جواهر الكلام - ج ٢٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لكن قد يقال : إن مثل هذا الظهور لا يرفع حكم البعض ، كما في زكاة الفطرة وغيرها مما كان العنوان فيه نحو ما هنا ، بل يظهر من النص والفتوى اتحاد قاعدة في المبعض الذي بعضه حر بالنسبة إلى جريان حكم الملك والحرية على كل من الجزئين ، فضلا عن العبد المشترك بين المالكين الذي يمكن القول فيه بحلية الربا فيه بالنسبة إلى كل من مولييه ، كإمكان القول في المبعض الحر أنه يصح العقد الربوي فيما قابل الجزء الملك ، ويبطل فيما قابل الجزء الحر ، نحو ما يقال : في المال المشترك بين الوالد وغيره مثلا ، فباعاه من الولد لأحدهما ، فإنه يصح العقد بالنسبة إلى نصيب الوالد مع زيادته ، ويبطل في غيره.

على أن الخبر المزبور (١) ـ مع احتمال العلة فيه ، إقناعية ، لما تسمع في المشترك الجزئي ـ ظاهر في نحو المشترك الجنسي الذي هو بين المسلمين ، لا مثل المشترك بين شخصين مثلا ، أو مثل الذي بعضه حر وبعضه رق وكذا لا ربا بين الرجل وزوجته إجماعا أيضا بقسميه ، ولصحيح زرارة (٢) المتقدم سابقا مضافا إلى‌ مرسل الصدوق (٣) عن الصادق عليه‌السلام « ليس بين المسلم وبين الذمي ربا ، ولا بين المرأة وزوجها ربا » وهو مضافا إلى الفتاوى ومعاقد الإجماعات ، قرينة على إرادة الزوجة من الأهل ، في صحيح زرارة لا غيرها ، ممن هو أهل عرفا ، والأكثر ، كما في الرياض ، والمشهور كما عن الكفاية أنه لا فرق بين الدائمة والمتمتع بها ؛ وبه صرح الشهيدان والعليان.

لكن قد يناقش بعد تسليم صدق اسم الزوجة بل والأهل عليها ، بأن المنساق إلى الذهن الدائمة ، خصوصا إذا كان المتمتع بها إلى أجل قصير ، ولم يكن متخذا لها اتخاذ الزوجة ، بل اتخذها اتخاذ المستأجرة ، على أن الدائمة هي التي ثبت لها التفويض في مال الرجل في الجملة ، كأخذ المأدوم ونحوه ، كما أنها هي التي يتسلط الزوج على مالها بحيث‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٢ ـ.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٥.

٣٨١

لا يجوز لها العتق إلا بإذنه ، على ما في بعض النصوص (١) بل هما المتحدان في المال عرفا ؛ مضافا إلى عموم حرمة الربا التي ينبغي الاقتصار في خلافها على المتيقن.

ولعله لذا تردد المقداد والصيمري كما قيل بل عن التذكرة وإيضاح النافع ومجمع البرهان ثبوت الربا بينها وبينه ؛ ووجهه ما عرفت ؛ إلا أنه قد يقوى التفصيل بين المتخذة أهلا وغيرها ، فلا ربا في الأولى ويثبت في الثانية ، ومنه يظهر وجه التوقف في المطلقة رجعية إذ هي وإن كانت زوجة إلا أنه قد يمنع صدق الأهل عليها ، والاحتياط لا ينبغي تركه ، وذلك لأن الجمع بين خبري الزوجة والأهل يقتضي اعتبار كل منهما ، فإنهما شبه العامين من وجه.

وكذا لا ربا بين المسلم وأهل الحرب إجماعا بقسميه أيضا إذا أخذ المسلم الفضل ، ولمرسل الصدوق (٢) والمروي مسندا في الكافي (٣) قال : « قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ؛ ولا نعطيهم » والضعف غير قادح بعد الانجبار ، كما أن خبر زرارة يمكن ارادة غير أهل الحرب من المشركين كأهل الذمة ، بناء على جريان الربا فيهم أو غير ذلك ، ولا فرق في الحربي بين المعاهد وغيره ، ولا في كونه بين دار الإسلام أو الحرب ، كما صرح به بعضهم بل عن ظاهر الخلاف ، الإجماع على الأخير.

لكن قد يناقش في الأول ، بظهور المرسل في غيره ممن هو محارب حال المعاملة ، إذ هو كالذمي الذي ستعرف البحث فيه ، مضافا إلى وجوب الاقتصار فيما خالف العموم على المتيقن ، والأحوط اجتنابه.

وعلى كل حال فصريح المرسل المزبور أن المراد من نفي الربا بيننا وبينهم أخذه منهم ، لا إعطاؤهم كما هو صريح جماعة وظاهر آخرين ، بل لا أجد فيه خلافا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب العتق الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٢.

٣٨٢

صريحا ، وإن كان قد أطلق بعضهم إلا من القاضي فيما حكي عنه ، فجوز أخذ كل منهما من الآخر ، لكن لا ريب في ضعفه ، لعدم ما يصلح للخروج به عن عموم التحريم.

ويثبت الربا بين المسلم والذمي قطعا إذا كان الآخذ الذمي وبالعكس على الأشهر بل المشهور نقلا وتحصيلا بل عليه عامة المتأخرين إلا النادر ، بل لم أجد فيه خلافا إلا ما سمعته من المرتضى وحكي عن ابني بابويه والمفيد والقطيفي ، مع أنه قال بعض مشايخنا أني لم أجد له ذكرا في المقنعة.

ومن ذلك يعلم ما في دعوى المرتضى من الإجماع عليه الذي هو دليل القول به ، والمرسل في الفقيه (١) « ليس بين المسلم والذمي ربا » الذي لا جابر له ، ويمكن حمله على إرادة الحرمة منه ، نحو ما سمعته من المرتضى في نظائره ؛ قبل أن يرجع إلى المشهور ، أو علي أنهم حربيون في زمن الغيبة كما ستسمع ، على أنه أرسل في النافع رواية معارضة للمرسل ، وإن لم أجدها إلا أن يريد قوله في‌ صحيح زرارة (٢) « المشركون بينهم وبين المسلمين ربا » المؤيد للعمومات في الجملة ، وحمله على إرادة ثبوته حيث يكون الأخذ من المسلم ، ينفيه ظهوره أو صراحته في الأعم من ذلك ، فلا ريب في أن الأحوط إن لم يكن الأقوى جريان الربا بينهم ، إلا إذا خلعوا شرائط الذمة ، فإنهم يكونون حينئذ حربيين ، بل يظهر من بعضهم أنه كذلك في زمن الغيبة وما شابهها من قصور اليد ، وإن كانوا لا يغتالون ، لشبهة الأمان ، ولعله لعدم من يعقد معهم ، عقد الذمة وشرائطه ، ولم يثبت ولاية حاكم الجور في ذلك ، هذا.

