جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ذلك كله للمختار ، أما المضطر كمن عرض له مرض أو نفد سلاحه فإنه يجوز له الانصراف ، وهو كذلك مع الضرورة التي يسقط معها التكليف ، وإلا لم يجز ، لإطلاق الآية ، وخصوصا إذا كان بالانصراف مفسدة على المسلمين بظهور الضعف والوهن أو خوف انكسارهم وغلبة العدو عليهم ، ولو قدم العدو إلى بلد جاز لأهله التحصن منهم وإن كانوا أكثر من الضعف ليلحقهم المدد والنجدة ، وليس ذلك فرارا ولا توليا ، بل لو لقوهم خارج الحصن جاز لهم التحيز إليه ، نعم ذهاب الدواب ليس عذرا في جواز الفرار ، لأن القتال ممكن للرجال ، بل لو ذهب سلاحهم جاز تحيزهم إلى مكان فيه الحجارة ليقاتلوا بها ، والله العالم.

وعلى كل حال ف لو غلب عنده الهلاك مع كون العدو على الضعف أو أقل وكان في فئة لم يجز له الفرار كما في النافع والإرشاد والتحرير والتذكرة والتنقيح والمسالك وغيرها ، بل في الرياض نسبته إلى الأكثر وقيل يجوز والقائل الشيخ في محكي المبسوط ولم أتحققه ، لأن المحكي عنه في التنقيح أنه حكاه قولا ، بل حكي عنه في الخلاف أنه قال : الأولى عدم الجواز ، نعم هو خيرة الفاضل في القواعد والمختلف للأصل ، ولقوله تعالى (١) ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وللحرج وسقوط أكثر الواجبات بظن الهلاك ولكن الأول أظهر لقوله تعالى (٢) ( إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) والنصوص (٣) المستفيضة أو المتواترة الدالة على حرمة الفرار من الزحف وأنه من‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٩١.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ٤٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢٩ من أبواب جهاد العدو والباب ٤٦ من جهاد النفس.

٦١

الكبائر ، وبناء الجهاد على التغرير بالنفس الذي هو في الحقيقة حياة أبدية عند الله تعالى لقوله تعالى (١) ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ولأن إيجاب الثبات للضعف مظنة العطب والهلاك ، خصوصا إذا كان العدو مع ذلك أشد شجاعة وأقوى قلبا ، والإخبار من الله تعالى بالغلبة إن كان المراد حقيقة رافع لمظنة العطب حينئذ على كل حال فلا موضوع للمسألة.

ومن ذلك يعلم ما في دعوى أن التعارض بين الأدلة من وجه ، ولا ترجيح فيكون مخيرا ، مضافا إلى ما سمعته من دعوى الأكثرية وإلى ظهور القول المزبور في نفي الوجوب لا الجواز الذي مقتضاه ترجيح أدلة الجهاد على تلك العمومات ، ويلزمه وجوب الثبات حينئذ لأدلته ، اللهمّ إلا أن يكون وجه القول بالجواز دعوى تعارض الأدلة ولا ترجيح فيكون مخيرا ، وفيه ما عرفت من وضوح الترجيح بما سمعت ، ومن الغريب دعوى انسياق غير الفرض من العمومات مع فرض كون العدو على الضعف ، وأغرب منه الاستدلال بقاعدة الحرج وأنها من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص ، مع أنك قد عرفت سابقا وجوب ثبات العشرة للمائة ، وأي حرج في الجهاد حتى يقتل وتحصل له الحياة الأبدية والسعادة السرمدية ، وقد وقع من سيد الشهداء روحي له الفداء في كربلاء الثبات بنيف وسبعين رجلا لثلاثين ألفا الذي هو أقل ما روي (٢) في نصوصنا ، نعم لا بأس بالفرار للنساء كما في التذكرة ، قال : لأنهن لسن من أهل فرض الجهاد ، مع أنه قد يشكل في القسم الثاني من الجهاد بناء على وجوب الثبات فيه على حسب جهاد الدعوة ، أما‌

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ١٦٣.

(٢) البحار ج ٤٥ ص ٤ المطبوعة عام ١٣٨٥.

٦٢

الصبيان والمجانين فلا تكليف عليهم ، وكذا السكران إلا إذا كان عاصيا بسكره في وجه ، والله العالم.

