بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

« الأمر بالأمر »

وقع البحث في دلالة الأمر بالأمر على وجوب الفعل على المأمور الثاني وعدمه.

والصحيح : أن يقال : هناك عدة احتمالات معقولة ومتصورة :

الاحتمال الأول ـ أن يكون مطلوب المولى هو صدور الفعل عن المأمور الثاني وأمره للمأمور الأول ليس إلا لمجرد إيصال أمره إلى المأمور الثاني فالمجعول التشريعي بالأمر الأول انما هو طلب الفعل من المأمور الثاني ، فيكون المدلول التصديقي هو وجود أمرين أمر بالفعل على المأمور الثاني وأمر إيصال ذلك الأمر إليه على المأمور الأول.

الاحتمال الثاني ـ أن يكون المجعول في الأمر بالأمر هو إيجاب أن يأمر المأمور الأول المأمور الثاني لا إيجاب الفعل على المأمور الثاني ، إلا أن هذا الأمر ليس نفسيا بل أمر طريقي إلى حصول الفعل من المأمور الثاني ينعقد مدلول التزامي عرفي له على طلب الفعل من المأمور الثاني.

وهذان الاحتمالان وإن كانا يختلفان من حيث كيفية استفادة طلب الفعل وإيجابه على المأمور الثاني في كل منهما حيث يكون مدلولا مطابقيا في الأول والتزاميا في الثاني ولكنهما يشتركان في كون الطلب من المأمور الثاني ثابتا من حين صدور الأمر بالأمر وغير متوقف على أن يأمر المأمور الأول المأمور الثاني فلو وصله بطريق

٣٨١

آخر لتنجز عليه لأنه وجوب ثابت من قبل المولى ابتداء.

الاحتمال الثالث ـ نفس الاحتمال الثاني مع افتراض ان أمر المأمور الأول للمأمور الثاني له موضوعية للمولى فيكون هو المطلوب المولوي واما صدور الفعل من المأمور الثاني فلا يطلبه المولى ولا يريده لو لا أمر المأمور الأول ، وبناء على هذا الاحتمال لا يثبت وجوب الفعل على المأمور الثاني إلا إذا استظهر من الأمر بالأمر إعطاء مقام الآمرية والولاية للمأمور الأول على المأمور الثاني فيجب على المأمور الثاني حينئذ الفعل لا باعتباره أمرا من المولى الحقيقي ابتداء بل باعتباره أمرا من المأمور الأول المجعول له الولاية ولذلك لا يتحقق هذا الوجوب إلا بعد صدور الأمر منه حقيقة.

الاحتمال الرابع ـ أن يكون غرض المولى في مجموع أمر المأمور الأول وفعل المأمور الثاني اما بأن يكون هناك غرض واحد متقوم بهما ويكون أمر المأمور الأول من شرائط وجود ذلك الغرض بفعل المأمور الثاني فيكون متوقفا على أمره ، أو بأن يكون أمره من شرائط اتصاف فعل المأمور الثاني بالغرضية فلا بد من تعدد الغرض حينئذ وافتراض وجود غرض مستقل في أمر المأمور الأول وإلا لم يكن وجه لأمره ، وعلى كلا التقديرين فلا يجب الفعل على المأمور الثاني قبل أمر المأمور الأول.

والمستظهر من هذه الاحتمالات عرفا انما هو أحد الأولين إن لم ندع ظهوره في الأول منهما ولو باعتبار كون الأمر فعلا طريقيا عادة وليس لمصلحة فيه بالخصوص مما يجعل ظهور الأمر بالأمر ابتداء في إيجاب الفعل على المأمور الثاني.

٣٨٢

« الأمر بعد الأمر »

إذا كرر الأمر بشيء بلا شرط أو مع وحدة الشرط فهل يحمل على التأكيد فلا يثبت إلا وجوب واحد أو على التأسيس فهناك وجوبان؟

ذهب صاحب الكفاية ( قده ) إلى أنه يقع التعارض بين ظهور الصيغة في التأسيسية مع إطلاق المادة المقتضي لكون المتعلق للأمرين واحدا فان الطبيعة لا تتحمل إلا طلبا واحدا.

وقد حكم بالتأكيد نتيجة من جهة إجمال ظهور الهيئة باعتبار اقترانها بالتكرار الصالح للقرينية على التأكيد فتكون مجملة من هذه الناحية فلا يثبت وجود أمر آخر (١).

