جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وكذا ما في‌ خبر محمد بن عيسى (١) المروي عن قرب الإسناد عن الرضا عليه‌السلام « عن رجل من هؤلاء مات وأوصى أن يدفع من ماله فرس وألف درهم وسيفان يرابط عنه ويقاتل في بعض هذه الثغور فعمد الوصي ودفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا فأخذه منه وهو لا يعلم ثم علم أنه لم يأن لذلك وقت بعد فما تقول يحل له أن يرابط عن الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟ فقال يرد إلى الوصي ما أخذ منه ولا يرابط ، فإنه لم يأن لذلك وقت بعد ، فقال يونس : فإنه لم يعرف الوصي قال : يسأل عنه ، قال : فقد سأل عنه فلم يقع عليه كيف يصنع يقاتل أم لا؟ فقال له الرضا عليه‌السلام إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل عن هؤلاء ولكن يقاتل عن بيضة الإسلام فإن في ذهاب بيضة الإسلام درس ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌بل لا أجد فيه خلافا عدا ما يحكى عن الشيخ والقاضي ولم أتحققه ، بل قيل إنهما أفتيا بمضمون الخبر المزبور وإن زادا ذكر لفظ المرابطة ، لكن يمكن إرادة غير المشروعة منها ، وهي التي تتضمن قتالا غير مشروع نعم صرح في النهاية والتحرير والمنتهى بعدم تأكده حال الغيبة ، ولم أجد ما يشهد له عدا ما سمعته من خبر قرب الإسناد (٢) المحمول على إرادة القتال من المرابطة فيه ، بل مقتضى إطلاق الأدلة السابقة عدم الفرق بين الحضور والغيبة ، ولعله لذا كان ظاهر غير واحد عدم الفرق ، بل في الروضة التصريح بالتأكد فيهما ، نعم قيل : وجهه عدم الخلاف فيه في الأول فتوى ورواية ، بخلاف زمان الغيبة فإن فيه الخلاف أو احتماله فتوى ورواية ، مع أن عبارة السرائر صريحة في عدم جزمه باستحبابه ، بل ظاهر مساق عبارته العدم ، لكنه كما ترى.

وكيف كان فالرباط أقله ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما كما‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ مع الاختلاف.

٤١

صرح به في النهاية والمنتهى والتذكرة والإرشاد والقواعد والدروس وجامع المقاصد والروضة وغيرها ، بل في المنتهى نسبة الأول إلى علمائنا والتذكرة إلى الاتفاق عليه ، و‌قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام في خبر زرارة ومحمد بن مسلم (١) : « الرباط ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما فإذا جاز ذلك فهو جهاد » ‌أي ثوابه ثواب المجاهدين كما صرح به غير واحد وإن بقي على وصف المرابطة كما صرح به في الدروس ، وعلى كل حال فما عن الإسكافي من أن أقله يوم كالمحكي عن أحمد من العامة من أنه لا طرف له في القلة محجوج بما عرفت ، اللهمّ إلا أن يقال للتسامح في السنن بأن مقتضى النبوي (٢) السابق تحققه برباط ليلة ويمكن إرادة الإسكافي باليوم ما يشملها مع البياض ، وحينئذ فما في الروضة ـ من أن أقله ثلاثة ، فلا يستحق ثوابه ولا يدخل في النذر والوقف والوصية للمرابطين بإقامة دون الثلاثة ، إلى أن قال : ولو نذره وأطلق وجب ثلاثة بليلتين بينهما كالاعتكاف لا يخلو من نظر ، خصوصا بعد إطلاق ما دل على فضله الذي لا يحكم عليه الخبر المزبور بناء على عدم حمله على المقيد في المندوبات ، هذا.وقد‌ قال أبو عبد الله الجعفي (٣) قال لي أبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام : « كم الرباط عندكم؟ قلت : أربعون ، قال لكن رباطنا الدهر ، ومن ارتبط فينا دابة كان له وزنها ووزن وزنها ما كانت عنده ، ومن ارتبط فينا سلاحا كان له وزنه ووزن وزنه ما كان عنده ، لا تجزعوا من مرة ولا من مرتين ولا من ثلاث ولا من أربع ، فإنما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

(٢) كنز العمال ـ ج ٢ ص ٢٥٣ الرقم ٥٣٧٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ٥٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٤٢

مثلنا ومثلكم مثل نبي كان في بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه أن ادع قومك للقتال ، فإني سأنصركم ، فجمعهم من رءوس الجبال ومن غير ذلك ثم توجه بهم ، فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى انهزموا ثم أوحى الله تعالى إليه أن ادع قومك إلى القتال فإني سأنصركم ، فدعاهم فقالوا وعدتنا النصر فما نصرنا ، فأوحى الله تعالى إليه إما أن يختاروا القتال أو النار ، فقال : القتال أحب إلي من النار ، فدعاهم فأجابه منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر ، فتوجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى فتح الله لهم » ‌وهو محمول على إرادة ترقب الفرج ساعة بعد ساعة كما جاءت به النصوص (١) لا الرباط المصطلح ، كما هو واضح ، والله العالم.