وقد يقال في أصل المسألة أن المراد بنفي الربا بين المسلم والحربي ، يأخذ منه ولا يعطيه عدم حرمة ذلك على خصوص المسلم الذي له التوصل بكل طريق إلى أخذ مال الحربي ، لأنه هو وماله في‌ء للمسلم ، فله السرقة ونحوها ، لا أن المراد نفيه على نحو نفيه بين الولد والوالد ، وحينئذ فالمعاملة بينهما باطلة توجب حرمة الثمن على الكافر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٣.

٣٨٣

ويحرم عليه دفع الربا ، وللمسلم أخذه منه بتوسط هذه المعاملة التي هي فاسدة في الواقع ، وصحيحة بزعم الحربي ، نحو شراء ولده منه ، فإنه شراء صوري مقدمة للاستيلاء على الولد ، ليملكه به ، لا بالشراء ، كذا ما نحن فيه فإن ملكه لما يأخذه منه بالاستيلاء لا بالبيع الربوي ، وربما يؤيد ذلك ما سمعته في صحيح زرارة من ثبوت الربا بيننا وبينهم مطلقا ، ولكن في خصوص الحربي لنا استنقاذ ماله منه بالمعاملة المزبورة على حسب ما عرفت.

ومنه يعلم جريان الربا بيننا وبين سائر فرق الكفار المحترم ما لهم بذمة ، أو صلح ، أو أمان أو عهد ، أو غير ذلك ، بخلاف غير محترمي المال ، فإن له التوصل إلى الاستيلاء على مالهم بالمعاملة المزبورة ، ليملكه به ، لا بها ؛ بل الظاهر جواز كل معاملة فاسدة معهم بهذا القصد ، لا بقصد ترتب الأثر على المعاملة ، وإلا فمن البعيد اختصاص الكافر هنا بحلية دفع الربا للمسلم دون أخذه منه ، ودون أخذه من غيره من قومه فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع ، ومنشأ الوهم الاشتراك مع غيره ، بنفي الربا لما عرفت والمراد بهما متغاير والله أعلم.

المسألة الثانية المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا أنه لا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه كلحم الغنم بالشاة بل في المختلف لم نقف فيه على مخالف منا غير ابن إدريس فجوز ، وقوله محدث لا يعول عليه ؛ ولا يثلم في الإجماع ، وفي الدروس نسبته إلى الشذوذ بل عن الخلاف والغنية الإجماع عليه وهو الحجة بعد‌ النبوي (١) وإن كان عاميا على الظاهر « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع اللحم بالحيوان » وموثق غياث (٢) على ما قيل عن الصادق عليه‌السلام : « أن أمير المؤمنين كره بيع اللحم بالحيوان » بناء على إرادة الحرمة منها في خصوص المقام ولو لما في المعتبرة (٣) من أنه عليه‌السلام « لا يكره الحلال » كما‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٨٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١.

٣٨٤

في بعض وإلا الحرام في آخر ، وللإجماعين المعتضدين بالشهرة.

لا أن الحجة فيه تحقق الربا ، كي يرد عليه أن الحيوان غير موزون ، إذ الظاهر إرادة الحي في محل النزاع ، كما اعترف به في المسالك ؛ بل هو ظاهر التذكرة أو صريحها ، كالمحكي عن السرائر بل عن نهاية الأحكام وفخر المحققين وغيرهما جعل النزاع فيه ، فما عساه يظهر من المختلف من كون النزاع في الأعم ، ومن المحكي من مجمع البرهان في خصوص المذبوح في غير محله ، كما أن الاستدلال عليه في المحكي عن إيضاح النافع بأن القوم أجروا ما يجرى عليه الوزن عادة ، مجرى الموزون وإن كان في الحال غير موزون ؛ ولهذا لا يجوز بيع الرطب بالتمر على النخل كذلك أيضا ، ضرورة عدم الدليل على ذلك ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، خصوصا ما دل (١) منها على جواز بيع الثوب بالثوب وبالغزل ، لخروجه بالصفة عن كونه موزونا الذي أفتى به الفاضل والشهيد والمحقق الثاني ، بل ربما ظهر منهم أو بعضهم تعدية الحكم إلى الآنية من الحديد والصفر ، إذا لم تجري العادة بوزنها ؛ بل والمصنوع من النقدين كالخاتم والظروف والمراكب المحلاة ، فما حكاه عن القوم لم نتحققه.

نعم قال في القواعد والتذكرة والتحرير : « إن المراد أي في باب الربا جنس المكيل والموزون ، وان لم يدخلاه لقلته كالحبة والحبتين ، أو لكثرته كالزبرة ؛ أي القطعة من الحديد » ، وظاهره كما اعترف به في الحواشي المنسوبة إلى الشهيد وجامع المقاصد أنه يجب الكيل والوزن في البيع إذا كان المبيع مكيلا أو موزونا بالفعل ، فلو بيع ما لا يوزن عادة لقلته أو كثرته وجنسه مكيل كفى في صحة بيعه المشاهدة ، إذا بيع بغير جنسه ، وأما إذا بيع بجنسه لم يجز كما في الأول ولا بد من المساواة كيلا إن كان مكيلا وإلا فوزنا ، كما في الثاني ، ويمكن أن يكون ذلك في خصوص ما كان المانع من كيله أو وزنه القلة أو الكثرة ، لا غيرهما من الأحوال ، ككون الثمرة على الشجرة ونحوها ، مع أنه لا يخلو من نظر.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الربا الحديث ١.

