جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ويزجرهم ويحذرهم عن الإخلال به من العقاب ، فإن لم يتمكن من هذين النوعين بأن يخاف ضررا عليه أو على غيره اقتصر على اعتقاد وجوب الأمر بالمعروف بالقلب ، وليس عليه أكثر من ذلك ، وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع وقتل النفوس وضرب من الجراحات ، إلا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة ، فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها ، وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها ، فأما اليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب ، إما الجراح أو الألم أو الضرب ، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسبما قدمناه » وفيه نظر من وجوه ، وأغرب من ذلك ما في مجمع البرهان « أنه لو لم يكن جوازهما بالضرب إجماعيا لكان القول بجواز مطلق الضرب بمجرد أدلتهما مشكلا ».

إذ لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه من النصوص وغيرها أن المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمل على ذلك بإيجاد المعروف والتجنب من المنكر لا مجرد القول ، وإن كان يقتضيه ظاهر لفظ الأمر والنهي ، بل وبعض النصوص الواردة في تفسير قوله تعالى (١) ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) المشتملة على الاكتفاء بالقول للأهل افعلوا كذا واتركوا كذا » ‌قال الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الأعلى مولى آل سام (٢) : « لما نزلت هذه الآية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ) جلس رجل من المسلمين يبكي وقال : أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي ، فقال رسول الله صلى الله‌

__________________

(١) سورة التحريم ـ الآية ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ٩ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١.

٣٨١

عليه وآله : حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك ، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك » وخبر أبي بصير (١) في الآية « قلت كيف أقيهم؟ قال : تأمرهم بما أمر الله ، وتنهاهم عما نهاهم الله ، فإن أطاعوك فقد وقيتهم وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك » ‌وفي خبره الآخر (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الآية أيضا « كيف نقي أهلنا؟ قال تأمرونهم وتنهونهم» ‌

لكن ما سمعته من النصوص والفتاوى الدالة على أنهما يكونان بالقلب واللسان واليد صريح في إرادة حمل الناس عليهما بذلك كله ، بل هو معنى‌ قوله عليه‌السلام : « ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا » ‌فيمكن إرادة ما يشمل الضرب ونحوه من أمر الأهل ونهيهم ، كما أنه صرح في النصوص أيضا بالهجر وتغير الوجه وغيرهما مما يراد منه الطلب بواسطة هذه الأمور لا مجرد القول كما هو واضح بأدنى تأمل ونظر ، بل منه يعلم أن المراد حينئذ من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكتاب والسنة حمل تارك المعروف وفاعل المنكر على الفعل والترك بالقلب على الوجه الذي ذكرناه ، وباللسان وباليد كذلك ، بل قد سمعت دعوى الإجماع من الأردبيلي على الأخير فضلا عن الأولين.

نعم من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه ، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه ، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة ، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف ، ونزعهم المنكر وخصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٩ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٢ ـ ٣

٣٨٢

داء دواء ، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف ، نسأل الله التوفيق لهذه المراتب.

وكيف كان ف لو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل والقائل السيد والشيخ في التبيان والحلبي والعجلي والفاضل في جملة من كتبه ويحيى بن سعيد والشهيد في النكت على ما حكي عن بعضهم نعم يجب وقيل والقائل الشيخ والديلمي والقاضي وفخر الإسلام والشهيد والمقداد والكركي على ما حكي عن بعضهم لا يجوز إلا بإذن الإمام عليه‌السلام بل في المسالك هو أشهر ، بل في مجمع البرهان هو المشهور بل عن الاقتصاد الظاهر من شيوخنا الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة عليهم‌السلام أو لمن يأذن له الإمام عليه‌السلام فيه وهو الأظهر للأصل السالم عن معارضة الإطلاق المنصرف إلى غير ذلك ، خصوصا بعد ما سمعت من اشتراط الوجوب بتجويز التأثير المشعر ببقاء المأمور والمنهي ، بل لعل ذلك هو مقتضى الأمر والنهي الواجبين ، ضرورة عدم موضوعهما مع القتل ، ودعوى كون المراد منهما حمل الشخص على ترك المنكر ولو ترك الواجب الذي يحصل بقتله عدم وقوع المنكر منه كما ترى مجاز لا قرينة عليه بل لعلها على العكس موجودة ، كل ذلك مضافا إلى ما في جواز ذلك لسائر الناس عدولهم وفساقهم من الفساد العظيم والهرج والمرج المعلوم عدمه في الشريعة ، خصوصا في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس ، وبالجملة لا يكاد ينكر اقتضاء تجويز ذلك لسائر الناس على مقتضى إطلاق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فساد النظام ، فدعوى اقتضاء إطلاق ما دل على وجوبهما خصوصا ما‌