أقول : التحقيق ان هيئة الأمر لا تدل إلا على الوجوب ، واما التأسيسية أو التأكيدية فليس شيء منهما مدلولا لها إذ لم توضع الهيئة لطلب لم يكشف عنه بكاشف أسبق ولذلك لم يكن استعمالا مجازيا إذا أمر عبده بما كان قد أمره به سابقا لأجل التأكيد.

نعم هنا لك دلالة سياقية حالية قد تقتضي التأسيسية في الكلام لو جاء المتكلم

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٣١.

٣٨٣

بجملة أخرى صالحة لإفادة معنى جديد كما تصلح لتأكيد المعنى السابق فقد يدعى حملها على إفادة المعنى الجديد ليكون تأسيسا.

إلا أن هذا البيان لا يمكن تطبيقه في المقام إذ الأمر الثاني أما أن يذكر متصلا بالأول أو منفصلا عنه فان ذكر متصلا به بحيث يمكن عطفه عليه بالواو فان عطفه عليه بالواو كان العطف بنفسه قرينة على التأسيسية لظهوره في ان المعطوف ليس عين المعطوف عليه وإلا فنفس عدم ذكر العطف من وسائل التأكيد عرفا فيكون ظاهرا فيه.

واما إن ذكر منفصلا فلا ظهور حالي فيه لا في التأسيس ولا في التأكيد إذ الحالة السياقية تقتضي التأسيسية بلحاظ شخص ذلك الخطاب واما تكرار الطلب بشخص خطاب آخر فليس ذلك منافيا مع التأسيسية بلحاظ شخص الخطاب الثاني.

فقد تحصل انه لا يوجد ظهور في مدلول الهيئة يقتضي التأسيسية فيكون مقتضى إطلاق المادة هو التأكيد لا محالة.

٣٨٤

إذا نسخ الأمر بعد نسخ الوجوب

والبحث عن ذلك يقع في مقامين : الأول في إمكان إثبات الجواز بالدليل المنسوخ أو الناسخ ، والثاني في إثبات ذلك بالأصل العملي.

أما المقام الأول ـ فالمشهور بينهم عدم إمكان إثبات الجواز لا بالدليل المنسوخ ولا بالدليل الناسخ مع ان الصحيح التفصيل بلحاظ المسالك المختلفة. فانه بناء على بعضها لا بد من القول بإمكان إثبات الجواز وهذا ما يمكن بيانه بعدة تقريبات :

التقريب الأول ـ إثبات الجواز بالمدلول الالتزامي للدليل المنسوخ فانه كان يدل بالمطابقة على الوجوب وبالالتزام على نفي الحرمة ، وبعد ورود الناسخ يكون الساقط عن الحجية هو المدلول المطابقي ويبقى المدلول الالتزامي على حجيته في نفي الحرمة وبذلك يثبت الجواز بالمعنى الأخص.

وهذا التقريب عليه إشكال لا بد من التخلص منه وحاصله : ان الدليل المنسوخ له أربع دلالات التزامية لا دلالة واحدة ، وهي الدلالة على نفي الحرمة والدلالة على نفي الكراهة والدلالة على نفي الاستحباب والدلالة على نفي الإباحة ، فان ثبوت الوجوب يستلزم انتفاء الأحكام الأخرى طرا ، وبعد ورود الناسخ وانتفاء الوجوب أيضا بالدليل الناسخ يقع التعارض بين الدلالات الالتزامية الأربع إذ لا يمكن صدقها

٣٨٥

جميعا فيسقط الجميع بالمعارضة.

والجواب على هذا الإشكال : ان الإباحة بالمعنى الأخص ليست منفية بدليل الوجوب المنسوخ بالالتزام بل منفية به بالمطابقة ، والوجه في ذلك ان الإباحة بالمعنى الأخص تثبت بانتفاء الأحكام الأربعة الأخرى وعدم مقتض لشيء منها ، ودليل الوجوب المنسوخ يدل على انتفاء الاستحباب والكراهة والحرمة بالالتزام ولا يدل على نفي الإباحة إلا بنفس إثبات الوجوب ومقتضي الإلزام حيث ان نفي النفي إثبات فارتفاع انتفاء الأحكام الأربعة أي غير الإباحة انما يكون بنفس ثبوت أحدها الّذي هو المدلول المطابقي للخطاب والّذي قد نفي بالدليل الناسخ فيكون نفيه هذا منضما إلى الدلالات الالتزامية الثلاث في الدليل المنسوخ على نفي الاستحباب والكراهة والحرمة منتجا للإباحة بالمعنى الأخص لا محالة.