٣٨٥

وبالجملة لا ريب في أنه ليس المنع في كلام الأصحاب هنا ملاحظة الربا ، وإلا لما صح إطلاقهم المنع الشامل لصورة المساواة وزيادة اللحم على الحيوان وبالعكس ، ولا اتجه لهم المنع حتى في بيع الحيوان بالحيوان الذي من الواضح فساد القول به ، وكان منشأ الوهم ذكرهم هذه المسألة في باب الربا ، وزاده إيها ما تقييد غير واحد من الأصحاب المنع بما إذا كان من الجنس وأنه يجوز البيع بغير جنسه كلحم البقر بالشاة بل هو المشهور بين المتأخرين بل في الغنية والتنقيح الإجماع عليه ، بل قيل إن إجماع الخلاف منطبق عليه أيضا ، وكأنهم فهموا من إطلاق المقنعة والنهاية والمراسم والقاضي على ما حكي عن بعضهم عدم جواز بيع الغنم باللحم وإرادة اللحم من الغنم ، بل لعلهم فهموا ذلك أيضا من خبر غياث (١).

نعم قيده المصنف بقوله لكن بشرط ان يكون اللحم حاضرا ولعله لعدم جواز بيع اللحم نسيئة ، كما نص عليه ابن إدريس في المحكي عنه هنا ، قال كما في المختلف : « يجوز ذلك أي بيع اللحم بالحيوان إذا كان موزونا سواء اتفق الجنس أو لا يدا بيد ، وسلفا أيضا إن كان اللحم معجلا دون العكس إذ لا يجوز السلف في اللحم ، ويجوز في الحيوان ، ويأتي تمام الكلام في السلم إنشاء الله تعالى.

وكيف كان فذلك كما ترى لا دلالة فيه على أن المنع فيه للربا ، إذ ليس في النهاية إلا « لا يجوز بيع الغنم باللحم لا جزافا ولا وزنا » ومثلها المقنعة بزيادة لأنه مجهول ، ونحو هما غيرهما في عدم الإشارة إلى كون المنع للربا ، فلا ريب في بطلان الاستدلال به لهم ، بل منه يعلم فساد ما ذكره ابن إدريس حيث احتج على مطلوبه بأن المقتضي للجواز ـ وهو قوله تعالى (٢) ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ، ـ موجود ، والمانع وهو الربا منفي إذ الربا إنما يثبت في الموزون ، والحيوان الحي ليس بموزون ، إذ فيه ما عرفت من عدم كون المانع الربا ، وأجاب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٧٥.

٣٨٦

عنه في المختلف بالمنع من نفى المانع ؛ ومن كون المانع هو الربا خاصة ، ثم قال : ولو قيل بالجواز في الحيوان الحي دون المذبوح جمعا بين الأدلة كان قويا.

وفيه أنه لا وجه للمنع من نفى المانع إذ احتمال أنه من الربا بتخصيص ما دل على اشتراطه بالكيل في غير المقام كما ترى ، وإن جزم به في الرياض على أنه ينبغي جوازه مع المساواة ، مع أن المعظم والجميع أطلقوا المنع.

نعم قيده بعض المتأخرين بغير المساواة بناء منه على أن المنع من جهة الربا مضافا إلى أنه ليس في خبر غياث (١) دلالة على كون المنع من جهة الربا ، كي يقيد به تلك الأدلة ، وأما ما ذكره من التفصيل فإنه وإن استجوده الشهيد في حواشيه ، وقال به المحقق الثاني في جامع المقاصد وتعليق الإرشاد ، وقواه الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، لكن منشأه على الظاهر ما أومأ إليه في المختلف من الجمع بين ما دل على الحرمة كالرواية ، والإجماع المحكي وإطلاقات الحل والجواز ، فيحمل الأول على ما إذا كان مذبوحا ، لتحقق شرط الربا فيه ، والثاني على الحي لفقد شرط الربا فيه.

ومن هنا صرح بعضهم بالكراهة في الحي للشبهة الناشئة من إطلاق القول ، والرواية بالحرمة ، وقد ظهر لك مما ذكرنا ما فيه ، إذ لا حاجة لحمل المنع على كونه من جهة الربا ، كي يحتاج إلى ذلك ، وإلى حمل النص ومعقد الإجماع والفتاوى المتضمنة للفظ الحيوان والشاة أو الغنم على خلاف ظاهره ، ضرورة ظهورها جميعا في الحي ؛ على أن تنزيل ما دل على الربا على المذبوح قد يناقش فيه ، بأنه غير مكيل ولا موزون قبل السلخ ، بل تعارف في زماننا بيعه جزافا بعد السلخ إذا كان جملة ، بل من المعلوم أن الرأس لا يباع إلا جزافا ، والإكتفاء بموزونية جنسه أي اللحم قد عرفت ما فيه ؛ بل قد يمنع كون جنس الحيوان المذبوح اللحم.

وكذا يظهر لك ما في التذكرة ، فإنه بعد أن ذكر أن المشهور على المنع قال :

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب الربا الحديث ١.

٣٨٧

« والأقرب عندي الجواز على كراهية ، للأصل السالم عن معارضة ثبوت الربا لفقد شرطه ، وهو التقدير بالكيل أو الوزن ، المنفي في الحيوان الحي ، واما الكراهية فللاختلاف ، بل صرح بعد في كلامه بأن المنع على تقديره إنما هو من جهة الربا » وفيه ما عرفت ولعل ما في النافع والتحرير والإرشاد من الحكم بالجواز مبنيا على أن كون المنع للربا ، وهو منتف لفقد شرطه ، كالمحكي عن الابى والخراساني والكاشاني ؛ أو لأن غياثا تبري لا يعمل بخبره.

وفي الأول ما عرفت ، وفي الثاني مع ان غير واحد وصف الخبر بكونه موثقا ، بل في المختلف أن أصحابنا وثقوه وهو منجبر بما عرفت ، ومعتضد بالإجماعين السابقين ، ومنه يعلم الحال في المناقشة في متنه للتعبير فيه بلفظ الكراهة.