٣٨٣

دل منه على وجوبهما باللسان واليد الشاملة للجرح والقتل واضحة الفساد كدعوى اقتضاء وجوبهما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام على هذا الوجه الوجوب على الناس أيضا كذلك للتأسي ولأصالة الاشتراط ، وأوضح منهما فسادا الاستدلال على ذلك بأنهما إنما وجبا لمصلحة العالم فلا يقفان على شرط كغيرهما من المصالح بعد ما عرفت من اقتضاء وجوبهما على هذا الوجه فساد نظام العالم ، وكذا ما قيل من أن إذن الإمام عليه‌السلام شرط فيما إذا كان الضرر مقصودا ، وأما إذا كان المقصود أمرا آخر غيره فلا وإن حصل منه الضرر ، ومحل البحث فيه الأخير ، إذ هو شبه المدافعة والممانعة اللذين قد يتولد منهما ضرر غير مقصود.

نعم في‌ المروي (١) عن تاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : « إني سمعت عليا عليه‌السلام يوم لقينا أهل الشام يقول : أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم ، ومن أنكره بلسانه فقد أوجر ، وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين » ‌كقول الباقر عليه‌السلام (٢) : « فأنكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم ، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم ، ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٨ ـ ١

٣٨٤

وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ، ولا باغين به مالا ، ولا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته » ‌إلى غير ذلك من النصوص.

ولكن من المعلوم أنه أشار بذلك إلى نفسه ومن يقوم مقامه من أولاده عليهم‌السلام لا سائر الناس كخطابات الحدود وقتال البغاة وجهاد الكفار ونحو ذلك ، على أنه ظاهر في الجواز دون الوجوب الذي هو مقتضى الأمر بالمعروف ، ونحو‌ قوله عليه‌السلام أيضا (١) الذي رواه عنه الرضي « فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ويده ولسانه ، فذلك المستكمل لخصال الخير ، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ، ومضيع خصلة ، ومنهم المنكر بقلبه التارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء » ‌، وكأنه لبعض ما ذكرنا فصل ثاني الشهيدين بين الجرح والقتل فجوز الأول ومنع الثاني ، وهو مع أنه خرق للإجماع على الظاهر فيه الفساد الذي ذكرناه ، ضرورة عدم انحصار الجريح في غير المؤدي للقتل ، بل قد سمعت عن الشيخ سابقا ما يقتضي عدم جواز الضرب إلا بإذن الإمام عليه‌السلام وإن كان فيه ما عرفت ، فلا ريب في أن القول بعدم الجواز مطلقا أقوى ، نعم في جوازه لنائب الغيبة ـ مع فرض حصول شرائطه أجمع التي منها أمن الضرر والفتنة والفساد لعموم ولايته عنهم عليهم‌السلام ـ قوة ، خصوصا مع القول بجواز إقامة الحدود له ، وإن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان.

هذا ولعله لبعض ما ذكرنا من لزوم الفساد بإيكال ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٩.

٣٨٥

إلى عامة الناس لا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا الإمام عليه‌السلام مع وجوده وبسط يده أو من نصبه الإمام لإقامتها خاصة أو لما يشملها وإن كان ربما فرق بينهما بأن الحد مطلوب شرعا لذاته من حيث أنه حكم شرعي متعلق بمنصب الإمامة فلا بد من إذن الإمام عليه‌السلام ، وأما الجرح والقتل فإنهما مطلوبان لامتثال الأمر والنهي لا لذاتهما ، فلا يشترطان بإذن الإمام عليه‌السلام كالدفاع ، ولذا وقع الخلاف في الأول دون الثاني ، لكن فيه أن الكلام في جواز ذلك مقدمة للأمر والنهي ، وعلى كل حال فلا خلاف أجده في الحكم هنا ، بل عن الغنية والسرائر الإجماع عليه ، بل في المحكي عن الثاني دعواه من المسلمين ، قال : « والإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن المسلمين جميعا أنه لا يجوز إقامة الحدود ، ولا المخاطب بها إلا الأئمّة عليهم‌السلام ، والحكام القائمون بإذنهم في ذلك ، وأما غيرهم فلا يجوز التعرض لها على حال ، فلا يرجع عن هذا الإجماع بأخبار الآحاد ، بل بإجماع مثله أو كتاب الله أو سنة متواترة مقطوع بها » إلى آخره كل ذلك مضافا إلى النصوص الدالة على ذلك المذكورة في كتاب الحدود وغيره التي منها يعلم التقييد في الخطابات العامة الآمرة بإقامة الحدود نحو غيرها من خطابات الجهاد وغيرها المعلوم كون المراد منها مباشرة الإمام أو من نصبه لذلك.

