بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

معلولين لعلة ثالثة أو لعلتين.

فإذا أريد المعنى الأول فالجواب : وإن كان هو استحالة اتحاد الضدين في رتبة واحدة إذ يحكم العقل باستحالة كونهما معا في رتبة المعلولين لعلة ثالثة بحسب عالم التحليل العقلي غير ان هذا لا يقتضي ان يكون عدم أحدهما في رتبة الاخر بهذا المعنى ، ولا يستلزم منه ارتفاع النقيضين فان هذا رفع للمقيد وهو لا يستلزم الرفع المقيد. وبعبارة أخرى : نفي معلولية الضدين لعلة ثالثة لا يستلزم أن يكون كل منهما مع عدم الاخر معلولا لتلك العلة فان نفي عليه شيء لشيء لا يعني عليته لنقيضه كما هو واضح.

وإن أريد المعنى الثاني فالجواب : وحدة رتبة الضدين بمعنى انه لا طولية بينهما ، وليس هذا من اجتماع الضدين لا في الزمان ولا في الرتبة الواحدة بالمعنى المتقدم المستحيل بحكم العقل.

البرهان الثالث ـ وهو برهان صحيح أيضا كالبرهان الأول وحاصله : ان افتراض توقف الضد على عدم ضده الاخر يعني دخل عدم الضد في تحقق الضد ، وحينئذ نسأل بان هذا الدخل هل يراد به دخل العدم في الوجود بحيث يكون عدم الضد كجزء المقتضي أو يراد به دخل الوجود في الوجود بنحو التمانع بان يكون عدم الضد من باب عدم المانع؟ لا مجال للأول باعتبار استحالة تأثير العدم في الوجود بمعنى اقتضائه له كيف والا جاز وجود الممكن بلا علة.

وعلى الثاني نسأل بان تأثير الضد في وجود الضد الاخر بنحو الممانعة والمغالبة هل يكون قبل وجوده أو بعده؟ لا مجال للأول لاستحالة مانعية المعدوم. والثاني أعني مانعيته بعد وجوده يتوقف على أن يكون الضد الاخر معدوما باعتبار تسليم الخصم بتوقف الضد على عدم الاخر من كلا الطرفين وهذا يعنى ان الضد الأول ـ المانع ـ موقوف وجوده على عدم الضد الاخر ـ الممنوع ـ ومعه يستحيل ان يكون مانعا عنه فان ما يتوقف وجوده على عدم شيء اخر يستحيل ان يكون مانعا عن وجوده ، وهذا اما يدعى بداهته في نفسه أو يبرهن عليه : بان المانع انما يمنع عما يكون ممكنا لا ما يكون ممتنعا ولو بالغير ، وفي رتبة وجود المانع في المقام يكون الاخر ممتنعا بالغير في رتبة سابقة لأن التوقف من الطرفين فلا بد من عدم الضد المعدوم ولو بعدم علته حتى يتحقق الضد

٣٠١

الموجود ومعه كيف يعقل ان يكون مانعا عنه أو يبرهن عليه : بأنه يستلزم التهافت في الرتبة لأن المانع متقدم رتبة على عدم الممنوع فلو كان متوقفا على عدم الممنوع كان متأخرا عنه وهو تهافت. وهذا غير إشكال الدور الّذي سوف تأتي الإشارة إليه فانه موقوف على الالتزام بلازم مدعى الخصم من توقف الضد على عدم الاخر وهو توقف عدم الاخر على وجود الضد الأول ، بينما هذا البرهان ينطلق من المدلول المطابقي لمدعى الخصم نفسه وهو توقف وجود الضد على عدم الضد الاخر من كلا الطرفين.

البرهان الرابع ـ وهو موقوف على امرين.

الأول ـ إثبات مانعية مقتضي أحد الضدين عن الضد الاخر ، وهذا نفس الأمر الأول في البرهان الأول غير انه نثبته هنا بطريق اخر غير ما أثبتناه به في ذلك البرهان فان ذاك البرهان كان ينطلق من فرض تساوي المقتضيين وكان ينتج ان المقتضي المساوي أو الأرجح يكون مانعا ، اما هنا فنقول : ان مقتضى أحد الضدين كالسواد مثلا اما ان يفترض اقتضائه للسواد مطلقا أي سواء كان الجسم أبيض أم لا ، أو يفترض ان أصل اقتضائه للسواد موقوف على عدم البياض ، أو يفترض انه يقتضي السواد الّذي لا بياض معه ، أي كما يقتضي السواد يقتضي بنفس ذلك الاقتضاء إعدام البياض الّذي هو معنى المانعية ، والفرض الأول من هذه الفروض الثلاثة مستحيل لأن سواد الأبيض محال ذاتا فيكون اقتضاء مقتض له اقتضاء للمحال واقتضاء المحال محال في نفسه.

لا يقال : المحال انما هو فعلية المقتضى ـ بالفتح ـ مع البياض والمفروض عدمه ولو باعتبار مانعية الضد بحسب مدعى الخصم. وبعبارة أخرى المقتضي في نفسه يقتضي ذات السواد ويكون عدم البياض شرطا في فعلية المقتضى.

فانه يقال : افتراض ان مقتضي السواد يقتضي في نفسه ذات السواد ولو في الأبيض عبارة أخرى عن انه مقتض للمحال وهو محال في نفسه لا ان فعلية مقتضاه محال ، والوجه في استحالته ان العلة باجزائها انما تتعلق في حق ما يكون ممكنا ذاتا لا واجبا في وجوده أو عدمه ، نعم هذا مخصوص بالمحال الذاتي لا المحال بالغير فان وجود المقتضي له معقول بل واقع كما لو افترض المقتضي مع المانع وفي المقام ندعي ان

٣٠٢

استحالة اجتماع الضدين ذاتي وليس من جهة استلزامه وجود المعلول بلا تمامية علته ، فيؤخذ كمصادرة بديهية في هذا البرهان وهناك شاهدان يرشدان إلى ذلك.

أحدهما : أوضحية هذه الاستحالة من تلك الاستحالة بحيث حتى القائل بإمكان وجود المعلول بلا علة يقبل استحالة اجتماع الضدين.

الثاني ـ ان العقل يدرك استحالة اجتماع الضدين مع قطع النّظر عن كونهما ممكنين أو واجبين مما يدل على انه امتناع ذاتي لا من أجل عدم العلة والا لاختص بالممكن كما هو واضح.

