بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

الفرع في مسألتنا هذه فحينئذ لا محيص عن الإشكال في أكثر الفروض.

وتوضيحه ـ انه تارة يتعلق غرض المسافر بصوم أقل من عشرة أيام فسوف تكون صحة صومه غير متوقفة على وقوع الإقامة منه بوجه من الوجوه أصلا ، إذ هو يعلم انه لو عدل بعد الصوم عن الإقامة حصل غرضه أيضا وصح صومه بلا إشكال فلو حصل له قصد الإقامة وإرادتها لهذا الغرض فحسب أي لتصحيح الصوم أقل من عشرة أيام لزم نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها وهو محال.

وأخرى يتعلق غرضه بالصوم عشرة أيام فصاعدا وهذا من الناحية الفقهية متوقف على الجامع بين ان يصلي صلاة رباعية أو يبقى عشرة أيام حقيقة مع قصد الإقامة ولكن حيث انه عادة يتحقق الفرد الأول من هذا الجامع قبل الفرد الثاني فلا يبقى أثر للفرد الثاني منه فقصد الإقامة لا بد أن ينشأ من القصد نفسه مع صلاة رباعية لا الإقامة عشرة أيام لعدم تعلق غرض له فيها وهو محال أيضا.

نعم إذا فرض انه كان سنخ إنسان يصوم ولا يصلي وقلنا بأن ما يترتب عليه حكم الإقامة خصوص الصلاة الرباعية لا مطلق ترتيب أثر من آثار الإقامة سواء كان صلاة رباعية أو صوما فهنا يصبح بقاء قصده للإقامة إلى آخر العشرة دخيلا في إمكان الصوم إلى آخر العشرة وهذا يلازم نفس الإقامة خارجا فيتحقق منه قصد الإقامة لكونها مما يتوقف عليه محبوبه لا محالة ولا إشكال في كفاية ذلك في ترتب أحكام الإقامة ولا يشترط ان تكون الإقامة المحبوب النفسيّ للمقيم الا أن هذا فرض نادر جدا.

الثاني ـ ان يراد بقصد الإقامة الّذي يفترض شرطا لصحة الصوم البناء النفسيّ والالتزام بالإقامة ولو لم يكن له شوق نحوها بل لعله يكرهها والالتزام والبناء من افعال النّفس فقد يقال انه حينئذ يرتفع الإشكال السابق لأنه مسلط على نفسه وأفعالها كتسلطه على افعال جوارحه وليس هذا من قبيل الحب والبغض اللذين هما من الصفات.

ولكن يرد على هذا ان داعيه إلى هذا البناء انما هو تصحيح الصوم وهو يعلم ان هذا الداعي سوف ينتفي ويزول في ظرف العمل وبعد أن يتحقق منه البناء حدوثا فلا يتمشى منه بناء جدي حقيقي على البقاء عشرة أيام الا من باب لقلقة اللسان فان

٤١

البناء على شيء استقبالي انما يتأتى من الإنسان إذا كان داعية إلى البناء على ذلك موجودا ـ في أفق تصوره الآن ـ في ظرف العمل ولو حصل له البداء بعد ذلك واما إذا كان يعلم ان داعيه سوف يزول وينتهي في ظرف العمل فلا يتأتى منه بناء حقيقي.

الثالث ـ ان يراد بقصد الإقامة العلم أو الاطمئنان بالمكث عشرة أيام ـ وهذا هو الصحيح من الناحية الفقهية على ما قررناه في محله.

وهنا أيضا لا يرد إشكال نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها ولكن يرد نظير الإشكال على التقدير المتقدم من ان هذا العلم والاطمئنان بالبقاء عشرة أيام لا يحصل الا إذا كان هناك بناء نفسي جدي على ذلك.

وهكذا يتلخص أنه في غالب الفروض عند عدم وجود رغبة ومصلحة مستقلة في الإقامة بقطع النّظر عن تصحيح العبادة لا يتأتى منه قصد الإقامة اما لأنه لا يتولد له القصد بمعنى الشوق إلى شيء لمصلحة في نفس القصد والإرادة كما هو الحال على التفسير الأول أو لأنه يعلم بأنه سوف يعدل عن الإقامة فلا بناء جدي ولا علم منه بالبقاء كما هو على التفسيرين الثاني والثالث فلا بد من ان يجعل الإقامة ذاتها ذات مصلحة لكي يتمشى منه القصد ولو بالنذر وشبهه. وهناك فروع مشابهة لهذا الفرع.

