جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون أحرض لموسى عليه‌السلام على الذهاب ».

وكذا يحرم الغلول منهم على ما صرح به في النهاية والنافع والقواعد والإرشاد والتحرير والمنتهى والتذكرة والمسالك وغيرها على ما حكي عن بعضها للنهي عنه في النصوص (١) السابقة ، وفسره في المحكي عن جامع المقاصد بالسرقة من أموالهم ، ولكن فيه أنه مناف لما هو المعلوم في غير المقام من كون مال الحربي فيئا للمسلم ، فله التوصل إليه بكل طريق ، اللهمّ إلا أن يكون إجماعا ، أو يكون المراد السرقة منهم بعد الأمان ونحوه مما يكون به محترم المال مع كفره ، أو يراد به النهي عن السرقة من الغنيمة ، بل قيل إنه أكثر ما يستعمل في ذلك ، بل يمكن حمل ما يقبل ذلك من عبارات الأصحاب عليه ، والله العالم.

ويستحب أن يكون القتال بعد الزوال مع الاختيار كما في النهاية والغنية والتذكرة والدروس وغيرها لأن عنده تفتح أبواب السماء وتنزل الرحمة والنصر كما في‌ خبر يحيى بن أبي العلاء (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كان علي عليه‌السلام لا يقاتل حتى تزول الشمس ، ويقول تفتح أبواب السماء وتقبل الرحمة وينزل النصر ويقول : هو أقرب إلى الليل ، وأجدر أن يقل القتل ، ويرجع الطلب ويفلت المنهزم » في المروي (٣) عن سيد الشهداء في طف كربلاء أنه ابتدأ بالقتال مع كفرة أهل الكوفة بعد الزوال ، بل بعد صلاة الظهرين‌ كما صرح باستحباب كون القتال بعدهما غير واحد ، ولعله لمخافة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

(٣) البحار ج ٤٥ ص ٢١ المطبوعة عام ١٣٨٥.

٨١

الاشتغال عنهما. ويكره الإغارة عليهم ليلا كما في الإرشاد وهو المراد من التبييت المصرح بكراهته في النهاية والنافع والقواعد والتحرير والتذكرة والمنتهى والدروس والروضة وغيرها ، لأن المراد به كما في التنقيح والروضة وغيرهما النزول عليهم ليلا ، لخبر عباد بن صهيب (١) قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدوا قط ليلا » ‌وفي رواية‌ الجمهور (٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كان إذا طرق العدو لم يغر حتى يصبح » ‌مضافا إلى ما في ذلك من قتل النساء والأطفال ونحوهم ممن لا يجوز قتلهم ، نعم لو دعت الحاجة إلى ذلك جاز بلا كراهة ، ولعل منه ما رواه‌ الجمهور (٣) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه شن الغارة على بني المصطلق ليلا.

وكذا يكره القتال قبل الزوال إلا لحاجة كما صرح به غير واحد ، ولعل المراد به خصوص ما قرب منه إلى الزوال مخافة ذهاب الصلاة ، ولأنه المنساق منه لا مطلقا حتى الصبح الذي أقسم الله تعالى شأنه (٤) بالمغيرات فيه ، وسمعت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا طرق العدو ليلا لم يغر حتى يصبح.

ويكره أيضا أن يعرقب الدابة وإن وقفت به أو أشرف على القتل كما في النهاية والنافع والتذكرة والمنتهى واللمعة والتنقيح وجامع المقاصد والمسالك وغيرها إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

(٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ٧٩ و ٨٠.

(٣) ليس في الأخبار أنه (ص) شن الغارة عليهم ليلا بل الموجود أنه (ص) أغار عليهم وهم على الماء وفي لفظ آخر‌ « وهم غارون ».

(٤) سورة العاديات ـ الآية ٣.

٨٢

كما فعله جعفر ذو الجناحين بموتة على ما صرح به غير واحد ، وفي‌ خبر السكوني (١) المروي في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لما كان يوم موتة كان جعفر بن أبي طالب على فرس ، فلما التقوا نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف ، فكان أول من عرقب في الإسلام » ورواه في المنتهى (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : « أول من عرقب الفرس في سبيل الله جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين ، عرقب فرسه ».