وأما الفرض الثاني ، أعني توقف اقتضاء مقتضي أحد الضدين في نفسه على عدم الضد الاخر فيبطل بطريقين :

الأول ـ انه خلاف الوجدان فان فرض التضاد لا يقتضي ذلك وإن كان قد يتقيد مقتضي أحد الضدين بعدم الاخر ، كما إذا فرض عدم احتواء مكان لأكثر من شخص فعلق أحد الصديقين دخوله في ذلك المكان على عدم رغبة الاخر في الدخول إليه.

لا يقال ـ هذا في قوة ان يقال للخصم بان توقف أحد الضدين على عدم الاخر خلاف الوجدان.

فانه يقال : ان دعوى وجدانية عدم توقف أحد الضدين على عدم الاخر وان كان صحيحا الا ان هناك ما يوهم وجدانية خلافه لدى الخصم وهو المنافاة بين الضدين وعدم وجود أحدهما الا والاخر معدوم ، وهذا ليس هو الوجدان المدعى في المقام كي يقال انه محل النزاع. وانما المدعى وجدانية عدم توقف مقتضي أحد الضدين في نفسه على عدم الضد الاخر وهو مما يعترف به الخصم أيضا لوضوح إمكان اجتماع المقتضى لأحد الضدين مع وجود الضد الاخر.

الثاني ـ انه لو فرض أقوائية مقتضي السواد من مقتضي البياض فلو فرض توقف اقتضائه على عدم الضد الاخر كان معناه عدم تأثيره في إيجاد المقتضى ـ بالفتح ـ مهما كان المقتضي له قويا ما دام مشروطا بعدم تأثير المقتضي الضعيف ، مع وضوح تأثيره في فرض قوته وان كان المقتضي الضعيف موجودا.

٣٠٣

وهذا إن صح في المقتضي القوي صح في الضعيف أيضا لبداهة عدم الفرق بين فرض قوة المقتضي وضعفه في سنخ الاقتضاء وانما يختلفان في درجته.

وهكذا يتبرهن تعين الفرض الثالث وهو اقتضاء مقتضي أحد الضدين لإعدام الضد الاخر. بنحو المغالبة والممانعة وهو معنى توقف أحد الضدين على عدم المقتضي المساوي أو الأرجح للآخر (١).

وهذا الأمر تعويض عن الأمر الأول في البرهان الأول حيث يثبت نفس النتيجة المستدل عليها فيه وهو مانعية مقتضي أحد الضدين عن الضد الآخر فيضم إليه الأمر الثاني في ذلك البرهان لإثبات عدم مانعية نفس الضد.

البرهان الخامس ـ وفي هذا البرهان أيضا نفترض ما افترضناه ـ في البرهان السابق كمصادرة بديهية من ان اجتماع الضدين من الممتنع بالذات وليس من جهة استلزمه وجود المعلول بلا علته.

وحينئذ يقال : انه لو فرض تأثير أحد الضدين وهو السواد مثلا في المنع عن الضد الاخر وهو البياض فأن فرض تأثيره في المنع عن البياض الّذي يوجد في فرض عدم السواد كان مستحيلا لأن مانعية المانع انما يعقل في فرض وجوده لا في فرض عدمه ، وان فرض مانعيته عن البياض في فرض وجود السواد فهو ممتنع بالذات بحسب الفرض والممتنع بالذات يستحيل في حقه المانع فان العلة باجزائها انما يتعقل في الممكن لا الممتنع ولذلك قيل بان مقتضى المحال ذاتا محال.

وهذا البرهان موقوف على ان يكون مدعى الخصم تأثير عدم الضد في وجود الضد

__________________

(١) لا يقال : ان مقتضي كل من الضدين انما يمنع عن الضد الآخر في طول إيجاده للضد الأول أي انه يوجد الضد فيمتنع الاخر فالمانعية لعلها طولية لا عرضية وهذا لا ينافي توقف أحد الضدين على عدم الاخر.

فانه يقال : إذا كانت المانعية طولية لاستحال ان يتغلب المقتضي الأقوى للضد على المقتضى الأضعف للآخر إذا كان موجودا في الرتبة السابقة عليه فغلبة الأقوى حتى في مرحلة البقاء دليل على ان المقتضي الأرجح بنفس اقتضائه ينفي وجود الضد الاخر ويمنعه.

لا يقال : للخصم ان يقول كما يوجد تضاد بين كل من الضدين والضد الاخر كذلك هناك تضاد بين كل منهما مع مقتضي الضد الاخر الفعلي أي مع المقتضي بما هو مقتضي لا بذاته فلا دليل على المانعية وانما مجرد تناف وتضاد في الوجود.

فانه يقال : لا بد من فرض مانعيته في المقام ببرهان تقدم مقتضي الضد الأقوى بقاء على الضد الأضعف الموجود حدوثا فان هذه الغلبة في الوجود تكشف عن المانعية لا محالة والا لبقي الضد الأول مهما كان مقتضية ضعيفا.

٣٠٤

الاخر من باب عدم المانع لا جزء المقتضي.

البرهان السادس : ما أفاده الميرزا ( قده ) وهو يتوقف على مقدمتين (١) :

الأولى ـ ان المانع لا يعقل ان يكون مانعا الا في طول تمامية المقتضي والشرط للممنوع لأن دور المانع انما هو المزاحمة والممانعة عن تأثير المقتضي فلا بد من ثبوته وثبوت شرطه أيضا الّذي هو بحسب الحقيقة تحصيص للمقتضي بالحصة الصالحة للتأثير.

الثانية ـ ان مقتضي المحال محال اما بداهة أو ببرهان ان المقتضي من اجزاء العلة وهو انما يتعقل في الممكن الّذي يتساوى فيه الوجود والعدم لا المحال الّذي هو واجب العدم كما هو واضح.

فإذا تمت المقدمتان فيقال : ان وجود أحد الضدين لو توقف على عدم الضد الاخر كان الاخر مانعا عنه وحينئذ إن فرض مانعيته قبل وجوده كان محالا للزوم وجود المانع في المانعية وإن فرض مانعيته حين وجوده فلو فرض عدم مقتضي الضد الاخر كان الاخر مانعا عنه وحينئذ إن فرض مانعيته قبل وجوده كان محالا لوضوح لزوم المقتضي ، ولو فرض وجود مقتضي الضد الممنوع لزم المحال لأن المفروض ثبوت مقتضي الضد المانع أيضا فيكونان مقتضيين لاجتماع الضدين ومقتضي المحال محال.