نعم مع عدم ظهوره « ع » وعدم بسط يده يجوز للمولى وإن لم يكن مجتهدا إقامة الحد على مملوكه وفاقا للمشهور نقلا وتحصيلا بل كاد يكون إجماعا كما اعترف به بعضهم ، بل في المسالك لم يخالف فيه إلا الشاذ النادر ، ولعله كذلك ، إذ لم يحك الخلاف فيه إلا من المفيد والديلمي ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، بل مقتضى جواز الحلي‌

٣٨٦

له بعد ما سمعته منه سابقا كونه مجمعا عليه أو أن النصوص به متواترة ، بل المحكي عنه الاستدلال عليه بما ورد من الأخبار المستفيضة بين العامة والخاصة وإن كان لا يحضرني شي‌ء منها ـ مضافا إلى عموم ما دل على تسلط السيد على عبده ، ومضافا إلى ما عن الكركي من أنه ذكر أصحابنا أنه قد ورد بذلك رخصة ـ إلا خصوص‌ النبوي (١) المروي في بعض كتب الفروع « أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم » ‌وخبر عنبسة بن مصعب (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جارية لي زنت أحدها قال : نعم ، وليكن في سر ، فإني أخاف عليك السلطان » ‌وخبر علي بن جعفر (٣) عن أخيه موسى عليهم‌السلام « سأله عن رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه قال : يضربه على قدر ذنبه ، وإن زنى جلده ، وإن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه السوط أو السوطين وشبهه ، ولا يفرط في العقوبة » ‌بل يمكن دعوى القطع من السيرة بجواز التعزيرات له التي هي قسم من الحدود أيضا والمناقشة باحتمال الإذن الخاصة من الإمام عليه‌السلام واضحة الفساد في غير خبر عنبسة الحمول على غيره ، وبذلك كله يقيد حينئذ ما دل على أن الحد للإمام عليه‌السلام أو لمن يأذن له ، مع إمكان كون ذلك إذنا منه على جهة العموم ، فيتساوى حينئذ الإذن في الحكم.

ثم إن مقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق في المولى بين العدل والفاسق والذكر والأنثى ، بل والمملوك كما إذا كان مكاتبا وغيره ، بل عن الشيخ التعبير بالإنسان الشامل للذكر والأنثى ، لكن في الدروس‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ٢٧ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٢.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٣٠ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٦ ـ ٧

٣٨٧

« في جواز إقامة المرأة الحد على رقيقها والمكاتب على رقيقه والفاسق مطلقا نظر » ولعله مما سمعت ، ومن الشك في التناول ، وعدم استئمان الفاسق على مثل ذلك ، والأصل عدم الجواز ، ولو اشترك الموليان اجتمعا في الاستيفاء ، ولا يجوز لأحدهما الاستقلال ، كما لا يجوز إقامته على المبعض ، بل في الدروس والمكاتب وإن كان لا يخلو من نظر إذا لم يتحرر بعضه ، وكذا لا فرق في الحد بين الجلد والرجم والقتل نعم يعتبر مشاهدته لمقتضى الحد أو إقرار المولى على وجه يترتب عليه ذلك ، أما الثبوت بالبينة ففي المسالك يتوقف على الحاكم الشرعي ، وفيه نظر بناء على جواز العمل بها لغيره من باب الأمر بالمعروف ، وكذا يعتبر معرفته لمقدار الحد وباقي ما يعتبر فيه ، ومع ذلك الأحوط عدم التعرض له مع فرض كون الحكم رخصة كما هو مقتضى المحكي عن الشيخ وغيره ، لا عزيمة لعموم النهي عن تعطيل الحد لمن كان له إقامته ، وأحوط من ذلك مباشرة نائب الغيبة له بإذن السيد بناء على جواز إقامة الحدود له فيها.