ولو تمكن من ذبحها كان أحسن كما صرح به أيضا غير واحد لخبر السكوني (٣) على ما في المنتهى عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حرن على أحدكم دابته يعني إذا قامت في أرض العدو ذبحها ولا يعرقبها » ‌والموجود في‌ الكافي عن السكوني (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حرنت على أحدكم دابته يعني أقامت في أرض العدو أو في سبيل الله فليذبحها ولا يعرقبها » ‌وعلى كل حال فمن ذلك يعلم الوجه فيما ذكرناه ، ومن الغريب ما في المنتهى من دعوى نسخ الخبر الأول بالثاني.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٥٢ من أبواب أحكام الدواب الحديث ٢ من كتاب الحج.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٧٠ الرقم ٣٢٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ٣٩ من أبواب الذبائح الحديث ١ من كتاب الصيد والذباحة والتهذيب ج ٦ ص ١٧٣ الرقم ٣٣٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ٥٢ من أبواب أحكام الدواب الحديث ١ مع اختلاف يسير ، والكافي ج ٥ ص ٤٩ الطبع الحديث.

٨٣

نعم كان مقتضى النهي التحريم لا الكراهة ، ولعله لما في جامع المقاصد ، قال : « وأما عدم التحريم فلأن الناس مسلطون على أموالهم فإن قيل يحرم تعذيب الدابة وعدم إطعامها وسقيها وتحميلها فوق الطاقة فكيف جازت العرقبة قلنا : حال الحرب مخالف لغيره ، وإتلاف الدابة وإضعافها أمر مطلوب ، لأن إبقاءها بحالها ربما أدى إلى استعانة الكفار بها » وإن كان هو كما ترى ، وفي التنقيح أنما قلنا بكراهته لأنه يئول إلى هلاكها ، ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل الحيوان لغير أكله (١) وفيه أنه لا يدل على كراهة خصوص ذلك ، فالعمدة ما عرفت ومن الغريب إنكار بعض الأفاضل الدليل ، وقال : ليس في النصوص إلا ما سمعته سابقا‌(٢) « ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله » ‌إلا أنه غير دال على خصوص ذلك ، ولكن أمر الكراهة سهل يكفي فيها الفتاوى.

وكيف كان فالذي يدل على أصل الجواز‌(٣) عموم « الناس مسلطون على أموالهم» وأنها مخلوقة للناس يفعلون بها كيف شاءوا ونحو ذلك ، وفعل جعفر الذي لم ينكره النبي ٦ بل أعطي في تلك الشهادة جناحان يطير بهما في الجنة كيف يشاء ، والمناقشة بكونه ظلما فيقبح يدفعها أن الشارع بجوازه كشف عن عدم قبحه كالذبح والإشعار ونحوهما مما يجوز شرعا ، نعم قد يقال إن المنساق دابة المسلم أما دابة الكافر فلا كراهة في تعرقبها حال الحرب إضعافا لهم ومقدمة لقتل راكبها وغير ذلك كما صرح به الكركي وثاني الشهيدين ، بل‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٨٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

(٣) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبع الحديث.

٨٤

هو أولى من قتل الصبيان ، وقد عقر حنظلة بن الراهب (١) فرس أبي سفيان يوم أحد فرمت به فخلصه ابن مسعود ، ولكن مع ذلك لو تمكن من ذبحها كان أولى حتى لو كان في غير حال الحرب ، لما فيه من الإضرار بهم ، بل لو لم يتمكن إلا من القتل غير الذبح أو العقر ونحوه وكان فيه إضرار لهم لم يبعد الجواز بلا كراهة كما هو مقتضى إطلاق بعض وإن كان لا يخلو من بحث ، بناء على حرمته في نفسه أو كراهته من حيث احترام الدابة ، والله العالم.

وتكره المبارزة بغير إذن الإمام عليه‌السلام كما في اللمعة والدروس والإرشاد والقواعد والتحرير والمختلف والتنقيح والروضة والمسالك ومحكي المبسوط وغيرها ، ولعل المراد طلبها بدون إذنه لا الجواب إليها من الطالب لها بدون إذنه ، ضرورة كون المستفاد من النصوص الأول دون الثاني ، بل ربما ظهر منها خلافه ففي‌ خبر ابن القداح (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز فأبى أن يبارزه فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ما منعك أن تبارزه؟ فقال : كان فارس العرب وخشيت أن يغلبني فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنه بغي عليك ، ولو بارزته لغلبته ولو بغي جبل على جبل لهد الباغي ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الحسين بن علي عليهما‌السلام دعا رجلا إلى المبارزة فعلم به أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : لئن عدت إلى مثل هذا لأعاقبنك ، ولأن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنك أما علمت أنه بغي » وفي نهج‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٨٧ وفيها أنه أخلصه ابن شعوب.

(٢) الوسائل ـ الباب ٣١ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٨٥

البلاغة (١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام « لا تدعون إلى مبارزة ، وإن دعيت إليها فأجب ، فإن الداعي باغ والباغي مصروع » ‌وفي‌ خبر عمرو بن جميع (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام سئل « عن المبارزة بين الصفين بغير إذن الإمام عليه‌السلام فقال : لا بأس ولكن لا يطلب إلا بإذن الإمام عليه‌السلام » ولعله لذا قال الشيخ في النهاية لا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال ، ولا يجوز له أن يطلب المبارزة إلا بإذن إمام عليه‌السلام ونحوه عن ابن إدريس.

