بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

النائيني ( قده ) والجواب : ما سنذكره في بحث الواجب المشروط من إنكار وجود عالم حقيقي باسم عالم المجعول ، لأنه لو أريد بالمجعول الّذي يفرض تحققه بعد تحقق الجعل حين فعلية موضوعه وجود شيء نسبته إلى الجعل انه مجعول ذلك الجعل ، فهذا غير معقول ، لأن الجعل والمجعول كالإيجاد والوجود شيء واحد مختلفان بالاعتبار والإضافة. ولو أريد وجود شيء نسبته إلى الجعل نسبة المسبب والمقتضى إلى المقتضي والسبب والّذي قد يتأخر عنه في الوجود ، فان أريد بذلك حصول مسبب في الخارج فهو واضح البطلان ، وان أريد حصول مسبب وحالة في نفس المولى حين تحقق الموضوع نسميه بالوجوب الفعلي فهو أيضا واضح الفساد ، إذ يكفي في فعلية الحكم تحقق الموضوع في الخارج ولو لم يطلع المولى عليه ولم يلتفت إليه أصلا أو اعتقد خطأ عدمه ، فليس الوجوب الفعلي ـ المجعول ـ الا امرا تصوريا بمعنى ان الجاعل عند ما يجعل الوجوب على المستطيع يرى بنظره التصوري وبالحمل الأولى كأنه قذف بهذا الوجوب على المستطيع عند ما يصبح مستطيعا. وبهذا أنكرنا ما اصطلحوا عليه بالوجوب الفعلي أو فعلية الوجوب ، فان كل وجوب فعلي منذ فعلية جعله. نعم تحصل هناك فاعلية ومحركية عقلا لهذا الجعل عند ما يتحقق موضوعه في الخارج وينطبق على المكلف ، فباب المجعول ليس أكثر من باب الانطباق والانتزاع ولا ربط له بباب التأثير والتأثر ، وباب الانطباق والانتزاع ثابت بقطع النّظر عن الحكم والوجوب من قبل المولى ، فيقال مثلا فلان سيغتسل في الليلة القادمة ، ولا يعني ذلك تأثير شيء متأخر في زمان متقدم.

واما بلحاظ عالم الملاك ، فقد يتصور صعوبة دفع الإشكال فيه ، باعتبار ان شرط الوجوب ـ على ما تقدم ـ يكون مؤثرا في اتصاف الفعل بأنه ذو ملاك ومصلحة ، وهو امر تكويني خارجي يكون المؤثر فيه الشرط بوجوده الخارجي لا اللحاظي ، فيلزم محذور تأثير المتأخر في المتقدم.

والجواب ـ أن الشرط المتأخر يمكن ان يفترض دخله في الملاك والحاجة إلى الواجب المتقدم بأحد نحوين :

١٨١

١ ـ ان يكون دخيلا في احتياجه إلى الواجب المتقدم لا في الزمن المتقدم بل في زمن الشرط الا أن المحتاج إليه هو اما جامع الفعل ـ كالصوم في المثال الأعم من الواقع في اليوم المتقدم ، والمتأخر ، فلا محالة يكون الوجوب بلحاظ أول أزمنته ، متقدما على الشرط ، أو خصوص الفعل المتقدم لخصوصية فيه تفوت على المكلف إذا لم يفعله في اليوم المتقدم ، كما إذا رأى المولى ان عبده سيحتاج في الشتاء إلى شراء الفحم مثلا الا انه لا يمكنه شراؤه إذا جاء الشتاء فيوجب عليه شراء الفحم في الصيف شريطة بقائه حيا في الشتاء.

٢ ـ ان يكون الاحتياج حاصلا في زمان الواجب المتقدم وليس الشرط المتأخر هو الّذي يولد الاحتياج ، الا أنه يكون عدم تحققه فيما بعد موجبا لمفسدة أشد ، فمثلا لو كان لشرب دواء فائدة ولكنها مشروطة بعدم عروض الإنسان للبرد بعد ذلك والا كان مضرا فيشترط في شرب ذلك الدواء في الزمان المتقدم عدم تعرضه للبرد في الليلة القادمة ، ولهذا أمثلة عرفية كثيرة.

اما المقام الثاني ـ وهو الشرط المتأخر للواجب كما إذا افترضنا غسل المستحاضة في ليلة الأحد شرطا لصحة صومها يوم السبت لا لوجوبه.

والإشكال هنا بلحاظ عالم الواجب بما هو واجب واضح الاندفاع ، لأنه يرجع بحسب الحقيقة إلى تحصيص الواجب بخصوص الحصة التي يعقبها الشرط ، وهذا ليس بابه باب الشرط والتأثير حقيقة ليقال كيف أثر المتأخر في الشيء المتقدم ، وانما بابه باب تحصيص المفهوم المأخوذ في متعلق الأمر ، والمفهوم كما يمكن تحصيصه بقيد متقدم أو مقارن كذلك يمكن تحصيصه بقيد متأخر.

واما الإشكال على مستوى الملاك والمصلحة فالشرط بلحاظ الملاك يكون شرطا بالمعنى الحقيقي ، أي مؤثرا في تحصيل الملاك كما تقدم في شرح مقدمة الواجب والفرق بينها وبين مقدمة الوجوب ، وحينئذ يجري ما ذكر في وجه استحالة الشرط المتأخر.

وقد أجاب صاحب الكفاية ( قده ) على الإشكال في المقام : بأن الملاك لو كان عبارة عن المصلحة استحكم الإشكال ، لأن المصلحة أمر واقعي ووجود تكويني في الخارج يستحيل ان يؤثر فيه امر متأخر عنه ، واما إذا كان الملاك عبارة عن الحسن

١٨٢

والقبح اللذان هما من المقولات الاعتبارية الواقعية بحسب تعبيراتهم ، ومن موجودات لوح الواقع بحسب تعبيراتنا ، فبالإمكان استناده إلى شرط من سنخه كعنوان تعقب الغسل مثلا فعنوان تعقب الشرط أو مسبوقية الفعل به وتقدمه عليه يمكن ان ينتزع منه العقل الحسن أو من خلافه القبح والقبلية تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل وهي حاضرة دائما لدى العقل فيصبح الشرط مقارنا في الحقيقة (١).