ومن لم يتمكن منها أي المرابطة بنفسه يستحب أن يربط فرسه هناك كما في النافع والقواعد والتحرير وغيرها ، والظاهر عدم إرادة الشرطية من ذلك ، فيرجع إلى ما في التذكرة من استحباب المرابطة بنفسه وفرسه وغلامه وجاريته وإعانة المرابطين ، ونحوه ما في الإرشاد والدروس واللمعة والروضة وغيرها ، ضرورة كون ذلك من الإعانة على البر والتقوى ، ومن هنا لم يكن فرق بين الفرس وغيرها من الدواب والغلام والجارية ونحوها مما ينتفع بها المرابطون ، فيبيح حينئذ لهم الانتفاع بذلك ، وفي‌ خبر جعفر بن إبراهيم الجعفري (٢) « سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : من ربط فرسا عتيقا محيت عنه ثلاث‌

__________________

(١) البحار ـ ج ١٣ ص ١٣٦ الطبعة الكمپاني.

(٢) الوسائل ـ الباب ٤ من أبواب أحكام الدواب ـ الحديث ٢ من كتاب الحج عن إبراهيم الجعفري إلا أن الموجود في المحاسن يعقوب بن جعفر بن إبراهيم بن محمد الجعفري.

٤٣

سيئات وكتبت له إحدى عشر حسنة ، ومن ارتبط هجينا محيت عنه في كل يوم سيئتان وكتبت له سبع حسنات ، ومن ارتبط برذونا يريد به جمالا أو قضاء حوائج أو دفع عدو عنه محيت عنه كل يوم سيئة واحدة وكتبت له ست حسنات » ‌ورواه في الفقيه بإبدال السبع بالتسع ، وأفضل الرباط أشد الثغور خطرا ، نعم لا ينبغي له نقل الأهل والذرية إلى الثغور المخوفة بل ربما حرم.

وكيف كان ف لو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام عليه‌السلام وبسط يده وفقده أي غيبته أو قصور يده كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا معتدا به ، بل عن السرائر ما يشعر بدعوى الإجماع عليه ، بل ولا إشكالا لما عرفته من استحبابها على كل حال ، لكن مقتضى ما تسمعه من الشيخ في نذر المال عدم انعقاد النذر عليها ، ولا ريب في ضعفه.

وكذا لو نذر أن يصرف شيئا في المرابطين وجب أيضا لذلك مع بسط يد الإمام إجماعا بقسميه ، بل ومع غيبته أو قصور يده على الأصح ، وقيل والقائل الشيخ في النهاية ، بل قيل وجماعة : يحرم ويصرفه في وجوه البر إلا مع خوف الشنعة بعدم الوفاء بالنذر ، أو بأنه لا يرى صحته للمرابطة فيه أو غير ذلك ، لخبر علي ابن مهزيار (١) « كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام أني كنت نذرت نذرا منذ سنين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا مما يرابط فيه المطوعة نحو مرابطتهم بجدة وغيرها من سواحل البحر أفترى جعلت فداك أنه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني أو أفتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشي‌ء من أبواب البر لأصير إليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٤٤

إن شاء الله فكتب عليه‌السلام إليه بخطه وقرأته إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته ، وإلا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البر ، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى ».

ولا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده بعد ما عرفت من استحباب صرف المال في إعانتهم ، فينعقد النذر عليه ولا يجوز صرفه في غيره في حال بسط اليد أو قصورها الذي هو مورد الخبر المزبور الذي أعرض عنه الأكثر ، بل في التذكرة « لو نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين وجب الوفاء به إجماعا ، سواء كان الإمام ظاهرا أو مستترا » إلى آخره ، على أن مورد الخبر المزبور نذر الخروج بنفسه وإن كان يلزمه صرف مال ، أو يكون المراد أني أخرج شيئا من المال ، وعلى كل حال فإذا فرض عدم انعقاد النذر لم يكن عليه شي‌ء لأصرف ذلك في وجوه البر ولا غيره ، فالمتجه حينئذ حمل الخبر المزبور على نذر لخصوص مرابطين مرابطة غير مشروعة ولو باعتبار كونهم جندا للمخالفين أو غير ذلك ، وحمل الصرف حينئذ على ضرب من الندب ، والله العالم.