التقريب الثاني : مبني على القول بحجية الدلالة التضمنية بعد سقوط المطابقية ، اما بتقريب : ان الوجوب مركب من طلب الفعل والمنع من الترك والدليل الناسخ انما ينفي مجموعهما لا جميعهما فيكون المتيقن منه انتفاء الثاني ، فلا بأس أن تبقى دلالة الدليل المنسوخ على أصل الطلب فيثبت الجواز بالمعنى الأعم.

وإما بتقريب ان الوجوب وإن لم يكن مركبا من أمرين وانما هو عبارة عن الإرادة الشديدة ، إلا ان الدليل الناسخ انما ينسخ المرتبة الشديدة أي يدل على انتفاء هذه المرتبة ، واما أصل الطلب ولو بمرتبة ضعيفة فلا بأس بالتمسك لإثباته بالدليل المنسوخ فيثبت الجواز بالمعنى الأعم.

التقريب الثالث ـ مبني على مسلك المحقق النائيني ( قده ) من ان الوجوب ليس مدلولا للفظ وانما هو بحكم العقل المنتزع من طلب الفعل وعدم الترخيص في الترك ، فانه على هذا المبنى يتعين إثبات الجواز بالمعنى الأعم بلا حاجة إلى إنكار شيء من التبعيتين في الحجية والوجه في ذلك واضح إذ الدليل الناسخ غاية ما يثبته هو الترخيص في الفعل ولا ينفي الطلب فيكون مدلول الأمر غير منسوخ أصلا ، اللهم إلا أن يفرض نظر الدليل الناسخ إلى ما هو مفاد المنسوخ ونفيه سواء كان هو الوجوب أو غيره إلا أن هذه عناية زائدة لم تفرض في عنوان البحث.

٣٨٦

ولكن الصحيح عدم تمامية شيء من هذه التقريبات لعدم المساعدة على شيء من مبانيها فان الوجوب ليس مركبا من أمرين ، كما أن الدلالة الالتزامية وكذلك الدلالة التضمنية التحليلية تابعة للدلالة المطابقية في الحجية وسوف يأتي تفصيل البحث عن ذلك في أبحاث العام والخاصّ والتعارض.

ومسلك المحقق النائيني ( قده ) في مدلول الأمر قد تقدم بطلانه في أبحاث دلالة الأمر على الوجوب حيث أثبتنا ان الوجوب مدلول لفظي وليس عقليا.

وعليه فما لم تفرض عناية زائدة في دليل الناسخ لا يمكن إثبات الجواز لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص.

ثم انه اتضح مما تقدم وجه ما ذكره المشهور في المقام من ربط المسألة وتفريعها على المسألة الفلسفية المعروفة من ان النوع إذا ارتفع بارتفاع فصله فهل يمكن أن يبقى الجنس المتضمن فيه ولو في ضمن نوع آخر أو لا يمكن ذلك؟ فعلى القول بإمكانه قيل في المقام ببقاء الجواز الّذي كان بمثابة الجنس للوجوب ولو ارتفع ما كان بمثابة فصله وهو المنع من الترك ، فان المقصود من هذا البيان هو التقريب الثاني من التقريبات الثلاثة ، أي التمسك بالمدلول التضمني للدليل المنسوخ ، إلا أنه مبني على إمكان بقاء الجنس ولو في ضمن نوع آخر وإلا كان المدلول التضمني أيضا مرتفعا فلا يرد عليه ما أورده السيد الأستاذ : من وجوه عديدة حيث أفاد :

أولا ـ انه لا يتم بناء على كون الوجوب بحكم العقل لا مدلولا للفظ.

وثانيا ـ ان الأحكام من الأمور الاعتبارية وهي بسائط وليست مركبة من مادة وصورة فضلا عن الجنس والفصل.

وثالثا ـ ان البحث المذكور بحث ثبوتي عن إمكان بقاء الجنس بعد زوال فصله وعدمه بينما البحث في المقام إثباتي في أن الدليل المنسوخ هل يمكن أن يستفاد منه بقاء الجواز أم لا؟ فلا ربط بين البحثين أصلا (١).

أقول ـ هذه الاعتراضات لا يمكن المساعدة على شيء منها بعد توجيه كلام المشهور بما ذكرناه.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٢٤.

٣٨٧

إذ فيما يتعلق بالاعتراض الأول يرد عليه ـ ان الوجوب حتى لو فرض كونه بحكم العقل وليس مجعولا شرعيا فلا إشكال انه مجعول بالتبع بمعنى أنه ينتزعه العقل من مجموع أمرين بيد الشارع ومن تصرفاته ، أحدهما طلب الفعل ، والآخر عدم ورود الترخيص في الترك ، ولذلك لو قيل ان الشارع رفع وجوب صلاة الليل عن هذه الأمة مثلا لم يكن مستهجنا.