وإليه أشار المصنف بقوله وقيل : يحرم بل في المحكي عن أبي الصلاح أيضا ، قال : « لا يجوز للمسلم أن يستبرز كافرا إلا بإذن سلطان الجهاد » وفي المنتهى « وهل طلب المبارزة من دون إذنه حرام أو مكروه؟ كلاهما يلوحان من كلام الشيخ ، والذي تدل الأخبار عليه التحريم » وقال الكركي : « الأصح الكراهة ، ويحرم طلبها لما ورد من النهي عنه وأنه بغي » ولكن ظاهره الكراهة في غير صورة الطلب ، بل قيل إنه الظاهر من القائلين بجواز المبارزة بغير الإذن ، وفي الرياض « يدل على رجحان الاستئذان مضافا إلى النص والوفاق الاعتبار والآثار ، لأن الإمام عليه‌السلام أعلم بفرسانه وفرسان المشركين ومن يصلح للمبارزة ومن لا يصلح ، وربما حصل ضرر بذلك ، فينبغي أن يفوض النظر إليه ليكون أقرب إلى الظفر وأحفظ لقلوب المسلمين » وعن المنتهى أنه أيده بما رواه الجمهور من أن عليا عليه‌السلام وحمزة وعبيدة استأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر ، قلت : قد‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٣١ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

٨٦

سمعت ما في النصوص السابقة من الأمر بها بعد الدعاء إليها من غير استئذان والنهي عن طلبها ، إلا أنه غير صالح لتخصيص أدلة الجهاد والأمر بالمقاتلة ونحوهما ، لضعف السند وإعراض المشهور ، ولذا حمل على الكراهة ، نعم تحرم إذا منع منها بلا خلاف ولا إشكال ، وعلى كل حال فلا إشكال في أصل مشروعيتها في الجملة ، بل في الإيضاح دعوى إجماع الأمة على ذلك ، وفي المنتهى المبارزة مشروعة غير مكروهة في قول عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه لم يعرفها وكرهها ، ولا ريب في فساده ، لما عرفت ولما رواه الجمهور (١) وغيرهم من أن عليا عليه‌السلام بارز يوم خيبر مرحبا فقتله ، وبارز عمرو بن عبد ود فقتله ، وبارز هو وحمزة وعبيدة بن الحارث يوم بدر بإذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما رواه الجمهور (٢) أيضا أن بشر بن علقمة بارز أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثنى عشر ألفا ، ولم يزل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقع منهم المبارزة ، وأنه كان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى (٣) ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا ) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر ، وهم حمزة وعلي عليه‌السلام وعبيدة (٤) ، وأن أبا قتادة قال : بارزت رجلا يوم خيبر فقتلته (٥) إلى غير ذلك ، بل يمكن دعوى كونه من الضروري.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٣١ و ١٣٢ والبحار ج ٢١ ص ١ إلى ص ٤٠ وج ٢٠ ص ٢٢٦ وج ١٩ ص ٢٥٣.

(٢) سنن البيهقي ج ٦ ص ٣١١.

(٣) سورة الحج ـ الآية ٢٠.

(٤) سنن البيهقي ج ٩ ص ٩٤.

(٥) سنن الدارمي ج ٢ ص ٢٢٩.

٨٧

وكذا يستحب المبارزة كفاية أو عينا إذا ندب إليها الإمام عليه‌السلام من دون أمر جازم وتجب كفاية أو عينا إذا ألزم بها بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ولا إشكال بعد معلومية وجوب الطاعة له ، بل في المنتهى « لو خرج علج يطلب البراز استحب لمن فيه قوة ويعلم من نفسه الطاقة له مبارزته بإذن الإمام عليه‌السلام ، ويستحب للإمام عليه‌السلام أن يأذن له ـ إلى أن قال ـ إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم أقساما أربعة : واجبة ومستحبة ومكروهة ومباحة ، فالواجبة إذا ألزم الإمام عليه‌السلام بها ، والمستحبة أن يخرج المشرك فيطلب المبارزة ، فيستحب لذي القوة من المسلمين الخروج إليه ، والمكروهة أن يخرج الضعيف من المسلمين الذي لا يعلم من نفسه المقاومة ، فيكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا والمباحة أن يخرج ابتداء فيبارز ، لا يقال : إن الضعيف قد جوز له الدخول في القتال من غير كراهة فكيف كره له المبارزة لأنا نقول الفرق بينهما ظاهر ، فإن المسلم هنا يطلب الشهادة ولا نترقب منه الغلبة بخلاف المبارزة فإنه يطلب منه الظفر والغلبة ، فإذا قتل كان ذلك كسرا في المسلمين » وفي القواعد « لو طلبها مشرك استحب الخروج إليه للقوي الواثق من نفسه بالنهوض لكن بإذن الإمام عليه‌السلام فيستحب له أن يستأذنه ، ويستحب للإمام عليه‌السلام أن يأذن له ، فتجي‌ء فيه الأحكام الأربعة » قلت : قد يظهر من النصوص السابقة عدم اشتراط إذن الإمام عليه‌السلام في الخروج إلى من طلبها ، لأنه باغ ، كما أن المتجه كون أقسامها خمسة كما في التحرير فإنها تحرم كما عرفت إذا منع الإمام منها ، ومع طلبها ابتداء عند من عرفت ، بل ظاهره‌