وكيف كان ف هل يجوز أن يقيم الرجل الحد على ولده وزوجته كما عن الشيخ والقاضي واختاره أول الشهيدين أو لا يجوز كما عن المفيد وابني زهرة وإدريس والطبرسي وغيرهم ، واختاره الكركي وثاني الشهيدين ، بل لعله المشهور كما استظهره بعض الأفاضل فيه تردد كما في النافع والقواعد من دعوى الشيخ وجود الرخصة في ذلك ، وليس ما يحكيه إلا كما يرويه مؤيدة بما دل (١) على كمال سلطنة الوالد والزوج على الولد والزوجة ، والسيرة المستمرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٧٨ من أبواب ما يكتسب به والباب ٧٩ و ٩١ من أبواب مقدمات النكاح.

٣٨٨

على تأديبهما وتعزيرهما الذي هو قسم من الحدود ، وخصوص ما دل على تأديب الزوجة بالضرب والهجر مع التقصير في حقوق الزوجية كتابا (١) وسنة وإجماعا ، مضافا إلى عموم الأمر بإقامة الحدود ومن عدم صلاحية ذلك كله لتخصيص ما دل على أن إقامة الحد للإمام عليه‌السلام من‌ خبر حفص (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من يقيم الحدود السلطان أو القاضي فقال : إقامة الحدود إلى من إليه الحكم » ‌وغيره ، مضافا إلى ما سمعته من إجماع السرائر المقتصر في الخروج منه على السيد ، بل في محكي الغنية ويجوز للسيد إقامة الحد على من ملكت يمينه بغير إذن الإمام عليه‌السلام ، ولا يجوز لغير السيد ذلك إلا بإذنه ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه ، ومن ذلك وغيره يعلم أن المراد بالعموم ما سمعته سابقا من الإمام ومن أذن له في ذلك فالأقوى حينئذ عدم الجواز.

وعلى الأول فقد صرح في الدروس بأن المراد بالولد وإن نزل ، كما أنه صرح فيها وفي غيرها بعدم الفرق بين التزويج الدائم والمنقطع بل صرح فيها أيضا بأنه لا فرق في الزوج والزوجة بين الحرين والعبدين أو أحدهما فتجتمع حينئذ على الأمة ولاية الزوج والسيد ، وهل يتوقف إقامته حينئذ عليهما أو لكل منهما إقامته ، وصرح فيها أيضا بأنه لا فرق بين المدخول بها وغيرها ، وأنه لا فرق بين الجلد والرجم قال : لما‌ روي (٣) أنه لو وجد رجلا يزني بامرأته فله قتلهما ،ومنع الفاضل‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٣٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢٨ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٤٥ من أبواب حد الزنا الحديث ٢.

٣٨٩

من الرجم والقطع بالسرقة ، ولا يخفى عليك ما في استدلاله بالرواية المزبورة المعلوم كون ما فيها من غير الحدود ، بل للغيرة ونحوها ، ولذا لم يعتبر في الرجل كونه محصنا ، على أن الحد فيه الرجم لا القتل كما أوضحنا ذلك في كتاب الحدود ، ومنه يعلم ما في الاستدلال بنحو ذلك للقول الأول الذي قد بان لك ضعفه ، هذا ، وفي المسالك ويظهر من المختلف أن موضعه ما لو كان الأب والزوج بل المولى فقيها ، وحينئذ يتجه الجواز لما سيأتي من جواز ذلك لهم في حال الغيبة ، قلت : عبارته في المختلف في غاية التشويش ، وربما حكي عنه جواز ذلك لهم وإن لم نقل بجوازه للفقيه في غير ذلك زمن الغيبة ، ولكنه في غير محله ، كما أن دعوى كون النزاع في خصوص ذلك كذلك ، ضرورة ظهور كلام الأصحاب أو صريحه في كون ذلك من حيث كونه مولى وأبا وزوجا ، والأمر سهل بعد أن عرفت التحقيق في المسألة ، والله العالم.