والواقع ان الشرط المتأخر في باب المصالح والمفاسد ثابت أيضا ومعقول ولا يختص باحكام المولى تعالى التي قد تكون بملاك الحسن والقبح العقليين ، فالطبيب قد يأمر المريض بشرب دواء مشروطا بشيء متأخر ، فلا بد من استئناف جواب آخر عام في سائر موارد الشرط المتأخر.

والتحقيق : ان الإشكال نشأ من افتراض ان المأمور به هو المقتضي للمصلحة المطلوبة كصحة المزاج مثلا في مثال المريض ، وان الأمر المتأخر هو الشرط في تحقق تلك المصلحة ، فيقال لو فرض تحقق المصلحة حين المقتضي لزم تأثير المتأخر في المتقدم ولو فرض تحققها حين الشرط لزم تأثير المقتضي بعد انقضائه وكلاهما محال ، الا أن هناك فرضا آخر ينحل به الإشكال ، وهو ان ما فرض مقتضيا للمصلحة المطلوبة ليس مقتضيا لذلك بالمباشرة بل ذلك يوجد أثرا معينا يكون الحلقة المفقودة بين هذا المأمور به والمصلحة المطلوبة ، وذلك الأثر يبقى إلى زمان الشرط المتأخر ، فبمجموعهما يكتمل اجزاء علة المصلحة المتوخاة فتحصل المصلحة ، فشرب الدواء مثلا يولد حرارة معينة في الجسم وتلك الحرارة تبقى إلى زمان المشي أو الامتناع عن الطعام مثلا فتؤثر في الصحة المزاجية المطلوبة ، وهذا شيء مطرد في كل المقتضيات التي يظهر أثرها بعد انضمام شرط متأخر يحصل بعد فقدان ذلك المقتضي ، فنعرف عن هذا الطريق وجود حلقة مفقودة هي المقتضي للأثر المطلوب لا هذا الّذي سمي بالمقتضي ، بل هذا مجرد موجد لذلك المقتضي والمفروض الفراغ عن إمكانية بقاء الأثر بعد زوال المؤثر بواسطة حافظات أخرى لذلك الأثر ، فانه لا إشكال عند أحد في بقاء البناء على وضعه الّذي

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

١٨٣

بني عليه بعد فناء البناء ، ولو بحافظية الجاذبية وتماسك اجزاء البناء وانما الإشكال في المقام من ناحية الشرط المتأخر. فيظهر بهذا البيان ان ما هو الشرط بحسب الحقيقة ليس متأخرا ، وهذا إذا صح في الأمور التكوينية فليكن الأمر التعبدي المولوي بالصوم مع اشتراط الغسل في الليل من هذا الباب.

واما المقام الثالث ـ أي الشرط المتقدم الّذي استشكل فيه صاحب الكفاية ، فقد ذكر ان حاله حال الشرط المتأخر ، فان العلة بتمام اجزائها يجب ان تكون مقارنة مع المعلول لا متأخرة ولا متقدمة عليه فلو تقدم بعض اجزاء العلة ثم أثر بعد انقضائه كان معنى ذلك تأثير المعدوم في الموجود (١).

أقول : ان حل المطلب ما عرفته من انه إذا تكلمنا بلحاظ ذات الواجب فالشرط يكون بمعنى التحصيص ، وإذا تكلمنا بلحاظ الملاك فهناك حلقة مفقودة توجد بالشرط وتبقى لكي تكمل عند اقترانه بالواجب.

ثم ان الأصحاب لم يستشكل منهم أحد في الشرط المتقدم حتى من استشكل في الشرط المتأخر ، فكأنهم وجدانا يجدون فرقا بينهما مع ان إشكال المحقق الخراسانيّ ( قده ) برهان متين ، فان العلة بتمام اجزائها كما لا يمكن تأخرها عن المعلول كذلك لا يمكن تقدمها عليه ، ولهذا تصدى المحقق الأصفهاني (ره) والسيد الأستاذ للجمع بين هذا الوجدان وذلك البرهان بدعوى : أن الشرط قد يكون مقدمة إعدادية وهي لا يستحيل تقدمها على المعلول زمانا (٢). وقد أوضح ذلك المحقق الأصفهاني : بان الشرط إذا كان متمما لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل فلا بد وان يكون مقارنا مع المعلول ، واما إذا كان معدا بمعنى مقربا للشيء من الامتناع نحو الإمكان حتى إذا تحققت علته صار موجودا ، كمن يريد الجلوس على الكرسي فيتقدم بخطوات نحوه لكي يتمكن من الجلوس عليه ، فان هذه الخطوات يمكن أن تكون متقدمة على المعول وهو الجلوس على الكرسي ، لأنها غير دخيلة لا في قابلية القابل ولا في فاعلية الفاعل (٣).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٥.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٣) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٧٠.

١٨٤

وهذا الكلام رغم اشتهاره لا يرجع إلى محصل عندنا ، لأنه إذا أريد بتقريب الشيء من الامتناع إلى الإمكان تقريب الشيء الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين إلى الإمكان فهذا خلف كونه ممتنعا بالذات ، وان أريد تقريبه من الامتناع بالغير أي الامتناع بعدم علته فهذا لا يعقل الا بتقريبه إلى علته بان يكون شرطا دخيلا في وجوده ، فبوجوده يقترب الشيء إلى الإمكان الّذي هو في مقابل الامتناع بعدم العلة ، وحينئذ يقال بأنه كيف يكون دخيلا في وجوده وهو متقدم أو متأخر عنه في الوجود؟ وان أريد به ما يسمونه بالإمكان الاستعدادي فيقال مثلا ان البيضة يمكن ان تصبح فرخ دجاجة لكن ذلك بحاجة إلى استعداد خاص في البيضة ، وهذا الإمكان والاستعداد والتهيؤ يوفر في البيضة من خلال إعطائها درجة من الحرارة والدفئ مثلا ، ففيما نحن فيه يفترض ان الشرط المتقدم يعطي للشيء الإمكان الاستعدادي لإيجاد المصلحة خارجا إن أريد هذا المعنى ـ قلنا : ان هذا الاستعداد والتهيؤ ان فرض امرا اعتباريا فمن الواضح ان الأمر الاعتباري لا يمكن ان يكون دخيلا حقيقة في إيجاد شيء في الخارج وهو المصلحة ، وان فرض امرا حقيقيا وحالة خارجية تنشأ في البيضة مثلا وتبقى إلى ان تأتي سائر اجزاء العلة فهذا في الحقيقة شرط مقارن ويرجع إلى الشيء الّذي ذكرناه في تفسير هذا النوع من الشرائط التي سميت عندهم بالإمكان الاستعدادي ولا مشاحة في التسمية.