٨٨

هو أيضا التحريم في الأخير كما سمعت ، وأيضا قد يقال ظاهر النصوص السابقة عدم الكراهة في الجواب إليها مع طلب المشرك لها وإن كان المسلم ضعيفا ، لأنه باغ كما سمعت ، فالأولى جعل المكروه طلبها بناء على المختار ، كما أن المباحة ما ذكره مع عدم الطلب من كل منهما ، لكن في القواعد « تحرم أي المبارزة على الضعيف على إشكال قيل من قوله تعالى (١) ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ) ومن عموم الخطاب بالقتال » ولا يخفى عليك ما في الأول من منع كونه إلقاء بل هو شهادة وعن جامع المقاصد أن الأولى الترك ، ثم قال : « وإن قيل هل الإشكال مع الإذن أو بدونه؟ الأول مشكل ، لأنه مع الإذن كيف يحرم أو يكره ، وهل يأذن الإمام في الحرام ، قلنا : يحتمل أن يأذن الإمام عليه‌السلام ولا يعلم حال المستأذن ، فيكون التحريم أو الكراهة بناء على أن المبارزة من دون إذن مكروهة » وهو كما ترى لا حاصل له يعتد به ، والله العالم.

فرعان‌ الأول المشرك إذا طلب المبارزة ولم يشترط عدم الإعانة جاز للمسلمين معونة قرنه المسلم كما في القواعد والتحرير والمختلف ، لعموم أدلة قتل المشرك حيث وجد ، وإليه يرجع ما في الدروس لو نكل المبارز عن قرنه جازت الإعانة إلا مع شرط عدمها وأبطل ابن الجنيد شرط عدم المعاونة ، وعن ابن الجنيد أنه قال : إذا خرج جماعة إلى جماعة ولم يقع بينهم شرط على أن كل واحد واحد يعين بعضا كان لبعضهم إعانة بعض على صاحبه قبل الفراغ من صاحبه ، وبالجملة لا إشكال في الحكم المزبور إلا إذا كانت عادة تقوم مقام الشرط كما أومأ إليه في المنتهى في نظير المسألة ، قال : « لو خرج المشرك طالبا للبراز جاز‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٩١.

٨٩

لكل أحد رميه وقتله ، لأنه مشرك لا أمان له ولا عهد له إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج بطلب المبارزة لا يتعرض له ، فيجري ذلك مجرى الشرط » إلى آخره ، ولأنه كالغدر فإن شرط أن لا يقاتله غيره وجب الوفاء له كما في القواعد والتحرير والمختلف بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ابن الجنيد من أنه إن تشارطوا أن لا يعين أحد على أحد كان هذا الشرط باطلا ، لأن الله تعالى ألزم المؤمنين بالدفع عن المؤمنين ممن يريد البغي عليهم ، و‌قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « المؤمنون يد على من سواهم » ‌وفيه أن ذلك مخصوص بغير صورة الشرط في الفرض الذي هو كالأمان للكافر على هذا الوجه ف لا يجوز نقضه.

نعم إن فر المسلم فطلبه الحربي جاز دفعه عنه كما في القواعد والتحرير والمختلف والمنتهى وغيرها ، لانقضاء القتال المشروط فيه الأمان ما دام القتال ، ولو شرط المشرك أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه ففي المنتهى « وجب الوفاء له إلا أن يترك المسلم قتاله أو يثخنه بالجراح ، فيرجع فيتبعه ليقتله أو يخشى عليه منه فيمنع ويدفع عن المسلم ، ويقاتل إن امتنع من الكف عنه ، لأنه نقض الشرط وأبطل أمانه » قلت : وهو كذلك ، أما لو كان الشرط على هذا الوجه أيضا فقد يقال إن المتجه الوفاء له أيضا ، قال في التحرير : « لو انهزم تاركا للقتال أو مثخنا بالجراح جاز قتال المشرك إلا أن يشترط ألا يقاتل حتى يرجع إلى فئته ، فيجب الوفاء له إلا أن يترك المسلم أو يثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يخشى عليه منه فيمنع ويدفع عن المسلم ، فإن امتنع قوتل ، ولو أعان المشركون صاحبهم كان على المسلمين إعانة‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٩٤.