وإن كان المسلمون أقل من ذلك لم يجب الثبات كما صرح به غير واحد ، للأصل بعد انتفاء شرط الوجوب المستفاد من الكتاب والسنة والفتاوى المقتضي لانتفاء المشروط ، نعم قد يشكل ذلك في نحو زيادة الواحد والاثنين مثلا مع الضعف والجبن في الكفار ، والشجاعة والقوة في المسلمين بإطلاق أدلة الثبات بعد انسياق اعتبار كون العدو على الضعف فأقل إلى ما هو الغالب من غير الفرض ، وكذا الكلام في صورة العكس ، ومن هنا قال الفاضل : وفي جواز فرار مائة بطل من المسلمين من مائتين وواحد من ضعفاء الكفار إشكال ، من مراعاة العدد ومن المقاومة لو ثبتوا ، والعدد مراعى مع تقارب الأوصاف ، وكذا الإشكال في عكسه ، وهو فرار مائة من ضعفاء المسلمين من مائة وتسع وتسعين من أبطال الكفار ، فإن راعينا صورة العدد لم يجز ، وإلا جاز بل في القواعد الأقرب المنع في الأول ، لأن العدد معتبر مع تقارب الأوصاف ، لكن قد يقال بخروج ذلك عن محل البحث الذي هو مجرد زيادة العدو بالعدد من غير ملاحظة حيثية أخرى ، ولذا قال المصنف : ولو غلب على الظن السلامة استحب أي الثبات وإن زاد الكفار على الضعف ، لما فيه من إظهار القوة وزيادة العزم ، خصوصا بعد ما يستفاد من قوله تعالى (١) ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ) وغيره من الترغيب فيه وفي إدراك الشهادة وعدم الاكتراث بزيادة العدد ، لأن النصر من عند الله.

وإذا غلب العطب قيل يجب الانصراف مع السلامة به ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٢٥٠.

٦٣

لوجوب حفظ النفس وحرمة التغرير بها وقيل ولكن لم نعرف القائل به قبل المصنف يستحب الانصراف وهو أشبه عند المصنف بأصول المذهب وقواعده التي منها أصالة البراءة من الوجوب في نحو الفرض بعد ما يستفاد من الكتاب والسنة من الترغيب في الشهادة ، ومن كون النصر بإذن الله وغير ذلك مما يكون أقل مراتبه الجواز ، بل لعل المتجه الندب ، ضرورة ظهور الأدلة في رجحانه ، بل لا أعرف دليلا على جوازه خاليا عن الرجحان ، بل يمكن القطع بعدمه ، بل لم أعرف من حكاه قولا غير المصنف ، والذي حكاه في المنتهى عدم وجوب الانصراف لأن لهم غرضا في الشهادة ، واستحسنه ، كما أن المحكي من عبارة المبسوط الجواز لا الندب فمتى جاز كان واجبا أو مستحبا ، بل يمكن إرادة القائل المزبور أفضلية الانصراف منه باعتبار حصول البقاء الذي هو سبب لكثير من العبادات والطاعات والمبرات لا الجواز بالمعنى الأخص الذي هو بمعنى الإباحة الصرفة من دون ترتيب شي‌ء من الثواب عليه مع فرض بذل نفسه في الدين ، فإنه يمكن القطع بعدمه ، كما أنه يمكن القطع بعدم الوجوب بعد ملاحظة ما ورد في الكتاب والسنة من الترغيب في الشهادة والحث على الثبات ونحو ذلك مما يكفي بعضه في رفع الوجوب ، وبه يفترق حال الجهاد حينئذ عن غيره ضرورة وجوب الانصراف في الفرض في غير الجهاد بخلافه ، والله العالم.

ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات كما في المبسوط والمختلف والقواعد والتحرير والتنقيح للأصل بعد ظهور الأدلة في وجوب الثبات للضعف مع الكثرة كما يشعر به قوله تعالى (١)( فَإِنْ

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ٦٧.

٦٤

يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ ) ـ إلى قوله ـ ( أَلْفٌ ) » إلى آخره ، بل ربما فسر الزحف في قوله تعالى (١) ( إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً ) بذلك ، ففي كنز العرفان « قيل المراد بالزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف » إلى آخره وقيل يجب وهو المروي فيما سمعته من خبر الحسن بن صالح وغيره ، لكن يمكن كون المراد منه مع الجيش لا الآحاد ، فالأقوى الأول وإن كان الأحوط الثاني ، إذ الظاهر عدم الخلاف في الجواز ، بل والإشكال مع ظن السلامة ، أما مع ظن العطب فيحتمل وجوب الهرب مع فرض السلامة فيه لنحو ما عرفته سابقا ، ويحتمل العدم ، ولعله الأقوى ، لما سمعته ، هذا كله في هذين القولين ، وأما التفصيل بين ما لو طلباه فيجوز له الفرار وبين ما لو طلبهما فلا يجوز ، فلم أعرف له مستندا بل ولا قائلا وإن حكاه في التذكرة بلفظ القيل ، والله العالم.