١٨٥
١٨٦

الفصل الثاني ـ في تقسيمات الواجب

الواجب المشروط

منها ـ تقسيمه إلى الواجب المشروط والواجب المطلق :

فالحج مثلا واجب مشروط بما هو واجب أي مشروط وجوبه بالاستطاعة ومطلق من حيث الزوال ، بينما صلاة الظهر واجب مشروط بالزوال ومطلق من حيث الاستطاعة.

وقد وقع البحث في إمكان الواجب المشروط عقلا تارة : بلحاظ عالم الثبوت أي في معقوليته في نفسه ، وأخرى ، بلحاظ عالم الإثبات وإبراز الإيجاب بصيغة الأمر وإمكان إرجاع الشرط إلى مدلولها. فالبحث في مقامين.

المقام الأول ـ في الواجب المشروط في عالم نفس الأمر وبقطع النّظر عن الإبراز ، وفي هذا المقام توجد بحسب الحقيقة ثلاث مراحل.

١ ـ مرحلة الملاك.

٢ ـ مرحلة الإرادة والشوق.

٣ ـ مرحلة الجعل والاعتبار.

فلنتتبع الواجب المشروط في كل واحدة من هذه المراحل فنقول :

اما بلحاظ مرحلة الملاك فلا إشكال في معقولية ان يكون الملاك والحاجة إلى شيء

١٨٧

مشروطا بتحقق شيء آخر ، كالحاجة إلى شرب الماء المشروط بالعطش ، والنار بالبرد.

واما بلحاظ المرحلة الثانية ، وهي مرحلة الشوق والإرادة ، فبعد الفراغ عن أصل وجود إرادة وشوق مشروط بشيء كإرادة الدواء مشروطا بالمرض ، يقع البحث في كيفية تخريج وتفسير هذه الإرادة. وهنا نظريات عديدة.

النظرية الأولى ـ وهي المنسوبة إلى تقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) ويظهر من المحقق الخراسانيّ والسيد الأستاذ متابعته عليها (١). من ان الإرادة المشروطة كالإرادة غير المشروطة كلتاهما إرادة فعلية موجودة في أفق نفس المريد بالفعل ، فلا فرق بينهما من حيث نفس الإرادة وانما الفرق من حيث المتعلق فالإرادة المطلقة لا قيد في متعلقها بينما المشروطة يكون متعلقها مقيدا ، فالقيد راجع إلى المراد لا الإرادة ، والإنسان يريد شرب الدواء المقيد بحالة المرض الا أن هذا القيد قد أخذ على نحو لا تسري الإرادة من المقيد إليه ، كما إذا أخذ وجوده الاتفاقي وفي نفسه قيدا ومعه لا يعقل سريان الإلزام إليه من قبل الإرادة ، وهكذا ترجع هذه النظرية الشرط في الإرادة المشروطة إلى المراد.

ورغم ان هذا خلاف الوجدان القاضي بعدم رجوع القيد إلى المراد ، وان الفرق بين الإرادتين المشروطة والمطلقة في نفسيهما ، الا ان ما دعى جملة من المحققين إلى اختيار هذه النظرية على ما يظهر من كلماتهم في المقام أحد دليلين.

أحدهما ـ الدليل الوجداني من ان المولى إذا التفت إلى نفسه بالنسبة لشيء ما فاما ان يريده أو لا يريده ، فان لم يرده خرج عن محل البحث ، فانا نتكلم في ما يريده المولى ، وان اراده فقد افترضنا منذ البدء ان الإرادة قد وجدت فكيف يفترض فيها انها معلقة على وجود شيء آخر؟.

وهذا المقدار من البيان واضح الاندفاع ، لأنه ان أريد من الإرادة الإرادة المطلقة وغير المنوطة فافتراض كون صورة عدم الإرادة خارجة عن محل البحث أول الكلام ، بل البحث يكون في هذه الصورة لنرى انه عند عدم الإرادة المطلقة هل يتعلق إرادة منوطة ومقيدة أم لا ، وان أريد من الإرادة ما يشمل الإرادة المنوطة والمقيدة فصورة

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٢٥.

١٨٨

عدمها وان كان خارجا عن محل البحث الا ان صورة وجودها لا تعني فعلية الإرادة كما أفيد.

وربما يطور هذا البيان الوجداني إلى دعوى : ان فرض عدم الإرادة نهائيا خارج عن محل البحث ، فلا بد من فرض وجود إرادة في الجملة. وحينئذ يقال : هل ان هذه الإرادة في باب الإرادات المشروطة فعلية قبل تحقق الشرط أم ليست فعلية؟ فان فرض انها فعلية فلا بد من رجوع القيد فيها إلى المراد لا محالة وهو المطلوب ، وان فرض انها ليست فعلية فهذا خلاف الوجدان القاضي بوجود فرق قبل تحقق الشرط ـ كالإنسان قبل مرضه ـ بين من يريد شرب الدواء على تقدير المرض ومن لا يريده ، فهذا يدل على فعلية الإرادة قبل الشرط أيضا.

والجواب : ان إشباع هذا الوجدان لا ينحصر وجهه برجوع القيد إلى المراد لا نفس الإرادة على ما سوف يأتي توضيحه.

ثانيهما ـ الدليل البرهاني ـ ان نفس تصدي المولى وتحركه نحو طلب الفعل من العبد بنحو الواجب المشروط قبل تحقق الشرط برهان على فعلية الإرادة في نفس المولى ، لأن تشريع الإيجاب مقدمة بحسب الحقيقة وتصد من المولى لإيجاد المراد خارجا ، ولا يمكن ان تترشح الإرادة نحو المقدمات الا بعد فرض فعلية الإرادة.