٩٠

صاحبهم ، ويقاتلون من أعان عليه » بل في المنتهى والتحرير « ولا يقاتلونه لأنه ليس النقض من جهته ، ولو أثخن المسلم بالجراح ولم يرجع لم تجز معاونته مع فرض الشرط ، أما إذا ترك القتال ورجع جاز دفعه عنه » ولعل ذلك هو مراد الأوزاعي فيما حكي عنه من عدم جواز معاونة المسلم مع إثخانه بالجراح ، لأن المبارزة هكذا مقتضاها ، ولكن لو حجز بينهما وخلي سبيل العلج جاز ، وما‌ في رواية الجمهور (١) من أن عليا عليه‌السلام وحمزة أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين أثخن عبيدة بالجراح قضية في واقعة لم يحك فيها الشرط.

وكيف كان ف لو فر المسلم ولم يطلبه الحربي لم تجز محاربته لأنه لم ينقض شرطا وقيل والقائل بعض علمائنا على ما في المختلف بل قال : هو الظاهر من كلام الشيخ يجوز ما لم يشترط الأمان حتى يعود إلى فئته وفيه أن مقتضى المبارزة المفروض فيها شرط عدم المقاتلة من غير المبارزة ذلك ، فيجب الوفاء بها‌ الثاني لو شرط أن لا يقابله غير قرنه فاستنجد أصحابه فقد نقض أمانه ، وإن تبرعوا فمنعهم فهو في عهدة شرطه ، وإن لم يمنعهم جاز قتاله معهم كما في القواعد لأن المفروض كون ذلك منهم باستنجاده ، أما لو فرض عدمه وكان ذلك من أصحابه لأنفسهم فالمتجه قتالهم دونه ، وفي التحرير فإن كان قد شرط أن لا يقاتله غير مبارزه وجب ، فإن استنجد أصحابه فأعانوه فقد نقض ويقتل معهم ، ولو منعهم فلم يمتنعوا فأمانه باق ، ويقاتل أصحابه ، ولو سكت عن نهيهم عن المعاونة نقض أمانه ، ولو استنجد جاز قتاله مطلقا ، ولعله يريد ما ذكرناه ، وإلا كان لا يخلو من نظر في الجملة ، والمراد بالوفاء بالشرط‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٥ ص ٢٦٧ الرقم ٥٣٣٣.

٩١

هنا ما يرجع خلافه إلى القدر المنهي عنه كما هو واضح ، والله العالم.

الطرف الثالث في الذمام والأمان ، وفي الروضة وهو الكلام وفي حكمه الدال على سلامة الكافر نفسا وما لا إجابة لسؤاله ذلك ، وفيه أن الظاهر عدم اعتبار السؤال فيه ، ولا كونه على النفس والمال بل هو على حسبما يقع فيهما أو في أحدهما أو في غير ذلك ، ولعله لا يريد اختصاصه بما ذكره ، وعلى كل حال فلا خلاف في مشروعيته بيننا بل وبين المسلمين كما في المنتهى بل الإجماع بقسميه عليه ، قال الله تعالى (١) ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ )‌ وقال السكوني (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسعى بذمتهم أدناهم قال : لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال : أعطوني حتى ألقى صاحبكم وأناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به » وخبر حبة العرني (٣) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من ائتمن رجلا على دمه ثم خاس به فإني من القاتل بري‌ء وإن كان المقتول في النار » ‌خاس أي نكث بالعهد ، وفي‌ خبر مسعدة بن صدقة (٤) أيضا عنه عليه‌السلام « أن عليا عليه‌السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون ، وقال : هو من المؤمنين » وخبر عبد الله بن سليمان (٥) « سمعت أبا جعفر صلوات الله عليه يقول : ما من رجل أمن رجلا على ذمته ثم قتله إلا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر ».

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٦.