منها ـ من يريد الوضوء قبل الوقت من أجل الصلاة بعد ذلك في الوقت بناء على عدم استحباب الوضوء في نفسه واشتراط صحته بوقوعه لغاية من الغايات المكلف بها فعلا فيقال بأنه ينوي قراءة القرآن مثلا فيصح بذلك وضوؤه فانه في مثل ذلك أيضا يرد الإشكال بأن ما تتوقف عليه صحة وضوئه نفس قصد القراءة فلا داعي له حقيقة إلى قراءة القرآن بعد ذلك فيكون الغرض والملاك في نفس القصد فيأتي الإشكال.

ولكن الصحيح عدم صحة المبنى فانه لا يلزم في تصحيح الوضوء كعبادة الا توفر امرين أحدهما ان يكون مطلوبا للمولى والثاني ان يؤتى به بداع من الدواعي الحسنة والقربية وكلا الأمرين حاصل في المقام أما الأول فلما هو المحقق والصحيح في محله من ثبوت الاستحباب النفسيّ للكون على الوضوء (١). ولا نحتاج إلى وجوبه المقدمي أو

__________________

(١) بل الصحيح انه لا نحتاج حتى إلى استحبابه إذ لا وجه لاشتراط الأمر والطلب التكليفي بالوضوء أو الغسل ـ الطهور ـ في تصحيحها بل يكفي الأمر الشرطي الشامل بإطلاقه للحصة الواقعة قبل الوقت أيضا إذا كان الإتيان به بداع قربي والّذي يكفي

٤٢

ملاكه الّذي لا يتحقق ـ على المشهور ـ قبل الوقت واما الثاني فلان قصد الصلاة التي سوف يأتي وقتها داع قربي وحسن لأنه مظهر من مظاهر الإخلاص في العبودية ولا يشترط ان يقصد امرا فعليا لكي يكون قصده قربيا.

ومنها ـ ما إذا أراد الوضوء بماء في حوض المسجد مثلا وكان الوقف لمن ينوي الصلاة في ذلك المسجد ، فانه إذا لم يكن له غرض في الصلاة في ذلك المسجد ولكن كان يريد الوضوء بذلك الماء وضوء صحيحا فسوف يكون غرضه في نفس قصد الصلاة في المسجد بهذا الوضوء ولو حصل له بعد ذلك البداء ولم يصل في المسجد. فانه سوف يعلم مسبقا بأن غرضه في نفس قصد الصلاة في المسجد وان قصده هذا سوف يزول بمجرد تمامية الوضوء.

__________________

فيه قصد التهيؤ. وهذا يعني اننا انما نحتاج إلى الأمر في تصحيح العبادة إذا كانت نفسية لا غيرية فتأمل جيدا.

٤٣
٤٤

بحوث الأوامر

دلالات صيغة الأمر

دلالتها على الطلب

كيفية دلالتها على الوجوب

الجمل الخبرية في مقام الإنشاء

دلالتها على التوصلية ( التعبدي والتوصلي )

دلالتها على النفسيّة والتعيينية والعينية

دلالتها في مورد الحظر

دلالتها على المرة أو التكرار

٤٥
٤٦

صيغة الأمر

والبحث عنها من جهات أيضا

الجهة الأولى ـ في دلالتها على الطلب

لا إشكال في أصل الدلالة انما البحث في كيفية استفادة الطلب منها لأنها من الهيئات فلا يمكن ان تكون موضوعة لمفهوم الطلب الاسمي كلفظ الطلب بل لا بد ان تكون موضوعة بإزاء معنى نسبي يساوق مفهوم الطلب الاسمي.

ولا بد من ان نستبعد منذ البدء ما اختاره السيد الأستاذ من انها موضوعة بإزاء إبراز اعتبار نفساني هو اعتبار الفعل في ذمة المكلف (١) فان هذا مبني على مسلكه في باب الوضع وهو مسلك التعهد والّذي كان يقتضي كون الدلالة الوضعيّة تصديقية لا تصورية. اما على المسلك الصحيح من ان الدلالات الوضعيّة تصورية فلا بد من تشخيص ما هو المعنى التصوري الموضوع له صيغة الأمر قبل الانتهاء إلى المعنى التصديقي في نفس المتكلم الّذي يكشف عنه الظهور الحالي (٢) إذا عرفت ذلك فنقول :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) بل على مسلك التعهد أيضا لا بد من البحث عن كيفية دلالة صيغة الأمر على الطلب تصورا ولو لم يكن هذا المدلول التصوري وحده الوضع لأن مسلك التعهد أيضا يميز بين المعاني الاسمية والحرفية على مستوى التصور وان لم يكن هذا التصور وحده هو المعنى الموضوع له بل الموضوع له قصد افهام ذلك التصور وإرادته اخبارا أو إنشاء واعتبارا. وبعبارة أخرى القائل بمسلك التعهد أيضا لا بد ان يميز بين قصد إبراز معنى اسمي أو قصد إبراز معنى حرفي أي يميز بين ما إذا أخبر عن اعتباره للفعل على ذمة العبد بجملة اسمية أو بصيغة الأمر.