والجواب : ما ذكرنا من ان وجه هذا لا ينحصر فيما ذكر من رجوع الشرط إلى المراد بل يمكن تفسيره على أسس أخرى أيضا ، من قبيل كونه من المقدمات المفوتة.

وهكذا يتضح : ان هذه النظرية لا تمتلك دليلا يبررها لا وجدانا ولا برهانا ، بل هناك برهان على خلافها.

وحاصله : ان فعلية الإرادة نحو المقيد تقتضي فعلية الشوق والإرادة نحو قيده لا محالة ، وما ذكر من ان القيد مما يحصل من نفسه واتفاقا لا من ناحية إلزام المولى وإرادته انما يصحح عدم إلزام المولى لعبده لا عدم شوقه وإرادته لذلك القيد ، اللهم الا ان يؤخذ القيد خصوص ما لا يشتاق إليه المولى بالشوق الغيري التبعي وهذه شرطية مستحيلة في نفسها ، لأنها تعني التفكيك بين الاشتياق إلى شيء والاشتياق إلى مقدمته.

النظرية الثانية ـ ما يظهر من كلمات المحقق العراقي ( قده ) من ان الإرادة المشروطة

١٨٩

كالمطلقة فعلية من أول الأمر ، كما هو الحال على النظرية الأولى ، ولكنها تختلف عنها في ان النظرية الأولى كانت تفترض فعلية الإرادة ورجوع القيد إلى المراد الا ان هذه النظرية تقبل ان الشرط راجع إلى الإرادة ولكنها تفترض ان الإرادة تكون فعلية لفعلية شرطها ، لأن شرطها ليس وجود القيد خارجا بل لحاظه ووجوده الذهني في أفق نفس المولى وهو فعلي حين فعلية الإرادة ، نعم فاعلية هذه الإرادة الفعلية عقلا مشروطة بتحقق الشرط خارجا ، وكأن منشأ هذه النظرية ان الإرادة من موجودات عالم النّفس فلا بد وان يكون شرطه المؤثر فيه من سنخه وعالمه لا من عالم آخر وهو العالم الخارجي (١).

وفيه : ان ما ذكر من ان الإرادة من موجودات عالم النّفس لا الخارج فلا بد وان يكون شرطه كذلك أيضا وان كان صحيحا الا انه لا يعني ان يكون مجرد لحاظ وتصور الشرط الخارجي شرطا للإرادة ، بل التصديق بوجوده والإحساس به هو الّذي يكون شرطا في انقداح الإرادة في النّفس. والوجدان قاضي بأن مجرد تصور العطش لا يكفي لحصول الإرادة نحو شرب الماء ولا يحدث شوقا ، كيف والشوق بحسب تركيب الإنسان انما ينشأ من ملائمة قوة من قوى النّفس وحاجة من حاجاته مع شيء يكمله ويجبر النقص الّذي يحس به ، والمرتوي بالفعل لا يناسب الماء مع قواه بل قد يكون مضرا بحاله ، والشوق فرع الملائمة حقيقة لا تصور الملائم.

النظرية الثالثة ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) من ان الإرادة المشروطة كالمطلقة فعلي من أول الأمر ـ كما هو الحال على النظريتين السابقتين ـ الا ان وجود الإرادة المشروطة تعني وجود إرادة معلقة بينما وجود الإرادة المطلقة تعني وجود إرادة فعلية وغير معلقة ، فالوجود للإرادة في كليهما فعلي الا أن الموجود في المشروطة معلق وفي المطلقة فعلي ، وهذا نظير وجود حرمة فعلية لشرب الخمر ووجود حرمة معلقة على الغليان لشرب العصير العنبي في الأحكام الاعتبارية.

وفيه : ان التفكيك بين الوجود والموجود غير معقول ، لأن الوجود عين الموجود بذلك الوجود فيستحيل ان يكون أحدهما معلقا والآخر فعليا ، نعم يصح هذا التفكيك في

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٥ ـ ١٠٨.

١٩٠

الوجودات الاعتبارية العنوانية التي لا يكون الموجود فيها حقيقيا بل مسامحيا واعتباريا ، كباب الجعل والمجعول ، الا ان الكلام في المقام ليس في الجعل بل في الإرادة والشوق الّذي هو من مبادئ الجعل وهو وجود حقيقي في عالم النّفس فيستحيل ان يكون وجوده فعليا والموجود استقباليا.

والتحقيق ، في تفسير حقيقة الإرادة المشروطة ان يقال : توجد في موارد الإرادة المشروطة بحسب الحقيقة إرادتان.

إحداهما ـ إرادة الفعل المفروض وجود شرط له كشرب الماء المشروط بالعطش ، وهذه الإرادة ليست فعلية قبل تحقق الشرط بحسب الوجدان ، بل تتحقق عند تحقق الشرط في ذهن الإنسان ان كان من الموجودات الحضورية لدى نفس المريد ، أو عند تحقق التصديق بحصوله في الخارج ، ومن دون ذلك لا توجد هذه الإرادة ، لما ذكرناه من ان الشوق الحقيقي إلى شيء انما يحصل عند ملائمة قوة من قوى النّفس مع ذلك الشيء والإحساس بالحاجة إليه.

الثانية ـ إرادة مطلقة وفعلية قبل وجود الشرط أو التصديق به خارجا ، وهذه غير متعلقة بنفس الفعل ـ وهو شرب الماء في مثال العطش ـ بل بالجامع بين شرب الماء وعدم العطش ـ الارتواء ـ أي انها متعلقة بعدم تحقق المجموع من شرط الوجوب وعدم الواجب ، فهذا الاجتماع مبغوض لديه بالفعل لمنافرته مع قواه فتنقدح في نفسه شوق فعلي نحو ان لا يقع هذا المجموع المركب ، وهذه الإرادة غير إرادة الجزاء على تقدير الشرط ولا تبعث نحوه وانما تبعث نحو الجامع ، ولذا لو علم انه إذا صعد على السطح عطش عطشا لا يمكنه شرب الماء كان ذلك داعيا لعدم صعوده ، بينما إرادة شرب الماء لا دور لها في عدم الصعود على السطح وانما تدعو نحو شرب الماء ، وكأن إحساس القوم وجدانا بان هناك شيئا من الشوق قبل تحقق الشرط وعدم التفاتهم إلى هذه الإرادة المتعلقة بالجامع جعلهم يتخيلون ان تلك الإرادة المشروطة فعلية من أول الأمر.