ولو آجر نفسه أو غلامه أو دابته أو غير ذلك وجب عليه القيام بها ولو كان الإمام عليه‌السلام مستورا لعموم الأدلة وأولويتها من الجهاد بذلك بعد ما عرفت من كونها مندوبة في حالتي الظهور والاستتار ، بل لو قلنا بوجوبها جاز على نحو ما سمعته في الجهاد التي هي من لواحقه وقيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه إن وجد الأجير المستأجر أو ورثته ردها وإلا قام بها وفي المسالك استنادا إلى رواية تدل عليه ظاهرا لكن لم أجد إلا ما سمعته من خبري يونس ومحمد بن عيسى وخبر علي بن مهزيار ، وليس في شي‌ء منها‌

٤٥

الإجارة ، اللهمّ إلا أن يدعى استفادة حكمها من الأولين بل والثالث ، إلا أن مقتضى ذلك فسادها لا القيام بها مع عدم وجدان المستأجر ، ولعله لفحوى ما سمعته في الخبرين الأولين ، وعلى كل حال فلا ريب في ضعف القول المزبور وأن الأولى والأصح الوجوب من غير تفصيل لعموم الأدلة بعد ما عرفت من مشروعيتها على كل حال‌

( الركن الثاني )

( في بيان من يجب جهاده وكيفية الجهاد )

وفيه أطراف خمسة الأول فيمن يجب جهاده ، وهم ثلاثة الأول البغاة على الإمام من المسلمين عليه‌السلام ويلحق بهم مانعوا الزكاة وإن لم يكونوا مستحلين كما تعرفه إن شاء الله ، والثاني أهل الذمة ، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلوا بشرائط الذمة والثالث من عدا هؤلاء من أصناف الكفار ، وكل من يجب جهاده فالواجب على المسلمين النفور إليهم ، إما لكفهم عن فسادهم كما في البغاة الذين هم من المسلمين ، ومن هجم على بلاد الإسلام من غيرهم على وجه يخشى منه على بيضة الإسلام أو على أسر المسلمين وقتلهم وسبي ذراريهم وإما لنقلهم إلى الإسلام أو الإيمان أو إعطاء الجزية كما في الأقسام الثلاثة أيضا ، فما قيل ـ من كون العبارة لفا ونشرا مرتبا على أن يكون لكفهم للبغاة ، ولنقلهم إلى الإسلام للقسمين الأخيرين‌

٤٦

سلا يخلو من نظر ، ولا يشكل ذلك بأن البغاة كفار مرتدون عن فطرة أو أكثرهم أو بعضهم ، والمرتد كذلك لا تقبل توبته عندنا كما في حاشية الكركي والمسالك ، لإمكان القول بقبول توبة هؤلاء خاصة كما وقع من أمير المؤمنين عليه‌السلام معهم ، ولعله لكون الشبهة عذرا في حقهم ، ولذا اختصوا بأحكام لا تكون لغيرهم كما تسمعه إن شاء الله في محله ، وحينئذ يتجه تعلق الحكم المزبور بكل من الأقسام الثلاثة.

وكيف كان فلا إشكال في أصل الحكم بعد الأمر به والحث الأكيد عليه كتابا وسنة ، بل هو إن لم يكن من الضروريات فلا ريب في كونه من القطعيات ، نعم قد يمنع الوجوب ، بل قد يقال بالحرمة لو أراد الكفار ملك بعض بلدان الإسلام أو جميعها في هذه الأزمنة من حيث السلطنة مع إبقاء المسلمين على إقامة شعار الإسلام وعدم تعرضهم في أحكامهم بوجه من الوجوه ، ضرورة عدم جواز التغرير بالنفس من دون إذن شرعي ، بل الظاهر اندراجه في النواهي عن القتال في زمن الغيبة مع الكفار في غير ما استثني ، إذ هو في الحقيقة إعانة لدولة الباطل على مثلها.

نعم لو أراد الكفار محو الإسلام ودرس شعائره وعدم ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشريعته فلا إشكال في وجوب الجهاد حينئذ ولو مع الجائر لكن بقصد الدفع عن ذلك لا إعانة سلطان الجور ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى النصوص (١) بالخصوص التي تقدم بعضها ، وإلى عموم الأمر بالقتال في الآيات المتكثرة الشاملة للفرض ، بل ظاهر الأصحاب أنه من أقسام الجهاد فتشمله حينئذ آياته ورواياته وإن كان لا يشترط فيه الشرائط الخاصة التي هي للجهاد الابتدائي للدعاء إلى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦ و ٧ من أبواب جهاد العدو.