ونحوها المناقشة بأن مقتضاه مطلق المعاوضة ، وأن المنع ولو بغير الجنس والأصحاب لا يقولون به ، إذ يدفعهما انصراف البيع والجنس منه ، أو إرادة ذلك منه ولو بمعونة كلام الأصحاب ، واحتمل في الرياض إرادة المثال بذكر البيع في الفتاوى وهو بعيد ، مناف لقاعدة الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقن منعه من النص والفتوى ، فظهر لك من ذلك كله أن قول ابن إدريس ضعيف ، وإن وافقه عليه جماعة ممن تأخر عنه ، كالمصنف في النافع والفاضل والمحقق الثاني والشهيدان في الحواشي والمسالك والروضة وغيرهم ، إلا أن منشأ الجميع ما عرفت مما هو واضح البطلان ، فالقول حينئذ بما عليه المشهور لا يخلو من قوة.

لكن قد ظهر لك من كلام هؤلاء المتأخرين أنه لا إشكال في المنع في المذبوح لوجود شرط الربا فيه ، وقد عرفت المناقشة فيه ، فبناء على ظهور الخبر ومعاقد الإجماعات في الحي ، يتجه الجواز حينئذ في المذبوح لعدم شرط الربا فيه ، اللهم إلا أن يدعى الإجماع عليه من الجميع ، ودونه خرط القتاد ، بعد أن علمت أن البحث في تلك العبارات في الحي لا في المذبوح ، كما عن الأردبيلي الجزم به ، ولا في الأعم منه ومن‌

٣٨٨

الحي ، كما عساه يظهر من المختلف ، إلا أن الاحتياط لا ينبغي تركه ، ثم إن الظاهر عدم الفرق في الحكم المزبور بين كون اللحم ثمنا ومثمنا ، وإن اختص أكثر العبارات بالثاني ، لكن المحكي عن جملة من القدماء التعبير بالأول.

نعم ينبغي الاقتصار بناء على ما ذكرنا على ما يسمى لحما ، فالكرش والكبد ونحو هما لا يدخل في المنع ، بل قد يتوقف في اندراج بيع لحم السمك بالسمك الحي ، لعدم انصراف لفظ اللحم اليه ، هذا وربما يقال في أصل المسألة ـ خصوصا بملاحظة ما سمعته من المعتبرة من التعليل بالجهالة ـ إن المراد من إطلاق الفتوى من قدماء الأصحاب عدم جواز ما يستعمل من دفع رؤس من الغنم إلى القصاب بمقدار من اللحم يؤخذ منه تدريجا ، أو يبيع القصاب مقدارا من اللحم في ذمته لصاحبها بها.

وعلى كل حال فهو باطل لعدم إمكان ضبط اللحم المختلف باختلاف الحيوان زمانا ومكانا وأكلا وسمنا وغير ذلك ، فالمراد حينئذ عدم جواز بيع اللحم سلفا ولا كونه ثمنا نسيئة بالحيوان ، ولعل تخصيص ذلك ؛ بالحيوان تنبيها على ما كان يستعملونه بل ربما استعملوه على نحو العرية من بيعه بمقدار من اللحم منه الذي لا إشكال في بطلانه ، لاتحاد الثمن والمثمن فيه ، كما أن الوجه في ذكر الأصحاب ذلك ، ذكره فيما سمعته من النص وبذلك ينطبق ما سمعته من التعليل بالجهالة ، ضرورة عدمها في الحيوان ، وفي اللحم المشاهد ، وكان التفصيل بالجنس وغيره من المتأخرين الذين توهموا كون موضوعه من الربا ، والا فالقدماء لا تفصيل في كلامهم ، فتأمل جيدا ولاحظ ، فإنه نافع إنشاء الله.

المسألة الثالثة لا خلاف بيننا في أنه يجوز بيع دجاجة فيها بيضة بدجاجة خالية أو فيها بيضة أو ببيضة ، لوجود المقتضي من الأصل وغيره ، وعدم المانع ، إذ ليس إلا الربا ، وهو منفي بانتفاء شرطه ، إذ الدجاجة غير مقدرة بالكيل والوزن ، وما في بطنها ما دام كذلك كالثمرة على الشجرة ، ولأنه تابع غير مقصود ، والمخالف الشافعي ، ولا ريب في ضعفه ، وكذلك لا خلاف عندنا في جواز بيع شاة في ضرعها لبن بشاة‌

٣٨٩

في ضرعها لبن أو خالية : أو بلبن ولو كان من لبن جنسها ، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا لعين ما ذكرنا ، وكذا بيع شاة عليها صوف ، بصوف وشاة ليس عليها صوف ، ونخلة ليس عليها تمر بأخرى خالية أو ذات تمر.

المسئلة الرابعة : القسمة تميز أحد الحقين أو الحقوق عن الأخر وليست بيعا عندنا ولا معاوضة ، فتصح فيما فيه الربا ولو أخذ أحدهما الفضل للأصل والإطلاقات وفي المسالك دعوى الوفاق عليه ، ومن جعلها بيعا مطلقا ، أو مع اشتمالها على الرد يثبت فيها الربا ، وتجوز القسمة كيلا وخرصا للأصل ولو كانت الشركة في رطب وتمر متساويين فأخذ أحدهما الرطب جاز وإن كان ينقص إذا جف بعد ذلك ، لما عرفت من عدم جريان الربا فعلا فيها ، فضلا عن مثل ذلك.

ولكن تفصيل الأمر فيها محرر في كتاب القسمة من القضاء بل والشركة ، فإنه قد ذكرنا بعض الكلام فيه ، والعمدة تحرير كون حصة الشريك كليا في المال الخارجي مشاعا ، على معنى صدقه على أفراد متعددة ؛ وبالقسمة مع القرعة ليتميز ويتشخص ، أو أنها حصة شائعة في الاجزاء على وجه يكون لكل منهما نصيب في كل جزء جزء فبالقسمة لا بد أن تكون من كل منهما أجزاء من ملكه عند الأخر ، ومقتضى ذلك كونها حينئذ معاوضة ، بل مقتضاه فيما لو كانت الشركة بين الوقف والملك ، تبديل أجزاء الوقف بالملك وبالعكس ، بل مقتضاه اجتماع مالكين على مملوك واحد إذا قلنا بالجزء الذي لا يتجزى ، فإنه لا يكون قابلا للقسمة ، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في محله ، ولعل إجماعهم على الظاهر هنا بعدم جريان الربا حتى من القائل بعمومه لكل معاوضة مما يؤيد الأول فلاحظ وتأمل.