٤٧

قد تقدم في بحث معاني الحروف والهيئات ان الجمل الفعلية كجملة ( ضرب زيد ) تشتمل على نسبتين إحداهما نسبة ناقصة بين الحدث ـ كالضرب في المثال ـ وبين ذات مبهمة وهي نسبة صدورية في الفعل الماضي والمضارع ونسبة أخرى تامة بين الفاعل وهو زيد في المثال وبين تلك الذات المبهمة الواقعة ضمن النسبة الناقصة وقد سميناها بالنسبة التصادقية فكأنا قلنا ان الذات التي صدر منها الضرب هو زيد وقلنا هناك ان هذا ما يسوق إليه البرهان في مقام تحصيل مفاد الجملة الفعلية وبينا ان النسبة التصادقية لا تكون بين المفهومين بما هما مفهومان في عالم اللحاظ لأنهما في عالم اللحاظ متغايران وانما هي نسبة التصادق بين المفهومين بما هما فانيان في الخارج ومن هنا لا بد في كل نسبة تامة من طرف ثالث وهو وعاء الفناء فانه تارة يكون وعاء الفناء هو عالم الحقيقة والخارج فتكون الجملة اخبارا وأخرى يكون الوعاء عالم الاستفهام أو الترجي أو التمني فيكون استفهاما وترجيا وتمنيا وبهذا يعرف وجه الفرق بين ضرب زيد وهل يضرب زيد ولعل زيدا يضرب.

وعلى ضوء هذا الّذي تقدم نقول في المقام بأن جملة ( اضرب أنت ) التي هي جملة فعلية أمرية لا بد ان يكون بينها وبين جملة ( ضرب زيد ) أو ( ضربت أنت ) فرق اما في النسبة التامة أو في النسبة الناقصة إذ لو كانت النسبتان معا فيها واحدة لما بقي فرق في المعنى بين الاخبار عن صدور الضرب والأمر به مع بداهة الفرق. وحينئذ يطرح في المقام منذ البدء احتمالان.

الاحتمال الأول ـ ان يقال بان الفرق بين الجملتين كالفرق بين الجملة الفعلية الخبرية والفعلية الإنشائية أي الاستفهام والترجي والتمني بمعنى انهما يختلفان في وعاء النسبة التامة التصادقية فانه في الجملة الخبرية عالم التحقق وفي جملة الأمر عالم الطلب.

الا ان هذا الاحتمال لا بد من رفضه إذ لو كان الفرق بينهما بلحاظ النسبة التامة لم يكن فرق بينهما في نفس الفعلين مع اننا نحس بالوجدان بالفرق بين الفعلين الأمر والماضي أو المضارع مع قطع النّظر عن وقوعهما في جملة تامة وليس حالهما حال الفعل الواقع في حيز الاستفهام والتمني وغيرها من أنحاء الإنشاء.

٤٨

الاحتمال الثاني ـ ان يكون الفرق بينهما بلحاظ النسبة الناقصة فالماضي أو المضارع موضوعان بحسب الهيئة للنسبة الصدورية بينما صيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرسالية والدفعيّة والإلقائية ونحو ذلك من التعابير. فان الإلقاء والدفع له فرد حقيقي تكويني وهو ما إذا دفع شخص شخصا في الخارج نحو شيء في الخارج وله فرد عنائي تكويني كما لو دفعه بيده نحو عمل من الأعمال كما إذا ألقاه على الكتاب لكي يطالع فهو إلقاء تكويني حقيقي على الكتاب ودفع تكويني عنائي له نحو المطالعة وهذا الدفع يولد نسبة مخصوصة بين المدفوع وهو زيد والمدفوع نحوه وهو المطالعة وهذه النسبة نسميها بالنسبة الإرسالية والدفعيّة والتحريكية وندعي انها مفاد صيغة الأمر (١) وهذا يعني ان هيئة الأمر تدل دلالة تصورية مطابقية على النسبة الإرسالية وتدل دلالة تصورية بالملازمة وفي طول الدلالة الأولى على الإرادة ولذلك حتى إذا سمعنا الأمر من الجدار انتقش في الذهن الإرسال والإرادة تصورا ويوجد وراء هذين المدلولين التصوريين مدلول تصديقي إذا كان صادرا من عاقل وهو الكشف عن وجود إرادة في نفس المتكلم. واما الطلب فان قلنا انه عين الإرادة فقد عرفت حاله وان قلنا بأنه غير

