جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كما قال الله عز وجل (١) ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ ) يقول مطيعا لله عز وجل ، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة » ‌وقال مسعدة (٢) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : وسئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ما معناه؟ قال : هذا على أن يأمره بعد معرفته ، وهو مع ذلك يقبل منه ، وإلا فلا ».

ولكن يمكن كون المراد من الخبر المفسر للآية الإمام العادل ، بل كاد يكون صريح‌

قوله عليه‌السلام « والأمة واحد » ‌إلى آخره ، بل يمكن القطع به بناء على ما هو المعروف عندنا من تعلق الواجب الكفائي بالجميع من حيث الخطاب وإن سقط بفعل البعض ، مع أن الآية ظاهرة في الوجوب على معنى أمة من المؤمنين لا جميعهم فضلا عن الناس ، وهو إنما يوافق ما ذهب إليه غيرنا من أن المخاطب في الكفائي البعض المبهم ، نحو ما قالوه في الواجب المخير بالنسبة إلى المكلف به ، وقد أبطلناه في محله ، وحينئذ فالمقصود أنه مع بسط يده الواجب عليه جميع أفراد الأمر بالمعروف التي منها الجهاد وقتال البغاة وإقامة الحدود والتعزيرات ورد المظالم العامة والخاصة وغير ذلك مما لا يقوم به إلا الإمام عليه‌السلام ، فهو خارج عما نحن فيه من بعض أفراد الأمر بالمعروف ، فالعمدة حينئذ ما ذكرناه أولا لكن ينبغي أن يعلم أن القائل بالعينية موافق على السقوط مع حصول المطلوب بترك العاصي الإصرار على معصيته ، ضرورة امتناع التكليف حينئذ به بامتناع متعلقه‌

__________________

(١) سورة النحل ـ الآية ١٢١.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١.

٣٦١

وإنما يظهر فائدة القولين في وجوب قيام الكل به قبل حصول الغرض وإن قام به من فيه كفاية على الوجوب العيني ، وسقوط الوجوب عمن زاد على ما فيه الكفاية من القائمين على القول الآخر ، وحينئذ فلو أمر أو نهى بعض وتخلف بعض كان آثما وإن حصل المطلوب بالبعض الآخر.

ويمكن أن يقال بعينية الإنكار القلبي على كل مكلف ، ودونه في الاحتمال الأمر اللساني ، وأما الحمل عليه بضرب ونحوه فيمكن القطع بعدم العينية فيه ، فيكفي حينئذ وقوعه من البعض فيسقط عن الآخر ولا إثم عليه وإن كان قادرا على ما وقع من غيره أيضا ، كما أنه يمكن القطع بملاحظة السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بعدم الوجوب العيني فيهما ، ولذا يكتفي ذو القدرة عليهما بإرسال من يقوم بهما عن مضيه بنفسه وعن مضي غيرهم ممن هو مشترك معهم في التكليف كما هو واضح.

وعلى كل حال فلا إشكال في سقوط الوجوب بامتثال المأمور على القولين وإن اختلفت الجهة على التقديرين ، كما أنه لا إشكال في سقوط المبادرة على الكفائية مع القطع بقيام الغير ، حتى لو بان بعد ذلك فساد القطع ولم يكن محل بعد للتكليف لم يكن آثما ، للسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار على عدم المبادرة بمجرد العلم بموت زيد مثلا لتغسيله مع القطع بقيام الغير به وإن ظهر بعد ذلك فساد القطع بل لا يبعد الاكتفاء بالظن الغالب المتآخم للعلم لها أيضا ، بل ربما احتمل الاكتفاء بمطلق الظن وإن كان فيه نظر أو منع ، للأصل السالم عن المعارض ، وعلى كل حال فهو بحث في حكم الكفائي من حيث كونه كذلك لا مدخلية لخصوص المقام فيه ، وقد ذكرنا الكلام فيه وفي باقي‌

٣٦٢

أحكامه في مطاوي المباحث.

وعلى كل حال فقد ظهر لك مما ذكرنا سابقا أن المعروف ينقسم إلى الواجب والندب ضرورة كون كل منهما معروفا ، بل قد سمعت احتمال اندراج ترك المكروه في الثاني منهما أيضا ، وحينئذ ف المدح والثناء في الكتاب والسنة على الآمرين بالمعروف شامل لهما ، نعم الأمر بالواجب واجب ، وبالمندوب مندوب كما صرح به الحلي والديلمي والفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل عن المفاتيح الإجماع عليه ، مضافا إلى ما قيل من عدم زيادة الفرع على أصله وإلى ما جاء به من النصوص كقوله عليه‌السلام (١) : « الدال على خير كفاعله » ‌و « من أمر بمعروف ونهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به فهو شريك (٢) » ‌و « لا يتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل أجر من أخذ بها(٣)» ‌إلى غير ذلك مما جاء من الحث على الأمر بالخير بل جميع ما في الكتاب والسنة من المدح على الأمر بالمعروف شامل لهما ولو على إرادة مطلق الرجحان من صيغة الأمر ، اللهمّ إلا أن يقال إن مجاز التخصيص أولى من ذلك ، ولكن في رجحانه عليه هنا بحث ، لقوة إرادة ما يشملهما من المعروف ، بل لو لا الإجماع الذي قد عرفت أمكن القول بوجوب الأمر بالمعروف الشامل لهما وإن لم يجب المندوب على المأمور ، أو نقول بأن المراد وجوب الأمر بالمعروف كل على حاله نحو ما قيل في آية (٤) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على تقدير‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١٩ ـ ٢١

