جواهر الكلام - ج ٢٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ما ذكره الأصحاب ، وظاهرهم أنها على مقتضى العمومات ، بل هو صريح غير واحد منهم ، بل هو مقتضى ما ذكروه من التعدي عن محل النص في الخيار برد الثمن ، لكن قد يشكل ذلك بأنهما معا من التعليق الممنوع في البيع ونحوه ، من غير فرق فيه بين كونه في نفس العقد ، وبين كونه في متعلق العقد كالشرط ونحوه ، فلو باع واشترط شرطا مثلا قد علقه على مجي‌ء زيد في مدة معينة مثلا ، لم يجز بلا خلاف أجده فيه والفرق بينه وبين تعليق الخيار على رد الثمن أو على أمر زيد به غير واضح ، والتعبير بعبارة لا تعليق فيها في اللفظ ؛ لا يرفع التعليق في المعنى ، فان اشتراط الخيار حال رد الثمن أو حال أمر زيد به كاشتراطه حال قدوم الحاج أو مجي‌ء زيد في مدة معينة مثلا.

فالتحقيق حينئذ الاقتصار في خيار الرد على النصوص ، وما يمكن إلحاقه بما فيها ، وأما خيار المؤامرة فلم نجد فيه نصا بالخصوص ، فان كان إجماعا فذاك والا! شكل بما ذكرناه إلا إذا فرض على وجه لا تعليق فيه والله اعلم.

( القسم الرابع )

خيار الغبن بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له ، عدا ما يحكى عن المصنف من إنكاره في حلقة درسه ، والموجود في كتابه خلاف هذه الحكاية ، واستظهره في الدروس من كلام الإسكافي ، لأن البيع مبني على المغالبة ، ولا ريب في ضعفه ، بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا ، وفي الغنية الإجماع عليه ، وهو بعد التتبع الحجة مضافا الي ما قيل من النهي عن أكل مال الغير ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) في الكتاب (١) والسنة (٢) والنصوص‌ « غبن المسترسل سحت » كما في أحدها (٣) « والمؤمن » في آخر (٤) وفي ثالث « لا يغبن‌

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٩.

(٢) الوسائل الباب ٣ من أبواب مكان المصلي الحديث ١ ـ ٣.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٢.

٤١

المسترسل فان غبنه لا يحل » (١) وما ورد من النهي عن تلقي الركبان وأنهم مخيرون إذا غبنوا (٢) وخبر الضرار (٣)

وفي الجميع نظر ، ضرورة حصول التراضي ، والا كانت المعاملة باطلة ، لا أن فيها الخيار ، وعدمه على تقدير العلم لو سلم ، لا ينافي الرضا الفعلي الذي عليه المدار ، وإن كان الداعي له الجهل ، والمراد من النصوص المزبورة ، كراهة خدع المؤمن المطمئن إليك الواثق ، وزيادة الربح عليه ، وعن مجمع البحرين « الاسترسال : الاستيناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة فيما يحدثه ، وأصله السكون والثبات ومنه الحديث » الى آخره علي أن مقتضى الحكم بأنه سحت ـ البطلان ، لا الخيار ، كما أن مقتضى عدم الحل الإثم ، بل ما ثبت من الخيار عند الأصحاب أعم مما فيه الغبن بمعنى الخدع ، وخبر الركبان لم نقف عليه في كتب الأصول ، بل في الحدائق ولا في كتب الفروع ، وإن كان فيه انه يكفي ارسالهم له ، بل لعله أقوى من ذكر المتن ، وفي الغنية‌ « نهي عليه‌السلام عن تلقى الركبان » وقال : « فان تلقى متلق فصاحب السلعة بالخيار إذا دخل السوق » وحديث الضرار (٤) مع قطع النظر عن كلام الأصحاب لا يشخص الخيار بل لا يقتضي إلا الإثم ان أريد منه النهي.

نعم قد يستفاد منه المطلوب إذا أريد منه عدم مشروعية ما فيه ضرر ، مضافا الى أصالة صحة البيع وحليته ، وجبر كثير من محال الضرر بالخيار وفتوى الأصحاب وأن الخيار وجه جمع بين الحقين ورافع للضرر من الجانبين ، بخلاف الإلزام بالأرش ونحوه ، والأمر سهل بعد ما عرفت من الإجماع المزبور ، نعم يشترط فيه أمران أحدهما ـ جهل المغبون القيمة وقت العقد بلا خلاف ، ضرورة تسلط الناس على أموالهم (٥) فله أن يقدم على بيع ما يساوي مأة بواحد ، فمع العلم والاقدام لا خيار قطعا ، كحدوث الزيادة والنقيصة بعده ، وفي التذكرة والمسالك الإجماع عليه ، بل في الثاني منهما وغيره التصريح بعدم الفرق بين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أبواب آداب التجارة الحديث ٧.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٩ كنز العمال ج ٢ ص ٣٠٦.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٤ و ٥.

(٤) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٤ و ٥.

(٥) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبع الحديث.

٤٢

من تمكن من المعرفة ولو بالتوقف وغيره ، لكن قد يشكل الأول إن لم يكن إجماعا بأنه هو أدخل الضرر على نفسه فلا خيار له ، كمن أقدم على البيع بالمسمى وإن فرض مساواته أضعافه ، فإن الظاهر عدم الاعتبار بجهله والأصل اللزوم فتأمل.

ومن الجاهل الناسي كحدوث القيمة للمبيع ولما يعلم بها ويقبل قوله في الجهل مع إمكانه في حقه كما في الجامع وجامع المقاصد والمسالك لأصالة عدم العلم ، ولأنه مما يخفى ولا يعلم الا من قبله ، واحتمل في الثاني العدم ، لأصالة لزوم العقد فيستصحب الى ثبوت المزيل ، وأشكله بأنه ربما تعذر إقامة البينة ولم يتمكن الخصم من معرفة الحال ، فلا يمكنه الحلف على عدمه ، فيسقط الدعوى بغير بينة ولا يمين ، ثم قال : كالأول ، نعم لو علم ممارسته لذلك النوع في ذلك الزمان والمكان بحيث لا يخفى عليه قيمته لم يلتفت الى قوله وهو كذلك ، اما النسيان فقد يقوى عدم قبوله بقوله.