٤٧

الإسلام كما تقدم بعض الكلام فيه ، ولقد أطنب بعض أفاضل العصر في الاستدلال على وجوبه وفي ذكر أحكام في ذلك تزيد على خمسين وإن كان جملة منها من الواضحات كذكره التقصير في السفر فيه الذي هو من المعلومات الأولية بعد أن كان سفر طاعة واجبة ، وبعضها واضح المنع ، كدعوى كون المقاتلة المزبورة من الواجب العيني على جميع الناس وأغرب شي‌ء ذكره منها أنه رجح كون الوجوب فيه على التراخي ، ثم ذكر لو تعارض مع الحج فهل يقدم عليه أو يقدم القتال عليه ، مع أن من المعلوم فورية وجوب الحج ، فلا ينبغي معارضة الواجب على التراخي إياه ، هذا بعد الإغضاء عن دعوى كون الوجوب في الفرض على التراخي ، خصوصا في بعض الأحوال ، بل والإغضاء عما في كثير من كلامه من أشباه ذلك.

وكيف كان فإن بدءوا المسلمين بالقتال فالواجب محاربتهم مع المكنة بلا خلاف ولا إشكال ، بل هو كالضروري ، بل إن كفوا وجب ابتداؤهم بها بحسب المكنة كذلك أيضا بعد تعاضد الكتاب والسنة والمعلوم من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين من شدة المواظبة والحث عليه حتى تكرر ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في النزع ، وخصوصا في تنفيذ جيش أسامة بن زيد ، لكن قد يظهر من العبارة اعتبار المكنة في الثاني دون الأول ، ولكن من المعلوم عدم إرادته ، ضرورة اعتبارها في كل منهما ، نعم هي في الأول بمعنى القدرة على دفعهم وردهم وكف أذاهم ، وفي الثاني القدرة على مقاومتهم وقهرهم على الإسلام والقيام بشرائط الذمة إن كانوا من أهلها ، وإلا فالقتل.

٤٨

ولعل اقتصار المصنف عليها في الثاني مقدمة لقوله وأقله في كل عام مرة كما سمعته سابقا من غير واحد مستدلين عليه بقوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) إلى آخره بالتقريب الذي أسلفناه ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، ولذا قيل التحقيق خلاف ذلك في الوجود والعدم ، فقد تجب الزيادة عليها مع الحاجة ، كخوف قوة العدو مع الاقتصار عليها ، وأداؤه إلى ضعف المسلمين عنهم ، ويجوز تركه أصلا في السنة بل والسنتين للعذر مثل أن يكون في المسلمين ضعف في عدد أو عدة أو حصول مانع في الطريق ، كعدم الماء ونحوه ، أو لرجاء الرغبة في الإسلام أزيد من القتال ونحو ذلك ، بل إن اقتضت المصلحة للإسلام والمسلمين مهادنتهم جاز أو وجب لكن لا يتولى ذلك إلا الإمام عليه‌السلام أو من يأذن له بالخصوص أو بما يشمله كما صالح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشا عشرين سنة حتى نقضوا العهد على ما حضرني من نسخة المسالك ، ولكن المعروف أن أقصى مدة صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر سنين كما ستعرف التحقيق فيه إن شاء الله بل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة لها أيضا ، وقد سمعت سابقا البحث في جواز تولي نائب الغيبة ذلك.

الطرف الثاني من الأطراف في كيفية قتال أهل الحرب ، والأولى وفي التحرير والقواعد والمنتهى ومحكي السرائر ينبغي للإمام عليه‌السلام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار إلا أن يكون الأبعد أشد خطرا ويمكن إرادة الوجوب من ذلك ، كما هو ظاهر النافع والإرشاد والتذكرة والدروس واللمعة وغيرها ، بل هو صريح الكركي وثاني الشهيدين ، لقوله تعالى (١) ( قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ )

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ١٢٤.

٤٩

الظاهر في الوجوب وإن كان قد يناقش بأن الأمر بمقاتلتهم غير الأمر بالبداءة بقتالهم ، فتبقى العمومات حينئذ بحالها ، نعم يتجه إرادة التأكد فيهم كما في كل عام أمر ببعض أفراده بالخصوص بعد الأمر بالعموم ، ومن هنا صرح المقداد بالندب الذي يشعر به التعبير بالأولى وينبغي ، بل يمكن إرادته من غيرهم أيضا ، ولعله لكونه مقتضى السياسة أيضا ، نعم إذا كان الأبعد أشد خطرا وأكثر ضررا بدأ به كما صرح به الفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل لا أجد فيه خلافا ، ولذا أغار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) على الحارث بن أبي ضرار لما بلغه أنه تجمع له ، وكان بينه وبينه عدو أقرب منه ، وكذا فعل بخالد بن سفيان الهذلي (٢) أو كان الأقرب مهادنا كما صرح به أيضا غير واحد أو منع من مقاتلة الأقرب مانع ، وبالجملة ينبغي مراعاة المصلحة في ذلك ، وهي مختلفة باختلاف الأحوال ، ومنه يعلم حال الأقرب فالأقرب فإن ذلك من أحكام السياسة التي ترجع إلى نظر الإمام عليه‌السلام ومأذونه ولذا يجب على الإمام عليه‌السلام ومنصوبه التربص إذا كثر العدو وقل المسلمون حتى تحصل الكثرة للمقاومة ثم تجب المبادرة كما في القواعد ، ولكن في التحرير يستحب له أن يتربص بالمسلمين مع القلة ويؤخر الجهاد حتى يشتد الأمر بالمسلمين ، ولعل المراد حال آخر غير المفروض