ويجوز محاربة العدو بالحصار ومنع السابلة دخولا وخروجا وبالمناجيق والتفنك والقنابر والأطواب والبارود ورمي الحيات القاتلة والعقارب وغيرها من الحيوانات وهدم الحصون والبيوت وقطع الأشجار والقذف بالنار وإرسال الماء لينصرفوا به ومنعه عليهم ليموتوا عطشا وكلما يرجى به الفتح بلا خلاف أجده فيه ، للأصل وإطلاق الأمر بقتلهم ، والمروي (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه نصب على أهل الطائف منجنيقا وكان فيهم نساء وصبيان وخرب حصون بني النظير وخيبر وهدم دورهم ، بل في الدروس والروضة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرق بني النظير ، وفي‌خبر حفص بن غياث (٣) « كتب‌

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ١٥.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٦٨ الطبع الحديث.

(٣) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ والتهذيب ج ٦ ص ١٤٢ الرقم ٢٤٢.

٦٥

بعض إخواني إلي أن أسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن مدينة من مدائن أهل الحرب هل يجوز أن يرسل عليهم الماء أو يحرقون بالنار أو يرمون بالمنجنيق حتى يقتلوا وفيهم النساء والصبيان والشيخ والأسارى من المسلمين والتجار فقال : تفعل ذلك ولا تمسك عنهم لهؤلاء ، ولا دية عليهم ولا كفارة » ‌مضافا إلى قوله تعالى (١) ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها ) وقوله تعالى (٢) ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) وقوله تعالى (٣) ( وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) وأنهم شر الدواب وأشدها أذية ، وغير ذلك ، فما عساه يظهر من الشهيد في الدروس من حرمة قتلهم بمنع الماء مع الاختيار في غير محله ، وكذا ما في الروضة من اعتبار توقف الفتح في جواز هدم الحصون والمنجنيق وقطع الشجر.

نعم يكره قطع الأشجار ورمي النار وتسليط المياه إلا مع الضرورة ففي‌ خبر جميل ومحمد بن حمران (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ، ثم قال : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة » ‌ونحوه خبر الثمالي (٥) عنه عليه‌السلام أيضا ، وفي ثالث وهو‌خبر‌

__________________

(١) سورة الحشر ـ الآية ٥.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ٦٢.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٥.

(٤) و (٥) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ ـ ٢

٦٦

مسعدة بن صدقة (١) عنه عليه‌السلام أيضا « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا بعث أميرا له على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة ، ثم قال له : اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ولا متبتلا في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعا ، لأنكم لا تدرون ، لعلكم تحتاجون إليه ، ولا تعقروا من البهائم مما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله » ‌الحديث ، وعن النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قطع أشجار الطائف ، لكن ليس في شي‌ء منها تعميم النهي عن النار والماء كما عساه يظهر من إطلاق المصنف إلا أن يحمل على إرادة ذلك بالنسبة إلى الأشجار ، إلا أن الأمر سهل بعد كون الحكم الكراهة المحمول عليها لقصوره عن إفادة الحرمة من وجوه ، والله العالم.

ويحرم إلقاء السم كما في النهاية والغنية والسرائر والنافع والتبصرة والإرشاد والدروس وجامع المقاصد مع التقييد في كثير منها بما إذا لم يضطر إليه أو يتوقف الفتح عليه ، لخبر السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يلقى السم في بلاد المشركين » ‌بل في السرائر نسبته إلى الأخبار وإن كنا لم نجد غير الخبر المزبور وقيل يكره كما في القواعد والتحرير والتذكرة واللمعة والروضة وغيرها ، وهو المحكي عن المبسوط والإسكافي ، بل في المختلف نسبته إلى أصحابنا حملا للنهي في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٦٩ الطبع الحديث.

(٣) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٦٧

الخبر المزبور عليها ، لقصوره سندا عن إفادة الحرمة ، ولعله لذا قال المصنف وهو أشبه وفيه أن السكوني مقبول الرواية ، بل حكي الإجماع على العمل بأخباره ، نعم قد يقال إنه ظاهر في النهي عن إلقائه في البلاد ، لاستلزامه غالبا قتل الأطفال والنساء والشيوخ ومن فيها من المسلمين ونحوهم ممن يحرم قتلهم ، أما إذا فرض اختصاص قتله بالكفار الذين يجوز قتلهم بأنواع القتل فلا ، بل قد يتوقف في الجواز في الأول وإن توقف الفتح عليه ، لإطلاق الخبر المزبور ، بل إن كان هو المراد من الضرورة في عبارة من قيد أمكن منعه لذلك أيضا ومنه يعلم ما في قول المصنف فإن لم يمكن الفتح إلا به جاز بلا كراهة ، ضرورة أن الخبر مطلق ، فما عن ظاهر بعض من جوازه وإن أدي إلى قتل نفس محترمة ولم يتوقف الفتح عليه واضح الضعف لذلك وللمقدمة ، كما هو واضح.