ومن خلال هذا التحليل يظهر : ان الإرادة المشروطة في الحقيقة تطور للإرادة المطلقة فإرادة شرب الماء على تقدير العطش تطور لإرادة الارتواء الّذي يتحقق بالجامع بين عدم العطش وشرب الماء على تقدير العطش ، فان إرادة هذا الجامع ذات اقتضاء

١٩١

تخييري لإعدام الشرط ـ كما في مثال عدم الذهاب على السطح ـ أو الجزاء على تقدير الشرط ـ كما إذا عطش وكان يمكنه شرب الماء ـ وبهذا يظهر الجواب الفني التفصيليّ على ما جعل برهانا عندهم على فعلية الإرادة قبل تحقق الشرط من انه لو لم تكن الإرادة فعلية وثابتة قبل الشرط فكيف يتصدى المريد لجعل الخطاب والأمر من أول الأمر مع ان الخطاب والجعل من مقدمات المراد ولا يعقل التحرك نحوها من دون فعلية الإرادة ، فانه قد اتضح ان الباعث على الخطاب والجعل هو الإرادة الثانية المتعلقة بالجامع ، والتي هي فعلية قبل تحقق الشرط وبعده وتتطور وتتحول إلى إرادة متعلقة بالجزاء كلما تحقق الشرط في الخارج ، وسوف يأتي مزيد شرح لهذا الموضوع. ثم انه ان قلنا بان الحكم في عالم الثبوت ليس له عدا مرحلتين ـ مرحلة الملاك ومرحلة الإرادة والشوق ـ فهما روح الحكم وبعد تماميتها يبرز المولى هذه الإرادة إبرازا للمكلفين ، اما بصياغة إخبارية بان يقول ( أريد كذا ) أو بصياغة إنشائية كقوله ( افعل كذا ) لم يبق مجال لبحث آخر بلحاظ عالم الثبوت في الواجب المشروط ، وكان الحكم عبارة عما يستكشف من إبراز المولى الاخباري أو الإنشائي من الإرادتين. وان قلنا بان هناك مرحلة ثالثة ثبوتا اسمها الجعل والاعتبار وقع البحث في حقيقة الواجب المشروط بلحاظها أيضا.

وقد يستشكل : بان الواجب المشروط إذا رجع بحسب روحه إلى إرادة متعلقة بالجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء اذن سوف لن يمكن إجراء البراءة عن الواجب المشروط عند الشك في تحقق شرطه خارجا ، للقطع بالتكليف بالجامع والشك في حصوله من جهة الشك في حصول أحد فرديه ، بل لا بد من الرجوع إلى أصل آخر مؤمن كاستصحاب عدم تحقق الشرط مثلا.

والجواب ـ اما إذا قلنا بوجود المرحلة الثالثة للحكم ، أعني عالم الجعل والاعتبار ، فحينئذ سوف تكون أدلة البراءة ـ الشرعية طبعا ـ ناظرة إلى الحكم بحسب هذا العالم ومحمولة عليه ، واما إذا لم نقل بذلك فأيضا تجري البراءة عند الشك في الشرط لأن أشواق المولى وإرادته لا تدخل كلها في عهدة المكلفين الا بمقدار ما يتصدى المولى نفسه لتسجيله والمطالبة به وجعله في عهدة عبيده ، وفي الواجب المشروط المقدار الّذي

١٩٢

يستفاد من دليله تسجيله على ذمة المكلفين ومطالبتهم به انما هو فعل الجزاء على تقدير الشرط ، أي الإرادة المشروطة ، فلا تشتغل ذمة المكلفين الا بهذا المقدار ، فإذا شك في تحقق شرط هذه الإرادة جرت البراءة. اما لما ذا لا يدخل المولى أكثر من هذا المقدار في عهدة المكلفين ؛ فيتصور لذلك ملاكات عديدة من كون الشرط غير مقدور للمكلفين ، أو ان الملاك في الوجود الاتفاقي الحاصل من غير ناحية إلزام المولى ، أو وجود مصلحة في إطلاق العنان وعدم كون العبد ملزما من ناحية الشرط بل من ناحية الجزاء على تقدير تحقق الشرط فقط.

واما المرحلة الثالثة ـ وهي عالم الجعل والاعتبار على القول به ـ كما هو المتعارف عقلائيا في الأحكام المجعولة على نهج القضايا الحقيقية والقانونية ـ فالواجب المشروط بلحاظ هذه المرحلة أيضا يقع البحث في إمكانه أو لزوم رجوع الشرط فيه إلى الواجب.

والصحيح : إمكان رجوع الشرط إلى الوجوب في هذه المرحلة أيضا بل لزومه في ما يسمى بقيود الاتصاف ـ أي قيود اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ـ وفي قيود الترتب إذا كانت غير اختيارية ، ومعني أخذها في الوجوب إناطة الوجوب بمعنى المجعول بها رغم فعلية الجعل والإيجاب ، ولا محذور فيه بعد ان كان المجعول من الأمور الاعتبارية العنوانية ، فيكون إيجاده فعليا والموجود بهذا الإيجاد والجعل تعليقيا مشروطا بتحقق شيء في الخارج.

وقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) ان حال الواجب المشروط حال القضايا الحقيقية من قبيل ( النار حارة ) فكما ان لهذه القضايا مرحلتين مرحلة القضية الشرطية الصادقة حتى مع كذب طرفيها ومرحلة القضية الحملية في طرف الجزاء التي تكون فعلية عند فعلية الشرط فكذلك الحال في الواجب المشروط تكون للحكم الشرعي مرحلتان مرحلة الجعل التي ترجع إلى قضية حقيقية شرطية ومرحلة المجعول التي ترجع إلى قضية فعلية للوجوب عند تحقق الشرط في الخارج (١).