الثاني ـ الزيادة والنقيصة التي لا يتسامح الناس بمثلها عادة فلا يقدح التفاوت اليسير ، والمرجع في ذلك ـ بعد ان لم يكن له مقدر في الشرع ـ الي العرف ، وهو مختلف بالنسبة إلى المكان والزمان ونحوهما ، ولو اختلفا في القيمة وقت العقد فعلى مدعي الغبن البينة ، لأصالة اللزوم ، والظاهر ثبوت خيار الغبن من أول العقد لا حين ظهوره ، فلو أسقطه حاله سقط وإن لم يكن عالما به ؛ كما أن الظاهر كونه على التراخي ما لم يحصل ضرر علي الأخر ؛ للأصل خلافا لبعضهم منهم ثاني المحققين والشهيدان مع أن الأخير منهما قد استوجه الأول في بحث تلقي الركبان بعد أن حكاه عن المصنف.

وكيف كان فلعل الفور اقتصارا على موضع اليقين ، ولاقتضاء التراخي الإضرار بالمردود عليه ، لتغير السعر بتغير الزمان ، ولان قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ونحوه مما يقتضي اللزوم كما أنه عام في الافراد كذلك في الأوقات والا لخلي عن الفائدة فلا يتصور حينئذ استصحاب في الخارج لبقاء غيره على مقتضى العام ، والأصل عدم تخصيصه ،

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

٤٣

وفيه عدم انحصار الحكم الشرعي في اليقين ، وقد عرفت تقييده بعدم الضرر ، والآية وغيرها مطلقة بالنسبة إلى الزمان لا عامة فلا تنافي الاستصحاب.

ومن ذلك كله ظهر لك المراد من قول المصنف ـ من اشتري شيئا ولم يكن من أهل الخبرة مثلا وظهر فيه غبن لم تجر العادة بالتغابن به في مثل هذا البيع والزمان والمكان كان له فسخ العقد إذا شاء ودليله ، أنه كما يثبت للمشترى يثبت للبائع ، لاتحاد الدليل بل لو فرض تصور الغبن فيهما كما إذا وقع البيع على شيئين في عقد واحد وكان كل منهما بثمن معين في أحدهما الغبن على البائع وفي الأخر على المشتري ثبت الخيار لهما معا هذا. وربما استفيد من التعليق على المشيئة في المتن أنه على التراخي ، وقد عرفت الحال فيه والله اعلم.

ولا يسقط ذلك الخيار بالتصرف السابق على ظهور الغبن إذا لم يخرج عن الملك أو يمنع مانع من رده كالاستيلاد في الأمة والعتق كما في القواعد وغيرها من غير فرق بين البائع والمشتري ، وإن كان المصنف لم يذكر الخيار إلا للثاني ، الا أن الظاهر ارادته المثال ضرورة عدم اختصاصه بالمشتري ، بل خبر تلقي الركبان في البائع (١) مضافا الى الاشتراك بحديث الضرار (٢) وغيره.

وحينئذ فالمراد عدم سقوط هذا الخيار مطلقا بالتصرف الا الناقل أو المانع من الرد ، كما أن الظاهر ارادة التصرف من ذي الخيار ، ضرورة عدم السقوط بالتصرف من غيره وإن كان ناقلا ، للاستصحاب وحديث الضرر وغيره ، واحتمال عدم الفرق ـ فيبطل الخيار وإن كان النقل من غير ذي الخيار لتعلقه بالعين فيفوت بانتقالها ـ ـ لا ينبغي صدوره ممن له ادنى خبرة بالنصوص والفتاوى.

نعم ظاهرهم عدم الفرق فيما ذكرنا بين البائع والمشتري كما هو مقتضى الدليل‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٩ كنز العمال ج ٢ ص ٣٠٦.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ ـ ٥.

٤٤

لكن في اللمعة « ولا يسقط بالتصرف الا ان يكون المغبون المشتري وقد أخرجه عن ملكه ؛ ثم قال : و « فيه نظر ، للضرر مع الجهل بالغبن ، فيمكن الفسخ وإلزامه بالقيمة أو المثل ، وكذا لو تلفت العين أو استولد الأمة ، وظاهره بل كاد يكون صريح الروضة في أول كلامه عدم سقوط خيار البائع لو كان هو المغبون وقد تصرف فيه تصرفا مخرجا ، وهو كما ترى لا نعرف له وجها ولا دليلا ، بل ولا موافقا.

نعم في جامع المقاصد « لو تصرف البائع في الثمن فهل يسقط خياره أم لا؟ وهل يفرق بين التصرف المخرج عن الملك ، وغيره؟ لا أعلم في ذلك تصريحا » لكن في عبارة التذكرة ما يقتضي عموم سقوط الخيار هنا بالتصرف إذا كان مخرجا عن الملك ، فإنه قال : « ولا يسقط هذا الخيار بتصرف المغبون ، للاستصحاب إلا أن يخرج عن الملك ببيع وعتق وشبهه ، لعدم التمكن من استدراكه » هذا لفظه ، وهو شامل لما قلناه ، مع احتمال أن يريد به تصرف المشتري خاصة إذا كان هو المغبون ، لكن ما استدل به بعينه قائم فيما ذكرناه.

قلت : لا ينبغي التأمل في عدم الفرق كما هو مقتضى إطلاق القواعد وغيرها ، والأدلة ، وصريح الروضة في آخرها والمسالك وغيرها ، بل الظاهر ضعف ما ذكره من النظر الذي قد اعترف في الروضة بأنه لم يقف على قائل به ، لأصالة اللزوم في العقد ، ولأن المعلوم من ثبوت الخيار ما دامت العين على ملكه ، وقيام قيمتها مقامها في ذلك مع التصرف فيه محتاج الى الدليل ، وفرق واضح بين المقام وبين الانتقال إلى القيمة لو كان المتصرف غير ذي الخيار الذي هو تصرف في حق غيره ، فيتجه الانتقال إلى القيمة بخلاف المقام الذي كان التصرف فيه من ذي الحق ، فسقوطه في الحقيقة مستند الى فعله ، بخلاف الأول الذي مبناه معلومية عدم سقوط حق شخص بتصرف آخر ، فإطلاق الأصحاب حينئذ عدم السقوط بالتصرف الا المخرج منه في محله ، فتأمل جيدا.