وقد أشكل عليه السيد الأستاذ بان مقتضي المحال وإن كان محالا الا ان المقام ليس منه لأن مقتضى الضد الممنوع لا يقتضي الا وجود ذات الضد وهو ليس بمحال وانما المحال اجتماع الضدين ولا يوجد مقتض له ، ففرق بين ان يكون شيء ما مقتضيا للمحال وبين أن يقتضي شيء شيئا ويقتضي شيء آخر شيئا آخر ويكون اجتماعهما محالا.

وهذا الإشكال يمكن دفعه على ضوء ما تقدم في البرهان الرابع المتقدم حيث قلنا بان مقتضى أحد الضدين اما ان يفرض ان يقتضي ذات ذلك الضد مطلقا ولو في ظرف تحقق الاخر أو يكون اقتضائه مشروطا بعدمه أو يكون مقتضيا للضد الّذي

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٠.

٣٠٥

لا يوجد الضد الاخر معه أي بقدر ما يثبت من الضد ينفي الضد الاخر ويمنع عنه.

والاحتمال الثالث لو قيل به ـ كما أثبتناه في ذلك البرهان ـ لا يلزم منه اقتضاء المحال إذ لا يعني اقتضاء أحد المقتضيين للضد في فرض ثبوت الضد الاخر كي يكون محالا ، الا ان هذا الاحتمال بحسب الحقيقة قد جعله الميرزا ( قده ) برهانا مستقلا كما نحن جعلناه كذلك مع الفرق من حيث كيفية البرهنة على تعيين هذا الاحتمال ومن حيث ضم الأمر الثاني الّذي يثبت استحالة مانعية الضد بعد مانعية المقتضي فإذا تنزلنا عن ذلك وافترضنا ان المدعى مانعية نفس الضد عن وجود الضد الآخر فحينئذ يقال : ان هذا يستلزم فعلية مقتضى الضد الممنوع والا لم يكن الضد الموجود مانعا وعندئذ لو فرض ان مقتضي الممنوع اقتضاؤه مطلق وغير مشروط بعدم اقتضاء مقتضي الضد الموجود لزم اقتضاء المحال فان هذا هو الاحتمال الأول من الاحتمالات الثلاثة والّذي قلنا انه محال لأن بياض الأسود مثلا محال فاقتضاؤه يكون اقتضاء للمحال.

فلا بد وأن يكون اقتضاء الضد الممنوع مشروطا بعدم اقتضاء الضد الموجود وهو معنى مانعية المقتضي لا نفس الضد ـ والصحيح في الجواب مضافا ، إلى انه لا يجدي في دفع احتمال التوقف على أساس كون عدم الضد دخيلا في المقتضي لا من باب عدم المانع ، ان المقتضي المحال تارة يكون محالا بالذات ، وأخرى : يكون محالا بالغير ومن باب عدم علته ، فلو فرض ان بياض الأسود محال بالذات فوجود مقتض له وإن كان محالا الا ان برهان استحالته بنفسه يقتضي استحالة المانع عنه إذ كما يكون المقتضي أحد اجزاء العلة والمرجح فلا يعقل في غير الممكن كذلك عدم المانع انما يتعقل في الممكن الّذي يترجح وجوده على عدمه واما الممتنع بالذات فلا يعقل المانع عنه فلا نحتاج إلى المقدمات الأخرى في هذا البرهان وبذلك يكون هذا هو البرهان الخامس الّذي تقدمت صياغته الفنية.

وان فرض ان بياض الأسود محال بالغير أي من باب عدم تمامية علته فمقتضاه ليس بمحال لوضوح إمكان وجود المقتضي لما هو محال بالغير كما لو اجتمع المقتضي مع المانع.

البرهان السابع ـ دعوى ان توقف أحد الضدين على عدم الاخر مستلزم للدور

٣٠٦

وهذا يمكن تقريبه بعدة بيانات :

البيان الأول ـ الاستناد في تقريب الدور إلى المدلول المطابق لمدعى الخصم وهو توقف وجود الضد على عدم ضده الاخر ، حيث يقال : ان هذا يستلزم ان يكون وجود البياض موقوفا على عدم السواد لكون السواد مانعا عن البياض والمفروض ان السواد أيضا موقوف على عدم البياض ومعه تكون مانعية السواد عن البياض مستحيلة لأن وجوده في طول عدم البياض فكيف يعقل ان يفرض إعدامه له ، وهذا هو البرهان الثالث المتقدم منا مع تكميله بدفع احتمال دخل عدم الضد في وجود الضد الاخر لا على أساس المانعية.

البيان الثاني ـ وهو يستند إلى المدلول الالتزامي لمدعى الخصم ويفترض فيه ان التوقف باعتبار دخل عدم الضد في وجود الاخر حيث يقال : انه إذا كان عدم السواد دخيلا في قابلية المحل للبياض مثلا كان لازمه ان البياض دخيل في قابلية المحل لعدم السواد فيكون كل من عدم السواد والبياض موقوفا على الاخر في القابلية.

وهذا البيان غير تام لأن اللازم الّذي استخرج من مدعى الخصم غير تام إذ قد يتوقف قابلية المحل للبياض مثلا على عدم شيء اخر ولكن عدمه لا يشترط في قابلية المحل له وجود شيء اخر بل يكفي فيه عدم قابلية المحل لوجوده فان عدم عروض العارض يكفي فيه عدم قابلية المحل له ولا يشترط وجود ما يجعل المحل قابلا لعدمه.

البيان الثالث ـ ان أحد الضدين لو كان موقوفا على عدم الاخر كان وجوده لا محالة علة لعدم الاخر أيضا بقانون ان نقيض العلة علة لنقيض المعلول.

فيلزم توقف وجود البياض على عدم السواد وعدم السواد على البياض وهو من توقف الشيء على نفسه فيكون محالا.

وقد نوقش في هذا الاستدلال بمناقشتين :

الأولى ـ ما نقله المحقق النائيني ( قده ) عن المحقق الخوانساري ( قده ) (١) من ان مانعية الضد وعلية وجوده لعدم الاخر مستحيلة بمعنى ان وجود الضد الموجود مستند إلى عدم

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٣٠٧

الاخر الا ان عدم الاخر ليس من جهة مانعية الموجود لما تقدم من ان مانعية المانع فرع تمامية مقتضى الممنوع والضد المعدوم لا مقتضى له والا كان مقتضيا للمحال وهو محال.