المسألة الخامسة يجوز بيع مكوك من الحنطة بمكوك وفي أحدهما عقد التبن ودقاقه دون الأخر وكذا لو كان في أحدهما زوان أو يسير من تراب ، لأنه مما جرت العادة بكونه فيه فيصدق المساواة معه بلا خلاف أجده فيه بيننا ، لكن عن‌

٣٩٠

المبسوط « وقال قوم : لا يجوز وهو الأحوط » ولعله يريد من العامة إلا أنه لا ينبغي الأمر بالاحتياط لخلافهم.

نعم لو كان ذلك مما لا يتسامح به في العادة لم يجز لصدق التفاضل ، بل ولأنه إذا كان الخليط مما له قيمة ، كالشيلم ونحوه ، جاز بصرف زيادة الخالص حينئذ إلى مخالف الجنس ، كما أنه يجوز بحنطة مشتملة على ذلك ، صرفا لكل جنس إلى ما يخالفه ، أما إذا لم يكن له قيمة لم يجز بالخالص ولا بغيره ، إذا لم يعرف قدر التفاوت ، وإلا جاز على الظاهر ، وليست الحنطتان ذات الترابين كالجنسين الرطبين التي لا يعلم تساويها بعد الجفاف ، ضرورة كون الرطوبة حينئذ من اجزاء الجنس ، وليست هي مستقلة بنفسها ، بخلاف التراب كما هو واضح ، والمكوك : كثبور : مكيال يسع صاعا ونصفا ونصف رطل ، أو ثلاث كيلجات ، والكيلجة : من وسبعة أثمان المن ، والمن : رطلان : والله أعلم.

المسألة السادسة لا خلاف بيننا أيضا في أنه يجوز بيع درهم ودينار ، بدينارين ودرهمين ويكون في الصحة بمنزلة أن يصرف كل واحد منهما إلى غير جنسه وإن لم يقصدا ذلك وكذا لو جعل بدل الدينار أو الدرهم شي‌ء من المتاع ، وكذا مد من تمر ودرهم ، بمدين أو أمداد ودرهمين أو دراهم إذ هو وإن لم يكن في كل منهما جنس يخالف الأخر ، إلا أن الزيادة تكون في مقابل الجنس المخالف في أحدهما ، فهو في الصحة حينئذ كذي الجنسين ، ولا خلاف بيننا في الجميع ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منه مستفيض جدا إن لم يكن متواترا.

مضافا إلى الأصل والعمومات ، واختصاص أدلة التحريم بحكم التبادر والسياق بغير مفروض المسألة ، والنصوص المستفيضة التي فيها الصحيح وغيره ، منها ـ ما‌ عن البجلي (١) قال : « سألته عن الصرف فقلت إن الرفقة ربما خرجت عجلا فلم أقدر على الدمشقية والبصرية ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الصرف الحديث ـ ١ ـ مع اختلاف يسير.

٣٩١

وإنما يجوز (١) « بسائر » الدمشقية والبصرية ، فقال : وما الرفقة؟ فقلت : القوم يترافقون ويجتمعون للخروج فإذا عجلوا فربما لم نقدر على الدمشقية والبصرية ، فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفا وخمسمائة درهم منها بألف من الدمشقية والبصرية ، فقال : لا خير في هذا ، فلا يجعلون معها ذهبا لمكان زيادتها؟ فقلت له : أشتري ألف درهم ودينارا بألفي درهم فقال لا بأس بذلك ، إن أبى كان أجرأ على أهل المدينة مني ، وكان يقول : هذا ، فيقولون : إنما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ؛ ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشي‌ء الفرار من الحرام إلى الحلال ».

وفي صحيحه الآخر (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « قال : كان محمد بن المنكدر يقول لأبي جعفر عليه‌السلام : يا أبا جعفر رحمك الله والله إنا لنعلم أنك لو أخذت دينارا والصرف ثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته ، وما هذا إلا فرار ، وكان أبى عليه‌السلام يقول : صدقت والله ولكنه فرار من باطل إلى حق » وفي الصحيح الآخر (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام « لا بأس بألف درهم ودرهم ، بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها دينار ان أو أقل أو أكثر فلا بأس » إلى غير ذلك من النصوص الدالة على المطلوب.

وربما ظهر منها ما ذكره غير واحد من الأصحاب ، بل نسبه إليهم غير واحد ، مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، من صرف كل من الجنس إلى المخالف ، كما أن الزيادة تنصرف إليه إذا كانت في أحدهما ، ومقتضاه حينئذ الصحة فيما لو باع مد تمر ودرهما بمدين ، أو بدرهمين ، أو بمدين ودرهمين ثم تلف الدرهم أو المد قبل قبضه ، فيصح البيع في الأول بمد أو درهم ، وفي الأخير بمدين أو درهمين ، لانفساخ البيع شرعا فيما يقابل الزيادة أو الجنس المخالف ، وإن لم يكن هو مقتضى المقابلة عرفا ، وهو الذي مال إليه المحقق الثاني ، والشهيد الثاني إذا كان كل من العوضين مشتملا على جنسين.

__________________

(١) هكذا كان في النسخة الأصلية وفي الكافي « بسابور » وفي الوسائل نيسابور ».

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الصرف الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الصرف الحديث ـ ٤.

٣٩٢

وفيه أن دعوى ظهور الأدلة في الانصراف على الوجه المزبور محل نظر أو منع ، إنما المسلم منها بالنسبة إلى حكم الربا ، بمعنى أنه لا يتحقق ويكون كما لو خصت الزيادة أو الجنس المخالف في عدم جريان الربا ، لا ان المراد جريان سائر الأحكام على ذلك ، حتى لو كانا مثلا لمالكين اختص كل واحد منهما بما يخالفه ، وإن لم يكن مقابلا لما له وكذا بالنسبة إلى حكم الصرف فلو بيع مثلا فضة ونحاسا بفضة ونحاس لم يجب التقابض في المجلس للانصراف المزبور إلى غير ذلك من الاحكام التي يصعب التزامها مع عدم ظهور الأدلة فيها ، بل في نصوص (١) الصرف الآتية ما يشهد بخلافها ، مضافا إلى مخالفتها القواعد المحكمة ، خصوصا الالتزام بثمن لم يكن مقصودا أنها ثمن على كل حال ، بل لعل المقصود خلافه ، بل ظاهر النصوص السابقة (٢) كبعض العبارات أن الضميمة على الوجه المزبور من الجانبين أو من جانب واحد ؛ من الحيل الشرعية للتخلص من الربا ، جارية على مقتضى الضوابط ليس فيها أثر للتعبد أصلا ، وإنما نبه الشارع عليها تنبيها ، وإلا فمبناها أنه بذلك يخرج عن صدق بيع المتجانسين متفاضلا ، وذلك لأن أجزاء الثمن مقابلة بأجزاء المثمن على الإشاعة ، فلا تفاضل حينئذ في الجنس الواحد في عقد البيع ، لانضمام جنس آخر معه ، فقول الأصحاب بانصراف كل جنس إلى مخالفه أو الزيادة إليه ، يراد به ما ذكرنا ، لا أن ذلك حكم شرعي تعبدي ، إذ عليه لا تكون حيلة كما هو واضح ، فلا ريب حينئذ في بطلان القول بالصحة في الفرض على هذا الوجه.