وحاصل البحث في المسئلة وفروعها أن التصرف مع ثبوت الغبن إما أن يكون‌

٤٥

في المبيع المغبون فيه أو في ثمنه أو فيهما ، ثم إما أن يخرج عن الملك ؛ أو يمنع من الرد مانع كالاستيلاد أو يرد على المنفعة خاصة كالإجارة ، أو يوجب تغير العين بالزيادة العينية كغرس الأرض ، أو الحكمية كقصارة الثوب أو المشوبة كصبغه ، أو النقصان بعيب ونحوه ، أو بامتزاجها بمثلها بما يوجب الشركة بالمساوي أو الأجود أو الأردى أو بغيرها أو بهما على وجه الاضمحلال ، كالزيت يعمل صابونا ، أو لا يوجب شيئا من ذلك ، ثم إما أن يزول المانع من الرد قبل الحكم ببطلان الخيار أو بعده ، أو لا يزول ، والمغبون إما البائع ، أو المشتري ؛ أو هما ، فهذه أكثر أقسام المسئلة ، ومضروبها يزيد على مأتي مسئلة وهي مما يعم بها البلوى وحكمها غير مستوفى في كلامهم.

وجملة الكلام فيه أن المغبون إن كان هو البائع لم يسقط خياره بتصرف المشتري مطلقا ، فان فسخ ووجد العين باقية على ملكه لم تتغير تغيرا توجب زيادة القيمة ولا يمنع من ردها أخذها ، لعودها الى ملكه بالفسخ ، بل وكذا إن وجدها متغيرة بصفة محضة كالطحن والقصارة ونحوهما ، لكن في المسالك « في استحقاق المشتري أجرة عمله ، وجه قوى » وفي الروضة الجزم به بل قال فيها : « وان زادت قيمة العين شاركه في الزيادة بنسبة القيمة » وفيه أن العمل قد وقع في ملكه فلا يستحق به عوضا ، وزيادة القيمة إنما كانت بصفة راجعة إلى المال بنفسه ، وإن كانت بعمله فلا يستحق بها شركة.

فمن الغريب جزمه بذلك خصوصا بعد رجوعه بأجرة العمل كما هو واضح ، نعم إن كان التغير صفة من جهة وعينا من اخرى كالصبغ صار شريكا بنسبته إذا فرض زيادته بذلك ، مع احتماله مطلقا ، ولو كانت الزيادة عينا محضة كالغرس أخذ المبيع وتخير بين القلع بالأرش والإبقاء بالأجرة ، لأنه مقتضى الجمع بين الحقين ، إذا الوضع كان بحق ، ولو رضى ببقائه بها واختار المشتري قلعه ، فالظاهر انه لا أرش له بل كان عليه تسويته ، ولو كان زرعا وجب إبقاؤه الى أو ان بلوغه بالأجرة ، وليس له‌

٤٦

القلع بالأرش لأن له أمدا ينتظر ، وإن وجدها ناقصة ففي الروضة « أخذها مجانا كذلك إنشاء » وفي المسالك « ان لم يكن النقص بفعل المشتري ، وإن كان بفعله فالظاهر انه كذلك » أي يأخذها مجانا ولا شي‌ء له ، لانه تصرف في ملكه تصرفا مأذونا فيه فلا يتعقبه ضمان.

وفيه أن النقصان بفعل الله أو بفعله كتلف العين وإتلافها فكما أنه لو فسخ ووجدها تالفة أو متلفة يرجع بالقيمة فكذا هنا ، واحتمال سقوط الخيار هنا مناف لاستصحابه والعين كالمضمونة في يد من لا خيار له لذي الخيار ، نحو العكس الذي ستسمع التصريح من الروضة بضمانها كلا وبعضا وإن كان من قبل الله تعالى ، وإن كان فيه ما فيه ، وإن وجدها ممتزجة بغيرها ففي الروضة والمسالك « انه إن كان بمساو أو أردى صار شريكا إن شاء ، وإن كان بأجود ، ففي سقوط خياره أو كونه شريكا بنسبة القيمة أو الرجوع إلى الصلح أوجه ، وفي ثانيهما أن الثالث لا يخلو عن قوة ، لبقاء ماله وأصالة بقاء خياره ».

وفيه مضافا الى عدم ذكر الأرش إذا فرض النقص بالمزج بالأردى ، وعدم تقييد الشركة بنسبة القيمة ، أن الثاني هو الأقوى وأنه لا فرق بينه وبين المزج بالأردى ، لكن على معنى الشركة في الثمن لا العين ، للزوم الربا في الربوي بناء على عمومه لكل معاوضة ولعدم المعاملة بينهما والامتزاج أعم من ذلك كما هو واضح ، وكأن الأول مبنى على سقوط الخيار بالتلف ولو كان من فعله ، وهو غريب.

ومنه يعلم ما في قوله فيهما أيضا متصلا : « ولو مزجه بغير الجنس بحيث لا يتميز فكالمعدومة » إن أراد بذلك سقوط الخيار ، فتأمل جيدا ، فإنه يمكن ارادته سقوط الخيار في العين على معنى الانتقال الى المثل أو القيمة ، وإن وجدها منتقلة عن ملكه بعقد لازم كالبيع ونحوه ففي الروضة والمسالك وغيرهما ، رجع بالمثل أو القيمة ، ولعله للجمع بين ما يقتضي بقاء الخيار ، وعموم ما دل على صحة العقد ولزومه ، وهذا و‌

٤٧

إن لم يذكروا غيره في المقام بل لا يخلوا عن قوة ، إلا أنه يمكن أن يتحصل من كلامهم في غيره وهو بيع من لا خيار له ، أن فيه وجوها آخر أيضا.

منها ـ البطلان ، نظرا إلى أن حق الخيار كحق الرهانة لا يصح معه التصرف إلا بالاذن ، ومنها ـ الصحة لكن متزلزلة كالأصل ، لعدم زيادة الفرع عليه ، وفيه قوة أيضا ومنها ـ التفصيل بين العتق ونحوه وغيره ، فينفذ في الأول وينتقل الى المثل والقيمة دون غيره ، ولتحرير ذلك محل آخر ، كما أن ما فيهما أيضا من أنه كذلك يرجع بالمثل أو القيمة لو وجدها على ملكه مع عدم إمكان ردها كالمستولدة ، يحتمل أيضا احتمالا آخر تقدم في بيع أم الولد ، وهو انه تنقل إليه لسبق حقه على الاستيلاد فلا يؤثر منعا.