ثم إن الكثرة المقاومة تختلف باختلاف الحال ، و‌قال عمر بن أبي نصر (٣) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : خير الرفقاء أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير العساكر أربعة آلاف ، ولا تغلب‌

__________________

(١) و (٢) سنن البيهقي ـ ج ٩ ص ٣٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ٥٤ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ عن عمرو بن أبي نصر.

٥٠

عشرة آلاف من قلة » ‌وفي‌ خبر فضيل بن حنتم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا يهزم جيش عشرة آلاف من قلة » وقال شهر بن حوشب (٢) « سألني الحجاج عن خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مشاهدة فقلت : شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدرا في ثلاث مائة وثلاثة عشر ، وشهد أحدا في ستمائة ، وشهد الخندق في تسعمائة ، فقال. عمن قلت؟ قلت عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام فقال : ضل والله من سلك غير سبيله » وفي المروي (٣) عن الخصال بسنده إلى ابن عباس قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ولم يهزم اثنا عشر ألف من قلة إذا جردوا وصدقوا ».وكيف كان فينبغي للإمام عليه‌السلام ملاحظة أطراف بلاد المسلمين فيجعل فيها من يكف المشركين ويعمل الحصون ويحفر الخنادق وغير ذلك مما يحترس المسلمون به ، كما أنه ينبغي له جعل أمير في كل ناحية يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد ذي أمانة ورفق ونصح للمسلمين ورأي وقوة وشجاعة ومكابدة للعدو ، وإذا احتاج إلى المدد مده ، إلى غير ذلك مما يقتضيه الحال ، فإن الجهاد موكول إلى نظر الإمام عليه‌السلام ويلزم الرعية طاعته كما يراه.

وكيف كان ف لا يبدءون أي الكفار الحربيون بالقتال مع عدم بلوغ الدعوى إليهم إلا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وهي الشهادتان وما يتبعهما من أصول الدين وامتناعهم عن ذلك وعن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٥٤ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ ـ ٣ ـ ٤ عن فضيل بن خيثم.

٥١

إعطاء الجزية إن كانوا من أهلها بلا خلاف أجده بل ولا إشكال ، وفي‌ خبر مسمع بن عبد الملك (١) عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن فقال : يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه ، وايم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي » ‌ونحوه غيره من النصوص ، مضافا إلى الأصل وغيره بعد ظهور الأدلة في الأمر بجهادهم وقتلهم كي يسلموا ، فلا بد من إعلامهم أن المراد ذلك لا طلب المال والملك ونحوهما مما يستعمله الملوك ، ولكن لو بدر أحد من المسلمين إلى أحد من الكفار وقتله قبل الدعوة أثم ولا ضمان ، خلافا للشافعي فحكم بالضمان للقياس على الذمي الذي هو مع بطلانه في نفسه عندنا مع الفارق ، بل ربما حكي عن الشيخ نفي الأمرين معا ، ولكن فيه أنه مناف لما عرفت من عدم جواز قتالهم قبل الدعوة إلى الإسلام.

وعلى كل حال ففي النافع والتحرير والتذكرة والتبصرة والإرشاد والقواعد والدروس والروضة يكون الداعي الإمام عليه‌السلام أو من نصبه وربما ظهر منهم الوجوب ، بل قيل إنه يدل عليه خبر مسمع (٢) السابق وإن كان فيه ما لا يخفى ، بل ربما ظهر من‌ خبر السلمي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام خلافه ، قال : « إني كنت أكثر الغزو وأبعد في طلب الأجر وأطيل الغيبة ، فحجروا ذلك علي ، فقالوا : لا غزو إلا مع إمام عادل ، فما ترى أصلحك الله تعالى » ‌إلى آخر ما سمعته سابقا ، ولعله لذا حكي عن النهاية والسرائر التعبير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٠ من أبواب جهاد العدو الحديث.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ١٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ ـ ٢