والدليل الناسخ قدره المتيقن انما هو نفي الجزء الثاني لمنشإ انتزاع الوجوب وهو عدم الترخيص في الترك فيمكن التمسك بالدليل المنسوخ لإثبات الجزء الأول الوجوديّ.

نعم على هذا التقدير يكون إثبات الجواز بالمدلول المطابقي للدليل المنسوخ ـ كما أشرنا في التقريب الثالث ـ وليس بالمدلول التضمني لأن عدم الترخيص في الترك ليس مدلولا للأمر فلا تكون المسألة متفرعة على المسألة الفلسفية بلحاظ مدلول الدليل وهو الأمر الاعتباري وإن كان بلحاظ مبادئه من الحب والإرادة تكون صغرى للمسألة الفلسفية ولكنه ليس هو مدلول الدليل فحتى لو فرض عدم بقاء الجنس وتبدله إلى وجود آخر له في ضمن النوع الآخر كشفنا عنه بمقتضى مدلول الدليل ، إلا أن هذا مزيد اقتراب من مدعى المشهور ، والمشهور انما احتاجوا إلى تفريع المسألة على المسألة الفلسفية للمفروغية عن كون الوجوب هو مدلول اللفظ وانه ينحل إلى جنس وفصل.

وفيما يتعلق بالاعتراض الثاني يرد : أن مدعى المشهور لم يكن هو تحليل الأمر الاعتباري المسمى بالوجوب بالحمل الشائع إلى جنس وفصل في أفق وجوده كي يقال بأن الاعتبار من البسائط ، وانما المدعى ان الوجوب عبارة عن مجموع اعتبارين طلب الفعل والمنع من الترك مندكين في اعتبار واحد فهما بمثابة الجنس والفصل له ، والدليل الناسخ غاية ما يدل عليه ارتفاع المجموع لا الجميع فيمكن إثبات أصل الجواز بالدليل المنسوخ.

نعم التعبير عن ذلك بالجنس والفصل اللذين هما من الأجزاء التحليلية العقلية وإرادة معناهما الحقيقي في المقام لا بد أن يكون مسامحة وكان الأولى أن يعبروا بالمدلول التضمني والمطابقي كما تقدم في التقريب الثاني.

وفيما يتعلق بالاعتراض الثالث نقول بأن التفريع المذكور كان بعد الفراغ عن

٣٨٨

حجية المدلول التضمني بعد سقوط المطابقي ، حيث انه لو فرغ عن ذلك فلو كان للجنس بقاء إذن كان المدلول التضمني كمدلول تصديقي قابلا للبقاء بالدليل المنسوخ ، وإلا فكما يسقط المدلول المطابقي ويرتفع النوع يرتفع الجنس والمدلول التضمني الّذي كان يكشف عنه الدليل المنسوخ تصديقا. نعم الجامع والجنس كمدلول تصوري يمكن وجوده ولو في ضمن فرد آخر إلا انه ليس مدلولا تصديقيا للدليل.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي وقد استندوا في إثبات الجواز بالأصل إلى استصحاب بقاء الجواز بعد العلم بارتفاع الوجوب. وقد ناقش في ذلك السيد الأستاذ بوجهين :

الأول ـ انه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي وهو غير صحيح ، لأن الجواز بالمعنى الأعم المعلوم ثبوته سابقا كان في ضمن الوجوب والّذي يحتمل بقاءه بعد النسخ هو الجواز في ضمن فرد آخر هو الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة (١).

وهذا الوجه غير وارد إذ الجواز بالمعنى الأعم الّذي يعني عدم الحرمة يجري فيه الاستصحاب الشخصي لأن عدم الحرمة كان معلوما سابقا ويحتمل ثباته فيستصحب وكونه سابقا مقترنا مع الوجوب لا يجعله متغيرا بل هو شخص ذلك العدم ، إذ الاعدام لا تتعدد باختلاف مقارناتها والأثر وهو التأمين انما يترتب على الجواز بمعنى عدم الحرمة واما الجواز بالمعنى الأعم بمعنى آخر يفترض جامعا بين الأحكام الأربعة ـ غير الحرمة ـ فهذا مضافا إلى انا لا نتعقله ليس موضوعا لأثر عملي.

لا يقال : ان استصحاب عدم الحرمة معارض باستصحاب عدم الاستحباب والكراهة والإباحة للعلم إجمالا بأن أحد هذه الاعدام قد تبدل بالوجود بعد نسخ الوجوب.