وكيف كان فإذا استمر المانع استمر السقوط ، وفي الروضة « وإن زال قبل الحكم بالعوض بأن رجعت إلى ملكه أو مات الولد أخذ العين مع احتمال العدم ، لبطلان حقه بالخروج فلا يعود ، ولو كان العود بعد الحكم بالعوض ففي رجوعه إلى العين وجهان ، من بطلان حقه من العين ، وكون العوض للحيلولة وقد زالت » وفيه أولا أنه لا يعقل للحكم بالعوض بعد الفسخ معنى معتبر يترتب عليه ما ذكره ، بل المدار على حال الفسخ الذي به يتشخص ما للفاسخ من العين أو المثل أو القيمة ، فلو رجعت العين أو زال المانع قبله ، اتجه فيه ما ذكره مع احتمال الفرق بين الاستيلاد وغيره ، فيرجع العين فيه دون المبيع ونحوه. نعم يمكن إلحاق فسخ البيع بالإقالة به ، لا ما إذا تملكه جديدا بسبب آخر ، ومن ذلك يعلم الحال فيما لو رجعت أو زال المانع بعده ، ولعل الأقوى عدم الرجوع بالعين إذا فرض عودها الى الملك بسبب آخر ، وفسخ الخيار انما يقتضي إبطال ملكه لها بذلك السبب لا مطلقا فتأمل جيدا.

وإن وجد العين منتقلة بخيار ففي الروضة والمسالك أيضا « ألزم بالفسخ ، فان امتنع فسخه الحاكم ، فان تعذر فسخه المغبون » وفيه أنه لا دليل على شي‌ء من ذلك ، بل مقتضى كون الفسخ بالخيار ابطال المعاوضة الاولى ورجوع كل عوض الى صاحبه إن كان موجودا وإلا‌

٤٨

فبدله الانتقال إلى القيمة وعدم الإلزام بالفسخ هنا ، ضرورة أنه حال الفسخ ينبغي انتقال شي‌ء إليه في مقابلة ما رده من العوض وليس إلا القيمة لا الإلزام بفسخ البيع ، ولعله لذا أطلق المصنف وغيره السقوط بالتصرف المخرج فتأمل جيدا.

وإن وجدها منقولة المنافع ففي الروضة والمسالك « جاز له الفسخ وانتظار انقضاء المدة ويصير ملكه من حينه وليس له فسخ الإجارة ، وتظهر الفائدة في ملك ما لا يدخل في ملك المنفعة المنقولة من حمل وثمرة واستخدام وعتق ونحوها » وعلى كل حال فليس له عوض المنفعة التي استوفاها المالك بالإجارة ، كما ان الظاهر وجوب رد العوض لو فسخ قبل انقضاء المدة لعود الملك اليه بالفسخ ، واحتمال العدم ـ كما في المسالك لعدم التمكن من الانتفاع التام ضعيف ، ولو كان النقل جائزا كالسكنى المطلقة ففي الروضة له الفسخ وفيه اشكال خصوصا بناء على عدم جواز فسخ الإجارة الجائزة باشتراط خيار له اللهم إلا أن يكون مدار فسخ السكنى على من انتقل اليه الملك.

هذا كله إن لم يكن التصرف في الثمن تصرفا مخرجا أو مانعا من الرد وإلا سقط خياره كما عرفت ، والنظر السابق الذي عرفته وعرفت ما فيه آت هنا ، والظاهر أن الإتلاف أقوى من التصرف في الإسقاط هنا كما اعترف به في جامع المقاصد قال : « اما لو تلف بنفسه ففي سقوط الخيار تردد ، ينشأ من عدم التمكن من رد العين ، ومن عدم التقصير من المشتري فلا يسقط حقه » ومقتضى ما تسمعه من الروضة الجزم بعدم السقوط ، بل ظاهره ذلك مع الإتلاف أيضا وأنه يرد المثل أو القيمة حينئذ ، ولكنه كما ترى ، ضرورة أن الوجه في السقوط بالتصرف المخرج عن الملك ليس الا لتعذر الرد الذي هو الأصل في اقتضاء الفسخ ، لا للدلالة على الرضا ، والا لم يفرق بين سائر التصرفات ، ولا ريب في أنه أقوى تعذرا من التصرف ، بل لعله كذلك أيضا بالتلف بآفة ، وعدم التقصير لا ينافي السقوط لتعذر الرد الذي هو مقتضى الفسخ بالخيار ، وان خرج منه تصرف غير المغبون ولو بإتلاف للإجماع على عدم سقوط خيار المغبون بذلك هذا. وكان رد القيمة أو المثل مبني على عدم‌

٤٩

اندراج ما نحن فيه فيما ذكروه من قاعدة « التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له » والا كان المتجه عدم رد المثل أو القيمة ؛ والانفساخ من غير حاجة الى بقاء الخيار.

وان كان المغبون هو المشتري لم يسقط خياره بتصرف البائع بالثمن مطلقا ، بل يفسخ ويرجع بالمثل أو القيمة على نحو ما عرفت إذا لم يكن تصرف في المثمن بما يسقط خياره ولو إتلافا ، لكن في الروضة « انه ان تصرف فيما غبن فيه فان لم يكن ناقلا عن الملك علي وجه لازم ولا مانع من الرد ولا منقص للعين فله ردها ، وفي الناقل والمانع ما تقدم ، ولو كان قد زادها فأولى بجوازه ، أو نقصها أو مزجها أو آجرها فوجهان ؛ وظاهر كلامهم أنه غير مانع.

لكن إن كان النقص من قبله ردها مع الأرش ، وإن كان من قبل الله تعالي فالظاهر أنه كذالك كما لو تلف ، وكذا لو كانت الأرض مغروسة فعليه قلعه من غير أرش إن لم يرض البائع بالأجرة ؛ وفي خلطه بالأردى ، الأرش ، وبالأجود إن بذله له بنسبة فقد الصفة والا فإشكال » وفيه أن بعضه لا يجامع ما تقدم فيما إذا كان المغبون البائع ، ونحوه ما وقع له في المسالك أيضا فلاحظ وتأمل ، ليتضح لك الحال في ذلك وفي صورة اجتماعهما وفي كثير من الفروع المتصورة هنا التي لا تخص المقام في الحقيقة والله اعلم.

وكيف كان فـ ( لا يثبت به ) إي الغبن أرش مطلقا قبل التصرف وبعده ، للأصل وحرمة القياس على المعيب ومحكي الإجماع بل محصله. نعم استشكل الفاضل في ثبوت الخيار لو بذل الغابن التفاوت ، من انتفاء الضرر الموجب للخيار ، ومن ثبوته فلا يزول الا بدليل.

بل جزم بالأول في الحدائق وهو غير ثبوت الأرش الذي سمعت الإجماع عليه ، وقد يناقش في الثاني بأنه مصادرة ، إذ الكلام في ثبوته مع البذل وقد يفرض مقارنته للعقد ، كما انه قد يناقش في الأول بعدم انحصار الدليل بحديث الضرار (١) على أن الظاهر منه إرادة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٤ و ٥.