وقد ذكر في الكفاية (١) أيضا هذه المناقشة مع فرق في مقدمتها الثانية حيث لم يعتمد المحقق الخراسانيّ على كبرى ان مقتضى المحال محال وانما سلك طريقا اخر هو انه لو وجد أحد الضدين كان ذلك كاشفا عن عدم تعلق الإرادة الأزلية بالضد الاخر والا لما تخلفت عن المراد فيستحيل وجود مقتضى الضد المعدوم كي يكون الضد الموجود مانعا عنه. الا ان هذا التقرير للمناقشة غير متين بخلاف تقرير الميرزا ( قده ) فان أوضح ما يرد عليه : ان غاية ما يثبت ببرهان عدم تخلف الإرادة الأزلية عن المراد هو عدم تعلق الإرادة الأزلية بالعلة التامة للضد المعدوم وهذا لا يعين انتفاء أي جزء من اجزائها ، فلعل الجزء المنتفي عدم المانع الّذي هو الضد الموجود كما هو واضح. وهذا النقاش واضح الجواب اما بصياغة الميرزا ( قده ) : فبأنه لو فرض استحالة مانعية الضد الموجود عن المعدوم اذن كان ذلك دليلا وبرهانا اخر على استحالة توقف أحد الضدين على عدم الاخر ، فان هذا التوقف انما هو باعتبار المانعية فلو فرض استحالتها استحال التوقف أيضا. وبعبارة أخرى : ان للضد المتوهم مانعيته حصتين الأولى : الحصة المقرونة مع مقتضي الضد الاخر. والثانية : الحصة المقرونة مع عدم مقتضي الضد الاخر ، والأولى من الحصتين هي التي يعقل ان تكون مانعة فيكون عدمها مقدمة للضد الآخر الا انها مستحيلة. والحصة الثانية التي يعقل وجودها لا تكون مانعة كي يكون عدمها مقدمة وواجبا وهذا واضح.

واما بصياغة المحقق الخراسانيّ ( قده ) فبان غاية ما يثبت بذلك ان الضد المعدوم لم يستند عدمه بالفعل إلى الضد الموجود وانما استند إلى عدم مقتضية وهذا لا يمنع من ثبوت التوقف من الطرفين في نفسه أي توقف الضد الموجود على عدم الاخر وكون هذا العدم متوقفا على وجود الأول وهذا هو الدور المستحيل. وبعبارة أخرى : ان هذا

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٠٧.

٣٠٨

الجواب غاية ما صنعه انه جعل التوقف من الطرفين ممتنعا بالغير مع إمكانه ذاتا في حين ان الدور ممتنع ذاتا فامتناع المانعية بالغير لا يكون دفعا لإشكال الدور واستحالة توقف الضد على عدم ضده.

المناقشة الثانية ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان وجود الضد وإن كان موقوفا على عدم الضد الاخر الا ان عدم الاخر ليس متوقفا على وجود الأول وإنما متوقف على عدم عدمه فان نقيض العلة هو علة لنقيض المعلول ونقيض كل شيء رفعه فإذا كان وجود الضد المعدوم متوقفا على عدم الموجود كان عدمه موقوفا على عدم عدم الموجود لا نفس الموجود وعدم العدم ملازم مع الوجود لا عينه كيف ويستحيل أن يكون العدم وجودا (١).

وفيه ـ أولا ـ ان المقصود من ان نقيض كل شيء رفعه ليس الا مجرد التعبير عن ان الوجود نقيض للعدم والعدم نقيض للوجود ولذلك ذكر نفسه ( قده ) فيما سبق ان المراد بالرفع ما يعم الرفع الفاعلي والمفعولي ، وقانون ان نقيض العلة علة لنقيض المعلول أيضا لا يراد به غير الوجود والعدم.

ثانيا ـ ان عدم العدم أمر اعتباري أو انتزاعي معلول للوجود نفسه فرجع التوقف على الوجود ، وليس هذا من تأثير الوجود في العدم لأن مثل هذا العدم اعتباري.

لا يقال ـ ليست علة عدم العدم الوجود بل بقانون ان نقيض العلة علة لنقيض المعلول يكون وجود العلة علة للمعلول الوجوديّ ويكون عدمها علة لعدمه ويكون عدم عدمها علة لعدم عدمه فعدم عدم المعلول معلول لعدم عدم العلة فلا نرجع إلى الوجود في تسلسل العلل كي يلزم توقف الشيء على نفسه.

فانه يقال : هذا التسلسل يؤدي بنا إلى الانتهاء في المبدأ الأول إلى واجبين بالذات متلازمين أحدهما الوجود الواجب الّذي يكون علة لوجود المعلول والثاني عدم عدمه العلة لعدم عدم المعلول وكلاهما واجب إذ لو كان عدم الواجب معلولا لوجوده فليقل بذلك في كل وجود وإن فرض كونه معلولا لشيء اخر قبله كان خلفا إذ

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٢٥.

٣٠٩

المفروض كونه المبدأ الأول ولا مبدأ قبله ، وثبوت واجبين بالذات متلازمين اما ان يدعى : استحالته من جهة برهان وحدة الواجب واستحالة تعدده ـ ولو فرض ان أحدهما عدمي أو يقال : انه محال باعتبار ان التلازم بين شيئين يكون باعتبار علية أحدهما للآخر أو كونهما معلولين لعلة ثالثة وكلاهما غير معقول في الواجب لأنه خلف.

وبهذا يتحصل برهان ان عدم العدم معلول ومنتزع عن الوجود إذ نقول : هل ان عدم عدم الواجب ممكن أم واجب؟ فان قيل : بالأول كان معلولا للوجود الواجب لا محالة على حد معلولية الأمور الاعتبارية للأمور الواقعية وإن قيل : بالثاني فان أريد من عدم العدم مجرد اللفظ المساوق مع الوجود فهو خلف وإن أريد انه أمر آخر واجب فهو مستحيل إذ يلزم منه تعدد الواجب وتلازمهما وهو مستحيل.