فانه يقال ـ ان أوضح جواب على هذا الكلام انه لو افترضنا الإباحة حكما

__________________

(١) نفس المصدر السابق ، ص ٢٥.

٣٨٩

وجوديا قلنا ان استصحاب عدمها غير جار في نفسه كي يكون معارضا مع استصحاب عدم الحرمة ، إذ لا يترتب عليه تنجيز أو تعذير. لأنه لو أريد به إثبات الإلزام وتنجيزه فهو لا يثبت الإلزام إلا بالأصل المثبت لو أريد إثبات التنجيز به مباشرة فالتنجيز ليس مرتبا على عدم الإباحة كحكم وجودي بل مع عدم جعلها أيضا لا تنجيز لو لم تجعل الحرمة كما هو واضح.

هذا كله لو أريد استصحاب الجواز بالمعنى الأعم.

واما لو أريد إثبات الطلب بالأصل فإذا أريد به استصحاب الطلب كحكم إنشائي اعتباري فعلى المسلك المشهور والمختار من ان الطلب الوجوبيّ هو مفاد الأمر المنسوخ وان وجود أصل الطلب ضمن الوجوب وجود تضمني تحليلي كان جريان استصحابه موقوفا على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي ، وعلى مسلك الميرزا ( قده ) من ان الوجوب بحكم العقل كان استصحاب الطلب جاريا كاستصحاب شخصي ، لأن شخص ذلك الطلب المجعول يمكن بقائه بعد ورود الناسخ للوجوب أيضا.

واما إذا أريد به استصحاب روح الطلب وهي الإرادة التشريعية والحب للمولى فجريانه في أصل الإرادة ولو بمرتبته الضعيفة التي لا يعلم بارتفاعها لا مانع فيه بناء على انه من الاستصحاب الشخصي وما أفيد في الكفاية من ان العرف يرى تغاير الوجوب والاستحباب وتباينهما في الوجود وإن كان بحسب الدقة العقلية لا فرق بينهما إلا في مرتبة الوجود الواحد غير تام في الإرادة والحب لأن العرف انما يرى التباين بين الوجوب والاستحباب لا بين الإرادة التشريعية اللزومية والإرادة التشريعية غير اللزومية التي هي من مبادئ الحكم.

الوجه الثاني من الإشكال الّذي أورده السيد الأستاذ : ان هذا من الاستصحاب في الشبهة الحكمية وهو غير جار.

وهذا الوجه أيضا مما لا يمكن المساعدة عليه لا مبنى ولا بناء أما مبنى فلما سوف يأتي في مباحث الاستصحاب من حجيته في الشبهات الحكمية والموضوعية معا.

واما بناء فلأنه حتى لو بنى على ذلك المبنى فتطبيقه في المقام خلاف ما اعترف

٣٩٠

به الأستاذ نفسه من التفصيل بين استصحاب الحكم الإلزامي واستصحاب الحكم الترخيصي فالذي يراه غير جار للمعارضة مع استصحاب عدم الجعل انما هو استصحاب بقاء الحكم الإلزامي في الشبهات الحكمية لا استصحاب عدم الحكم والترخيص كما في المقام.

٣٩١
٣٩٢

بحوث الأوامر

كيفيات تعلق الأمر

ـ تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد

ـ حقيقة الواجب التخييري

ـ حقيقة الواجب الكفائي

ـ الواجب الموسع والمضيق

٣٩٣
٣٩٤

تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد

ولا بد تمهيدا من توضيح مقدمة حاصلها : ان الأعراض على أقسام خمسة :

الأول ـ الأعراض الذهنية ، ونقصد بها العوارض التي يكون عروضها والاتصاف بها كلاهما في الذهن ، ويمثلون لها بالمعقولات الثانوية في المنطق كالنوعية والجنسية التي هي من عوارض المفهوم بما هو موجود في الذهن ، فان الإنسان الذهني يتصف بأنه نوع لا الإنسان الخارجي ، كما انه معروض النوعية بما هو في الذهن لا بما هو في الخارج.

الثاني ـ الأعراض الخارجية ، وهي ما يكون عروضها والاتصاف بها كلاهما في الخارج ، كالحرارة للنار فان الحرارة تعرض في العالم الخارجي على النار الخارجية ولا وجود لها في الذهن ، كما ان التوصيف بالحار انما يكون بلحاظ النار الخارجية فهي الحارة لا النار الذهنية.