__________________

(١) أولا ـ ان النسبة الإرسالية والدفعيّة ليست نسبة بين شيئين وانما هي عبارة عن نسبة الدفع والإرسال كحدث إلى فاعله أو مفعوله.

وثانيا ـ لا ينبغي الإشكال وجدانا في دلالة فعل الأمر على نسبة صدور الحدث أي المبدأ من الفاعل أيضا كدلالة فعل المضارع والماضي فإذا افترض وجود نسبة أخرى في مفاده لزم دلالته على نسبتين في عرض واحد وهو غريب في بابه.

وثالثا ـ ان هذه النسبة الناقصة حالها حال سائر النسب الناقصة من حيث انها مجرد مدلول تصوري لنسبة خارجية فمن أين تنشأ خصوصية الإنشائية في فعل الأمر بحيث لا يصح استعماله في مقام الاخبار عن وقوع هذه النسبة خارجا فان كان ذلك على أساس تعلق الإرادة والطلب بها فالإرادة مدلول تصديقي والكلام في مرحلة المدلول التصوري والّذي لا إشكال في انحفاظ الإنشائية فيها. وان كان من جهة ان هذه النسبة لوحظت في وعاء الطلب والاستدعاء فهو مضافا إلى رجوعه للاحتمال السابق. فيه : ان الوعاء انما يكون مقوما للنسب الذهنية التامة لا الخارجية الناقصة على ما تقدم في محله. وان كان من جهة ان صيغة الأمر تخطر في ذهن المخاطب ان المتكلم يرسله بالفعل نحو العمل فكأنه قال له أرسلك إنشاء فهذا يعني ان الإنشائية تحصل في طول الاستعمال وليست محفوظة في مرحلة المعنى المستعمل فيه نظير بعت إنشاء فيرد الإشكال بأنه لما ذا لا يصح اذن استعمال فعل الأمر في مقام الاخبار عن النسبة الإرسالية طالما ان المعنى المستعمل فيه واحد فلا يبقى وجه للفرق الا ما ذهب إليه المشهور من ان هذه الأدوات موضوعه لإيجاد معانيها في الخارج بمعنى انها لا تخطر صدور النسبة من الفاعل إلى ذهن المخاطب بل توجد إحساسا واستجابة خاصة عنده نحو المعنى نظير الإحساس بالاندفاع في باب الأمر باليد والإشارة أو التنبيه في النداء فهي أدوات إيجادية وليست إخطارية على تفصيل ليس هنا مجال بيانه.

٤٩

الإرادة فالشوق النفسانيّ بمجرده لا يصدق عليه انه طلب وانما الطلب ـ على ما هو الظاهر لغة ـ هو السعي نحو المقصود فيكون « افعل » بنفسه مصداقا للطلب حقيقة لأنه باعتبار كشفه عن الإرادة سعي نحو المقصود.

بقي أمران.

الأول ـ انهم ذكروا لصيغة الأمر معاني عديدة من الطلب والتعجيز والاستهزاء ونحوها والمعروف بين المحققين المتأخرين أن الاختلاف في مورد هذه المعاني بحسب الحقيقة في دواعي الاستعمال لا المعنى المستعمل فيه الأمر فانه واحد وهو النسبة الإرسالية غاية الأمر تارة يكون الداعي من وراء إخطار هذه النسبة في ذهن السامع إظهار عجزه وأخرى الاستهزاء به أو اختباره أو الطلب منه.

الا ان السيد الأستاذ جريا على مبناه في حقيقة الوضع التزم في المقام بتعدد معاني صيغة الأمر لأنها موضوعة عنده كما أشرنا سابقا لإبراز المدلول التصديقي وهو متباين في هذه الموارد كما أشرنا فلا محالة يكون للأمر معان عديدة بعددها.