٥٠

عدم مشروعية ، ما فيه ضرر إلا أنه لما لم يكن معلوما لنا هنا بالخصوص ، لتكثر تصور ما يندفع به الضرر ، قوى في الظن مشروعيته على الخيار ، للإجماع ، ولانه المعلوم من جبر الشارع ضرر العقود بالخيار ، والجامع بين الحقين وغير ذلك مما لا يخفى ، لا أن المراد تكليف الضار بدفع ما وقع منه من الضرر ، كي يتخير فيما يدفعه من بذل التفاوت ، أو التسليط على الفسخ. لكن‌ روي الحلبي (١) « انه سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل اشترى ثوبا ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة؟ قال : لا يصلح له أن يأخذه فإن جهل وأخذه بأكثر من ثمنه رد علي صاحبه الأول ما زاد » فتأمل جيدا.

القسم الخامس

خيار التأخير أي من باع ولم يقبض الثمن ولا سلم المبيع ولا اشترط تأخير الثمن ولو ساعة ولا تأخير قبض المثمن فالبيع لازم ثلاثة أيام. فإن جاء المشتري بالثمن فيها استحق والا كان البائع أولى بالمبيع منه إنشاء الفسخ بلا خلاف محقق معتد به أجده فيه بل حكي الإجماع عليه مستفيضا أو متواترا. وقال زرارة للباقر عليه‌السلام في الصحيح (٢) « الرجل يشترى من الرجل المتاع ثم يدعه عنده فيقول : حتى آتيك بثمنه؟ فقال : ان جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيام ، والا فلا بيع له » وسأل على بن يقطين أبا الحسن عليه‌السلام في الصحيح (٣) « عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن؟ فقال : الأجل بينهما ثلاثة أيام فإن جاء قبض بيعه ،

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب أحكام العقود الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٣.

٥١

والا فلا بيع بينهما » وقال العبد الصالح عليه‌السلام في موثق ابن عمار (١) « من اشترى بيعا فمضت ثلاثة أيام ولم يجي‌ء فلا بيع له » وقال عبد الرحمن بن الحجاج (٢) « اشتريت محملا فأعطيت بعض ثمنه وتركته عند صاحبه ثم احتبست أياما ، ثم جئت الى صاحب المحمل لأخذه فقال : قد بعته فضحكت ثم قلت : لا والله لا أدعك أو أقاضيك ، فقال لي : ترضى بابى بكر بن عياش؟ قلت : نعم فأتيناه وقصصنا عليه قصتنا ، فقال أبو بكر : يقول من تريد أن أقضي بينكما أيقول صاحبك أو غيره ، قال : قلت : بقول صاحبي ، فقال : سمعته يقول : من اشترى شيئا فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام ، والا فلا بيع له » لكن قد يوهم ظاهر هذه النصوص خصوصا صحيح ابن يقطين منها الانفساخ قهرا الذي هو أقرب الي نفى الحقيقة من نفى اللزوم ، وبلفظها عبر الصدوق ، بل ترك الإسكافي الظرف منها بل‌ في المبسوط (٣) « روى أصحابنا أنه إذا اشترى شياه بعينه بثمن معلوم ، وقال للبائع : أجيئك بالثمن ومضى فإن جاء في مدة الثلاث كان البيع له وإن لم يجي‌ء في هذه المدة بطل البيع » الا أنه يمكن ارادته بطلان اللزوم بقرينة كلامه في غيره من كتبه ، خصوصا الخلاف الذي نسب فيه الخيار إلى إجماع الفرقة وأخبارهم ، كما أنه يمكن ارادة ذلك من النصوص ولو بمعونة الشهرة والإجماع المستفيض أو المتواتر ، وأصالة الصحة وعدم المبطل وغير ذلك.

على أنه هو المناسب للإرفاق للبائع ، إذ قد يدخل عليه الضرر بنقصان القيمة في هذه المدة ، بل قد يدعى انصراف الإطلاق اليه ولو بقرينة المقابلة في الشرطية ، مضافا إلى ظهور التقييد بالظرف في ثبوت البيع للبائع ، واللزوم قابل للتبعيض بخلاف الصحة ، ولا ينافيه صحيح ابن يقطين (٤) لصدق نفى اللزوم بينهما ولو بنفيه للبائع منهما. فمن الغريب بعد ذلك كله جزم المحدث البحراني با الانفساخ.

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٢.

(٣) المبسوط ج ٢ ص ٨٧ الطبع الحديث.

(٤) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٣.

٥٢

وعلى كل حال فشرطه عدم قبض الثمن ، وعدم اقباض المبيع ، والحلول فيهما إجماعا بقسميه ، وفي الغنية نسبته إلى رواية أصحابنا ولو لا ذلك لأمكن المناقشة في اشتراط الثاني ، لإطلاق الموثق (١) وغيره الذي لا يقيده ما في سؤال صحيح ابن يقطين ، بل قد يظهر من سؤال صحيح زرارة (٢) إقباض المبيع وتركه عند البائع ، وقد اعترف بعض الأفاضل بعدم ظهور النصوص في الشرط المزبور ، بل ظاهرها خلافه ، لكن قال لعل استناد الأصحاب إليها مبنى على كون القبض عندهم في نحو المتاع النقل لا مجرد قبض اليد.

وفيه أن ذلك مذهب جمع منهم ، والظاهر اتفاقهم هنا على الشرط المزبور ، ولكن الأمر سهل بعد الإجماع المذكور ، فلو وجدا أو أحدهما فلا خيار وإن أبقاه عند صاحبه خلافا للمحكي عن الشيخ من ان للبائع الفسخ متى تعذر الثمن ، وقواه في الدروس ، ولم يستبعده في المسالك ، وهو مع أنه غير ما نحن فيه من خصوص هذا الخيار ـ ضعيف لانه هو أدخل الضرر على نفسه بتسليم المبيع ، ولأن فائدة الفسخ التسلط على العين ، فان تمكن منها أخذها مقاصة كغيرها والا فلا فائدة له.