(٣) الوسائل ـ الباب ١٦ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٤.

(٤) سورة المائدة ـ الآية ١.

٣٦٣

تناولها للجائز ، فيكون المراد حينئذ من الوفاء بها إعطاء كل منها ما يقتضيه ، وإن كان ذلك كله لا يخلو من بحث ، ولكن الأمر سهل بعد معلومية الحال.

نعم ينبغي الرفق في ذلك ، قال عمار بن أبي الأحوص (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن عندنا قوما يقولون بأمير المؤمنين ويفضلونه على الناس كلهم ، وليس يصفون ما نصف من فضلكم ، أنتولاهم؟ فقال لي نعم في الجملة ، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ليس عندنا ، وعندنا ما ليس عندكم ، وعندكم ما ليس عند غيركم ، إن الله وضع الإسلام على سبعة أسهم : على الصبر والصدق واليقين والرضا والوفاء والحلم ، ثم قسم ذلك بين الناس ، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل ، ثم قسم لبعض الناس السهم ، ولبعضهم السهمين ، ولبعضهم الثلاثة الأسهم ، ولبعض الأربعة الأسهم ، ولبعض الخمسة الأسهم ، ولبعض الستة الأسهم ، ولبعض السبعة الأسهم ، فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين ، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم ، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم ، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم ، ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم ، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم ، فتثقلوهم وتنفروهم ، ولكن ترفقوا بهم وسهلوا لهم المدخل ، وسأضرب لك مثلا تعتبر به ، إنه كان رجل مسلم وكان له جار كافر ، وكان الكافر يرافق المؤمن ، فلم يزل يزين له الإسلام حتى أسلم ، فغدا عليه المؤمن فاستخرجه من منزله فذهب به إلى المسجد ليصلي معه إلى الفجر جماعة فلما صلى قال : لو قعدنا نذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس فقعد معه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٤ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٩.

٣٦٤

فقال له : لو تعلمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان أفضل فقعد معه وصام حتى صلى الظهر والعصر ، فقال له لو صبرت حتى تصلي المغرب والعشاء الآخرة كان أفضل فقعد معه حتى صلى المغرب والعشاء الآخرة ، ثم نهضا وقد بلغ مجهوده وحمل عليه ما لا يطيق ، فلما كان من الغد غدا عليه وهو يريد مثل ما صنع بالأمس فدق عليه بابه ثم قال : اخرج حتى نذهب إلى المسجد فأجابه أن انصرف عني إن هذا دين شديد لا أطيقه ، فلا تخرقوا بهم ، أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور ، وإن إمامتنا بالرفق والتأليف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد ، فرغبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه ».

وأما المنكر ف لا ينقسم إذ ليس هو إلا القبيح المحرم كما عن الشيخ التصريح به ، لما عرفته من عدم كون المكروه منكرا ، وحينئذ فالنهي عنه كله واجب كما صرح به غير واحد وكأنه اصطلاح ، وإلا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي عن الحرام واستحباب النهي عن المكروه ، فيكون حينئذ قسمين كالمعروف ولعله لذا قال ابن حمزة فيما حكي عنه « النهي عن المنكر يتبع المنكر ، فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا ، وإن كان مكروها كان النهي عنه مندوبا » وإن كان فيه أن إطلاق المنكر على المكروه غير معروف ، وفي المختلف استجود هنا عبارة أبي الصلاح ، قال : الأمر والنهي كل منهما واجب ومندوب ، فما وجب فعله عقلا أو سمعا الأمر به واجب ، وما ندب إليه فالأمر به مندوب ، وما قبح عقلا أو سمعا النهي عنه واجب ، وما كره منهما النهي عنه مندوب » ولا بأس به والله العالم.