٥٢

بينبغي المشعر بالندب المحتمل إرادته ممن عرفت أيضا ، بل قيل هو أوفق بقولهم : « وتسقط الدعوة عمن قوتل لها وعرفها » الشامل لدعاء الإمام عليه‌السلام ومنصوبه وغيرهما ، وإن كان فيه إمكان إرادة الدعوة من الإمام عليه‌السلام ومنصوبه ، خصوصا ممن ذكر ذلك متصلا بالعبارة السابقة ، بل لا تخفى عليك أمارات التقية من الخبر المزبور ، وإلا فقد عرفت عدم جواز الغزو في زمان الغيبة ، نعم قد يقال إنه لا دليل صالح على الوجوب ، والأصل البراءة ، مؤيدا بحصول الغرض بصدورها من كل أحد ، والظاهر الاكتفاء ببلوغها إلى رئيسهم مشافهة أو مراسلة أو مكاتبة ، والأولى اعتبار بلوغها إلى كل مقاتل منهم ، كما أن الأولى كونها بالمأثور ، وهو بسم الله أدعوك إلى الله وإلى دينه ، وجماعة أمران أحدهما معرفة الله ، والآخر العمل برضوانه ، وأن معرفة الله أن يعرفه بالوحدانية والشرافة والعلم والقدرة والعلو في كل شي‌ء وأنه الضار النافع القاهر لكل شي‌ء الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن ما جاء به الحق من عند الله ، وأن ما سواه لهو الباطل ، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمؤمنين وعليهم ما على المؤمنين.

وكيف كان فقد صرح الشيخ والفاضلان والشهيدان وغيرهم بأنه يسقط اعتبار وجوب الدعوة على تقديره في حق من عرفها بقتال سابق عليها أو بغير ذلك ، للأصل وما سمعته في خبر السلمي وما حكاه غير واحد (١) من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزا بني المصطلق وهم آمنون وإبلهم تسقى على الماء واستأصلهم ، بل لعله لا خلاف فيه وإن حكي عن إطلاق النهاية والسرائر والتبصرة ، لكن‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٢٠ ص ٢٨١ إلى ص ٣٠٩ الطبع الحديث.

٥٣

يمكن تنزيله على غير الفرض الذي لا حكمة ظاهرة في وجوبها فيه مع فرض علمهم بها.

نعم هو مستحب كما صرح به غير واحد لتأكيد الحجة ، وللمحكي (١) من فعل علي عليه‌السلام عند مقاتلة عمرو بن عبدود ، وما سمعته (٢) من وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له عليه‌السلام لما بعثه إلى اليمن ، وما يحكى من دعوة سلمان أهل فارس وغير ذلك ، ولجواز حدوث الرغبة في الإسلام أو إعطاء الجزية أو إيقاع الهدنة ، وخصوصا إذا كانت بلاد المشركين واسعة يجوز فيها من لم تبلغه الدعوة ، ولا تخص الدعوة الحربي من غير أهل الكتاب ، بل هي شاملة لهم ولغيرهم وإن زادت فيهم بطلب الجزية.

ويستحب الدعاء بالمأثور ففي‌ خبر الميمون (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان إذا أراد القتال قال هذه الدعوات اللهمّ إنك أعلمتنا سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك ، وندبت إليه أولياؤك ، وجعلته أشرف سبلك عندك ثوابا وأكرمها لديك مآبا وأحبها إليك مسلكا ، ثم اشتريت له من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليك حقا فاجعلني ممن اشترى فيه منك نفسه ثم وفى لك ببيعه الذي بايعك عليه غير ناكث لك ، ولا ناقض لك عهدا ، ولا مبدل تبديلا ، بل استحبابا لمحبتك ، وتقربا به إليك ، فاجعله خاتمة عملي ، وصير فيه فناء عمري وارزقني فيه لك به مشهدا توجب لي به منك الرضا ، وتحط به عني‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٢٠ ص ٢٢٧ و ٢٥٣ و ٢٥٥ الطبع الحديث.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٠ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٥٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٥٤

الخطايا ، وتجعلني في الأحياء المرزوقين بأيدي العداة والعصاة تحت لواء الحق وراية الهدى ، ماضيا على نصرتهم ، قدما غير مول دبرا ولا محدث شكا ، اللهمّ وأعوذ بك عند ذلك من الجبن عند موارد الأهوال ومن الضعف عند مساورة الأبطال ، ومن الذنب المحبط للأعمال ، فأحجم من شك أو أمضي بغير يقين ، فيكون سعيي في تباب ، وعملي غير مقبول ».