الثالث ـ الأعراض التي قال المشهور عنها بأنها وسط بين القسمين السابقين كالإمكان والامتناع والضرورة والاستلزامات كاستلزام العلة للمعلول ونحو ذلك ، حيث أفادوا أن هذا النوع من الأعراض يكون الاتصاف بها خارجيا ، إذ الإنسان الخارجي ممكن والعلة الخارجية مستلزمة للمعلول ، ولكن عروضها يكون في الذهن

٣٩٥

وبالاعتبار ، لاستحالة أن يكون عروضها في الخارج لأن ذلك يستلزم وجودها في الخارج وهو محال ولو ببرهان التسلسل ، إذ لو كان الإمكان موجودا خارجيا يعرض على الممكن الموجود الخارجي ، كان ذلك الوجود كوجود معروض له الإمكان أيضا ، فيلزم وجود ثالث في الخارج وهو أيضا يثبت له الإمكان فيكون هنا لك وجود رابع وهكذا يتسلسل ، فبهذا البرهان ذهبوا إلى أن مثل هذه الأعراض وجودها وعروضها في الذهن والاعتبار فتكون معقولات ثانوية عند الحكيم وإن لم تكن كذلك عند المنطقي (١).

وقد تقدم منا في الأبحاث السابقة :

إن هذا المدعى غير قابل للقبول لأنا لا نتعقل أن يكون العروض في عالم والاتصاف في عالم آخر ، لأنه لا يكون الاتصاف إلا باعتبار العروض وبسببه ، كما ان هذه الأمور من الواضح انها ثابتة وواقعية حتى لو افترضنا عدم وجود اعتبار أو معتبر ، ولذلك قلنا فيما سبق ان هذه الأعراض أمور واقعية وحقه بقطع النّظر عن أي عقل أو اعتبار ، فاستحالة اجتماع النقيضين حق واقعي ولو فرض انعدام كل العقول في الخارج. وقد قسمنا فيما سبق الأمور الخارجية إلى قسمين ما يكون خارجيا بوجوده كما في الموجودات الخارجية ، وما يكون خارجيا بذاته وهي الاستلزامات والإمكان والاستحالة والوجوب.

وهكذا يتلخص في المقام إيرادان :

الأول ـ ان التفكيك بين ظرف العروض وظرف الاتصاف غير معقول لأن الاتصاف انما يكون بلحاظ العروض فيستحيل أن يكون ظرفه غير ظرف العروض.

الثاني ـ أن هذه الأعراض لو أرادوا باعتباريتها انها اعتبارية محضة كاعتبار « جبل من ذهب » بحيث لا حقيقة لها وراء الاعتبار فهذا واضح الفساد ، لبداهة ان مثل قضية « الإنسان ممكن » تختلف عن قضية « جبل من ذهب » فان العقل يدرك صدق القضية الأولى وواقعيتها بقطع النّظر عن وجود عقل ومعتبر.

وإن اعترف بان الذهن يضطر وينساق إلى أن يعتبر هذه الأعراض عند ما يلاحظ

__________________

(١) منظومة السبزواري ص ٣٩ ـ ٤٠.

٣٩٦

معروضاتها وليس كالأمر الاعتباري المحض ، فان أريد بذلك ان هناك حالة في الذهن تقتضي من الناحية الفسلجية أن ينساق إلى هذه المعاني من دون أن يكون ذلك مربوطا بالواقع الموضوعي في الخارج بل بنكتة ترتبط بذهن المفكر نفسه ـ كما ادعى ذلك بعض الفلاسفة المحدثين ـ فهذا أيضا خلاف الوجدان والضرورة القاضية بأن مثل قضية « الإنسان ممكن » أو « مساو المساوي مساو » قضية صادقة صدقا واقعيا مع قطع النّظر عن وجود أي ذهن وذات مفكرة ، بل ان هذه القضايا تكون بحسب هذا الإدراك فوق الذهن وثابتة قبله وفي عالم لم يخلق فيه مفكر ، فالعقل يدرك استحالة اجتماع النقيضين في كل العوالم حتى عالم لا وجود فيه للفكر والمفكر. وإن أريد بذلك أن الذهن ينساق إلى هذه المعاني لنكتة قائمة بالموضوع نفسه أي بالمفكر فيه لا بالفكر وفسلجته الذاتيّة ، فتلك النكتة لا بد وأن تكون هي النكتة الواقعية والثابتة في لوح الواقع بنفسها وذاتها وان خارجيتها وواقعيتها بالذات لا بالوجود كيف ومثل الامتناع في اجتماع النقيضين لا يمكن أن يكون خارجيا بالوجود.

وهذا أحد المسالك في إبطال من يدعي انحصار الواقع الخارجي بالمادة وظواهرها إذ من الضروري رياضيا ومنطقيا ان قضية مساو المساوي مساو ثابتة وحقة سواء وجدت مادة وظاهرة مادية أم لا.