ومن هنا احتمل غير واحد البطلان في مفروض المسألة ، إذا حصل الربا بعد إسقاط ما يقابل التلف بالنسبة ، كما لو باع مد أو درهما بمدين ودرهمين مثلا ، وتلف الدرهم لمفروض أنه نصف المبيع ، لكون قيمة المد درهما بطل البيع في نصف الثمن ، ويبقى لنصف الآخر ، وحيث كان منزلا على الإشاعة ، كان النصف في كل من الجنسين ، فيكون نصف المدين ونصف الدرهمين في مقابل المد ، فيلزم الزيادة الموجبة للبطلان ، بل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الربا الصرف.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الربا الصرف.

٣٩٣

جزم به المحقق الثاني إذا كان المشتمل على الجنسين أحد العوضين ، والمقابل له في الأخر الزيادة ، وكان التالف المخالف ، وكان التقسيط في الباقي يقتضي الزيادة.

وفيه منع تحقق الربا لهذه الزيادة التي لم يبن العقد عليها ، وإنما حصلت بالتقسيط ، وإلا لاتجه البطلان من أول الأمر ، مع أن الإمامية على خلافه ، في مقابل ما حكي عن الشافعي من البطلان في كل ما اقتضى التقسيط فيه الزيادة ، ورد بأن المعلوم من أدلة الربا حرمة الزيادة في نفس العقد ، لا ما إذا كانت بمقتضى التقسيط في العقد الذي قد وقع المقابلة فيه بالمجموع ، وهو بعينه جار فيما نحن فيه ، ضرورة أن الزيادة المفروضة إنما كانت بحسب التقسيط الذي احتيج إليه لمكان التلف ، وإلا فالعقد لا زيادة فيه ، فصحته مستصحبة ، وتبعض الصفقة لو سلم عدم خروج الباقي بها عن كونه معاوضة ، وعن كونه بيعا ؛ إلا أن المتيقن من أدلة الربا الزيادة في نفس العقد الأول لا المتجدد.

نعم قد يقال فيما لو انكشف استحقاق بعض الثمن مثلا باعتبار تحقق الزيادة حينئذ من أول الأمر وإن كانت مجهولة ، مع أن ظاهر الأصحاب عدم الفرق بين صورتي التلف قبل القبض والخروج مستحقا ، وهو محتاج إلى التأمل.

وكيف كان فالأجود فيما نحن فيه الصحة وإن حصلت الزيادة ، كما عن السيد عميد الدين الجزم به ، مع أنه يمكن فرض التقسيط على وجه لا يستلزم الربا ، بأن يجعل نصف الدرهم التالف مثلا ، في مقابل مثله من الشي‌ء ، ونصفه الأخر في مقابل مد ونصف من الثمن ، فيكون نصف المد في مقابل نصف مد والنصف الأخر في مقابل درهم ونصف وحينئذ ، فكل من نصفي المبيع في مقابل ما يساوى درهمين من الجنسين معا ، فلا زيادة في الجنس الواحد.

ولعل وجهه أن أجزاء المبيع لما قوبلت بأجزاء الثمن على طريق الشيوع ، لم يجب أن يقع التقسيط على وجه يلزم معه المحذور ، فإن صيانة العقد عن الفساد مع إمكان السبيل إليه متعين ، وهو جيد بعد وجود مرجح له على غيره ، ضرورة عدم انحصار التقسيط‌

٣٩٤

الذي يتلخص به من الربا فيه ، إذ يمكن جعل ثلث الدرهم مثلا في مقابل ثلث درهم من الثمن ، وثلثاه في مقابل مد وثلثين من المثمن ، ويجعل ثلث المد من المبيع في مقابل مثله من الثمن ، وثلثاه في مقابل الباقي من الدرهمين ، وهو درهم وثلثان ، أو يجعل الربع أو ما دونه ، أو ما فوق النصف ، أو غير ذلك من الطرق التي لا ترجيح لواحد منها على الأخر.

بل قيل وعلى التقسيط يصرف كل جنس إلى ما يخالفه بل ربما ، رجح عليها بنص الأصحاب إلا انك قد عرفت ما فيه ، مضافا إلى أن التحقيق مقابلة أجزاء الثمن باجزاء المثمن على الإشاعة ـ لا أن المنزل عليه البيع قبل التلف مقابله المجموع بالمجموع من دون تعيين كونه على الإشاعة أو غيره ، فإذا تلف احتجنا إلى التعيين فنحتاج إلى مرجح ، ضرورة ظهور قصد المتعاملين بمقابلة أجزاء المبيع بأجزاء الثمن على الإشاعة ، وكان الرجوع إليه في التلف وفي العيب وفي ظهور الاستحقاق وغير ذلك من المقامات ، لابتناء العقد عليه ، فظهر حينئذ أن المصحح للبيع هو المنزل عليه عند التلف ، فحينئذ يبطل منه فيما نحن فيه على الإشاعة ، إلا أنه إذا تراضيا على ما يتحقق به الزيادة في هذا الحال لم يتحقق الربا ، لما عرفت من ظهور أدلته في الزيادة في نفس العقد.