وعلى كل حال فلو انتفى القبض منهما ولو للبعض فالخيار باق في الكل بلا خلاف وفي خبر ابن الحجاج (٣) دلالة عليه ، وكذا لو قبض فبان مستحقا كلا أو بعضا لانه كعدم القبض بخلاف قبض المعيب فإنه صحيح ويسقط به خيار البائع ، قيل : ويكفي في الثمن مطلق القبض بخلاف المبيع فيشترط فيه اذن البائع ، كما صرح به جماعة ، ولوح اليه آخرون ، لان قبض الثمن من فعل البائع كإقباض المبيع فيسقط حقه بهما ؛ وقبض المشتري ليس فعلا له فلا يسقط حقه بفعل غيره ، وهو جيد لو أن السقوط بالقبض المأذون فيه ، لدلالته على إسقاط الحق ، أما إذا لم يكن لذلك بل لتغير الصورة الثابت فيها الخيار فيبقى على أصل اللزوم ، ففيه ان النصوص أدل هنا على كون القبض للثمن بالاذن فيها على غيره ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٢.

٥٣

بل لا دلالة فيها على المثمن كما عرفت.

اللهم الا أن يقال أن النصوص لا دلالة في شي‌ء منها على اعتبار شي‌ء ، منها إذ جاء ونحوه مجرى الغالب في دفع الثمن ، الى المالك ، لا ان المراد منه الشرطية بل العمدة الإجماع ، وهو ثابت في الإقباض كما عرفت دون قبض الثمن ، بل قد يدعى تحققه في عدم اعتباره ، لا طلاقهم القبض فيه والإقباض في المثمن ، أو يقال : إن الاذن معتبرة في إقباض المبيع دون الثمن ، كما يظهر من بعض كلماتهم في باب القبض ، وإن كان فيه ما فيه ، لكن مع ذلك كله أطلق في الروضة وغيرها اعتبار الاذن في القبض ، وقد ينزل على إرادة الإقباض ، فتأمل نعم لو أجاز البائع لزم ، خلافا للمحكي عن الشيخ لعدم الإقباض ، وهو ضعيف ولو مكنه منه فعن التحرير سقوط الخيار وهو جيد بناء على أنه التخلية ، والا فالأشبه البقاء وإن أسقطنا الضمان به ، لمنع عموم البدلية ، فالأصل بقاء الحق.

وأما الحلول فمستنده ـ بعد الإجماع ـ الأصل السالم عن معارضته المنساق من النصوص. مؤيدا بأن الواجب مع الشرط مراعاة الأجل طال أو قصر فلا يتقدر بالثلاثة ، وإثباتها بعد الحلول خروج عن ظاهر الفتوى والدليل ، ولو شرط التأجيل في البعض فأخر الباقي فالأقرب السقوط ، وفاقا للفاضل والمحكي عن ولده وغيره ، للأصل أيضا السالم عن معارضة النصوص ، بعد ما عرفت من ظهور سياقها في حلول الجميع ، مؤيدا بأنه ساقط في المؤجل بالشرط ، فيسقط في الكل لئلا يثبت التبعيض.

والعمدة ما عرفت ، بل عن التحرير اشتراط خلو الثلاثة عن الخيار للبائع كالحلي في خصوص الشرط منه ولا بأس به ، بعد استثناء خيار المجلس لو قلنا بأن مبدئها من حين العقد ، للأصل المزبور ، المؤيد باندفاع ضرر التأخير ، وظهور النصوص والفتاوى على سبق اللزوم ثلاثا فينتفى الخيار مطلقا.

قيل : وليس المراد به نفى الخيار المخصوص لأن الثابت بالتأخير أصل الخيار والحكم لا يتقيد بالسبب ، وإن كان في الأخير ما فيه ، كالمحكي عنهما أيضا من اشتراط‌

٥٤

خلوها عنه مطلقا ، أو خصوص الشرط للمشتري أيضا ، للأصل أيضا ولان شرط الخيار في قوة اشتراط التأخير ؛ وتأخير المشتري بحق الخيار ينفى خيار البائع ، ضرورة منافاته لإطلاق الأدلة ، واللزوم ـ المفهوم من النص والفتوى في الثلاثة ـ إنما هو للبائع دون المشتري ، فلا مانع من خياره بوجود أسبابه ، بل مقتضى كلام الفاضل عدم هذا الخيار في الحيوان مطلقا ، وهو مناف لعموم الأدلة التي منها يعلم فساد ما عن الحلي أيضا ، لعدم الفرق بين الأصلي والمشترط ، وفي الدروس « يحتمل ثبوت الخيار مطلقا ، فلو اشترط المشتري فسخ البائع بعد الثلاثة ولو شرطاه وخرج الخيار فكذلك » وفيه ـ مضافا الى ما عرفت من سقوطه في اشتراط الخيار للبائع ، ـ انه يلزمه تأخير الثلاثة عن محلها المستفاد من النص والفتوى.

ولا يشترط كون الثمن معينا قطعا ، أما المبيع فعن ابى العباس والصيمري وظاهر المبسوط والمراسم والوسيلة والتحرير ذلك ، وفي الانتصار وعن الخلاف اشتراط تعيينها ، لكن الظاهر ارادة الاحتراز به عن النسية ونحوها ، بل هو محتمل الكتب المزبورة ، فينحصر القول حينئذ بالأولين خلافا لإطلاق الأكثر وصريح المحكي عن القاضي بل عنه الاحتجاج له بالإجماع فهو ـ مع إطلاق معقد غيره وعموم النصوص ـ الحجة في الخروج عن الأصل ، وتغير الصورة وانتفاء العلة ممنوعان ، ويظهر من بعض الأساطين اشتراط التغاير بين البائع والمشتري بالذات في هذا الخيار ، ولعله لانه هو المستفاد من النصوص ، فيبقى غيره على أصل اللزوم ، لكن يمكن أن يستفاد مما سمعته في مثل ذلك في خيار المجلس ثبوته في المقام ، وفرض تصوره واضح ، الا انه يقوى في النفس الأول هنا ، ويعرف البحث في الوكيل ونحوه مما تقدم سابقا فلاحظ وتأمل.

ثم ان ظاهر النص والفتوى اختصاص هذا الخيار بالبيع والبائع كما هو مقتضى الأصل ، بل نفى بعض الأساطين الخلاف في الأول وحكى الإجماع في الثاني الذي نص عليه المفيد والمرتضى حاكيا ثانيهما الإجماع عليه أيضا ، وعن الدروس أنه استشعر الخيار له من عدم‌

٥٥

حكمهم بإجباره على النقد ، لكن فيما حضرني من نسختها « لا خيار للمشترى بعد الثلاثة ولا فيها في ظاهر كلامهم أنه يلوح منه جواز تأخير الثمن إذ لم يحكموا بإجباره على النقد » قلت : لعل وجهه احتباس المبيع والرضا بالتأخير كما هو الظاهر.