ثالثا ـ ان هذا النقاش غاية ما يثبت دفع توقف وجود الضد على نفسه الا انه يستلزم توقفه على عدم عدم نفسه وهو مستحيل أيضا بنكتة أخرى هي : ان في رتبة عدم عدم الشيء يكون وجود ذلك الشيء واجبا بقانون استحالة ارتفاع النقيضين فان الوجود وإن لم يكن هو نقيض العدم بناء على هذا المسلك الا أنه لا إشكال عند صاحب هذا المسلك أيضا في بداهة استحالة ارتفاع الوجود والعدم ذاتا لا بالعرض ومن جهة كون الوجود لازما لعدم العدم فيستحيل ان يكون عدم العدم علة للوجود ، إذ العلة يتعقل في الأمر الممكن في رتبة وجود العلة لا الواجب بالذات. وبعبارة أخرى : ان علية عدم العدم للوجود تكون مقيدة بفرض ثبوت عدم العدم لأن علية العلة فرع ثبوت العلة ، فسوف تكون العلية الفعلية في المقام مقيدة بثبوت عدم العدم مع انه في هذه المرتبة يكون الوجود ضروريا بالذات فتكون العلية علية مقيدة بفرض يكون المعلول فيه واجبا وهو مستحيل.

رابعا ـ ان عدم العدم إن أريد به إضافة العدم إلى واقع العدم فهو مستحيل لأن الوجود والعدم عارضان على الماهية لا واقع الوجود أو العدم ، فان اتصاف واقع الوجود بالوجود أو بالعدم وكذلك واقع العدم مستحيل لأنه يستلزم التناقض أو إثبات الشيء لنفسه ، وإن أريد انتزاع مفهوم اعتباري للعدم وإضافة العدم إليه على حد إضافته إلى الماهيات فهذا المفهوم امر اعتباري ذهني محض ويستحيل ان يكون عدمه

٣١٠

علة للوجود الحقيقي كما هو لازم نقاش هذا المحقق ( قده ).

خامسا ـ ان هذا الإشكال خلاف المدعى المعترف به لدى القائلين بتوقف الضد على عدم الضد الاخر ، فان مشهور القائلين بذلك انما يدعونه من باب التمانع والتنافي بين نفس الضدين وان توقف أحدهما على عدم الاخر من باب المانعية التي تعني ان وجود الضد الموجود هو العلة في عدم الضد المعدوم فان التنافي والتضاد بين الوجودين لا بين وجود أحدهما وعدم عدم الاخر كما هو واضح.

وهكذا اتضح صحة إشكال الدور بالنحو الثالث أيضا كصحته بالتقريب الأول.

البرهان الثامن ـ ما نستنتجه من الجواب الثالث على مناقشة المحقق الأصفهاني ( قده ) على البرهان السابق وذلك بان يقال : ان توقف أحد الضدين على عدم الاخر مستحيل في الضدين اللذين لا ثالث لهما والّذي يستحيل ارتفاعهما ، فانه في مثل ذلك يكون فرض عدم أحد الضدين هو فرض الفراغ عن وجوب الضد الاخر لاستحالة ارتفاعهما بحسب الفرض ، ومعه تكون علية عدم الضد المعدوم في وجود الضد الموجود مستحيلة لأنها علية مقيدة بفرض يخرج فيه المعلول عن الإمكان إلى الوجوب كما قلنا بذلك في توقف الوجود على عدم عدمه.

وإذا ثبت ذلك في الضدين اللذين لا ثالث لهما ثبت في الأضداد المتعددة أيضا اما بدعوى : بداهة عدم الفرق. أو بدعوى : ان في الأضداد المتعددة يكون عدم ما عدا الضد الواحد علة لوجود ذلك الضد وفي ظرف عدم مجموع الأضداد الأخرى يكون الضد الأول واجبا فيستحيل العلية.

نعم هذا البرهان لا يفيد في الضدين أو الأضداد التي يمكن ارتفاعها أي يكون لها ضد أخرى عدمي ـ إن صح التعبير عنه بالضد ـ كما في الحب والبغض اللذين يمكن ارتفاعهما بمعنى عدمهما معا فانه في مثل ذلك لا يتم البرهان المذكور فيتعين التمسك بوجدانية عدم الفرق.

لا يقال ـ ان استحالة الارتفاع في المقام ليس ذاتيا كما في ارتفاع النقيضين وانما هو امتناع بالغير وباعتبار عدم خلو المحل عن علة أحد الضدين ومعه فلعل من اجزاء العلة عدم الضد.

٣١١

فانه يقال ـ بعد افتراض ثبوت الضدين اللذين يستحيل ان يكون لهما ثالث كما هو المفروض عندهم ـ مثل حركة الجسم وسكونه فلو فرض ان استحالة ارتفاعهما تكون بالغير ومن جهة لا بدية وجود مقتضى أحدهما نقلنا الكلام إلى المقتضيين نفسيهما فلا بد وان يكون عدم ارتفاعهما معا ضروريا وهما ضدان لا محالة ، فليس هذا الا تطويلا للمسافة.

البرهان التاسع ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في تفسير عبارة الكفاية وهو يتألف من مقدمتين (١).

الأولى ـ ان النقيضين في رتبة واحدة فالسواد وعدمه وكذلك البياض وعدمه في رتبة واحدة لا في رتبتين لأنهما يختلفان على محل واحد ويكون كل منهما بديلا عنه في محله فلا يمكن ان يكونا مختلفين في الرتبة.

الثانية ـ ان ما في رتبة المتقدم يكون متقدما أيضا ، وكأن هذه قضايا قياساتها معها ، فإذا تمت المقدمتان ثبت ان أحد الضدين يستحيل ان يتوقف على عدم الاخر ، لأن عدم الاخر في رتبة وجوده بحكم المقدمة الأولى ، فإذا كان يتوقف عليه وجود الأول كان متقدما عليه رتبة فيكون وجود الاخر أيضا متقدما عليه بحكم المقدمة الثانية ، وباعتبار صدق ذلك في كل من الضدين لزم من ذلك التهافت في الرتبة بين الضدين وكون كل منهما متقدما على الاخر ومتأخرا عنه وهذا مستحيل.

وبهذا البيان لا نحتاج إلى إضافة دعوى وحدة رتبة الضدين كي نحتاج إلى الإثبات والبرهنة عليها في تقريب هذا البرهان كما فعله السيد الأستاذ ، لأن الضدين ولو فرض عدم وحدة رتبتهما يستحيل تقدم كل منهما على الاخر لأنه تهافت.

وهذا البرهان صحته موقوفة على تمامية كلتا المقدمتين المتقدمتين مع ان كلتيهما مخدوشة.