كما انه بما ذكرناه ظهر بطلان ما اقترحه الخواجة نصير الدين الطوسي ( قده ) على ما نقله عنه صاحب الأسفار في دفع العويصة في هذا القسم من العوارض التي يكون الاتصاف بها خارجيا مع ان عروضها في الذهن والاعتبار ـ على حسب تفسير المشهور ـ من نقل القضية من الذهن بالمعنى المعهود إلى معنى آخر سماه العقل الأول أي الواجب وان هذه الأعراض ثبوتها وعروضها انما يكون في العقل الأول فهي ثابتة بثبوته وليس بوجود موضوعها في الخارج ، (١) إذ من الواضح ان هذه الأعراض حقة وثابتة وواقعية حتى لو فرض عدم وجود العقل الأول والواجب ، فحتى المنكر لوجود الواجب يمكنه أن يتقبل حقانية هذه القضايا ، وقضية امتناع اجتماع النقيضين صادقة

__________________

(١) الأسفار الأربعة ، ج ١ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

٣٩٧

وثابتة حتى في عالم يفترض فيه عدم وجود الواجب ولو محالا ، ولا ينيط عقلنا المدرك لصدقها واقعيتها وثبوتها بوجود العقل الأول بوجه من الوجوه أصلا ، إذن فلا محيص من الالتزام بأن هذه الأعراض والمعاني أمور من لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود.

القسم الرابع ـ الأعراض الذهنية ذات الإضافة إلى شيء في الخارج ، كحب علي عليه‌السلام وبغض معاوية ، وهي تشبه المعقولات الثانوية المنطقية ـ القسم الأول ـ في كونها من عوارض النّفس والصورة الذهنية ولكنها تختلف عنها في أن تلك العوارض تعرض على الصورة بما هي صورة ومفهوم ، فتصور الإنسان بما هو تصور ومفهوم يكون كليا أي بما هو هو بينما هذه العوارض تعرضها بما هي مرآة وفانية في الخارج ، ولذلك يكون الوجود الخارجي معروضا بالعرض لها ومعروضها الحقيقي والذاتي نفس الصورة الذهنية ، فالصورة الذهنية بالحمل الأولي هو المعروض بالعرض وبالحمل الشائع هو المعروض بالذات.

وهذا عليه وجدان وبرهان :

اما الوجدان ـ فهو وضوح انحفاظ هذه العوارض وثبوتها في الموارد التي لا يوجد فيها خارجا شيء أصلا ، كما في الصورة العلمية في موارد الخطأ وكما في حب شخص غير موجود وانما كان المحب يتوهم وجوده ، فانه لو كان المتعلق الحقيقي هو الخارج فلا خارج هنا.

واما البرهان : فهو ان هذه الصفات باعتبارها ذات إضافة فلا يتصور في تمام مراتب ثبوتها حتى مرتبة ذاتها ان ينفك عن طرف الإضافة وهو المضاف إليه ، فلا بد أن يكون المضاف إليه ثابتا حتى في مرتبة ذاته التي هي في الذهن والنّفس ـ وبهذا البرهان أيضا يثبت وحدة المتعلق والمتعلق وان الصورة الحبية نفس الحب على ما شرحناه في ما سبق ـ.

القسم الخامس ـ الأعراض الذهنية ذات الإضافة إلى صورة كلية وطبيعة لا إلى موجود خارجي ، وهذا كما في الطلب ـ لا بما هو إنشاء واعتبار بل بروحه التي هي الحب في الأمر والبغض في النهي ـ فانه يتعلق بالمفهوم كما في القسم الأول والرابع