٣٦٥

وكيف كان ف لا يجب النهي عن المنكر ولا الأمر بالمعروف الواجب ما لم يكمل شروط أربعة كما صرح بذلك الفاضل والشهيدان وغيرهم ، ولعل اقتصار المصنف على الأول لإرادة الأعم من ترك الحرام وفعل الواجب عن المنكر على أن يكون المراد بالنهي عن الثاني هو الأمر بالفعل الذي هو المعروف ، أو لوضوح أنها شرائط فيهما ، أو لغير ذلك.

وعلى كل حال ف‌ الأول أن يعلمه معروفا ومنكرا ليأمن من الغلط في التعريف والإنكار كما صرح به الحلي والفاضل والشهيدان والمقداد وغيرهم على ما حكي عن بعضهم ، بل عن المنتهى نفي الخلاف فيه ، ومقتضاه كون ذلك شرطا للوجوب كالاستطاعة للحج وحينئذ فالجاهل معذور ، لكن في حاشية الكركي والمسالك النظر في ذلك ، قال في الأول : « ولقائل أن يقول : إن في اشتراط الوجوب به نظرا ، فإن من علم أن زيدا قد صدر منه فعل منكر أو ترك معروفا في الجملة بنحو شهادة العدلين ولا يعلم المعروف والمنكر ينبغي أن يتعلق به وجوب الأمر والنهي ، ويجب عليه تعلم ما يصح معه الأمر والنهي ، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة ، ويجب عليه تحصيل شروطها ، والأصل في ذلك أنه لا دليل يدل على اشتراط الوجوب بهذا الأمر ، فإن الأمر بهما ورد مطلقا ، وتقييده يتوقف على الدليل ، وهو منتف ، وظاهر تعليلهم يرشد إلى ذلك فإنه كما هو ظاهر لا يستلزم ما ادعوه ، لأنا على ذلك الاحتمال نوجب عليه ـ بعد الإحاطة بترك المعروف في الجملة ـ التعلم ثم الأمر » وقال في الثاني منهما : « وقد يناقش بأن عدم العلم بالمعروف والمنكر لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم يعلم ، وإنما ينافيه نفس الأمر والنهي حذرا من الوقوع في الأمر بالمنكر‌

٣٦٦

والنهي عن المعروف ، وحينئذ فيجب على من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معين في الجملة بنحو شهادة العدلين أن يتعلم ما يصح معه النهي والأمر ثم يأمر أو ينهى ، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة ويجب عليه تحصيل شروطها ، وحينئذ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل ونهيه حال الجهل وبين وجوبهما عليه كما تجب الصلاة على المحدث والكافر ، ولا تصح منهما على تلك الحال » وفيه ـ مع أنه مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف به في المنتهى ـ أنه مناف أيضا لما في خبر مسعدة (١) السابق الذي حصر الوجوب فيه على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر ، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلفا بها ، لا أنه يجب أن يتعلم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير ونهيه اللذين يمكن عدم وقوعهما ممن يعلمه من الأشخاص ، وأما ما ذكراه من المثال فهو خارج عما نحن فيه ، ضرورة العلم حينئذ بتحقق موضوع الخطاب بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا ولم نعلم حرمة ما فعله ولا وجوب ما تركه ، فإنه لا يجب تعرف ذلك مقدمة للأمر والنهي لو فرضنا كونهما منه ، بل أصل البراءة محكم ، وهو مراد الأصحاب بكونه شرطا للوجوب ، والله العالم.

والثاني أن يجوز تأثير إنكاره ، فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب بلا خلاف أجده في الأخير ، بل في ظاهر المنتهى الإجماع عليه ، لكن قد يشكل بالنسبة إلى المرتبة الأولى منه ، وهو الإنكار القلبي الذي ستعرف وجوبه على الإطلاق ، اللهمّ إلا أن يقال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١.

٣٦٧

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده ، ضرورة عدم كون ذلك أمرا ونهيا ، كضرورة عدم كون المعرف والمنكر بالقلب آمرا وناهيا ، وإنما هو من توابع الإيمان بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا بد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به تعد في الأمر والنهي ، وهو إظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض وإظهار الكراهة ونحو ذلك ، والأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام فيما ذكره المصنف وجماعة ، بل ربما نسب إلى الأكثر من السقوط أيضا بغلبة الظن بعدم التأثير ، مع أن الأوامر مطلقة ، ومقتضاها الوجوب على الإطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير ، إلا أنه للإجماع وغيره سقط في خصوصها ، أما غيرها فباق على مقتضى الإطلاق من الوجوب ، ولعله لذا كان ظاهر جماعة بل صريح آخرين الاكتفاء بالتجويز الذي معناه الإمكان الذي يخرج عنه الامتناع خاصة ، بل هو مقتضى عنوان المتن أولا ، وإن كان قد فرع عليه غلبة الظن ، ودعوى انصراف الإطلاق إلى غير ذلك فيبقى أصل البراءة سليما ممنوعة ، كما أن‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر مسعدة (١) المتقدم لما سئل عما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر » : « هذا على أن يأمره بعد معرفته ، ومع ذلك يقبل منه ، وإلا فلا » ‌ـ كقوله عليه‌السلام في خبر يحيى (٢) « إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن متيقظ أو جاهل متعلم ، وأما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١ ـ٢ مع اختلاف في اللفظ.