ولو ولي وال من الشيعة من قبل الجائر وكان قادرا على إقامة الحدود بلا ضرر عليه هل له إقامتها؟ قيل والقائل المفيد في محكي المقنعة والشيخ في محكي النهاية نعم له ذلك بعد أن يعتقد أنه يفعل ذلك بإذن الإمام الحق عليه‌السلام قال في الأخير : « ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه إقامة الحدود جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال ، ويعتقد أنه إنما يفعل ذلك بإذن سلطان الجور ، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك ما لم يتعد الحق في ذلك وما هو مشروع في شريعة الإسلام ، فإن تعدى ما جعل الله الحق لم يجز له القيام به ، ولا لأحد معاونته على ذلك ، اللهمّ إلا أن يخاف في ذلك على نفسه ، فإنه يجوز له حينئذ أن يفعل في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس ، وأما قتل النفوس‌

٣٩٠

فلا يجوز فيه التقية على حال » وفي المنتهى قد روي أن من استخلفه سلطان إلى قوله في النهاية : « اللهمّ » ثم قال : أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وفي محكي السرائر أنه أوردها إيرادا من طريق الخبر لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر.

ومن هنا قيل والقائل الحلي والفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل المشهور لا يجوز له ذلك وهو أحوط بل وأقوى بل ينبغي القطع به ، ضرورة ظهور كلام الأصحاب بل صريح بعضهم كما اعترف به في المسالك أن هذا المتولي غير فقيه شرعي ، بل وليس مضطرا كما يؤمي إليه ذكر حكم الاضطرار بعد ذلك ، وقد عرفت الإجماع بقسميه والنصوص على عدم جواز إقامتها لغير الإمام عليه‌السلام ومن أذن له في ذلك ، والرواية المزبورة بعد عدم جامعيتها لشرائط الحجية وإعراض المشهور بل الجميع عدا من عرفت عنها لا تصلح لإثبات ذلك قطعا.

نعم لو اضطره السلطان إلى إقامة الحد جاز حينئذ إجابته ما لم يكن قتلا ظلما فإنه لا تقية في الدماء بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى ومحكي السرائر ، بل في مجمع البرهان الظاهر الإجماع على جواز الإجابة في ذلك على الوجه المزبور ، كل ذلك مضافا إلى عموم أدلة التقية (١) المؤيدة بما دل (٢) على جواز تناول غير الباغي والعادي الميّتة وغيرها من المحرمات عند الاضطرار ، لكن في إلحاق الجرح بالقتل كما هو مقتضى التعليل وعدمه خلاف ، وعن الشيخ القطع بالأول ، وفي المسالك ألحق به الشيخ رحمه‌الله الجرح ، وهو مناسب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٦٨.

٣٩١

لتعليل المصنف ، فإن التقية المنفية في الدماء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وفي بعض العبارات لا تقية في قتل النفوس ، فيخرج الجرح الذي لا يفضي إليه ، ولا يحضرني مستند يترتب عليه الحكم ، قلت : يمكن إرادة النفوس من دماء في المرسل فيتحد حينئذ مع ما في محكي السرائر قال : إن خاف الإنسان من ترك إقامة الحدود فإنه يجوز له أن يفعل ذلك في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس ، فإنه لا يجوز التقية فيه عند أصحابنا بلا خلاف فيه ، بل هو المراد من‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر الثمالي (١) : « لم تبق الأرض إلا وفيها منا عالم يعرف الحق من الباطل ، قال : إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية ، وايم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقي ، ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ولو قد قام القائم عليه‌السلام ما احتاج إلى مساءلتكم عن ذلك ، ولا قام في كثير منكم من أهل النفاق حد الله تعالى » ‌بل هو مقتضى ما تسمعه من المتن أيضا ، بل يمكن القطع بملاحظة ما يأتي من المتن وما هنا بإرادة النفوس من الدماء لا مطلق الجرح ، وخصوصا المعلوم عدم تأديته إلى القتل ، لا أقل من الشك ، فيبقى عموم الجواز للتقية في محله ، بل ينبغي القطع به فيما إذا كان المجروح من غير الشيعة ، بل قد يقال بجواز القتل فيه إذا كان الإكراه بالقتل ، بل وإذا كان يخافه ، خصوصا بعد ما ورد (٢) من عدم مساواة الألف منهم لواحد من الشيعة ، وأنهم مستحقون للقتل عند ظهور الصاحب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٣١ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢٦ من أبواب جهاد العدو ـ الحديث ٢.