٣٩٨

ولكنه يختلف عن الأول في أنه يتعلق بالمفهوم بما هو مرآة لا بما هو هو ، ويختلف عن الرابع في انه ليس له معروض بالعرض وانما له معروض بالذات الّذي هو نفس المفهوم الكلي ، إذ لا يعقل له المعروض بالعرض لأن وجود المعروض بالعرض مساوق مع التشخص حيث أن الوجود مساوق مع التشخص وتعلق الأمر به تحصيل للحاصل كما هو واضح ، نعم ما يوجد في الخارج يصبح مصداقا لمعروض الطلب لا انه معروضه لا بالحقيقة وبالذات ولا بالعرض ، وهذا بخلاف مثل الشوق والحب المتعلق بالايمان كحبنا لعلي عليه‌السلام وبغضنا لمعاوية فان له معروض بالعرض وهو الوجود الخارجي للمحبوب وبهذا تندفع العويصة المشهورة والتي هي شبهة في قبال البديهة من ان الطلب إذا كان متعلقا بالمفهوم بما هو هو فهذا غير مفيد للمولى بل هو حاصل في ذهنه أيضا ، وإذا كان متعلقا بالموجود الخارجي فهو طلب الحاصل. فان الطلب متعلق بالمفهوم والصورة الذهنية بما هو مرآة فان في الخارج أي بالحمل الأولي ولذلك لم يكن المطلوب هو نفس المفهوم بالحمل الشائع إذ ليس هو مصداقا للمفهوم بالحمل الأولى وفي نفس الوقت لا يلزم طلب الحاصل لأنه غير متعلق بالوجود الخارجي ولو بالعرض وانما الوجود الخارجي مصداق لما يتعلق به فلا يرد أن المتعلق بالعرض لو كان هو الوجود الخارجي لزم تأخر الطلب عنه وكانت مرتبته مرتبة متأخرة عن مرتبة المعروض بالعرض ومعه يستحيل طلبه لأنه طلب للحاصل.

وقد أجاب عن هذا الإشكال صاحب الكفاية ( قده ) بأن الّذي يتعلق به الطلب هو إيجاد الطبيعة لا وجودها فلا يلزم تعلق الطلب بالطبيعة الموجودة كي يلزم طلب الحاصل (١).

وفيه : انه لا فرق بين الإيجاد والوجود إلا بالاعتبار ، وإضافة الشيء إلى الفاعل تارة وإلى نفسه أخرى لا يغير الواقع شيئا فمحذور طلب الحاصل باق على حاله حتى لو كان الطلب متعلقا بإيجاد الطبيعة فانه سوف يكون متأخرا مرتبة عن مرتبة هذا الإيجاد ومعه يكون طلبه طلبا للحاصل.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ص ٢٢٣.

٣٩٩

ثم إن زج مفهوم الإيجاد أو الوجود في مدلول الأمر كما صنعه صاحب الكفاية ( قده ) في المقام يمكن أن يكون مبرره أحد وجوه :

الأول ـ ما أشير إليه في العويصة من ان الطلب المفاد بالهيئة لو كان متعلقا بالطبيعة فإذا أريد منها الطبيعة بما هي هي فلا يكون فيها غرض للمولى ولا يطلبها أيضا لأنها حاضرة في ذهنه ، وإذا أريد منها الطبيعة الموجودة كان طلب الحاصل ، فاتجه صاحب الكفاية ( قده ) إلى أخذ الإيجاد في مدلول الهيئة.

وقد عرفت ان الطلب لا يتعلق بالخارج بل بالصورة الذهنية ولكن بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع. أي بما هي فان في الخارج والمفهوم بالحمل الأولي لا يصدق إلا على المصداق الخارجي لا على الصورة الذهنية ذاتها فانها ليست مصداقا لنفسها ولذلك كان امتثال الطلب وتنفيذه بإيجاد المصداق الخارجي.

الثاني ـ ان الماهية المدلول عليها بالمادة لو كانت متعلقة للطلب ابتداء كان معناه ان الماهية بما هي هي مطلوبة مع انها ليست إلا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة كما ذكر في الحكمة.

وفيه : ان هذا خلط بين مصطلح في الحكمة وبين المقام ، فانه في المعقول قيل : لو لوحظت الماهية بذاتها ومرحلة ذاتياتها فليست إلا هي بجنسها وفصلها ونوعها واما سائر الأمور والعوارض التي هي خارجة عن الذات فلا تكون متصفة بها في هذه المرتبة ، أي انها ليست من ذاتياتها فالماهية بما هي هي ليست إلا هي. وهذا مطلب معقول مفهوم ولكنه عند ما استخدمه الأصولي طبقه بشكل خاطئ وبتصور أن الماهية بما هي هي لا يمكن أن يتعلق بها الطلب ويعرض عليها لأن الماهية بما هي هي ليست مطلوبة ولا غير مطلوبة ، غافلا عن ان قيد ( بما هي هي ) لتحديد المعروض وانه مرحلة الذات والذاتيات لا لبيان ظرف الحمل فلا يعني عروض الطلب أو أي عرض آخر عليها انها في مرحلة ذاتها وبالحمل الأولي أصبحت مطلوبة وأصبح الطلب جزءا من ذاتها وهذا واضح.

الثالث ـ ان الوجود لو لم يكن مأخوذا في مدلول هيئة الأمر لزم أن لا يكون الترك والعدم مأخوذا أيضا في مدلول النهي ومعه لا يبقى فارق بينهما إذ كلاهما يدلان على

٤٠٠