وهذا المطلب مضافا إلى خطأ مبناه كما تقدم في محله يؤدي إلى نتيجة غريبة في بابها هي عدم وجود ارتباط بين مفاد الهيئة والمادة فانه على مبنى المشهور من دلالة الصيغة في تمام الموارد على النسبة الإرسالية يكون الارتباط واضحا حيث يدل الأمر بالطيران مثلاً في موارد التعجيز أو الاستهزاء على إرساله نحو مفاد المادة وهو الطيران بقصد إظهار عجزه أو الاستهزاء به حيث انه لا يستطيع الطيران فيظهر بذلك عجزه وهو المدلول التصديقي. واما على مسلك الأستاذ فان التعجيز والاستهزاء الإنشائيين لا الأخباريين لا يتعلقان بمفاد المادة وهو الطيران كيف ولو كان هناك طيران لما كان عجز ولا استهزاء فلا يبقى أي ارتباط بين مفاد الهيئة الإنشائي والمادة.

الثاني ـ ان المعاني المذكورة وان كانت جميعا خارجة عن المعنى المستعمل فيه الأمر ويكون الأمر مستعملاً في هذه الموارد أيضا في معناه الحقيقي وهو الإرسال نحو المادة الا أنه لا ينبغي الإشكال أيضا في ظهور صيغة الأمر لو لا القرينة على ان الداعي في نفس المتكلم انما هو الطلب لا الاستهزاء أو التعجيز أو غيرهما من الدواعي فلا بد من إبراز نكتة وتخريج لهذا الظهور.

٥٠

وقد ذكر في الكفاية في وجهه : أن داعي الطلب قد أخذ قيدا في الوضع لا في المعنى الموضوع (١) له على ما تقدم منه في معاني الحروف والأسماء بالنسبة إلى قيد الآلية والاستقلالية في اللحاظ. وقد برهنا هناك على بطلان هذا التفسير وان الوضع ليس من الأمور الجعلية التي تكون قابلة للتقييد والإطلاق بهذا المعنى.

والصحيح انه يمكن تفسير هذا الظهور على أساس إحدى نكتتين :

الأولى ـ ما تقدم من ان المدلول التصوري لصيغة الأمر أولا هو النسبة الإرسالية وفي طولها الإرادة فلو كان المدلول التصديقي هو الإرادة أيضا لتطابق المدلول التصديقي مع المدلولين التصوريين والا فلا. وأصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي أصل عقلائي في باب الظهورات (٢).

الثانية ـ ان سائر الدواعي غير الطلب بحسب النّظر العرفي فيها مئونة زائدة على أصل الطلب والإرادة لأن من يستهزئ أو يريد التعجيز أيضا يريد الفعل فهو يتقمص قميص من يريد ويطلب الفعل حتى يظهر عجزه أو السخرية به فالطبع الأولي هو الكشف عن الإرادة والباقي مشتمل على مئونة زائدة منفية بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٢.

(٢) أصالة التطابق تجري بلحاظ ما هو المدلول التصوري للفظ لا المداليل التصورية الالتزامية الخارجة عنه والمقتنصة في طول المداليل التصديقية التي هي ظهورات حالية كما في المقام ولعل الأولى ان يقال بان النسبة الإرسالية والدفعيّة تتناسب سنخا ومفهوما مع الإرادة والطلب فتجري أصالة التطابق بلحاظ المدلول التصوري للفظ ابتداء.

٥١
٥٢

الجهة الثانية ـ في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب

يقع الحديث بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الوجوب في كيفية الدلالة ومنشئها.

وقد تقدم لدى البحث عن دلالة مادة الأمر على الوجوب مسالك ثلاثة لاستفادة الوجوب من الأمر.

الأول ـ مسلك حكم العقل وانتزاعه للوجوب من مجرد طلب المولى عند عدم ترخيصه في الترك.

الثاني ـ مسلك الإطلاق وان مقتضى مقدمات الحكمة تعيين الطلب الشديد الّذي هو الوجوب.

الثالث ـ مسلك الوضع لخصوص الطلب الشديد الّذي لا يرضى بتركه.

والمسلك الأول لو تم وصح هناك جرى في المقام أيضا حرفا بحرف وانما الكلام في جريان المسلكين الآخرين.

أما مسلك الإطلاق فقد يناقش في تماميته هنا بأن مفاد الصيغة النسبة الإرسالية والإرسال أو الدفع ليس كالطلب ينقسم إلى شديد وضعيف لكي نعين مرتبته الشديدة بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

٥٣

وفيه ـ ان الإطلاق لم يكن يجري بلحاظ المدلول التصوري بل لتشخيص المدلول التصديقي ابتداء وهو الإرادة وصيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي تدل على الإرادة على كل حال فيصح جريان الإطلاق فيها لإثبات المرتبة الشديدة منها. على انه قد مضى ان صيغة الأمر أيضا تدل بالملازمة على الإرادة والطلب تصورا فيمكن إجراء مقدمات الحكمة بلحاظها.