ولو تترسوا بالنساء والصبيان منهم ونحوهم ممن لا يجوز قتله منهم كالمجانين كف عنهم مع إمكان التوصل إليهم بغير ذلك للمقدمة ، وإلا كما أشار إليه المصنف بقوله إلا في حال التحام الحرب جاز وإن استلزم قتل الترس ، خصوصا إذا خيف من الكف عنهم الغلبة ، ترجيحا لما دل على الأمر بقتلهم على ما دل على حرمة قتل الترس بخبر حفص بن غياث (١) السابق والشهرة أو عدم الخلاف وغير ذلك.

وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين وإن قتل الأسير إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك بل مقتضى إطلاق الخبر المزبور جوازه وإن لم يتوقف عليه ، بل في التحرير لو تترس الكفار بنسائهم وصبيانهم فإن كانت الحرب ملتحمة جاز قتالهم ، ولا يقصد قتل الصبي ولا المرأة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٦٨

وإن لم تكن ملتحمة بل كان الكفار متحصنين بحصن أو من وراء خندق كافين عن القتال قال الشيخ : يجوز رميهم ، والأولى تجنبهم ، ولكن ظاهره أولوية التجنب مع عدم التحام الحرب وإن توقف الفتح عليه ، كما أن ظاهره الاكتفاء في جواز قتلهم بالتحام الحرب وإن تمكن من غيره ، ومنه ينقدح ذلك أيضا في عبارة المصنف بل والفاضل في القواعد ، قال : لو تترسوا بالنساء والصبيان جاز رمي الترس في حال القتال ، اللهمّ إلا أن يكون المراد ولو بقرينة قوله أخيرا « إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك » عدم التمكن في تلك الحال وهو حال قيام الحرب من غيره كما هو الغالب ، ولذا قال في النافع : « لو تترسوا بالصبيان والمجانين ولم يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز » ونحوه ما في التبصرة والإرشاد بل والتذكرة قال : « لو تترس الكفار بنسائهم وصبيانهم فإن دعت الضرورة إلى الرمي بأن كانت الحرب ملتحمة وخيف لو تركوا لغلبوا جاز قتالهم ، ويجوز قتل الترس ، وإلا كف عنهم لأجل الترس ، لقول الصادق (١) عليه‌السلام « ولا تمسك عنهم لهؤلاء » ‌ولأن ترك الترس يؤدي إلى تعطيل الجهاد ، لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إليه » وفي الدروس « ويكف عن النساء إلا مع الضرورة ، وكذا عن الصبيان والمجانين ، ولو لم يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز » وكذا في المسالك ، نعم أطلق في اللمعة والروضة فقال : « يجوز قتل الترس ممن لا يقتل».

وخلاصة الكلام أن قتل الكافر الحربي واجب ، فمتى أمكن الوصول إليه من دون مقدمة محرمة فعل ، وإلا تعارض خطاب الوجوب والحرمة ، فمع عدم الترجيح يتجه التخيير ، ولعله المراد من الجواز في عبارة الأصحاب ، بل ظاهر الخبر المزبور ترجيح الأول على وجه يبقى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٦٩