(٢) و (٣) و (٤) و (٥) الوسائل ـ الباب ٢٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ ـ ٦ ـ ٢ ـ ٣

٩٢

بل الظاهر لحوق شبهة الأمان به ، قال الصادق عليه‌السلام في خبر محمد بن الحكم (١) « لو أن قوما حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا : لا فظنوا أنهم قالوا : نعم فنزلوا إليهم كانوا آمنين » ‌وفي‌ خبر الثمالي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتقدم سابقا « أيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله ، فإن تبعكم فأخوكم في الدين ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه ، واستعينوا بالله عليه » ‌ونحوه‌ خبر محمد بن حمران وجميل بن دراج (٣) كليهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخبر جميل الآخر (٤) عنه عليه‌السلام أيضا ، إلا أنه قال « وأيما رجل من المسلمين نظر إلى رجل من المشركين من أقصى العسكر فأدناه فهو جاره » ‌والمراد بنظره إليه إجارته إياه ، إلى غير ذلك من النصوص المروية عند العامة والخاصة ، لا سيما‌ النبوي (٥) المشهور عند الطرفين « المؤمنون بعضهم أكفاء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم » ‌فما عن أبي الصلاح « لا يجوز لأحد من المسلمين أن يجير كافرا ولا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ والكافي ج ٥ ص ٢٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ والكافي ج ٥ ص ٣٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ والكافي ج ٥ ص ٣٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ٣١ من أبواب القصاص في النفس.

٩٣

يؤمن أهل حصن ولا قرية ولا مدينة ولا قبيلة إلا بإذن سلطان الجهاد فإن أجار بغير إذنه أثم ووجب إجارته وجواره ولم تجز ذمته وإن كان عبدا وأمسك عمن أجار من الكفار » واضح الفساد بعد ما عرفت ، ولكن في‌ خبر طلحة بن زيد (١) عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال : « قرأت في كتاب لعلي عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أن كل غازية غزت يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين فإنه لا يجاز حرمة إلا بإذن أهلها ، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه وأبيه ، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على عدل وسواء » ‌وفي المحكي عن نهاية ابن الأثير ومنه كتابه بين قريش والأنصار (٢) « وإن سالم أحد من المؤمنين فلا يسالم مؤمن دون مؤمن » أي لا يصالح واحد دون أصحابه ، وإنما يقع الصلح بينهم وبين عدوهم باجتماع ملئهم على ذلك ، لكن ذلك كله كما ترى هو في غير ما نحن فيه.

وعلى كل حال فتمام الكلام فيه يحصل في البحث عن العاقد والعبارة والوقت ،أما العاقد فلا بد أن يكون بالغا عاقلا لسلب عبارة الصبي والمجنون ومن في حكمه كالنائم والسكران ونحوهما في الإنشاء إلا ما خرج من وصية الأول ، ولعدم دخول الأول أيضا منهما في لفظ الرجل والمسلم ، بل والثاني في الثاني حقيقة وإن دخلا في حكمه بالنسبة إلى بعض الأحكام مختارا إذ لا عبرة بأمان المكره إجماعا محكيا في المنتهى ، بل ومحصلا ، ولظهور‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ٥.

(٢) نهاية ابن الأثير مادة « سلم » مع اختلاف في اللفظ.

٩٤

الأدلة في المختار ، فالأصل عدم ترتب حكمه عليه مسلما كما هو ظاهر النصوص السابقة ، فلا عبرة بأمان غيره وإن كان يقاتل مع المسلمين وفي‌ دعائم الإسلام (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « وإن أمنهم ذمي أو مشرك كان مع المسلمين في عسكرهم فلا أمان له » ‌نعم يستوي في ذلك الحر والمملوك المأذون له بالجهاد وغيره والذكر والأنثى بلا خلاف كما اعترف به في المنتهى في الأخير ، ونسبه فيه أيضا إلى علمائنا وأكثر أهل العلم في العبد ، لعموم‌ قوله (ص) (٢) « يسعى بذمتهم أدناهم » ‌وخصوص خبر مسعدة (٣) في العبد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام معللا له بأنه من المؤمنين ، فما عن أبي حنيفة وأبي يوسف من اختصاص الأمان بالعبد المأذون في القتال واضح الفساد بعد ما عرفت من أنه لا حجر عليه بالنسبة إلى ذلك ، وإلا لم يكن فرق بين المأذون في القتال وغيره ، ولما (٤) في المنتهى « من أن أم هانئ قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن أمي أراد قتلهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، إنما يجير على المسلمين أدناهم » وأجارت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) ‌إلى غير ذلك.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ٦١ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢١.

(٢) الوسائل ـ الباب ٣١ من أبواب القصاص في النفس.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

(٤) المنتقى من أخبار المصطفى ج ٢ ص ٨١٤.

(٥) سنن البيهقي ج ٩ ص ٩٥.