اما الأولى ـ فلان كون النقيضين في رتبة واحدة لو أريد به عدم علية أحدهما للآخر وتقدمه عليه فهذا صحيح الا انه لا يستلزم ما أفيد في المقدمة الثانية من انه لو

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٣١٢

كان أحدهما علة لشيء ومتقدما عليه كان الاخر كذلك على ما سوف نشير إليه.

وإن أريد انهما ثابتان في مرتبة واحدة بمعنى ان المرتبة التي تكون قيدا لثبوت أحد النقيضين تكون قيدا لثبوت الاخر لأن أحدهما يخلف الاخر في موضعه مثلا. فهذا ممنوع ، فان كلا من النقيضين يخلف الاخر في لوح الواقع لا في ظرف ثبوت الأول زمانا أو رتبة فإذا ثبت وجود شيء في زمان لا يكون عدمه مقيدا بذلك الزمان كما ان الشيء الثابت في مرتبة كثبوت الصاهلية مثلا في مرتبة ذات الفرس لا يكون نقيضه عدم الصاهلية المقيدة بتلك المرتبة بل النقيض عدم المقيد بذلك الزمان أو المرتبة لا العدم المقيد ، والا لزم ارتفاع النقيضين في فرض ارتفاع القيد كما هو واضح.

واما المقدمة الثانية ، فلان ما مع المتقدم إن أريد به المتقدم بالزمان صح القول بان ما مع المتقدم متقدم الا انه لا باعتباره مع المتقدم بل باعتباره بنفسه متقدما بالزمان على حد ذلك المتقدم الاخر ، وإن أريد به المتقدم في الرتبة أي المقارن مع المتقدم رتبة فان أريد بالمقارنة معنى سلبيا وهو عدم كونه علة ولا معلولا للآخر فهذا لا يقتضي ان يكون تقدم أحد المتقارنين بهذا المعنى موجبا لتقدم الاخر ، إذ ملاك التقدم انما هو العلية ولا يلزم من علية المتقدم للمتأخر ان يكون المقارن مع المتقدم علة للمتأخر أيضا.

وإن أريد بالمقارنة المعنى الثبوتي وهو التوأمية وكونهما متلازمين ومعلولين لعلة ثالثة فيرد على تطبيق هذا القانون في المقام.

أولا ـ ان وجود كل ضد وعدمه ليسا في رتبة واحدة بهذا المعنى إذ لا يمكن ان يكون النقيضان معلولين لعلة ثالثة والا اجتمع النقيضان.

وثانيا ـ ان هذا المعنى للتقارن أيضا لا يقتضي تقدم ما مع المتقدم لأن ملاك التقدم كما قلنا هو العلية وعلية أحد المتلازمين لا يستلزم علية الاخر أيضا.

ثم انه قد يفصل في القول بتوقف الضد على عدم الاخر بين الضد الموجود والضد المعدوم بنحو آخر بان يقال : ان الضد الموجود غير موقوف على عدم الضد المعدوم وانما الضد المعدوم حدوثه موقوف على ارتفاع الضد الموجود بقاء ، فالجسم لو فرض عدم وجود السواد ولا البياض فيه لا يتوقف وجود أحد الضدين فيه على عدم الآخر وإنما لو

٣١٣

كان الجسم أسود وأريد إيجاد البياض فيه توقف ذلك على رفع السواد. فيكون حدوث البياض موقوفا على ارتفاع السواد الموجود.

وهذا التفصيل لو عرضناه على البراهين السابقة لوجدنا ان بعض تلك البراهين لا بنفيه وبعضها ينفيه وبعضها انما ينفيه معلقا على الالتزام بنكتة زائدة.

فالبرهان الثالث وبرهان الدور لا ينفيان هذه الدعوى للتوقف بين الضدين ، إذ لا يلزم من توقف الضد المعدوم على عدم الموجود الدور ولا مانعية المتأخر رتبة عن الممنوع ـ وهو روح البرهان الثالث ـ إذ لا يكون المانع وهو الضد الموجود بقاء موقوفا على عدم الضد المعدوم كي يلزم شيء من ذلك.

والبرهان الخامس ينفي هذا القول لأنه كان يفترض ان اجتماع الضدين ممتنع بالذات ويستحيل افتراض المانع للممتنع بالذات ، وهذا لا يفرق فيه بين مانعية الضد الموجود عن المعدوم أو مانعية مطلق الضد.

والبرهان الأول والرابع اللذان كانا يشتركان في إثبات امتناع مانعية الضد من جهة كون وجوده في طول مانعية مقتضية تتوقف تماميتهما في المقام على القول بان الوجود البقائي بحاجة إلى العلة كالوجود الحدوثي فانه لو قبل هذا القانون ـ كما ذكرناه في فلسفتنا ـ كان الضد الموجود بقاء أيضا في طول مانعية مقتضية فيستحيل مانعيته بمقتضى ذينك البرهانين.

واما لو قيل بنظرية الحدوث في الاحتياج إلى العلة فلا بأس بان يكون الضد الموجود هو المانع عن الضد المعدوم في مرحلة البقاء. واما مقتضي الضد الموجود فيمنع عن الضد المعدوم في مرحلة الحدوث فقط ثم يرتفع.

٣١٤

الفصل الثاني :

« الضد العام »

في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام ـ أي النقيض والاقتضاء المذكور تارة يراد به العينية وأخرى التضمنية وثالثة الالتزامية.

كما ان الاقتضاء المذكور تارة يفترض بلحاظ مرحلة الإثبات والدلالة ، وأخرى بلحاظ مرحلة الثبوت. اما بلحاظ مرحلة الإثبات فلا ينبغي الإشكال في ان الأمر بشيء والنهي عن تركه يستعمل أحدهما مكان الآخر فقولك ( صل ) كقولك ( لا تترك الصلاة ) من حيث المعنى عرفا وإن اختلفا في المدلول التصوري كمفردات ، فأحدهما عين الآخر في هذه المرحلة.

واما بلحاظ مرحلة الثبوت فتارة يلحظ الحكم والاعتبار ويدعي ان اعتبار طلب الفعل يقتضي اعتبار النهي عن ضده العام ، وأخرى : يلحظ عالم الحب والبغض والإرادة والكراهة.

اما في عالم الحكم والاعتبار على القول به ، فإذا قلنا بأن النهي عن شيء عبارة عن طلب نقيضه وان نقيض الفعل الترك ونقيض الترك الفعل كان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام بنحو العينية إذ ليس النهي عن ترك ذلك الشيء غير طلب فعله حسب الفرض.