٣٩٢

روحي له الفداء ، وأن إجراء حكم الإسلام عليهم للتقية الزمانية وللهدنة ما دامت دولة الحق مستورة ، بل قد يقال أيضا إن من كان عليه الحد مخالفا وكان حده القتل في مذهبهم يجوز قتله وإن لم يصل إلى حد الإكراه ، لقاعدة إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم وغيرها.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنه يجوز لغير الفقيه إقامة الحد الثابت شرعا ولو قتلا إذا كان مجبورا على ذلك ، لعموم أدلة التقية ، ولا يجوز مع عدم الجبر ، وهل يعتبر في حال الجواز نية كونه عن الإمام عليه‌السلام؟ ظاهر المرسل المزبور ذلك ، لكن قد عرفت قصوره عن إثبات نحو ذلك وإن كان لا ريب في أنه أحوط ، أما إذا كان القتل ظلما وكان المقتول من الشيعة فلا يجوز قطعا لما عرفت ، وفي إلحاق الجرح الغير المؤدي إلى القتل قول ، ولكن الأقوى خلافه ، بل يقوى جوازه في غير معلوم التأدية ، ولو كان من غير الشيعة ولو مخالفا فالأقوى جواز قتله فضلا عن الجرح ، خصوصا إذا كان ذلك مقتضى مذهبه ، وخصوصا إذا علم قتل الجائر له إن لم يقتله ، هذا ، وربما احتمل في عبارة المصنف أن المراد بالوالي الفقيه في زمن الغيبة ، وفيه أنه لا وجه حينئذ لإفراده عن المسألة الآتية ، اللهمّ إلا أن يقال إنه باعتبار صورة النيابة عن الجائر يتوهم المنع وإن جاز هناك ، وهو كما ترى ، أو يقال إنه وإن لم نقل بالجواز في تلك المسألة يجوز هنا باعتبار كونه واليا عن الجائر ، فلا يخاف عليه حينئذ من السلطان ، بخلاف ما إذا لم يكن ، أو غير ذلك ، والأمر سهل بعد ما عرفت وتعرف أن الحكم جائز له على كل تقدير.

وكيف كان فقد قيل والقائل الإسكافي والشيخان والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري‌

٣٩٣

والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عليه‌السلام كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت ، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك كما يجب مساعدة الإمام عليه‌السلام عليه ، بل هو المشهور ، بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس ، ولم نتحققه ، بل لعل المتحقق خلافه ، إذ قد سمعت سابقا معقد إجماع الثاني منهما الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم منه ، فيكون حينئذ إجماعه عليه لا على خلافه ، كما أن ما في التنقيح من الحكاية عن سلار أنه جوز الإقامة ما لم يكن قتلا أو جرحا كذلك أيضا ، فإن عبارته في المراسم عامة للجميع ، قال فيها : فقد فوضوا عليهم‌السلام إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجبا ، ولا يتجاوزوا حدا ، وأمروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة.

فمن الغريب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف وبعض كتب الفاضل سيما بعد وضوح دليله الذي هو‌ قول الصادق عليه‌السلام في مقبول عمر بن حنظلة (١) « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف ، وعلينا رد ، والراد علينا راد على الله تعالى ، وهو على حد الشرك بالله عز وجل » ‌وفي مقبول أبي خديجة (٢) « إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب صفات القاضي الحديث ٥.

٣٩٤

الجور ، لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإني قد جعلته قاضيا ، فتحاكموا إليه » ‌وقول صاحب الزمان روحي له الفداء وعجل الله فرجه في التوقيع (١) المنقول عنه : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله » وعن بعض الكتب روايته « فإنهم خليفتي عليكم » ‌إلى آخره إما بدعوى أن إقامة الحد من الحكم سيما في مثل حد القذف مع الترافع إليه ، وثبوته عنده ، وحكمه بثبوت الحد على القاذف ، فإن المراد من الحكم عليه إنفاذ ما حكم به لا مجرد الحكم من دون إنفاذ ، أو لظهور‌ قوله عليه‌السلام : « فإني قد جعلته عليكم حاكما » ‌في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص كذلك إلى أهل الأطراف الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أمور المنصوب عليهم فيه ، بل‌ قوله عليه‌السلام : « فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله » ‌أشد ظهورا في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم ، ومنها إقامة الحدود ، بل ما عن بعض الكتب « خليفتي عليكم » أشد ظهورا ، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفا ، نحو قوله تعالى (٢) ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) أو لما سمعته من‌ قول الصادق عليه‌السلام (٣) « إقامة الحدود إلى من إليه الحكم » ‌جواب من سأله من يقيم الحدود السلطان أو القاضي ، كل ذلك مضافا إلى التأييد بما (٤) دل على أنهم ورثة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث ١٠.