ثم إنه ينبغي اتخاذ الشعار في الحرب ، وهو النداء الذي يعرف به أهلها فيكون علامة على ذلك ، قال الصادق عليه‌السلام في خبر معاوية (١) « شعارنا يا محمد يا محمد وشعارنا يوم بدر يا نصر الله اقترب ، وشعار المسلمين يوم أحد يا نصر الله اقترب ، ويوم بني النضير يا روح القدس أرح ، ويوم بني قينقاع يا ربنا لا يغلبنك ، ويوم الطائف يا رضوان ، وشعار يوم حنين يا بني عبد الله يا بني عبد الله ، ويوم الأحزاب حم لا يبصرون ، ويوم بني قريظة يا سلام أسلمهم ، ويوم المريسيع وهو يوم بني المصطلق ألا إلى الله الأمر ، ويوم الحديبية ألا لعنة الله على الظالمين ، ويوم خيبر وهو يوم القموص يا علي آتهم من عل ، ويوم الفتح نحن عباد الله حقا حقا ، ويوم تبوك يا أحد يا صمد ، ويوم بني الملوح أمت أمت ويوم صفين يا نصر الله ، وشعار الحسين يا محمد ، وشعارنا يا محمد » ‌وقال الصادق عليه‌السلام في خبر السكوني (٢) « قدم أناس من مزينة على النبي (ص) فقال ما شعاركم؟ قالوا : حرام ، قال : بل شعاركم حلال » ‌وفي الكافي « وروي (٣) أيضا أن شعار المسلمين يوم بدر يا منصور أمت وشعار يوم أحد للمهاجرين يا بني عبد الله يا بني عبد الرحمن ، وللأوس يا بني‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٥٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٥٥

عبد الله » ‌والله العالم.

وعلى كل حال ف لا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل كما صرح به الشيخ والفاضلان والشهيدان وغيرهم بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في التنقيح ، بل الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما استفاضت به النصوص أو تواترت ، وقال الله تعالى (١) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) وفي‌ مرسل الكليني (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « وليعلم المنهزم أنه مسخط ربه وموبق نفسه ، له في الفرار موجدة الله والذل اللازم والعار الباقي ، وأن الفار لغير مزيد في عمره ، ولا محجور بينه وبين يومه ، ولا يرضي ربه ، ولموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها والإقرار عليها » ‌وفي‌ خبر محمد بن سنان (٣) « أن أبا الحسن الرضا عليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله حرم الله الفرار من الزحف ، لما فيه من الوهن في الدين ، والاستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة ، وترك نصرتهم على الأعداء ، والتقوية لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد ، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين ، وما يكون في ذلك‌

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ١٥ و ١٦.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٢٩ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ ـ ٢

٥٦

من السبي والقتل وإبطال دين الله عز وجل وغيره من الفساد » ‌وفي‌ خبر إسماعيل بن جابر(١) عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليهم‌السلام المروي عن رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني مسندا إليه « أن الله تعالى لما بعث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر في بدء أمره أن يدعو بالدعوة فقط ، وأنزل عليه ( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ ) (٢) » فلما أرادوا ما هموا به من تبييته أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال ، فقال. ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) (٣) » ـ ثم ذكر بعض آيات القتال إلى أن قال. فنسخت آية القتال آية الكف ـ ثم قال ـ ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الأمة فجعل على الرجل أن يقاتل عشرة من المشركين ، فقال :( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٤) » ثم نسخها سبحانه فقال ( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ) (٥) » فنسخ بهذه الآية ما قبلها ، فصار فرض المؤمنين في الحرب إن كان عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارا من الزحف ، وإن كانت العدة رجلين لرجل كان فارا من الزحف » ‌وقال الصادق عليه‌السلام في خبر مسعدة بن صدقة (٦) في حديث طويل : « إن الله عز وجل فرض على المؤمن في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

(٢) سورة الأحزاب ـ الآية ٤٧.

(٣) سورة الحج ـ الآية ٤٠.

(٤) و (٥) سورة الأنفال ـ الآية ٦٦ ـ ٦٧

(٦) الوسائل ـ الباب ٢٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٥٧

أول الأمر أن يقاتل عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار ، ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عز وجل ، فنسخ الرجلان العشرة » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر الحسين بن صالح (١) « من فر من رجلين في القتال في الزحف فقد فر ، ومن فر من ثلاثة في القتال فلم يفر ». بل قد يقال إن مقتضى الإطلاق عدم الفرق في ذلك بين القسم الأول من الجهاد والثاني ، أي الذي يدهم المسلمين فيه عدو يخشى منه على شعار الإسلام ، كما جزم به بعض الأفاضل ، إلا أنه قد يناقش بأن المنساق من النص والفتوى الأول خصوصا مع ذكرهم له في أحكامه فيبقى الثاني على مقتضى الأصل ، ولكن مع ذلك الأول أحوط مع عدم ظن العطب.

وكيف كان فالمراد حرمة الفرار من الحرب والهرب منها ، وهو المكني عنه بتولية الدبر دون غير ذلك ، ولذا قال المصنف كغيره من الأصحاب إلا لمتحرف للقتال كقول الله تعالى شأنه (٢) ( إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ) أي لا يكون للفرار بل لحصانة الموضع ، وربما قيل هو الكر بعد الفر ، ولعله هو أحد أفراد المتحرف ، فإنه الميل إلى حرف أي طرف ، ومنه التحرف في طلب الرزق ، وهو الميل إلى جهة يظن الرزق فيها ، فيراد حينئذ مطلق المتحرف للقتال كطالب السعة كما في القواعد والتذكرة والمسالك وغيرها ، ليكون أمكن له في القتال من المكان الضيق المفروض كونه فيه أو موارد المياه كما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ عن حسن بن صالح.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ١٦.