وأما مسلك الوضع فائضا قد يناقش في جريانه هنا بأن النسبة الإرسالية لا تتحصص إلى حصتين وجوبية واستحبابية ليقال بأن الصيغة موضوعة بإزاء إحداهما فقط.

وفيه : ان الإرسال والإلقاء وان لم يكن منقسما بلحاظ ذاته إلى حصتين الا انه ينقسم إلى حصتين بلحاظ منشئه فانه قد ينشأ الإلقاء والإرسال من إرادة شديدة وقد ينشأ من إرادة ضعيفة وحينئذ يكون من المعقول وضع الصيغة لخصوص النسبة الإرسالية المتولدة عن الإرادة الشديدة ويكون مقتضى التطابق بين المدلولين التصوري والتصديقي الكشف عن وجود إرادة شديدة لدى المولى (١).

هذا وقد تقدم في بحث المادة انه يوجد تقريب لاستفادة الوجوب من صيغة الأمر بالإطلاق ومقدمات الحكمة جار في تمام موارد استعمالاتها بحيث يمكن الاستغناء على أساسه عن دعوى الوضع للوجوب بخلاف مادة الأمر فراجع.

__________________

(١) إذا لم تكن الإرادة مدلولا تصوريا لنفس اللفظ ولو عرفا لم يصح إجراء الإطلاق اللفظي لإثبات المرتبة الشديدة. كما أن النسبة الإرسالية لو فرض عدم تحصصها مفهوما إلى نسبة دفعية رخوة ضعيفة ونسبة دفعية قوية فأخذ منشئها فيها ان كان بنحو التقييد كان غريبا في باب الهيئات والمعاني الحرفية وان كان بنحو الحيثية التعليلية فالمفروض عدم تحصصها بعلتها مفهوما.

٥٤

الجهة الثالثة ـ في الجمل الخبرية المستعملة في الطلب

لا ينبغي الإشكال في صحة استعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب حيثما قامت قرينة على ذلك ولو حالية أو مقامية ، وانما البحث في كيفية تفسير وتخريج هذه الدلالة أولا. وفي انها تقتضي الوجوب أو جامع الطلب ثانيا. فالبحث عنها يقع في مقامين :

المقام الأول ـ في تفسير دلالتها على الطلب. وهنا مسلكان :

المسلك الأول ـ ما ذهب إليه مشهور المتأخرين كصاحب الكفاية ( قده ) ومن تابعه من ان الجملة الخبرية مستعملة في هذه الموارد في نفس المعنى الموضوع له أي النسبة الصدورية (١) مثلا فقوله « إذا قهقه المصلي أعاد الصلاة » مستعمل في نسبة الإعادة إلى المصلي في الخارج الا انه يستفاد منها الطلب على أساس إحدى نكات بنحو مانعة الخلو.

الأولى ـ ان تكون الجملة الخبرية اخبارا بالمطابقة عن وقوع الإعادة من المصلي حقيقة في الخارج ، لكن لا مطلقا ليكون كذبا بل في حق الإنسان الّذي يكون في مقام

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ص ١٠٤.

٥٥

الامتثال وتطبيق عمله مع الشريعة فيكون ملازما لا محالة مع كون الإعادة مطلوبة للشارع فالجملة الخبرية مستعملة في النسبة الخبرية تصورا أو تصديقا ولكنه بنحو يدل بالالتزام على الطلب وذلك بتضييق دائرة الاخبار وتكون القرينة بحسب الحقيقة قرينة على هذا التضييق والتقييد في الاخبار.

الثانية ـ ان يكون ذلك على أساس الكناية بأن يخبر عن اللازم ويريد الملزوم كقولهم زيد كثير الرماد بقصد الاخبار عن جوده لا كثرة رماده ففي المقام يكون قوله يعيد صلاته كناية عن الاخبار عن ملزوم الإعادة خارجا وهو طلب الإعادة لا الاخبار عن نفس الإعادة خارجا فيكون المدلولان التصوري والتصديقي للجملة محفوظين هنا أيضا كما هو الحال في النكتة المتقدمة وتكون القرينة قرينة على الكناية واعتبار المدلول المطابقي قنطرة للاخبار عن مدلول التزامي.