وهذه المقايسة بين القضية الحكمية الشرعية والقضية الحقيقية التكوينية بلحاظ

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٢٤.

١٩٣

المرحلة الأولى صحيحة ، الا انه بلحاظ المرحلة الثانية غير صحيحة ، لأن القضية الحقيقية تكون لجزائها مرحلة فعلية حقيقية بخلاف القضية المجعولة فانها لا تكون لجزائها مرحلة فعلية حقيقية بالدقة ، بل وهمية تصورية. والبرهان على ذلك : ان ما يفترض تحققه في القضايا المجعولة عند تحقق شرطها من الحكم الفعلي ان كانت نسبته إلى القضية المجعولة نسبة المجعول إلى جعله حقيقة فمن الواضح ان المجعولة الحقيقي ـ أي المجعول بالذات ـ انما هو نفس القضية الحقيقية ـ أي نفس الجعل ـ لأن الجعل والاعتبار من الصفات النفسانيّة ذات الإضافة ـ كالحب والعلم ـ والإضافة في هذه الصفات داخلة في حاق ذاتها وليست عارضة عليها ، ولهذا لا يمكن تصورها من دون الإضافة ، فالمجعول بالذات حقيقة عين الجعل كما ان المعلوم والمحبوب بالذات عين العلم وعين الحب ، فلو فرض شيء اسمه المجعول يتحقق عند تحقق الشرط في الخارج استحال ان تكون نسبته إلى الجعل نسبة المجعول الحقيقي فلا بد أن يكون مجعولا بالعرض والمجاز ، فإذا كانت له نسبة وعلاقة بالجعل وكان له وجود حقيقي فلا بد وان تكون علاقة أخرى. وان كانت نسبته إلى الجعل نسبة المسبب إلى سببه ومقتضية ويكون الأمر الخارجي شرطا لفعليته ، فان أريد به امر خارجي مسبب عن جعل الشارع فمن الواضح ان الأحكام الشرعية ليست أمورا خارجية تكوينية ، وان أريد به امر نفساني يحصل لدى الجاعل عند تحقق الشرط في الخارج فمن الواضح أيضا انه لا يحصل في نفس المولى الجاعل للحكم شيء عند تحقق الشرط في الخارج سواء علم بتحققه في الخارج أم لا.

وعليه فلا يوجد لدينا في الأحكام والقضايا المجعولة شيء حقيقي خارجا أو في نفس المولى وراء نفس الجعل لنصطلح عليه بالمجعول الفعلي ، نعم عند تحقق الشرط خارجا تصبح للقضية المجعولة فاعلية ومحركية للعبد نحو الفعل. كما انه لا بأس ان يعبر مسامحة عند تحقق الشرط خارجا بفعلية المجعول وتحقق الوجوب تصورا وعنوانا ، وهذه نظرة ورؤية تصورية ، حيث ان الجاعل يتصور من خلال جعله كأنه يقذف بالوجوب على فرض تحقق الشرط ومع هذه الرؤية التصورية انساق المحقق النائيني ( قده ) حينما ادعى وجود مرحلتين للحكم مرحلة الجعل والمجعول ، ويترتب على إنكار المجعول

١٩٤

بالنظرة التصديقية الحقيقية حل إشكال الشرط المتأخر ـ كما تقدم ـ وعلى قبول المجعول بالنظرة التصورية صحة استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية على ما سوف يأتي في محله إن شاء الله. وقد اتضح مما ذكرنا إمكان الواجب المشروط ثبوتا على مستوى المراحل الثلاث للحكم ، واتضح أيضا بما ذكرناه أخيرا الجواب على ما أثاره صاحب الكفاية ( قده ) من الإشكال في الواجب المشروط من استلزامه للتفكيك بين الاعتبار والمعتبر أو الإنشاء والمنشأ وكلاهما محال. فانه قد ظهر عدم لزوم الانفكاك بين الاعتبار والمعتبر بالذات والإنشاء والمنشأ بالذات واما المعتبر والمنشأ بالعرض فليس بالمنشإ والمعتبر حقيقة.

المقام الثاني ـ في إشكال استحالة رجوع الشرط إلى الوجوب في مرحلة الإثبات والدلالة.

وقد أورد هذا الإشكال فيما إذا كان الوجوب مستفادا من صيغة الأمر التي تدل على مفهوم حرفي نسبي لا ما إذا أفيد ذلك بمفهوم اسمي ، كما إذا قال وجوب الحج مشروط بالاستطاعة.

وقد ذكر في تقرير الإشكال تقريبان.

الأول ـ ان المعنى الحرفي جزئي والجزئي لا يقبل التقييد والتحصيص ، فانهما من شئون المعاني الكلية.

وتحقيق حال هذا التقريب يرتبط في الحقيقة بمعرفة ما يتبنى من الجزئية للمعنى الحرفي ويختلف أسلوب البحث فيه باختلاف المعاني والمباني في جزئيته. وقد اخترنا في محله ان جزئية المعنى الحرفي تعني نسبيته وتقومه بشخص طرفيه أي ان النسبة تختلف وتتباين باختلاف أطرافها ولا يعقل انتزاع جامع حقيقي بين النسب الحقيقية ، وهذا لا يقتضي جزئية المعنى الحرفي المحفوظ ضمن طرفيه من حيث صدقه خارجا ومن حيث سائر الجهات كي لا يعقل تحصيصه وتقييده بطرف آخر.

الثاني ـ ان الإطلاق والتقييد حكم من قبل المتكلم فلا بد من التوجه إلى موضوعه وما ينصب عليه التقييد أو الإطلاق توجها استقلاليا تفصيليا ، والمعنى الحرفي آلي لا يمكن التوجه إليه كذلك.

وفيه : ان أريد بالآلية المرآتية والاستطراقية فهذا غير صحيح ، كيف والمعاني

١٩٥

الحرفية ربما يكون النّظر إليها بما هي هي ، كما إذا سئل ( أين زيد؟ ) فقيل ( في المسجد ) حيث يكون النّظر إلى النسبة الظرفية بين زيد وبين المسجد.