ولا فرق في اعتبار الثلاثة في هذا الخيار في النصوص السابقة والفتاوى بين الحيوان وغيره ، والانسي من الأول وغيره ، الا ما ينعتق على المشتري فان الظاهر سقوط الخيار فيه وتعين المطالبة بالثمن لما سمعته في خيار المجلس ، وليس هو كالتلف والتصرف الذي لا يسقط الخيار ، بل يفسخ وينتقل حقه للمثل والقيمة ضرورة كون التعارض في الأدلة في نحو الفرض في أصل ثبوت الخيار ، فمع فرض ترجيح أدلة الانعتاق يرتفع أصل الخيار ، ولا وجه للانتقال الى المثل أو القيمة إذ هو فرع الاستحقاق.

وكيف كان فلا فرق في تقدير المدة المزبورة بين افراد المبيع ، خلافا للصدوق حيث قدر المدة في الأمة بشهر ، للخبر (١) « فيمن اشترى جارية وقال : أجيئك بالثمن ، إن جاء فيما بينه وبين شهر ، والا فلا بيع له » الذي رماه في الدروس بالندرة وفي المختلف بالقدح بالسند ، وإن كان فيه ما فيه ، وعن الاستبصار احتمال حمله على الندب ، ولا يخفى أن الخبر واضح الدلالة ، نقي السند ، مؤيد بأصل اللزوم الا أن شذوذه ـ وغرابة اختصاص الأمة بهذا الحكم ولزوم الضرر بطول المدة ـ يمنع من تخصيص تلك العمومات به ، فالعمل على المشهور وحمله على بيان منتهى الصبر طريق الجمع.

وكيف كان فقد قيل : إن مبدء المدة من حين التفرق ، وأنه ظاهر الشيخين والسيدين والقاضي والديلمي والحلي والعلامة في المختلف والتحرير ، لما عرفت من ظهور النص والفتوى في لزوم البيع في تمام المدة ، ولو كانت من حين العقد لاشتملت على خيار المجلس فينتفى الزوم في المجموع ، بل الجميع في بعض الصور ، بل لعل المتبادر من‌ قوله عليه‌السلام (٢) « إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيام » مجيئه من وقت المفارقة ؛ إذ لا يعقل المجي‌ء حال‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ٩.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب الخيار الحديث ١.

٥٦

الاجتماع إلا إذا أريد به مجرد دفع الثمن وهو خلاف الظاهر ، فهو حينئذ من الافتراق وإن اشترط في العقد سقوط خيار المجلس لعموم المقتضي.

نعم بناء على أن المنساق ما ذكرناه أولا ، اتجه حينئذ كون الابتداء من حين العقد مع اشتراط السقوط ، لانتفاء المانع حينئذ هذا. ولكن قد يقال : إن المنساق من النص والفتوى كونه من حين البيع ، وخيار المجلس بعد ندرة طوله غير قادح في إرادة اللزوم في أكثر الثلاثة ، على أن المراد اللزوم من حيث التأخير ، لا من كل وجه فتأمل.

وفي فورية هذا الخيار وتراخيه ما عرفت سابقا ، بل القول بالثاني هنا اولى ، وعن الشهيد في قواعده التصريح به ، كما انه ظاهر التذكرة لإطلاق الأدلة ، بل لم أجد قائلا بالأول هنا ، وإن كان محتملا نظرا الى تعليل الفورية في غيره ، بالاقتصار علي المتيقن فيما خالف أصل اللزوم. نعم تردد المحقق الكركي في الفورية هنا مع جزمه بها في خيار الغبن والرؤية ، وكان منشأه احتمال كون المقتضى هنا إطلاق الأدلة الاستصحاب ونحوه. بل لا يسقط بالمطالبة بالثمن بعد الثلاثة ، لأعميتها من الدلالة على الرضا بلزوم العقد ، أما لو فرض ذلك ولو لقرينة ، اتجه السقوط كما في غيره من الخيارات ، وقد سمعت في خيار المجلس والحيوان ما يومي اليه من النصوص (١) والاستصحاب بعد صدور الدال على الالتزام لا وجه له ، إذ احتمال عدم سقوط هذا الخيار بنحو ذلك كما ترى ، ولعله على ذلك يحمل ما عن ظاهر المشايخ والديلمي والحلي من السقوط بالمطالبة ، وكذا يسقط باشتراط السقوط كما عن الشهيد وغيره النص عليه ، عملا بالشرط ، وبالإسقاط بعد الثلاثة أيضا كما هو شأن الحقوق أما لو أسقطه فيها فقد قال : بعض الأساطين لا يسقط ، لعدم ثبوت الحق ، وقد يحتمل السقوط باعتبار حصول سبب الاستحقاق وهو العقد ، ولا يسقط ببذل المشتري الثمن بعدها قبل الفسخ للاستصحاب وإطلاق الأدلة ، ولم يثبت كون العلة فيه الضرر فيثبت ويزول بزواله مع أن البذل بعدها ، قد لا يدفعه في بعض الأحوال ، خلافا للفاضل ولم يسوغ له الفسخ والأقوى الأول.

وكيف كان فـ ( لو تلف ) المبيع كان من مال البائع في الثلاثة وبعدها على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ و ٣ من أبواب الخيار.

٥٧

الأشبه بل لا خلاف فيه في الثاني ، بل حكي الإجماع مستفيضا أو متواترا عليه. لقاعدة « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » المعلومة بالنص (١) والإجماع والخبر (٢) « في رجل اشترى متاعا من رجل وأوجب له ، غير أنه ترك المتاع ولم يقبضه ، وقال : أتيك غدا فسرق المتاع من مال من يكون؟ فقال : من صاحب المتاع الذي هو في بيته ، حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد اليه ماله ».

و « قاعدة التلف في مدة الخيار ممن لا خيار له » لا تشمل المقام ، ولو لأنها مخصوصة بما بعد القبض ، ووفاقا للمتأخرين في الأول ، بل عن الخلاف الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد الخبرين ، خلافا للمفيد والسيدين والمحكي عن سلار ، فمن المشتري ، وربما مال اليه الشهيد في المحكي عن نكتة ، بل في الانتصار والغنية الإجماع عليه ، لانه ملكه ولا تقصير من البائع إذ لا طريق له الى الفسخ ، وبه افترق عن التلف بعدها ، ولان النماء له فالضمان عليه ، كما يستفاد من بعض نصوص خيار الشرط (٣) ، والنقض بالتلف بما بعد الثلاث مدفوع بالإجماع ثمة دون المسألة ، إلا ان ذلك كله كما ترى ، بعد الخبرين المزبورين المعتضدين بفتوى المتأخرين وبعض من تقدمهم ، الموهون بها الإجماعان المذكوران.