٣١٥

واما إذا قلنا ان النهي عبارة عن اعتبار الزجر مثلا والأمر عبارة عن اعتبار البعث والإرسال فلا محالة يكون أحدهما غير الآخر ، فلا يعقل اقتضاء أحدهما للآخر بنحو العينية.

واما الاقتضاء بنحو التضمن فهو موقوف على أن يكون الأمر عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك بتقريب : ان مجرد طلب الفعل لا يقتضي الإلزام فانه يلائم مع الاستحباب أيضا فلا بد وأن يكون مركبا من الطلب للشيء والمنع عن نقيضه وهو معنى تضمن الأمر بالشيء للنهي عن نقيضه.

وهذا التقريب لا ينبغي أن يورد عليه بما أفاده السيد الأستاذ وغيره : من ان الحكم أمر اعتباري والأمور الاعتبارية بسائط وليست مركبات ولا يتعقل لها جنس وفصل. ذلك ان التركب المقصود في هذا البحث الأصولي لا يراد منه التركب الماهوي المبحوث عنه في الحكمة فليكن الاعتبار أمرا بسيطا لا يتعقل فيه الأجزاء الماهوية ، مع ذلك يقول الخصم في المقام ان الأمر ينحل إلى اعتبارين اعتبار طلب الفعل واعتبار المنع من الترك.

وإنما الصحيح أن يقال : بأن إضافة المنع من الترك لا يحل من العقدة شيئا فان المنع بنفسه كالطلب ينقسم إلى لزومي وغير لزومي كما في الكراهة فلا بد من تعديله بعدم الترخيص في الترك لا المنع والحرمة ، وبعد ذلك تكون دعوى كون الاعتبار بهذا النحو عهدتها على مدعيها والمسألة بعد ذلك اعتبارية وكيفية صياغة الاعتبار أمر سهل.

واما الاقتضاء بنحو الملازمة فيرد عليه : ما قلناه في بحث مقدمة الواجب على القائل بالملازمة بلحاظ عالم الجعل والاعتبار من ان الاعتبار فعل اختياري للمولى فيكون منوطا بمبادئه الاختيارية وحينئذ لو أريد دعوى حصول الاعتبار الثاني الغيري بالاعتبار الأول بنحو التوليد ومن دون حصول مبادئه فهو خلف كونه من الأفعال الاختيارية ، وإن أريد كون الاعتبار الأول بنفسه يصبح داعيا لجعل النهي الغيري وإنشائه فهذا أيضا واضح البطلان ، إذ لا فائدة عملية من الاعتبار الثاني الغيري بعد فرض الاعتبار الأول وكون الحكم الغيري ليس موضوعا مستقلا للطاعة والداعوية كما هو واضح.

هذا كله بلحاظ عالم الحكم والاعتبار.

٣١٦

واما بلحاظ عالم الحب والبغض والإرادة والكراهة فاقتضاء حب فعل للبغض عن ضده العام يبتني على الفروض المتصورة في تفسير الحب والبغض من النّفس البشرية وهي على ما يلي :

الفرضية الأولى ـ أن يدعى عدم وجود حب أصلا وان العاطفة الموجودة لدى النّفس هي عاطفة البغض ، وهو عند ما يتعلق بترك شيء يقال عنه حب الفعل.

وبناء على هذا التفسير سوف يكون الأمر بشيء بلحاظ عالم الملاك والإرادة عين البغض عن ضده العام.

غير ان هذه الفرضية يكفينا في ردها انها خلاف ما نجده في نفوسنا بالوجدان من وجود عاطفتي الحب والبغض.

الفرضية الثانية ـ أن يدعى وجود عاطفة واحدة في النّفس وهي عند ما تضاف وتنسب إلى فعل ما يلائم الطبع سميت حبا ، وعند ما تضاف وتنسب إلى نقيضه تسمى بغضا.

وبناء على هذا الفرض أيضا سوف يكون الأمر بشيء عين النهي عن ضده العام بلحاظ عالم النّفس.

غير انها أيضا فرضية لا يمكن المساعدة عليها فانه :

أولا ـ خلاف وجدانية تعدد الحب والبغض في النّفس وإن مركز الثقل في العاطفة تارة يكون الفعل وأخرى يكون الترك.

وثانيا ـ ان عاطفة الحب والبغض من الصفات الحقيقية ذات الإضافة والتي يكون متعلقها قوامها فإذا كان هناك متعلقان الفعل والترك كان هناك عاطفتان لا محالة وصفتان في النّفس إحداهما الحب المتعلق بالمحبوب وهو الفعل والآخر البغض المتعلق بالترك المبغوض.

الفرضية الثالثة ـ أن يفترض وجود عاطفتين مستقلتين ذاتا وماهية ولكنهما تنشئان من منشأ واحد هو المصلحة والملاك أحدهما يتعلق بفعل ما فيه المصلحة ويسمى بالحب والآخر يتعلق بتركه ويسمى بالبغض وهذه الفرضية تفيد القائل بان الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده العام ، وليس فيه مخالفة للوجدان على نحو

٣١٧

الفرضية الأولى ، كما لا يوجد فيه محذور عقلي كما في الفرضية الثانية. إلا انه يبقى في ذمة التأمل الباطني للإنسان لكي يرى هل تكون هناك عاطفتان عرضيتان بالنحو المذكور في هذه الفرضية أم إنهما طوليتان كما يأتي؟

الفرضية الرابعة ـ نفس الفرضية الثالثة مع افتراض الطولية بين العاطفتين بأن يقال : ان بغض الترك يتولد من حب الفعل وفي طوله باعتبار ان الإنسان يبغض ويتألم لفوات محبوبه وما يلائم قواه.

وهذه الفرضية هي النافعة للقول بأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده العام.

ولا يرد ما أفيد من قبل الأستاذ على القول بالاستلزام للنهي الغيري : بان الحرمة الغيرية ملاكها المقدمية ولا مقدمية بين الشيء وضده العام ، (١) فان هذا مصادرة إذ مدعى القائل بالاستلزام ان هناك ملاكا آخر للحرمة الغيرية وهو كون الشيء نقيض المحبوب والمطلوب ، فكما ان المقدمية للمحبوب ملاك للوجوب الغيري كذلك كون الشيء نقيضا له ملاك للحرمة الغيرية التبعية كما هو واضح (٢).

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٤٩.

