوجوده ؛ فضلا عن الاحتمال لأصالة عدمه‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب اللقطة الحديث ـ ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٥

١٣٩

السالمة هنا عن المعارض ، بخلاف أصالة عدم التولد منه.

وعلى كل حال فقد ظهر أنه لا يملك اللقيط من دار الإسلام بلا خلاف ، فتوى ونصا ، إلا إذا علم انتفاؤه عن المسلم ومن في حكمه بالنسبة إلى ذلك فلو بلغ وأقر جامعا لشرائط صحة الإقرار بالرق ، أو ببعض علله أو نحو ذلك مما يقتضيه قيل والقائل ابن إدريس ناسبا له إلى محصلي الأصحاب لا يقبل لان الشارع حكم عليه بالحرية ، وقيل والقائل غيره ، بل قيل إنه إجماع يقبل وهو أشبه بعموم جواز إقرار العقلاء على أنفسهم ، وبما سمعه ابن سنان‌ (١) عن الصادق عليه‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يقول الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه ـ بالعبودية وهو مدرك ؛ من عبد أو أمة ، ومن شهد عليه بالرق صغيرا كان أو كبيرا » ‌و‌سأله الفضل (٢) « عن رجل أقر أنه عبد قال : يؤخذ بما أقر به » ‌ولا ينافيه الحكم الشرعي ظاهرا بالحرية كما في غيره مما يعترف الخصم به.

ودعوى ظهور نصوص اللقيط في التحرير شرعا لا الحكم بها ؛ ظاهر ينفيها اتفاق الأصحاب على خلافها ظاهرا ، بل يمكن دعوى انسياق ذلك منها ؛ مع قطع النظر عنها ، خصوصا بعد معلومية خروج المعلوم انتسابه إلى أهل الحرب منها ، ثم إنه قد يظهر من إطلاق المتن وغيره في باب اللقطة عدم اعتبار الرشد في صحة الإقرار المزبور لانه ليس إقرارا بالمال ؛ وإن ترتب عليه ، كما يسمع إقراره بما يوجب القصاص ؛ وإن أمكن رجوعه إلى المال بوجه وأشكل بما لو كان في يده مال ، فإن إقراره على نفسه بالرقية يقتضي كون المال له ، إلا أن يقال بثبوته تبعا لثبوت الرقية ، لا أنها إقرار بالمال ؛ وفيه بحث ، ومن هنا مال بعضهم إلى اشتراطه ، بل جزم به شيخنا في شرحه بذلك ، لما عرفت ، ولانه نفسه مال ، فلا يقبل إقراره ، وفيه أنه لا دليل معتبر صالح لتقييد أدلة جواز الإقرار التي يجب الاقتصار في الخروج عنها على المتيقن الذي هو غير مفروض البحث قطعا ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، وتفسير المدرك‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب العتق الحديث ١.

١٤٠