وفي الوسيلة « أنه من ضمان البائع وإن كان بغير تفريط ، الا أن يكون عرض التسليم ولم يستلم المبتاع ، فان تلف بتفريطه كان من ضمانه على كل حال » ونفى عنه البأس في المختلف بعد تخصيص الدعوى بالثلاث قال : « وكلام ابى الصلاح يدل عليه ، فإنه قال : فان كان تأخيره من قبل المبتاع فهلاكه ونقصه من ماله » قلت : لا يخفى ما فيه بناء على عدم تحقق اسم القبض بمثل الفرض المزبور ، ولم يثبت ارتفاع الضمان به وإن لم يسم قبضا ، والمنقول عن الحلي موافقة المفيد ، وعبارة الوسيلة مطلقة في الثلاث وغيرها ، على ان الظاهر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ و ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١ و ٣.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ٦ من أبواب الخيار الحديث ١ و ٣.

٥٨

كون مبناها تنزيل التمكين منزلة القبض في نقل الضمان ، وهو يقتضي ضمان المشتري مع حصوله مطلقا ، فلا وجه للتخصيص ، بل نقل الضمان من البائع بالتمكين المزبور مذهب الشيخ وجماعة ، بل عن ظاهر الخلاف الإجماع عليه ، وحينئذ فيشكل إطلاق القول بضمان البائع في الثلاثة كما هو المشهور وفيما بعدها من الجميع ان ثبت الإجماع ، ومن خصوص القائل إن لم يثبت ولا يندفع الا باشتراط عدم التمكين في أصل الخيار كما عن التحرير أو تخصيص محل النزاع بما إذا انتفى كما عن السرائر ، فيكون ما في الوسيلة موافقا للمشهور لا أنه قول ثالث كما وقع من غير واحد ؛ والله اعلم. هذا كله فيما لا يفسده البقاء.

وأما إن اشترى ما يفسد من يومه وقد تركه عند البائع حتى يأتيه بالثمن فقد روى محمد بن أبي حمزة مرسلا عن الصادق عليه‌السلام وأبي الحسن عليهما‌السلام (١) » انه إن جاء بالثمن فيما بينه وبين الليل » اى قبل الليل « والا فلا بيع له » ولا يقدح إرساله بعد اعتضاده بما في ذيل‌ مرسل ابن رباط (٢) عن الصادق عليه‌السلام على ما في الفقيه » والعهدة فيما يفسد من يومه مثل البقول والبطيخ والفواكه يوم الى الليل » وإن احتمل أنه من كلام الصدوق بل لعله الظاهر ؛ وانجباره بعمل الأصحاب وموافقة الاعتبار وحديث الضرار (٣). نعم اختلفت عباراتهم في تأدية المراد بعد اشتراكها في التحديد بالليل ففي جملة نحو ما في المتن من الامتداد اليه من دون تعرض للمبدء وفي أخرى تقدير المدة بيوم وفي ثالثة جعل الخيار الى الليل ، الا أنه مناف لما في النص وأكثر العبارات من أنه مبدأه لا منتهاه فيجب رده اليه وإن بعد ، والأمر سهل بعد وضوح المراد.

نعم قد يشكل الحديث والفتاوى بأن الغرض من الخيار دفع الضرر بالفسخ قبل فساد المبيع ، وإذا كان مما يفسده ليومه كما هو المفروض ، وجب ان يكون الخيار قبل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ١١ من أبواب الخيار الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٤ و ٥.

٥٩

الليل ، ليتأتى للبائع فسخه ، ودفع الضرر عن نفسه ، وبأن البيع يقع في طرفي النهار وفي الأثناء ، وقد يقع في الليل أيضا ، والتحديد بالنهار كلا أو بعضا لا يطرد في الجميع ، والحمل على مقدار اليوم خروج عن ظاهر النص والفتوى ، ولا يتأتى معه الغرض المطلوب في الأكثر ، ومن هنا حمل الشهيد في الدروس النص على ما يفسده المبيت ، نظرا الى الغالب في نحو الخضر والفواكه واللحوم والألبان ، وإلى شيوع استعمال اليوم فيما يشمل الليل ، فيثبت الخيار حينئذ فيما هو كذلك ، وقد بيع في النهار عند انقضائه ودخول الليل ، ورد ما سواه الى ما يقتضيه الأصل ، وحديث الضرار ودلالة الإيماء ؛ وهو جيد جدا ، وارتضاه المحقق الكركي ومال اليه الشهيد الثاني وغيره ، ومقتضاه ثبوت الخيار في غير مورد النص عند خشية فساده مطلقا ، فلو كان مما يتسرع إليه الفساد في بعض يوم فالخيار فيه قبل الليل ، ولو كان مما لا يفسد في يوم ، تربص به البائع إلى خوف فساده ، فيتخير حينئذ ، وإن مضى عليه يومان وأكثر ، واحتمل العلامة في هذا انتظار الليل لورود التحديد به شرعا ، ويضعف بما عرفت ، وبأن مورد النص الفاسد ليومه ، وليس هذا منه ، فيستمر فيه اللزوم الى خوف الفساد ، بمقتضى الأصل السالم عن المعارض.

وقد يحتمل فيه وفي غيره ملاحظة النسبة لما يفسده المبيت فيفسخ مع بقاء زمان يعدمه الفساد كزمانه ، فتأمل ويكفى الفساد في تغير العين ونقص الوصف وإن لم يبلغ حد التلف ، كما في الدروس وجامع المقاصد وظاهر المسالك ، وهل ينزل فوات السوق منزلة الفساد؟ احتمله الشهيد ، للزوم الضرر بنقص السعر ، وهو قوى ، وإن احتمل العدم أيضا ، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتقين.

ثم إن الظاهر اتحاد البحث في تلفه كذي الثلاث ، لاتحاد الطريق وهو صريح الغنية أو كصريحها مدعيا عليه الإجماع ، وربما احتمل كونه من البائع هنا مطلقا عند غير من صرح من المفصلين أيضا ، لا قدامه على التأخير فيما هو مظنة التلف ، كما أن الظاهر من الماتن وغيره ، بل عن جماعة التصريح به ، بل في الغنية الإجماع عليه كون هذا الخيار من‌

٦٠