(٢) لعل الأوفق ربط هذه المسألة بما يسلك في حقيقة الحكم وروحه فان كان الحكم عبارة عن المحبوبية والمبغوضية كصفتين تكوينيتين في عالم نفس المولى أمكن دعوى ان حب شيء يستلزم بغض نقيضه ولو في طوله وان كان الحكم عبارة عن الإرادة والكراهة كفعلين نفسانيين للمولى فلا يعقل الاقتضاء لعين ما ذكر من البرهان على عدم الاقتضاء بلحاظ مرحلة الجعل والاعتبار هنا وفي بحث مقدمة الواجب ، وان كان الحكم عبارة عما يتصوره المحقق الأصفهاني قده من ان حقيقة الحكم هو البعث والتحريك أو الزجر والمنع بالحمل الشائع أمكن دعوى الاقتضاء بنحو العينية لأن الدفع والإرسال إلى أحد النقيضين بالحمل الشائع بنفسه منع وصد عن الآخر ، وبما ان الأوفق من هذه المباني أوسطها فالصحيح عدم الاقتضاء هنا أيضا.

واما مأخذ صحة هذا المبنى فقد شرحناه في تعليق سابق ونوضحه هنا بأن الوجدان يحكم ان روح الحكم وحقيقته متقومة بتوجه المولى وإرادته النفسانيّة التي هي من مقولة أفعاله فلا بد من تعلق ذلك بفعل أو ترك حتى يتحقق ما هو حكم يدخل في عهدة المكلف بحكم العقل من دون ان يرتبط بذلك سائر العناصر الأجنبية عن حقيقة الحكم كالمصلحة والمفسدة أو الحب والبغض أو الاعتبار فان هذه الأمور ليست مطردة في تمام الموارد لوضوح عدم اختصاص الحكم بما إذا كان هناك صياغة قانونية اعتبارية ولا بموارد وجود مصلحة أو مفسدة إذ قد لا يدرك المولى العرفي الصياغة القانونية كما انه قد لا يشخص مصلحته أو تكون المصلحة غالبية لا دائمية في تمام موارد الأمر كما ان الحب والبغض لو أريد منهما الحب والبغض الطبعيان فقد لا يكون للمولى طبع كذلك اما لاستحالته فيه ونزاهته كما في المولى الحقيقي أو لصدور أمره من جهة الاضطرار أو دفع المضرة ، ولو أريد بهما ما قد يسمى بالحب والبغض العقليين فلا نفهم لهما معنى سوى المصلحة والمفسدة أو إعمال السلطة والإرادة الّذي ذكرنا انه من مقولة الفعل. وتحقيق حال حقيقة الحكم مطلب أساسي ومهم يترتب عليه جملة من الأنظار والمباني الأصولية خصوصا في بحوث الاستلزامات العقلية.

٣١٨

الفصل الثالث

« ثمرة مسألة الضد »

في ثمرة البحث عن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده وقد ذكر لذلك ثمرتان :

أولاهما ـ فيما إذا تزاحم واجب مضيق مع واجب آخر عبادي موسع كما لو تزاحمت الإزالة الفورية مع الصلاة في جزء من الوقت فانه في مثل ذلك لا إشكال في فعلية الوجوب المضيق ، وحينئذ بناء على اقتضاء الأمر بالإزالة للنهي عن ضده الخاصّ تقع تلك العبادة الموسعة فاسدة إذا ما أوقعت في وقت الواجب المضيق لكونها منهيا عنها والنهي ولو كان غيريا يقتضي الفساد واما لو أنكرنا الاقتضاء فلا تقع فاسدة.

وثانيتهما ـ فيما إذا تزاحم واجبان مضيقان وكان أحدهما أهم من الآخر وكان المهم عباديا فانه في مثل ذلك أيضا تقع العبادة فاسدة بناء على الاقتضاء بينما تكون صحيحة بناء على عدم الاقتضاء.

وقد أورد على الثمرتين باعتراضين رئيسين :

الاعتراض الأول ـ انه على القول بإنكار الاقتضاء أيضا لا تقع العبادة صحيحة لأنها وإن لم تكن منهيا عنها غير انه لا امر بها إذ لا يعقل الأمر بها مع طلب ضدها ويشترط في صحة العبادة الأمر فالثمرة غير موجودة في الفرعين.

وقد نوقش في هذا الاعتراض بوجوه :

٣١٩

الوجه الأول ـ ما ذكره المحقق الثاني ( قده ) وأوضحه شراح كلامه ممن تأخر عنه وحاصله :

ان الثمرة في الفرع الأول موجودة إذ لا مانع بناء على عدم الاقتضاء من الأمر بالإزالة والأمر بجامع الصلاة الموسعة في ذلك الوقت أو غيره إذ لا تضاد بين الجامع المذكور وبين الإزالة وانما التضاد بينها وبين الفرد من الصلاة الواقع في خصوص ذلك الوقت وليس هو المأمور به في الفرع الأول وانما المأمور به هو الجامع الّذي ينبسط قهرا على الفرد المزاحم أيضا فيكون مجزيا عقلا.

واما بناء على الاقتضاء فسوف يكون ذلك الفرد منهيا عنه وهو لا يجتمع مع الأمر بالجامع المنطبق عليه لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد (١).

والمحقق النائيني ( قده ) لم يرتض هذا التصحيح من المحقق الثاني ( قده ) للثمرة بناء على تقدير وارتضاه بناء على تقدير آخر ، حيث أفاد : بان اعتبار القدرة في التكليف إن كان من باب حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور لأنه إحراج للمكلف على المخالفة مثلا صح ما ذكر ، إذ على هذا الأصل يمكن أن يقال ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب بنحو لا يلزم من التكليف الإحراج المذكور ، وهذا يكفي فيه القدرة على بعض أفراد الواجب الموسع فيبقى تعلق التكليف بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسع معقولا إذ لا يلزم منه المحذور العقلي فيكون الفرد المزاحم فردا من المأمور به أيضا.

واما إذا قلنا باعتبار القدرة في الخطاب من جهة اقتضاء نفس التكليف لذلك لأنه عبارة عن جعل الداعي للمكلف نحو الفعل وهو لا يكون إلا بلحاظ ما يعقل جعل الداعي إليه وهو الأمر المقدور فلا محالة يتضيق الخطاب بحدود ما يكون مقدورا من متعلقه فلا يكون هناك أمر بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسع لأنه لا قدرة عليه شرعا بحسب الفرض فلا يقع فردا من المأمور به (٢).

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) نفس المصدر ، ص ٥٤.

٣٢٠