الوجوب ، لقوله عليه‌السلام : « ولا تمسك عنهم لهؤلاء » ‌بل ربما يؤيده معلومية ترجيح الإسلام على مثل ذلك ، ولذا رمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطائف بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان ، وأما احتمال ترجيح خطاب الحرمة في الفرض فلم أجده لأحد إلا ما سمعته من الفاضل في التحرير من أولوية التجنب التي سمعتها ، ونحوه في التذكرة قال : « وإن لم تكن الضرورة داعية إلى قتلهم بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم ولم تكن الحرب ملتئمة وكان المشركون في حصن متحصن أو كانوا من وراء خندق كافين عن القتال فالأقرب كراهة قتلهم ، للنهي عن قتل النساء والصبيان ، ونحن في غنية عن قتلهم ، والقول الثاني الشافعي المنع ، وليس بجيد ، لأنه يجوز نصب المنجنيق وإن كان يصيبهم ، فلو تترسوا بهم في القلعة كذلك ، ولكن فيه ما لا يخفى ، والتحقيق ما عرفت ، ولا فرق في ذلك بين قسمي الجهاد ولا بين الترس المسلم وغيره ممن هو محترم الدم ، فما في الإيضاح ـ من رمي الترس مطلقا إذا كان الجهاد دفعا للكفار القاصدين ، وأما إذا كان للدعوة ولم يحتمل الحال تركهم رمي الترس غير المسلم ، وأما الترس المسلم فلا يجوز رميه ، لقوله تعالى (١) ( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ) الآية ، وتبعه الكركي ـ لا يخلو من نظر ، خصوصا بعد اشتمال الخبر المزبور على النساء والصبيان والأسارى والتجار من المسلمين ، وظهوره في القسم الثاني ، والآية ليست فيما نحن فيه ، هذا ، وقد صرح بعضهم باعتبار عدم القصد إلى قتل الترس ، ولعل المراد عدم قصد قتله لعداوة ونحوها مما لا مدخل له في الجهاد ، وأما قصد قتله مقدمة للفتح وغلبة الكفار والاستيلاء عليهم فهو معنى جوازه ، والله العالم.

__________________

(١) سورة الفتح ـ الآية ٢٥.

٧٠

وعلى كل حال ف لا يلزم القاتل قود في الحال المزبور إجماعا بقسميه ، ولخبر حفص (١) السابق المعتضد بالأصل وغيره ، بل ولا دية عندنا كما صرح به الشيخ والفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه ، للأصل بعد الإذن شرعا وخبر حفص السابق ، وظاهر تركها في قوله تعالى (٢) ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) بناء على مساواته للفرض باعتبار كون القصد فيهما قتل الكافر لا المؤمن ، وإن كان لا يخلو من بحث مؤيدا بأن إيجابها مقتض للتساهل في أمر الجهاد باعتبار خوف الرامي لاحتمال كون المرمي مسلما ، اللهمّ إلا أن يقال بأن الوجوب على تقديره فهو في بيت المال نحو ما تسمعه في الكفارة ، نعم هو فرع الدليل الذي قد عرفت انتفاءه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، وبه يخص‌ قوله (٣) عليه‌السلام « لا يبطل دم امرئ مسلم » ‌حتى بالنسبة إلى بيت المال كما هو مقتضى النفي في خبر حفص والفتاوى ، فما عن الشافعي من وجوبها لقوله تعالى (٤) ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) واضح الضعف ، لما عرفت ، مع أنه ليس من الخطأ قطعا ، بل هو عمد مأذون فيه ، فلا يندرج فيها.

ولكن تلزمه الكفارة كما صرح به الفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل نفى الإشكال فيه ثانيهما كما عن غيره نفي الخلاف ، ولعله كذلك وإن قال المصنف في النافع : « وفي الكفارة قولان » بل ظاهره التردد كالتحرير ، إلا أنا لم نتحققه ، نعم نسبه في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

(٢) و (٤) سورة النساء ـ الآية ٩٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢٩ من أبواب القصاص في النفس الحديث ١.

٧١

التنقيح إلى الشيخ في النهاية باعتبار نفيه الدية فيها دونها لكنه كما ترى ، وعلى تقديره فهو واضح الضعف بعد فحوى قوله تعالى ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) وعموم ما دل على وجوبها.

ولكن في بعض الأخبار وهو خبر حفص السابق لا دية عليهم ولا كفارة مؤيدا بأنها للذنب ، ولا ذنب في الفرض ، وبالأصل ، إلا أنه ـ بعد معلومية عدم اعتبار الذنب فيها ، ولذا وجبت في الخطأ الذي لا ذنب فيه ، وانقطاع الأصل بما عرفت ـ غير جامع لشرائط الحجية ، وقد أعرض عنه الأكثر أو الجميع ، فلا يصلح معارضا لما دل على وجوبها ، مع إمكان حمله على إرادة نفيها عن مال القاتل بناء على وجوبها في بيت المال كما صرح به في الروضة والمسالك لأنه من المصالح بل أهمها ، خصوصا بعد ملاحظة خوف التخاذل عن الجهاد بوجوبها على القاتل خشية الغرامة ، ولعله لا يخلو من قوة ، ولكن ظاهر المصنف والفاضل والشهيد والمقداد وجوبها على القاتل ، بل هو ظاهر الدليل من الآية وغيرها ، وهل هي كفارة خطأ لظاهر الآية ، ولأنه في الأصل غير قاصد للمسلم ، وإنما قصده الكفار فلم يجعل عامدا ولأنه مأذون فيه شرعا ، أو عمد نظرا إلى صورة الواقع ، ضرورة كونه عامدا إلى قتله ، والآية إنما وردت فيمن قتل المسلم خطأ ولو لزعمه أنه كافر ، وهو غير الفرض؟ وجهان ، أحوطهما وأقواهما الثاني.