وان أريد بالآلية الاندكاك والحالية والطرفية لمعنى اسمي ، فلئن سلمنا ان الإطلاق والتقييد لشيء يحتاج إلى توجه استقلالي بهذا المعنى ، وسلمنا ان الطرفية والآلية بهذا المعنى يمنع عن إمكان توجه النّفس استقالا إلى المعنى ، كان بالإمكان حل الإشكال عن طريق تقييد المعنى الحرفي من خلال مفهوم اسمي مشير إليه ، كما في عملية وضع الحروف لمعانيها من خلال الوضع العام والموضوع له الخاصّ الّذي هو أيضا نوع حكم على المعاني الحرفية ، فلا استحالة في تقييد مدلول الهيئة الحرفي.

١٩٦

الواجب المعلق والواجب المنجز

ومنها : تقسيمه إلى الواجب المعلق والواجب المنجز. والأصل في هذا التقسيم هو صاحب الفصول حيث ذكر : ان القيد تارة ، يكون قيدا للوجوب فيكون الواجب مشروطا ، وقد يكون قيدا للواجب بنحو يجب تحصيله ويترشح عليه الوجوب فيكون واجبا منجزا ، وقد يكون راجعا للواجب بنحو لا يجب تحصيله بل ينتظر المكلف حصوله اما لكونه غير اختياري أو لأخذ وجوده الاتفاقي قيدا في الواجب فيكون واجبا معلقا ، فبحسب الحقيقة الواجب المعلق عند صاحب الفصول هو الواجب المشروط عند الشيخ الأعظم ( قده ) الا ان الشيخ الأعظم افترض ان قيد اتصاف الفعل بالمصلحة أيضا قيد للواجب ـ على ما نسب إليه ـ ولهذا يرد عليه بان ذلك يستلزم ترشح الشوق إلى القيد مع ان قيود الاتصاف يستحيل ترشح الشوق إليها بل قد يكون مبغوضا ، ولكن صاحب الفصول يعترف بان قيود الاتصاف كلها ترجع إلى الوجوب وانما يقصد ان قيود ترتب الملاك على الفعل هي التي تؤخذ في الواجب تارة بنحو يترشح إليها التحريك وأخرى بنحو لا يترشح إليها التحريك لعدم اختياريتها أو لأخذ وجودها الاتفاقي قيدا ، وهذا التقسيم الثلاثي لا إشكال في تعقله ثبوتا على مستوى الملاك وعالم الشوق والمحبوبية وينتج منه انقسام الواجب إلى منجز ومشروط ومعلق وهو القسم الأخير ، ولا يرد عليه

١٩٧

إشكال ترشح الشوق إلى القيد إذا كان قيدا للمراد وكان امرا غير اختياري ، إذ لا بأس بالاشتياق إلى امر غير اختياري ، وانما الكلام في معقولية الواجب المعلق بالنسبة إلى مرحلة ما بعد الإرادة والملاك من مراتب الحكم أي مرتبة الوجوب والتحريك ، ومهم الإشكال في ذلك يرجع إلى أحد اعتراضين :

الاعتراض الأول ـ ان القيد غير الاختياري أو الاتفاقي ـ كالزمان الاستقبالي ـ المأخوذ في الواجب المعلق ان كان راجعا إلى الوجوب أيضا ولو بنحو الشرط المتأخر فالوجوب وان كان فعليا قبل تحقق القيد إذا كان متحققا في لوح الواقع الا ان هذا من الواجب المشروط وليس قسما آخر في قبال الواجب المشروط ، وان لم يرجع إلى الوجوب يلزم ترشح التحريك نحوه لا محالة ، لفعلية الوجوب قبل تحققه وعدم إناطته به فان التحريك نحو المقيد بقيد تحريك نحو قيده لا محالة وهو امر غير اختياري لا يعقل التحريك نحوه بحسب الفرض ، فلا بد من أخذه قيدا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر.

والجواب : انه يوجد بحسب الحقيقة قيدان قيد طلوع الفجر مثلا وقيد قدرة المكلف على الصوم على تقدير طلوع الفجر ، والقيد الثاني الّذي مرجعه إلى قضية شرطية لا بد من أخذه قيدا في الوجوب ولو بنحو الشرط المتأخر ، لأن المولى بما هو مولى لا يمكنه ان يضمن للمكلفين تحقق هذا القيد خارجا ، واما القيد الأول فحيث انه بإمكان المولى ان يضمن تحققه للمكلف لدوران الفلك ما لم تقم القيامة وطلوع الفجر في كل يوم لا محالة فمن الجائز ان يوجب المقيد من دون ان يأخذه قيدا للوجوب ، ولا يرد محذور التحريك نحو غير المقدور فان الأمر بالمقيد ليس امرا بحسب الحقيقة بالقيد بل امر بالتقيد وذات المقيد وذات المقيد مقدور والتقيد بالقيد أيضا يكون مقدورا إذا كان تحقق القيد مضمون التحقق خارجا ، فلا يلزم في مثل هذه الفرضية من الأمر بالمقيد أي محذور ، فلا محذور في الأمر بالصوم المقيد بطلوع الفجر منذ الليل بنحو الواجب المعلق. نعم إذا فرض ان الأمر كان على نحو الفورية لم يعقل الأمر بالصوم المقيد بالفجر منذ الليل الا أن هذا غير لازم فان الأمر لا يدل إلا على مطلوبية متعلقه في عمود الزمان. نعم القدرة على الفعل الاستقبالي

١٩٨

ـ الواجب المعلق ـ في ظرفه لا بد وان يؤخذ شرطا في الوجوب بنحو الشرط المتأخر ، لأن القدرة أو الحياة غير مضمون التحقق فلا بد من تقييد الوجوب بها لكيلا يشمل الوجوب بإطلاقه صورة عدم القدرة أو الحياة فيكون تكليفا بغير المقدور.