(٢) سورة ص ـ الآية ٢٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢٨ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ٨ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢ والمستدرك الباب ١١ منها الحديث ٣٠.

٣٩٥

الأنبياء ، وأنهم كأنبياء بني إسرائيل ، وأنه لولاهم لما عرف الحق من الباطل ، وبنحو‌ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) « اللهمّ إنك قلت لنبيك صلواتك عليه وآله فيما أخبر به : من عطل حدا من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي » ‌الظاهر في العموم لكل زمان ، والإجماع بقسميه على عدم خطاب غيرهم بذلك ، فانحصر الخطاب بهم ولو لما عرفت من نصبهم إياهم على ذلك ونحوه.

بل منه ينقدح التأييد بعموم الأمر بالجلد للزاني والقطع للسارق ونحوهما فيه ، وبأن تعطيل الحدود يفضي ارتكاب المحارم وانتشار المفاسد ، وذلك مطلوب الترك في نظر الشرع ، وبأن المقتضي لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته ، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه قطعا ، فتكون عائدة إلى مستحقه ، أو إلى نوع من المكلفين وعلى التقديرين لا بد من إقامته مطلقا ، بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع ، بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب ، فإن كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع ، قال الكركي في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة : « اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى عليهم‌السلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل ، وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود » ولعل مقصوده ببعض الأصحاب مشيرا به إلى ابني زهرة وإدريس اللذين قد عرفت عدم ظهور المحكي عن الثاني منهما ، بل ظاهره العكس ، بل ينبغي الجزم بإرادته ذلك ، خصوصا بعد فتواه نفسه في غيرها من كتبه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٦.

٣٩٦

بالجواز ، وحكايته له عن غيره ، وبفحوى ما سمعته من جواز إقامة السيد الحد والوالد والزوج على القول بهما مع أمن الضرر ، بل القطع بأولوية الفقيه منهما في ذلك بعد أن جعله الإمام عليه‌السلام حاكما وخليفة ، وبأن الضرورة قاضية بذلك في قبض الحقوق العامة والولايات ونحوها بعد تشديدهم في النهي عن الرجوع إلى قضاة الجور وعلمائهم وحكامهم ، بعد علمهم بكثرة شيعتهم في جميع الأطراف طول الزمان ، وبغير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل في النصوص وملاحظتهم حال الشيعة ، وخصوصا علمائهم في زمن الغيبة ، وكفى بالتوقيع (١) الذي جاء للمفيد من الناحية المقدسة ، وما اشتمل عليه من التبجيل والتعظيم ، بل لو لا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة.

فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك ، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئا ، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا ، ولا تأمل المراد من قولهم إني جعلته عليكم حاكما وقاضيا وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم ، ولذا جزم فيما سمعته من المراسم بتفويضهم عليهم‌السلام لهم في ذلك ، نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها ، كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه وإلا لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه‌ الصادق عليه‌السلام بقوله : « لو أن لي عدد هذه الشويهات وكانت أربعين لخرجت » ‌وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة.

وأغرب من ذلك كله استدلال من حلت الوسوسة في قلبه بعد‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٥٣ ص ١٧٤ و ١٧٦.

٣٩٧

حكم أساطين المذهب بالأصل المقطوع ، وإجماع ابني زهرة وإدريس اللذين قد عرفت حالهما ، وببعض النصوص الدالة على أن الحدود للإمام عليه‌السلام خصوصا‌ المروي عن كتاب الأشعثيات لمحمد بن محمد بن الأشعث (١) بإسناده عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا بإمام » ‌الضعيف سندا ، بل الكتاب المزبور على ما حكي عن بعض الأفاضل ليس من الأصول المشهورة بل ولا المعتبرة ، ولم يحكم أحد بصحته من أصحابنا ، بل لم تتواتر نسبته إلى مصنفه ، بل ولم تصح على وجه تطمئن النفس بها ، ولذا لم ينقل عنه الحر في الوسائل ولا المجلسي في البحار مع شدة حرصهما ، خصوصا الثاني على كتب الحديث ، ومن البعيد عدم عثورهما عليه ، والشيخ والنجاشي وإن ذكرا أن مصنفه من أصحاب الكتب إلا أنهما لم يذكر الكتاب المزبور بعبارة تشعر بتعيينه ، ومع ذلك فإن تتبعه وتتبع كتب الأصول يعطيان أنه ليس جاريا على منوالها فإن أكثره بخلافها ، وإنما تطابق روايته في الأكثرية رواية العامة إلى آخره ، كل ذلك مع اشتمال الخبر المزبور على الحكم الذي يرجع إليه فيه بالضرورة من المذهب ، وأما الجمعة ففيها البحث المعروف ، ولا يبعد كون المراد منه بيان أنها من مناصب الإمامة وإن أذنوا فيها لفقهاء شيعتهم ، وحينئذ فلا إشكال كما لا خلاف في وجوب مساعدة الناس لهم على ذلك نحو مساعدتهم للإمام عليه‌السلام ، ضرورة كونه من السياسات الدينية التي لا يقوم الواحد بها ، ومن البر والتقوى اللذين أمر بالتعاون عليهما ، وحينئذ لا يبعد وجوب الإقامة عليه مع أمن‌