٩٥

وعلى كل حال فقد ظهر لك مما ذكرناه أنه لو أذم المراهق أو المجنون أو المكره ونحوهم ممن عرفت لم ينعقد أمانه ولكن لو اغتر المشرك فزعم الصحة وجاء معه يعاد إلى مأمنه لما سمعته من فحوى خبر محمد بن حكيم (١) المؤيد بالاعتبار وكذا كل حربي دخل دار الإسلام لشبهة الأمان كأن يسمع لفظا فيعتقده أمانا أو يصحب رفقة فيتوهمها أمانا أو يشتمل عقد الأمان على شرط فاسد ولكن لا يعلم المشرك إفساده أو نحو ذلك بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى للفحوى المزبورة وغيرها ، ولو ادعى الكافر الشبهة لم يقبل إذا لم يثبت ما يقتضيها ، لعموم الأمر بالقتل والأسر وغيره ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين وإن كان أدناهم كالعبد والمرأة لآحاد من أهل الحرب عشرة فما دون كما صرح به جماعة لما سمعته سابقا ولا يجوز أن يذم عاما لسائر المشركين ولا لأهل إقليم أو بلدان منه أو نحو ذلك ، اقتصارا فيما خالف عموم الأمر بقتل المشركين كتابا وسنة على المنساق من الأدلة السابقة وهل يذم لقرية أو حصن؟ قيل : نعم كما أجاز علي عليه‌السلام (٢) ذمام الواحد لحصن من الحصون لإطلاق‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « يسعى بذمتهم أدناهم » ولخبر السكوني (٣) المشتمل على قوم من المشركين وقيل لا يجوز وهو الأشبه عند المصنف ، لأصالة عدم ترتب الأثر فيبقى عموم الأمر بقتل المشركين بحاله وفعل علي عليه‌السلام قضية في واقعة فلا يتعدى منها إلى غيرها ، ولكن فيه أن‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٢٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤ ـ ٢ ـ ١

٩٦

الأصل مقطوع بالإطلاق السابق ، بل العموم مخصوص به ، والمحكي عن علي عليه‌السلام ما هو كالتعليل العام ، ومنه أخذ عمر بن الخطاب فيما رواه‌ الجمهور (١) عن فضل بن يزيد الرقاشي ، قال : « جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه ، فحضرنا موضعا فرأينا أن نستفتحه اليوم وجعلنا نقبل ونروح ، فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم فرمى بها إليهم ، فأخذوها وخرجوا فكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم » ‌فالمتجه إلحاق القرية الصغيرة والقافلة القليلة بالآحاد كما صرح به في المنتهى وحاشية الكركي وغيرهما والإمام عليه‌السلام يذم لأهل الحرب عموما وخصوصا على حسب ما يراه من المصلحة بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى ، لأن ولايته عامة ، والأمر موكول إليه في ذلك ونحوه وكذا من نصبه الإمام عليه‌السلام للنظر في جهة يذم لأهلها عموما وخصوصا على حسب ما يراه من المصلحة أيضا ، لأنه فرع من له ذلك ، أما في غير ماله الولاية عليه فهو كغيره من المسلمين.

ولا خلاف في أنه يجب الوفاء بالذمام على حسب ما وقع ، بل في المنتهى الإجماع عليه ، لما سمعته من الأدلة السابقة التي منها أنه غدر مع عدم الوفاء ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع فإنه لا يلزم عليه الوفاء به بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به الفاضل ، بل ولا إشكال ، لكن قد عرفت وجوب رده إلى مأمنه إذا كان لم يعرف الفساد ، ضرورة كونه حينئذ ممن دخل بشبهة الأمان التي قد عرفت اقتضاءها ذلك ، كما هو واضح ، ولا فرق في وجوب الوفاء‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٩٤ وكنز العمال ج ٢ ص ٢٩٩ الرقم ٦٣٠٢ عن فضيل بن زيد.

٩٧

بين المذم وغيره ولو الإمام عليه‌السلام لما سمعته من إطلاق الأدلة ، لكن في النهاية « لا يجوز لأحد أن يذم عليه أي الإمام عليه‌السلام بدون إذنه » وفي نكت المصنف « أن المراد أن يذم الواحد لقومه ، فهذا لا يمضي ذمامه على الإمام عليه‌السلام » وفيه أنه بناء على اعتبار الآحاد في الذمام وفرض خروج القوم عن الآحاد لكثرتهم لم يمض لا على الإمام عليه‌السلام ولا على غيره ، ويمكن أن يكون الشيخ نظر إلى ما في‌ خبر مسعدة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آداب السرايا إلى أن قال : « وإذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم ، ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم ، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله » ولكن فيه أنه يمكن كون المراد عقد الصلح ونحوه مما لا يجوز إلا للإمام عليه‌السلام أو منصوبه لا ما نحن فيه على أنه قيل : المراد بالذمة هنا العهد ، والخفر النقض على وجه الاحتياط والإعظام لعهد الله تعالى خوفا من أن يتعرض لنقضه من لا يعرف حقه من جهلة الأعراب وسواد الجيش ، فالنهي عنه نهي تنزيه ، وعلى كل حال فالظاهر عدم الفرق في الذمام المزبور بين الإمام عليه‌السلام وغيره وقد سمعت ما وقع من أمير المؤمنين عليه‌السلام في إجازة ذم العبد الحصن ، مضافا إلى إطلاق النصوص والفتاوى ، هذا.