ولو تعمده الغازي مع إمكان التحرز لزمه القود والكفارة بلا خلاف ولا إشكال للعموم وإن كانت الحرب قائمة ، ولو كان خطأ فالدية على العاقلة وعليه الكفارة كما هو واضح ، والله العالم.

٧٢

ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونهم بتشديد النون إلا مع الاضطرار بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل في المنتهى الإجماع عليه في النساء والصبيان ، بل وعلى قتل النساء مع الضرورة ، مضافا إلى ما سمعته من خبري جميل (١) الثمالي (٢) وغيرهما ، بل في رواية‌ الجمهور عن أنس بن مالك (٣) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « انطلقوا بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صغيرا ولا امرأة » ‌، كما أن فيها أيضا‌ عن ابن عباس (٤) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال من قتل هذه؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله ، قال : لم؟ قال : نازعتني قائم سيفي فسكت » ‌وفي‌ خبر حفص بن غياث (٥) الذي رواه المشايخ الثلاثة في حديث أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ قال : فقال. لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن ، فإن قاتلن أيضا فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا ، فلما نهي عن قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى ، ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها ، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها ، ولو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

(٣) سنن البيهقي ـ ج ٩ ص ٩٠ وكنز العمال ج ٢ ص ٢٧٤ الرقم ٥٨٧١.

(٤) مجمع الزوائد ـ ج ٥ ص ٣١٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ١٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٧٣

وقتلهم ، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك ، وكذا المقعد من أهل الذمة والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب ، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية » ‌ونحوه خبر الزهري (١) عن علي بن الحسين عليه‌السلام المروي عن العلل ، وفي‌ خبر السكوني (٢) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم » ‌على معنى استبقائهم وفي‌ خبر طلحة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله » ‌بناء على أن من لا جزية عليه لا يقتل كما عساه يشعر به الخبر الأول (٤).

والمراد بالضرورة أن يتترس الكفار بهن أو يتوقف الفتح على قتلهن أو نحو ذلك ، بل في المنتهى وعن التحرير لو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها‌ روى عكرمة (٥) قال : « لما حاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال : ها دونكم فارموا فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها » ‌ويجوز النظر إلى فرجها للرمي وإن كان لا يخلو من نظر ، لعدم اندراج نحو ذلك في الضرورة والخبر ليس من طرقنا ، بل مقتضى إطلاق النهي في النصوص من طرقنا خلافه ، نعم لو قاتلن جاز قتلهن ، مع أنك قد سمعت ما في خبر حفص من الأمر بالإمساك عنهن ما أمكن مع ذلك ، ولكن‌ في المنتهى‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) الوسائل ـ الباب ١٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ١

(٥) سنن البيهقي ج ٩ ص ٨٢.

٧٤

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل يوم بني قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة (١) ووقف على امرأة مقتولة فقال ما بالها قتلت وهي لا تقاتل (٢) ‌وفيه إشعار بجواز قتلها إذا قاتلت.

وأولى من ذلك المراهقون إذا قاتلوا أودعت الضرورة من توقف الفتح ونحوه على قتلهم ، أما مع عدم ذلك فلا يجوز قتلهم ، لإطلاق النهي

وكذا لا يجوز قتل الشيخ الفاني الذي لا رأي له ولا قتال بلا خلاف أجده فيه ، بل قد يظهر من التذكرة والمنتهى الإجماع عليه لإطلاق النهي عن قتله فيما سمعته من النصوص مؤيدا بكونه كالمرأة والصبي ، نعم لو كان ذا رأي وقتال قتل إجماعا محكيا في المنتهى والتذكرة إن لم يكن محصلا ، لعموم الأدلة الذي لا يخصصه إطلاق النهي عن الشيخ المنزل على غير الفرض ولو للإجماع المزبور ، بل في المنتهى دعواه أيضا على ذي الرأي دون القتال ، قال. « لأن دريد بن الصمة قتل يوم خيبر وكان له مائة وخمسون سنة ، وكان له معرفة بالحرب ، وكان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرفهم كيفية القتل ، فقتله المسلمون ولم ينكر عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ونحوه في التذكرة ، قال : « الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي وقتال جاز قتله إجماعا ، وكذا إن كان فيه قتال ولا رأي له ، أو كان له رأي ولا قتال فيه ، لأن دريد بن الصمة قتل يوم خيبر ، والأصح يوم حنين » إلى آخره ، وبذلك ظهر الحال في الأحوال الأربعة للشيخ التي يقتل في ثلاثة منها ، لما عرفت من العموم وغيره دون الرابعة ، خلافا لأحمد والمزني وأبي إسحاق والشافعي في أحد قوليه فيقتل أيضا ، للعموم‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٨٢ وفيها محمود بن مسلمة.

(٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ٩١.

٧٥

المخصوص بما عرفت. ويلحق به المقعد والأعمى كما صرح به الفاضل ، وسمعت ما في خبر حفص ، لكن ينبغي تقييد ذلك أيضا بما إذا لم يكونا ذا رأي في الحرب ولم يقاتلا ولم تدع الضرورة إلى قتلهما كما إذا تترسوا بهما ونحو ذلك مما عرفته.

وألحق الفاضل والشهيدان أيضا الخنثى المشكل بالمرأة ، ولعله لترجيح مراعاة مقدمة الحرام على مقدمة الواجب ، ضرورة وجوب قتل المشركين وحرمة قتل النساء ، أو لدعوى عدم اندراجها في أدلة الوجوب باعتبار كون الخطاب به للمذكرين ، وعلى كل حال فلا ريب في التقييد بعدم الضرورة نحو ما سمعته في النساء ، هذا.

وفي القواعد يقتل الراهب ولكن في التحرير : الرهبان وأصحاب الصوامع يقتلون إن كان لهم رأي وقتال » وفي التذكرة « الرهبان وأصحاب الصوامع يقتلون إن كان لهم قوة ورأي أو كانوا شبانا » وفي المختلف « قال في المبسوط : أهل الصوامع والرهبان يقتلون ، وقال ابن الجنيد : لا يقتل منهم راهب ولا صاحب صومعة حيث قد حبس نفسه فيه إلا أن يكون أحد منهم قتل أحدا من المسلمين ، ويكون منهم يخاف مع ترك قتلهم النكاية بالمسلمين ، والأقرب ما اختاره الشيخ ، لعموم الأدلة » وفي المنتهى « الرهبان وأصحاب الصوامع يقتلون إن كانوا شيوخا لهم قوة أو رأي ، وكذا لو كانوا شبانا قتلوا كغيرهم إلا من كان شيخا فانيا للعموم ، قال الشيخ : وقد روي أنهم لا يقتلون » قلت : قد سمعت النهي عن قتل المتبتل في شاهق في خبر مسعدة بن صدقة (١) إلا أنه غير جامع لشرائط الحجية ، ومن هنا يقوى العمل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

٧٦

بالعموم ، كقوله تعالى (١) ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ونحوه الشامل للمريض أيضا الذي لم ييأس من برئه ، فإنه حينئذ بمنزلة الجريح الذي يجهز عليه ، نعم لو يئس من برئه ففي المنتهى والتحرير لم يقتل كالنساء ، مع أنه لا يخلو من بحث للعموم ، وكونهم شر الدواب ، وفي قتلهم تطهير للأرض منهم.

ومن هنا يقتل الفلاح الذي لم يقاتل ، وقول عمر بن الخطاب (٢) « اتقوا الله في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب‌ ليس بحجة ، خصوصا مع معارضة الكتاب والسنة كالمحكي عن الشافعي في أحد قوليه من عدم قتل أرباب الحرف والصناعات والسوقة الذين لا يتعاطون القتال ولا يمارسون الأسلحة.

نعم في التذكرة لا يقتل رسول الكافر ،روى العامة عن ابن مسعود (٣) « أن رجلين أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولين لمسيلمة فقال لهما : اشهدا أني رسول الله فقالا : نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت قاتلا رسولا لضربت عنقيكما » ‌ومنه يستفاد الأمان للرسل الذي هو مقتضى المصلحة والسياسة ، ضرورة مسيس الحاجة إلى ذلك كما هو واضح ، والله العالم.

ولا يجوز التمثيل بهم بقطع الآناف والآذان ونحو ذلك في حال الحرب بلا خلاف أجده فيه ، لما سمعته من النهي عنه في‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٥.

(٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ٩١ وكنز العمال ـ ج ٢ ص ٢٩٦ الرقم ٦٢٦٦.

(٣) مجمع الزوائد ـ ج ٥ ص ٣١٤.