ومن هنا كان لا فرق عندنا في ذلك بين اشتمال كل من العوضين على جنسين مختلفين ، وبين اشتمال أحدهما على ذلك ومقابلته بالزيادة ، وإن كان يمكن منع فرض تحقق الزيادة في الأول على الجنس الواحد بعد فرض الإشاعة في الاجزاء ، إلا بالتراضي منهما على ما يحصل به ذلك ، وقد عرفت عدم البأس فيه عندنا ، فلا يجب عليهما اختيار مالا يتحقق به ذلك تخلصا من الربا.

ـ أنه وإن تعاسرا في أفراده رجعا إلى القرعة أو الحاكم أو أن التخيير للبائع ، لأن الثمن قد انتقل إليه بالعقد ، والمستحق عليه إرجاع أمر كلي فيخير في أفراده أو للمشتري إذا لم يكن قد دفعه إلى البائع ، أو غير ذلك مما لا يحتاج إليه بعد ما ذكرنا ،

٣٩٥

ومنه يعلم ما في خيرة السيد في الرياض من وجوب التقسيط بما لا يحصل معه الربا والله اعلم.

وكيف كان فقد عرفت مشروعية الاحتيال في التخلص من الربا ، نصا وفتوى إذ هو فرار من الباطل إلى الحق ، وقد يتخلص من الربا أيضا بأن يبيع أحد المتبايعين سلعته من صاحبه بجنس غير جنسها ، ثم يشتري من الآخر سلعته بالثمن الذي باع به سلعته ، وحينئذ يسقط اعتبار المساواة ، ضرورة عدم بيع كل منهما بالاخر حتى يشترط ذلك تخلصا من الربا ، فلو باع مثلا وزنة من الحنطة بعشرة دراهم ، ثم اشترى منه وزنتين بذلك صح.

وكذا لو وهبه أحدهما سلعته ثم وهبه الأخر الأخرى من غير معاوضة وإلا بنى الحال على اختصاص الربا بالبيع وعدمه ، أو أقرض سلعته صاحبه ، ثم أقرضه هو وتبارعا ، وكذا لو تبايعا متساويا ووهبه الزيادة إلى غير ذلك مما يخرج عن بيع المجانس بمثله متفاضلا لكن قال المصنف هنا كل ذلك من غير شرط وهو متجه في الأخير ، ضرورة حصول الزيادة باشتراط هبة الزيادة ، لما عرفت سابقا من تحقق الربا بالزيادة في العقد ولو حكما كاشتراط الأجل ونحوه ، وفي سابقه على إرادة القرض بشرط قرض الجنس الأخر ، والتباري بعد ذلك ، فإن الظاهر تحقق ربا القرض بمثل ذلك ، بل في الهبة بشرط الهبة ، بناء على عموم الربا للمعاوضات ، إذ الظاهر كون ذلك من الهبة المعوضة ، أما الأول وهو البيع بثمن مخصوص مشترطا عليه بيع الجنس الأخر بذلك الثمن ، فلا أرى به بأسا ، لوجود مقتضى الصحة ، وعدم المانع ، فإن أراد المصنف ما يشمل ذلك ، كان محلا للنظر ، فتأمل.

وكيف كان فلا يناقش في هذه الحيل ـ بعدم قصد هذه الأمور أولا وبالذات ، ومن المعلوم تبعية العقود للقصود ـ لاندفاعها بالمنع من عدم القصد ، بل قصد التخلص من الربا المتوقف على قصد الصحيح من البيع والقرض والهبة وغيرها من العقود كاف في حصول‌

٣٩٦

ما يحتاج إليه البيع من القصد ، إذ لا يشترط في القصد الى عقد قصد جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفى قصد غاية من غاياته ، والله أعلم.

المسألة السابعة لا ريب في أن مقتضى ما دل على حرمة الربا وفساد المعاملة المشتملة عليه ، وجوب رد الزيادة خاصة ، المأخوذة بالقرض ونحوه ، ضرورة بقاؤها على ملك المالك ، معينة أو مشاعة ، فحكمها حكم غيرها من الأمور التي للغير ، في الرد والصدقة ونحوهما من مسائل الاشتباه للمال والصاحب أولهما ، مما هو مقرر في كتاب الخمس وغيره من محاله ، من غير فرق في ذلك بين العلم والجهل.

وأما لو كان الربا في عقد المعاوضة ، فالمتجه حينئذ فساد المعاملة فيبقى كل من العوضين على ملك صاحبه لا الزيادة خاصة ، إذ الفرق بينه وبين القرض واضح ، وحينئذ يجري فيه ما يجري في باقي المعاملات الفاسدة ، من غير فرق أيضا بين العالم والجاهل إلا في الإثم وعدمه ، إذا كان غير مقصر في البحث والتفحص ، ولو لأنه غير متنبه ، إلا أن الأصحاب هنا لم يفرقوا بين الموضوعين ، فأطلقوا وجوب رد الزيادة إذا كان حال تناولها عالما بالتحريم ، بل نفى بعضهم عنه الخلاف فيه ، بل عن المقداد والكركي الإجماع عليه ، وهو الحجة مضافا إلى ما سمعت ، قيل : وإلى قوله تعالى (١) ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) وغيرها من الآيات الأخر الناصة هي كالروايات بحرمة الربا الذي هو الزيادة لغة ، الموجبة لعدم الملكية ، فيلزم الرد مع معرفتها قدر أو معرفة الصاحب بالضرورة ،

قلت قد عرفت أن مقتضاها ذلك في الربا في نحو القرض : أما البيع فالفساد ، وعلى كل حال فالمتجه حينئذ كونه كغيره من الأموال المحترمة ، في التصدق به عن المالك إذا لم يتمكن من معرفته ، وغير ذلك مما هو مقرر في محله ، نعم خلت نصوص المقام التي ستسمعها مع أنها في مقام البيان ، عن ذكر الحكم بإخراج الخمس لو كان مختلطا بالحلال ، ولم يعرف المقدار ولا الصاحب ، بل ظاهر بعضها حل الجميع ، ولكن لم يعمل بها الا نادر من الطائفة ، ومع ذلك فظاهر سياقها الجهل بالحرمة خاصة ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٧٩.