الثالثة ـ ان ندعي حصول دلالة التزامية بين النسبة الصدورية الخبرية والنسبة الإرسالية الإنشائية لأن النسبة الصدورية كثيرا ما تنشأ في طول النسبة الإرسالية كما يقال ـ دفعته فاندفع ـ فينعقد بعد إقامة قرينة على هذه النكتة دلالة تصورية تخطر في ذهن السامع النسبة الإرسالية بالملازمة من النسبة الصدورية ويكون المدلول الجدي على طبق المدلول التصوري الالتزامي وهو النسبة الإرسالية لا المدلول التصوري المطابقي وهو النسبة الصدورية وهذا يعني انحفاظ المدلول التصوري للجملة الخبرية دون التصديقي إذ ليس المراد قصد الحكاية بل الإرادة رأسا.

الرابعة ـ ان يدعى بان النسبة الصدورية كما يمكن تعلق الاخبار بها يعقل تعلق الإرادة والطلب بها أيضا وانما نستفيد الاخبار في سائر الموارد وبحسب الطبع الأولي للجملة من باب ان التصديق والاخبار بالنسبة دائما طريق محض إلى النسبة فكأنه لا يزيد عليها عرفا بينما الإرادة والطلب شيء زائد على نفس النسبة الصدورية بحاجة إلى نصب قرينة ومئونة زائدة كما في المقام (١).

__________________

(١) الا ان هذا يعني ان الاخبارية والإنشائية خصوصيتان منتزعتان بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي للكلام وهو خلاف الوجدان القاضي بانحفاظهما على مستوى المدلول التصوري حتى إذا سمع اللفظ من جدار ، بل لو كان الأمر كذلك فلما ذا لم يصح استعمال الجمل المتمحضة في الإنشاء كالأمر في مقام الأخبار على ما أشرنا إلى ذلك في تعليق سابق.

٥٦

وعلى هذا الأساس يكون المدلول التصوري للجملة الخبرية محفوظا أيضا دون المدلول التصديقي.

وأقرب هذه النكات ما لم تكن قرينة معينة لإحداها ـ النكتة الأولى لأنها تتحفظ على أصل ظهور الجملة الخبرية في الاخبار وتقيد إطلاق المخبر عنه وكلما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل ظهور الجملة أو تقييد موضوعها قدم الثاني على الأول ما لم تكن القرينة بنفسها مشخصة لنكتة العناية.

المسلك الثاني ـ ما ذهب إليه الأستاذ من ان الجملة الخبرية في مقام الطلب والإنشاء يختلف معناها المستعمل فيه وذلك بناء على مختاره في باب الوضع من ربط الألفاظ في علاقاتها الوضعيّة بالمداليل التصديقية ابتداء. وقد استشهد على تعدد المعنى المستعمل فيه للجملة الخبرية وعدم انحفاظ معناها الخبري في موارد الإنشاء بأنه لو كان يمكن ذلك لصح استعمال اية جملة خبرية في مقام الإنشاء حتى الاسمية فلا يقال « انه معيد صلاته » بل ولا الفعل الماضي الا إذا كان جزاء لجملة شرطية كما في مثال ( إذا قهقه أعاد صلاته ) بينما الفعل المضارع يستعمل غالبا في مقام الإنشاء فيقال يعيد أو يسجد سجدتي السهو ونحو ذلك (١).

أقول : أصل المبنى. قد تقدم البحث فيه مفصلا فلا نعيد.

وأما الشاهد الّذي استند إليه فلا ينبغي الإشكال في استعمال فعل الماضي في الطلب من دون سياق الشرط أيضا كما في قولك ( غفر الله لك أو رحمك الله أو عافاك الله ) نعم لا إشكال في عدم اطراده في مقام الطلب فلا يقال صليت أو صمت بل يقال تصلي وتصوم والسر في ذلك ان الطلب الحقيقي لا يناسب فعل الماضي الّذي يدل على الفراغ عن تحقق الفعل ومضيه بخلاف الدعاء نعم إذا ما قلب الماضي إلى المضارع بإيقاعه في سياق الشرط أصبح مناسبا مع مقام الطلب الحقيقي. وكالماضي الجملة الاسمية من حيث النكتة التي أشرنا إليها (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) وبهذا يظهر أن هذا الشاهد أدل على عكس مدعي الأستاذ فانه إذا كان المعنى غير محفوظ في موارد الإنشاء بل هناك معنى جديد رأسا فلما ذا لا تستعمل الجمل الخبرية الأخرى غير المضارع في موارد الإنشاء طالما ان المستعمل فيه معنى جديد لا ربط له بالمعنى الأول فهذا بنفسه شاهد على انحفاظ المعنى الموضوع له للجملة الخبرية في مقام الإنشاء أيضا ولهذا إذا كان ذلك المعنى مشتملا على شيء لا يناسب مقام الإنشاء والطلب لم يصح استعمال تلك الجملة وهذا واضح.