٧٧

النصوص (١) السابقة ، مضافا إلى ما‌ عن علي عليه‌السلام (٢) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا تجوز المثلة ولو بالكلب العقور » وإلى مخافة استعمالهم إياها مع المسلمين ، بل مقتضى النصوص وأكثر الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين حال الحرب وغيره ، وبين ما بعد الموت وقبله ، فما عساه يشعر به التقييد بحال الحرب في المسالك والرياض في غير محله ، بل لا فرق أيضا بين ما لو فعلوا ذلك بالمسلمين وعدمه ، وإن كان مقتضى قوله تعالى (٣) ( وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ) الجواز لكن إطلاق النص والفتاوى يقتضي عدمه ، نعم في القواعد والتذكرة يكره نقل رءوس الكفار إلا مع نكاية الكفار به أي إذ لا لهم ، وزاد في الثاني ما لو أريد معرفة المسلمين بموته ، فإن أبا جهل لما قتل حمل رأسه ، وإن لم يكن كذلك كان مكروها ، فإنه لم ينقل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأس كافر قط ، قلت : لعل ذلك ليس من التمثيل أو هو مستثنى ، لكن يتوقف على الدليل ، والله العالم.

وكذا لا يجوز الغدر بهم بأن يقتلوا بعد الأمان مثلا ، قال في مجمع البحرين : « الغدر ترك الوفاء ونقض العهد » بلا خلاف أجده فيه ، للنهي عنه أيضا في النصوص (٤) السابقة ، مضافا إلى قبحه في نفسه وتنفير الناس عن الإسلام ، قال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو.

(٢) الوسائل ـ الباب ٦٢ من أبواب القصاص في النفس الحديث ٦ والاختصاص للمفيد ص ١٥٠.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ١٩٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ١٥ و ٢١ من أبواب جهاد العدو.

٧٨

أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر الأصبغ بن نباتة (١) في أثناء خطبة له « لو لا كراهة الغدر كنت من أدهى الناس ، ألا إن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة ، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار » وفي خبر طلحة بن زيد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام سأله « عن فرقتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا ، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ، ولا يجوز عليهم ما عاهدوا عليه الكفار » ‌

نعم تجوز الخدعة في الحرب كما صرح به الفاضل في جملة من كتبه ، بل في التذكرة والمنتهى دعوى الإجماع ، قال : تجوز المخادعة في الحرب وأن يخدع المبارز قرينه ليتوصل بذلك إلى قتله إجماعا ، ثم قال : و‌روى العامة « أن عمرو بن عبد ود بارز عليا عليه‌السلام فقال : ما أحب ذلك يا ابن أخي ، فقال علي عليه‌السلام لكني أحب أن أقتلك فغضب عمرو فأقبل إليه فقال علي عليه‌السلام : ما برزت لأقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب علي عليه‌السلام فضربه ، فقال عمرو خدعتني ، فقال عليه‌السلام : الحرب خدعة » ‌وفي‌ خبر إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام كان يقول لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أقول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يقل ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢١ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢١ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٥٣ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٧٩

يقول : الحرب خدعة ، ويقول تكلموا بما أردتم » وقال الصدوق من ألفاظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحرب خدعة ،وفي‌ خبر أبي البختري (١) المروي عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه قال : « الحرب خدعة ، وإذا حدثتكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فو الله لأن أخر من السماء أو تخطفني الطير أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلغه أن بني قريظة بعثوا إلى أبي سفيان إذا التقيتم أنتم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمددناكم وأعناكم ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيبا فقال : إن بني قريظة بعثوا إلينا إنا إذا التقينا نحن وأبو سفيان أمدونا وأعانونا فبلغ ذلك أبا سفيان ، فقال غدرت يهود فارتحل عنهم » ‌وقال عدي بن حاتم (٢) « إن عليا عليه‌السلام قال يوم التقى هو ومعاوية بصفين فرفع بها صوته يسمع أصحابه : والله لأقتلن معاوية وأصحابه ، ثم قال في آخر قوله إن شاء الله وخفض بها صوته وكنت منه قريبا فقلت يا أمير المؤمنين عليه‌السلام إنك حلفت على ما قلت ، ثم استثنيت فما أردت بذلك؟ فقال : إن الحرب خدعة وأنا عند المؤمنين غير كذوب ، فأردت أن أحرض أصحابي عليهم كي لا يفشلوا ولكي يطمعوا فيهم ، فافهم فإنك تنتفع بها بعد اليوم إن شاء الله ، واعلم أن الله عز وجل (٣) قال لموسى عليه‌السلام حيث أرسله إلى فرعون فأتياه ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى )

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٥٣ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤ ـ ٢

(٣) سورة طه ـ الآية ٤٦.

٨٠