٥٨

القواعد والتحرير والتنقيح والتذكرة والمسالك وغيرها ، دفعا لعطشه المانع له عن القتال أو استدبار الشمس كما في القواعد والتحرير والتذكرة والتنقيح والروضة وغيرها ، لأنه أولى من القتال مقابلا لها أو تسوية لأمته كما في القواعد والتنقيح والروضة والمسالك وغيرها ، أي درعه ، وغير ذلك مما هو نوع تحرف للقتال ، كنزع شي‌ء ولبسه المصرح به في الدروس والقواعد والمسالك ، والارتفاع عن هابط والاستناد إلى جبل المصرح بهما في التذكرة والتحرير إلى غير ذلك من المصالح التي لا يعد مع ملاحظتها فرارا وهربا أو متحيزا أي مائلا إلى حيز فئة أي جماعة من الناس منقطعة عن غيرها قليلة كانت أو كثيرة كما في التحرير والإرشاد والقواعد والروضة وغيرها ، بل هو ظاهر الآية والنافع والتبصرة واللمعة والدروس بل لا فرق بين كونها قريبة أو بعيدة بحيث لا يصدق معها الفرار من الحرب كما صرح به جماعة ، وعليه ينزل إطلاق أخرى ، ودعوى أن مطلق البعد مخل بالمقصود ومبطل لصورة الجهاد كما احتمله في الإيضاح واضحة المنع.

نعم الظاهر اعتبار كون الفئة صالحة للاستنجاد ولو بالانضمام كما صرح به الفاضل والكركي وثاني الشهيدين والمقداد ، بل لعله المراد من إطلاق المصنف والنافع والتبصرة والإرشاد والتحرير والدروس واللمعة ضرورة انسياق المدخلية في القتال من المستثنى في الآية ، إذ لو فرض كون الفئة غير صالحة لكونهم مرضى أو زمنى أو غير ذلك مما لا غنى به عنده لم تكن فائدة في التحيز إليها بالفرار الذي فيه قوة للعدو وضعف ووهن للمسلمين ، لكن الظاهر عدم اعتبار رجاء حصول الظفر بها ، بل يكفي رجاء النفع والدفع وقوة القلب وكمال القتال‌

٥٩

ونحو ذلك ، كما أن الظاهر عدم اعتبار إشعار المتحيز عجزا محوجا إلى الاستنجاد لإطلاق الآية ، فيكفي حينئذ في جوازه كونه أتم في القتال أو غير ذلك مما له مدخلية كما صرح به في التذكرة خلافا لبعض الشافعية ، نعم قد يقال بعدم جواز التحيز إلى الفئة إذا كان فيه انكسار للمسلمين واستظهار للعدو ، هذا ، وفي المسالك « ولو وصل إلى الفئة في زمان لم يخرج به عن كونه مقاتلا فبدا له الانتقال إلى أخرى جاز بشرط أن لا يخرج بمجموع التحيزين عن الوصف ، لا بكل واحد على انفراده مع اتصال الانتقال ، أما لو طرأ بعد الانتقال معها اعتبر كل واحدة » ولا يخلو من تأمل ، والمدار على صدق عدم الفرار والهرب بالتحيز المفروض إلى فئة من غير فرق بين الفئات.

وفي التذكرة والمتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الغانمين في غنيمة فارق قبل اغتنامها ، ولو فارق بعد غنيمة البعض شارك فيه دون الباقي أما لو تحيز إلى فئة قريبة فإنه يشارك الغانمين في المغنوم بعد مفارقته وهو أحد وجهي الشافعية لأنه لا تفوت نصرته والاستنجاد به ، فهو كالسرية تشارك جند الإمام (ع) فيما يغنمون ، وإنما يسقط الانهزام الحق إذا اتفق قبل القسمة ، أما إذا غنموا شيئا واقتسموه ثم انهزم بعضهم لم يسترد منه ما أخذ » وهو جيد لكن أوله لا يخلو من نظر ، ولو تحيز إلى فئة وفي الأثناء قد تحيزت هي إلى أخرى تحيز معها إذا لم يصدق الفرار والهرب ، وإلا وجب الثبات ، والأولى تحقق ما عزم عليه من القتال بالتحيز إلى الفئة ، لأنه الظاهر من الآية ، فلا يكفي حينئذ عزمه من دون تحقق عزم الفئة التي يتحيز إليها ، ويحتمل الاكتفاء بعزمه الذي رخص له الانصراف.

وعلى كل حال فقد صرح الفاضل وثاني الشهيدين وغيرهما بأن‌

٦٠