٣٩٧

فالعمل بالنصوص (١) المتقدمة في مبحث الخمس العامة لما نحن فيه المفتي بها في المقام أيضا أقوى منها ، وإن كانت خاصة ، وإن كان جاهلا بالتحريم لخطأ في التقليد أو الاجتهاد أو غيرهما ، فالمعروف بين المتأخرين بل في الدروس نسبته إليهم ، أنه كالعالم في وجوب الرد من غير فرق بين تلف العين وبقائها ، لإطلاق ما دل على حرمة الربا مما هو صريح في عدم انتقاله عن المالك ، والعذر في الحكم التكليفي لا ينافي الفساد الذي هو الحكم الوضعي ، وحينئذ فيجري فيه ما قلناه في العالم ، في ربا القرض وربا البيع ، وقوله تعالى (٢) ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) خلافا للنهاية والنافع والدروس والحدائق والرياض ومحكي الصدوق والراوندي والآبي والقطيفي والأردبيلي ؛ فلم يوجبوا الرد ؛ بل عن التنقيح نسبته إلى الشيخ وأتباعه ، بل قيل أنه ظاهر الطبرسي أو صريحه وكأنه مال إليه في التحرير وحواشي الشهيد ، ولا فرق في ذلك بين وجود المال وتلفه ، كما عن نهاية الاحكام التصريح به.

نعم ظاهر هم اشتراط ذلك بالانتهاء عما مضى ، بأن يتوب عما سلف ، وصرح في الحدائق بصحة المعاملة في هذا الحال ، ولعله مراد الباقين ، إذ الحكم بعدم وجوب الرد مع القول بفساد المعاملة في غاية البعد. نعم قد يقال أن محل كلامهم في ربا القرض ونحوه مما تخص الحرمة الزيادة لا مطلق العوض ، إلا أن إطلاقهم مناف له.

وكيف كان فالعمدة في ذلك بعد الأصل قيل واستصحاب الحكم حال الجهل إلى ما بعد المعرفة ، واختصاص أدلة حرمة الربا كتابا وسنة ـ للتبادر من السياق وقاعدة التكليف ـ بصورة العلم ، خصوصا الآية المزبورة التي هي (٣) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) مؤيدا بما حكي من سبب النزول ، أن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخمس.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٧٩.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٧٩.

٣٩٨

الوليد بن المغيرة كان يربى في الجاهلية ، وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد المطالبة بها بعد ما أسلم ، فنزلت الآية قوله تعالى (١) ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) المفسر في ظاهر المحكي عن الطبرسي بأن له ما أخذ وأكل من الربا قبل النهي ، ولا يلزمه رده كالمحكي عن الراوندي في تفسيرها بأن له ما أكل وليس عليه رد ما سلف ، إذا لم يكن علم أنه حرام ، مستدلا عليه بقول أبى جعفر عليه‌السلام (٢) « من أدرك الإسلام وتاب عما كان عمله في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف » فمن ارتكب ربا بجهالة. ولم يعلم أن ذلك محظور ، فليستغفر الله في المستقبل ، وليس عليه فيما مضى شي‌ء ، ومتى علم أن ذلك حرام أو تمكن من علمه فكلما يحصل له من ذلك محرم عليه ويجب عليه رده إلى صاحبه.

ثم قال : قال السدي : له ما سلف له ما أكل ، وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقبض بعد فليس له أخذه ، وله رأس المال ، لكن عن الطبرسي أنه روى الخبر المزبور إلى قوله تعالى ( فَلَهُ ما سَلَفَ ) فيحتمل أن يكون ما بعده من كلام‌ الراوندي ، وفي الصحيح (٣) « دخل رجل على أبي جعفر عليه‌السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شي‌ء إلا أن ترده إلى أصحابه ، فجاء إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، فقص عليه قصته ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : مخرجك من كتاب الله عز وجل » ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) والموعظة التوبة.

وقد فسرت الموعظة بالتوبة ؛ في صحيح ابن مسلم (٤) الآخر أيضا عن أحدهما عليه‌السلام‌ وفي المروي عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (٥) عن أبيه « قال إن رجلا أربى دهرا من الدهر ؛ فخرج قاصدا إلى أبي جعفر عليه‌السلام يعنى الجواد فقال له : مخرجك‌

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٧٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٧ ـ.

(٤) تفسير العياشي ج ١ ص ١٥٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الربا الحديث ١٠ ـ.

٣٩٩

من كتاب الله ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) والموعظة هي التوبة ، لجهله بتحريمه ثم معرفته به ، فما مضى فحلال ، وما بقي فليتحفظ » ونحوه ما عن فقه الرضا عليه‌السلام (١) راويا له عن أبى جعفر عليه‌السلام‌ وفي صحيح هشام (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يأكل الربا وهو يرى أنه حلال ، قال : لا يضره حتى يصيبه متعمدا فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزل الذي قال الله عز وجل » كقوله ، عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٣) « كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة.

وقال : لو أن رجلا ورث من أبيه ما لا وقد عرف أن في ذلك المال ربا ، ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلالا ، كان حلالا طيبا ، فليأكله ، وإن عرفت منه شيئا معزولا أنه ربا فليأخذ رأس ماله ويرد الربا ، وأيما رجل أفاد مالا كثيرا فيه الربا فجهل ذلك ، ثم عرفه فأراد أن ينزعه ، فما مضى فله ، ويدعه فيما يستأنف » وقال أيضا‌ في صحيح الحلبي الآخر (٤) : « أتى رجل أبي فقال : إني ورثت مالا وقد علمت أن صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربى وقد اعترف به واستيقن ذلك ، وليس يطيب لي حلاله ؛ لحال علمي به ، وقد سألت الفقهاء من أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحل أكله من أجل ما فيه ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن كنت تعلم بأن فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله ؛ فخذ رأس مالك ورد ما سوى ذلك ؛ وإن كان مختلطا ، فكله هنيئا فإن المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع ما مضى من الربا وحرم عليهم ما بقي ، فمن جهله وسع له جهله حتى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه حرم عليه ، ووجب عليه فيه العقوبة إذا ارتكبه ، كما يجب على من يأكل الربا.

وسأل الصادق عليه‌السلام (٥) أيضا أبوا الربيع الشامي « عن رجل أربى بجهالة ثم أراد أن يتركه فقال أما ما مضى فله وليتركه فيما يستقبل ، ثم قال : إن رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال :

__________________

(١) فقه الرضا ص ٧٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٢ باختلاف يسير.

(٤) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٣ باختلاف يسير.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٤ باختلاف يسير.

٤٠٠