__________________

(١) لم نعثر عليه وإنما رواه في المستدرك عن دعائم الإسلام في الباب ٥ من أبواب صلاة الجمعة الحديث ٤.

٣٩٨

ضرر السلطان عليه أو على غيره من الشيعة ولو بقبول الولاية من قبله وإظهارها عنه ، وإن كان مقتضى خبر حفص (١) وكثير من عبارات الأصحاب أو جميعها ثبوت الرخصة في ذلك ، إلا أنه يمكن كون المقام من المواضع التي متى جاز فيها الحكم وجب ، ولعل تعبير الأصحاب بالجواز لكون المهم بيان أصل جوازه في مقابل احتمال الحرمة بعد معلومية كون ذلك من مناصب الإمامة ، ومن هنا كان لا إشكال ولا خلاف في وجوب الحكم عليه بين المتخاصمين مع طلب ذي الحق له ، فالمتجه حينئذ كونه عزيمة ، خصوصا بعد ما سمعت من الأدلة التي مقتضاها ذلك ، مضافا إلى التشديد في تعطيل الحد ، والظاهر كونه فيمن له إقامته ، والله العالم.

وكيف كان ف لا يجوز أن يتعرض لإقامة الحدود غير من سمعته من السيد والوالد والزوج في قول عرفت الحال فيه ولا للحكم بين الناس ولا للفتوى ولا لغير ذلك مما هو مختص بالإمام عليه‌السلام ونائبه إلا عارف بالأحكام الشرعية جميعها ولو ملكة مطلع على مأخذها وعارف بكيفية استنباطها منها وب إيقاعهما أي الحكم والحدود على الوجوه الشرعية وبالجملة المجتهد المطلق الجامع للشرائط المفروغ من تعدادها وتفصيلها في محله ، إذ هو المتيقن من النصوص والإجماع بقسميه ، بل الضرورة من المذهب نيابته في زمن الغيبة عنهم عليهم‌السلام على ذلك ونحوه ، وفي المسالك في شرح العبارة « المراد بالعارف المذكور الفقيه المجتهد ، وهو العالم بأحكام الشرعية بالأدلة التفصيلية ، وجملة شرائطه مفصلة في مظانها وهذا الحكم وهو عدم جواز الحكم لغير المذكور موضع وفاق بين أصحابنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٨ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ١.

٣٩٩

وقد صرحوا فيه بكونه إجماعيا » إلى آخره ، وحينئذ فلا يجوز لغيره حتى المتجزئ بناء على ثبوته وصحة عمله بظنه ، ضرورة عدم اندراجه في مقبولة ابن حنظلة السابقة التي هي العمدة في الباب وإليها ترجع مقبولة أبي خديجة والتوقيع عن صاحب الأمر روحي له الفداء ، بل و‌صحيح أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل (٢) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ )

على أن الأخير إنما هو في بيان عدم جواز الترافع إلى قضاة المخالفين ، لا أن المراد منه مطلق الأخ وإن لم يكن عدلا عارفا بالأحكام ، وفي‌ خبره الآخر (٣) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله عز وجل في كتابه (٤) ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ ) ، فقال : يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون ، أما إنه لم يعن حكام العدل ، ولكنه عنى حكام الجور ، يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكم أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول‌

__________________

(١) و (٣) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢ ـ ٣

(٢) سورة النساء ـ الآية ٦٣.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ١٨٤.

٤٠٠