وقد تقدم أنه لو أكره العاقد على الأمان لأسر ونحوه لم ينعقد لما عرفت من اعتبار الاختيار.

وأما العبارة فهو أن يقول المسلم أمنتك أو أجرتك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

٩٨

أو أنت في ذمة الإسلام قاصدا بذلك الإنشاء وكذا كل لفظ دل على هذا المعنى صريحا وإن كان الأولان هما المستفادان من الآية (١) وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن » ‌إلا أن الظاهر عدم الفرق بينهما وبين غيرهما مما يدل على ذلك صريحا من غير فرق بين اللفظ العربي وغيره ، قال جعفر بن محمد عليهما‌السلام على‌ ما رواه في الدعائم (٣) « الأمان جائز بأيّ لسان كان » وفي الدعائم (٤) أيضا عن علي عليه‌السلام « إذا آوى أحد من المسلمين أو أشار بالأمان إلى أحد من المشركين فنزل على ذلك فهو أمان » ‌كل ذلك مضافا إلى عموم‌قوله (ص) : « يسعى بذمتهم أدناهم » ‌وغيره.

بل وكذا يستفاد الحكم مما سمعت في كل كناية علم بها ذلك من قصد العاقد ولو كتابة ، ولو قال : لا بأس عليك أو لا تخف أو نحو ذلك لم يكن ذماما ما لم ينضم إليه من قرائن حالية أو مقالية ما يدل على إنشاء قصد الأمان بذلك لكن في القواعد على إشكال ، إذ مفهومه ذلك ، وفيه منع كون مفهومه الإنشاء المزبور على الوجه المذكور ، بل فيها أيضا أنه لا بد من قبول الحربي إما نطقا أو إشارة أو سكوتا ، أما لو رد لم ينعقد ، وفيه أيضا منع عدم الانعقاد مع القبول بعد الرد إذا كان المؤمن باقيا على أمانه ، لإطلاق الأدلة ، وكذا الحكم إذا آوى مسلم إلى مشرك بالمجي‌ء مثلا ،

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

(٣) و (٤) المستدرك ـ الباب ١٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ٦ ـ ٥

٩٩

أو قال : قف أو قم أو ارم سلاحك ، نعم لو زعم المشرك ذلك ونحوه أمانا كان ممن دخل بشبهة الأمان الذي قد عرفت حكمه سابقا بلا خلاف فيه بيننا ، بل وفي جميع ما ذكرناه كما اعترف به في المنتهى بل ولا إشكال ، فما عن بعض الجمهور ـ من كون الأخيرين أمانا والأوزاعي إن ادعى الكافر أنه أمان أو قال إنما وقفت لندائك فهو آمن ، وإن لم يدع ذلك فليس بأمان ولا يقبل ـ واضح الفساد.

وأما وقته فقبل الأسر بلا خلاف أجده فيه ، فلا يجوز لآحاد الناس بعده ، بل في المنتهى نسبة ذلك إلى علمائنا والشافعي وأكثر أهل العلم ، للأصل بعد ظهور الأدلة في غير الحال المزبور حتى من الذي أسره ، فما عن الأوزاعي من صحة عقده بعد الأسر واضح الفساد ، وأمان زينب زوجها أبا العاص بن الربيع بعد الأسر إنما صح لإجازة النبي ٦ إياه ، ضرورة أن له الأمان بعد الأسر ، كما أن له إطلاقه ، وبذلك يخالف الإمام ٧ غيره ولزعم عمر أنه قائم مقام النبي ٦ في ذلك أمن الهرمزان بعد الأسر ، وبالجملة فالأمان للمسلمين ما دام الامتناع ولو لكونه في مضيق أو قرية أو نحوهما.

بل لو أشرف جيش الإسلام على الظهور فاستذم الخصم جاز مع نظر المصلحة المعتبرة في صحة أصل الأمان على ما صرح به بعضهم أو عدم المفسدة كما في القواعد ولعله الأوفق بإطلاق الأدلة الشامل لذلك وللحال المزبور أيضا ، فلو أمن جاسوسا أو من فيه مضرة لم ينعقد ، للأصل والعموم بعد انسياق الأدلة إلى غيره وأما لو استذموا بعد حصولهم في الأسر فأذم لم يصح لما عرفت.

ولو أقر المسلم أنه أذم لمشرك فإن كان في وقت يصح منه إن شاء‌

١٠٠