٥٧

المقام الثاني ـ في دلالتها على الوجوب أو الجامع بين الوجوب والاستحباب.

والواقع ان تشخيص هذه الدلالة يرتبط بالنكتة التي على أساسها نستظهر دلالتها على الطلب فإذا كانت الدلالة على أساس إحدى النكات الثلاث الأولى كانت تلك العناية مناسبة مع الطلب الوجوبيّ لأن ما يكون ملازما مع صدور الفعل من الفاعل الّذي يطبق عمله مع الشريعة ـ لا انه يطبقه على أفضل موازين الشريعة والمستحبات فيها الّذي هو تقييد زائد ـ وكذلك ما يكون معنى كنائيا على أساس الملازمة انما هو الطلب الوجوبيّ لا الاستحبابي. كما ان العناية إذا كانت على أساس الانتقال الذهني إلى النسبة الإرسالية كان مقتضى أصالة التطابق في هذا المدلول مع المدلول الجدي هو الوجوب أيضا بنفس التقريبات المتقدمة في صيغة الأمر وأما إذا كانت العناية هي النكتة الرابعة وهو تعلق الطلب والإرادة ابتداء بمدلول الجملة الخبرية فهذا كما يناسب ان يكون الإرادة والطلب المتعلق شديدا ووجوبيا كذلك يناسب مع كونه استحبابيا هذا كله على المسلك الأول.

وأما على المسلك الثاني في دلالة الجملة الخبرية على الطلب من ان الجملة الخبرية مستعملة رأسا في معنى جديد فان كان هو إبراز الاعتبار النفسانيّ بوضع الفعل على عهدة المكلف فيدل ذلك لا محالة على الوجوب اما بحكم العقل بناء على ان الوجوب يستفاد من العقل أو من باب ان هذا الاعتبار عرفا وعقلائيا هو وعاء الضمان واللزوم المناسب مع الوجوب وان كان هذا المعنى هو الطلب والإرادة أمكن استفادة الوجوب منها بنفس البيانات المتقدمة في استفادته مما يدل على الطلب والإرادة.

بقي التنبيه على أمرين.

الأول ـ لا إشكال في ان فعل المضارع إذا دخل عليه لام الأمر من قبيل ( ليصل ) انقلبت النسبة الصدورية الخبرية فيه إلى نسبة إرسالية فيدل على الوجوب بأحد البيانات المتقدمة في صيغة افعل.

الثاني ـ ان الجملة التي تستعمل في مقام إبراز إرادة المولى وطلبه يمكن ان تصنف من ناحية دلالتها على الوجوب إلى ثلاثة أقسام :

الأول ـ ما يكون دالا على الدفع والإرسال اما بنحو المعنى الحرفي كما في صيغة

٥٨

الأمر أو فعل المضارع المدخول للام الأمر أو بنحو المعنى الاسمي كما في قولك ( أحركك أو آمرك نحو هذا الفعل ) وفي هذا القسم يمكن استفادة الوجوب بالإطلاق الّذي أشرنا إليه في بحث مادة الأمر لخصوص صيغة الأمر من ان مقتضى أصالة التطابق بين النسبة الإرسالية المدلول عليها تصورا والمدلول التصديقي هو سد تمام أبواب عدم الفعل المرسل نحوه وهو عبارة أخرى عن الوجوب.

الثاني ـ ما يستفاد منه وضع الفعل في عهدة المكلفين من قبيل قوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت ) و ( كتب عليكم الصيام ) وهذا يدل على الوجوب بملاك ما أشرنا إليه أخيرا من ان العهدة والذّمّة انما هي وعاء الضمانات وما يلزم تنفيذه عقلائيا وعرفا فيكون مناسبا مع الوجوب وعلى أساس هذه النكتة ينعقد ظهور في مثل هذه الألسنة على إرادة الوجوب.

الثالث ـ ما لا يوجد فيه شيء من النكتتين غاية الأمر يستفاد منه رغبة المولى إلى الفعل كقوله ( أحب ان تصنع كذا أو ينبغي ذلك ) ومثل هذا لا دليل على افادته للوجوب بالخصوص ما لم تكن قرينة خاصة تقتضيه.

٥٩
٦٠