الاعتراض الثاني ـ ان القول بالواجب المعلق يستلزم التفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي وهو محال ، اما باعتبار ان الإرادة التشريعية لا بد وان يكون على وزان الإرادة التكوينية فكما يستحيل انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد التكويني لا بمعنى ان الإرادة تساوق وجود المراد بل بمعنى انه في موارد عدم إمكان تحقق المراد التكويني لا تتأتى الإرادة أيضا ، كذلك يستحيل فعلية الإرادة التشريعية واستقبالية المراد التشريعي. واما باعتبار ان الإيجاب حقيقته إيجاد الباعث والداعي للعبد نحو الفعل والباعثية مع الانبعاث متضايفان ، فإذا كان انبعاث المكلف مستحيلا بالفعل نحو امر استقبالي كانت الباعثية مستحيلة أيضا فيكون الواجب المعلق محالا.

وكلا التقريبين لهذا الاعتراض غير تام.

اما الأول : فلأن الإرادة التشريعية وان كانت كالتكوينية الا من حيث تعلقها بفعل الغير ، أي بفعل العبد الّذي إذا كان منقادا للمولى كانت كالإرادة التكوينية تماما في تحصيل المراد ، الا أنا نمنع ان الإرادة التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد التكويني ، إذ المراد بالإرادة التكوينية هي تلك المرتبة المؤكدة من الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو الفعل والمقتضي لتحققه خارجا إذا كانت سائر الشرائط أي قابلية القابل متحققة ، فإذا كان الفعل المشتاق إليه غير مقيد بزمان استقبالي تحقق خارجا ، والا لم يتحقق حتى يأتي الزمن الاستقبالي ، فالتخلف والانفكاك ليس من جهة عدم اكتمال الإرادة وبلوغها المرتبة العالية ، بل لعدم قابلية القابل وتوقفه على طلوع الفجر مثلا لا من أجل ان الأمر الخارجي يكون علة في تحريك العضلات الّذي هو امر نفساني بل لأن الإرادة متعلقة بالحصة الخاصة من التحرك وهو التحريك عند طلوع الفجر ، وقابلية العضلات لهذه الحصة من التحرك لا تتم الا عند طلوع الفجر ، وليست الإرادة متعلقة بمطلق تحرك العضلات ، فهذا البرهان في طول افتراض الشوق

١٩٩

متعلقا بالتحرك العضلي على الإطلاق لا بتحرك مقيد بقيد غير مقدور وغير حاصل الآن فيستحيل ان يكون برهانا على عدم هذا التقييد.

وبعبارة أخرى ان المستحيل انما هو تخلف الشوق الكامل النفسانيّ عن متعلق له يكون أيضا فعلا نفسانيا محضا ، اما إذا كان متعلقه فعلا خارجيا مسببا عن حركة العضلات أو كان مزيجا من فعل نفساني وآخر خارجي ، بان قيد تحريك العضلات بطلوع الفجر فلا استحالة في تخلف الشوق الكامل عن متعلقه ، لأن مثل هذا المتعلق يخضع لقوانين طبيعية خارجة عن اختيار النّفس ، فلو تعلقت الإرادة التشريعية بالاحتراق الّذي يتأخر بالطبع عن إلقاء الورقة في النار الّذي هو فعل النّفس ، أو تعلقت بالصوم بعد طلوع الفجر وطلوع الفجر والاحتراق أمور خارجية خاضعة لقوانين خارجية خاصة فأي استحالة في تخلف الشوق عن المشتاق إليه؟ (١) واما الثاني ، فجوابه : ان البحث ليس عن المدلول اللفظي أو العرفي للإرادة التشريعية بل عن ما هو موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة ، ومن الواضح ان موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة كل شوق مؤكد قد حمل المولى على التصدي لتحصيله من خلال تحريك العبد وجعل ما يكون باعثا له نحو الفعل في ظرفه وبحسب مقدماته ، فان

__________________

(١) هذا مبني على ان تكون الإرادة نفس الشوق لا شيئا آخر من قبيل ما يقوله الميرزا ( قده ) من هجمة النّفس والوجدان يحكم بأن الإرادة من مقولة فعل النّفس لا الشوق الّذي هو من مقولة الصفة ، وهذا في التشريعية أوضح فان مجرد الشوق المؤكد في نفس المولى من دون صدور التحريك منه للمكلف ولو من جهة جهله وتخيله بأن المكلف غير قادر على الفعل لا يكفي لتحقق الإرادة التشريعية التي تقع موضوعا لحكم العقل بلزوم الإطاعة ، وعلى كل حال فإذا فرضنا أن الإرادة غير الشوق وأنها من مقولة الفعل النفسانيّ لا الصفة وانها لا تتعلق بفعل الا إذا كان الفعل الخارجي ممكنا فحينئذ لا بد في الإجابة على هذا التقريب من منع المقدمة الأخرى ، وهي قياس الإرادة التشريعية على التكوينية بهذا المعنى ؛ فان الإرادة التشريعية ليست الا عبارة عن دفع الغير وتحريكه نحو الفعل الّذي يتمكن منه ولو في ظرفه فانه كما يمكن دفع شخص نحو فعل حالي كذلك يمكن دفعه نحو فعل استقبالي ويكون معناه الحفاظ عليه في وقته الاستقبالي من خلال الحفاظ على مقدماته المفوتة قبل الوقت ، وليست الإرادة التشريعية الا بمعنى حمل الغير على العمل في ظرفه وبحسب مقدماته إذا كان منقادا لا أكثر من ذلك.

وان شئت قلت : في الإرادة التكوينية حيث ان الفعل مباشري للفاعل فلا تصدر منه الإرادة بهذا المعنى الا متزامنا مع ما هو فعله المباشر الّذي هو حركة العضلات ولا معنى لصدورها من دون إمكان تحرك العضلات بالفعل لأنها تتعلق بها بحسب الحقيقة ، واما الإرادة التشريعية فلا تعني التسبب التكويني بالغير إلى الفعل نظير توسط الأسباب والوسائط الخارجية بين حركة العضلات وبين النتيجة المطلوبة خارجا لتكون الإرادة التشريعية كالتكوينية الا أنها بتوسط الغير بل الإرادة التشريعية تعني التسبب المولوي الإرادي الواعي الّذي يعني ضمان صدور الفعل من الغير بحسب قوانين العبودية والمولوية ومن الواضح ان هذا المعنى كما يعقل بشأن الأمر الحالي يعقل بشأن الأمر الاستقبالي كما أشرنا.

٢٠٠