٣٦٨

صاحب سوط وسيف فلا » ‌وفي‌ خبر داود الرقي (١) « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قيل له وكيف ذلك؟ قال : يتعرض لما لا يطيق » ‌وفي‌ خبر حرث (٢) « ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أن تؤتوه فتؤنبوه وتعذروه وتقولوا له قولا بليغا ، قلت جعلت فداك إذا لا يقبلون منا ، قال : اهجروهم واجتنبوا مجالسهم » ‌وفي‌ خبر أبان (٣) « كان المسيح عليه‌السلام يقول : إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة ـ إلى أن قال ـ فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا ، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه ، وإلا أمسك » ـ لا دلالة فيه على السقوط مع الظن كما زعمه بعض الأفاضل خصوصا فيما عدا الأول ، بل يمكن ظهوره خصوصا الأخير في عكسه فإن الطبيب قد يعطي الدواء مع احتمال الشفاء ، وأما الأول فلا دلالة فيه على العلم بالقبول ، مع أن الخصم لا يقوله أيضا ، ضرورة الوجوب عنده مع تساوي الطرفين ، ويمكن حمل عبارة المصنف ونحوها على أن المراد بغلبة الظن الطمأنينة العادية التي لا يراعى معها الاحتمال لكونه من الأوهام فيها ، لا أن المراد عدم وجوبه مع الاحتمال المعتد به عند العقلاء الذي هو مقتضى إطلاق الأدلة ، خصوصا بعد تصريح غير واحد بأن الساقط مع العلم بعدم التأثير الوجوب دون الجواز ، بل عن بعض الأصحاب استحبابه ، والله العالم.

والثالث أن يكون الفاعل له أي المنكر ولو ترك الواجب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ٧ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٥.

٣٦٩

مصرا على الاستمرار ، فلو لاح منه أمارة الامتناع عن ذلك سقط الإنكار بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة بل ولا إشكال ضرورة عدم موضوع لهما ، بل هما محرمان حينئذ كما صرح به غير واحد ، كما أنه لا إشكال في عدم السقوط بعد العلم بإصراره ، إنما الإشكال في السقوط بالأمارة الظنية بامتناعه كما هو مقتضى المتن وغيره باعتبار إطلاق الأدلة واستصحاب الوجوب الثابت اللهمّ إلا أن يريد الظن الغالب الذي يكون معه الاحتمال وهما لا يعتد به عند العقلاء كما سمعته آنفا ، بل قد يقال بوجوبهما في حال عدم العلم بالإصرار ، للحكم بفسقه ما لم تعلم توبته ، فيجري عليه حينئذ جميع الأحكام التي منها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ما لم تتحقق التوبة ولو بالطريق الذي يتحقق به مثلها من إظهار الندم ونحوه ، ومن ذلك ينقدح الإشكال فيما عن السرائر والإشارة والجامع من كون شرط وجوبهما ظهور أمارة الاستمرار ، بل وفيما عن جماعة من كون الشرط الإصرار ، ولعل الأولى جعل الشرط عدم ظهور أمارة الإقلاع ، بل لا بد من تقييد الأمارة بما يكتفى بمثلها في تحقق التوبة ، بل لعل هذا هو المراد مما في الدروس من القطع بالسقوط لو لاح منه أمارة الندم ، ولذا قال في الكفاية بعد حكايته عنه : وهو حسن إن أفادت الأمارة غلبة الظن ، وحينئذ فلو شك في امتناعه وعدمه اتجه الوجوب كما صرح به في المسالك ، قال فيها في شرح العبارة : لا إشكال في الوجوب مع الإصرار ، وإنما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع ، فإن الأمارة علامة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم ، وفي الدروس أنه مع ظهور الأمارة يسقط قطعا ، ويلحق بعلم الإصرار اشتباه الحال فيجب الإنكار وإن لم يتحقق الشرط الذي هو الإصرار ، ومثله القول‌

٣٧٠

في الأمر بالمعروف ، وهو موافق لكثير مما ذكرناه ، خلافا لما سمعته من ظاهر السرائر والجامع والإشارة من اعتبار ظهور أمارة الاستمرار في الوجوب ، بل وظاهر من اعتبر الإصرار في الوجوب أيضا ، ضرورة مخالفة ذلك كله لإطلاق الأدلة ، وهل يكفي مجرد الامتناع أو لا بد من التوبة؟ استظهر بعض الناس من أكثر الأصحاب السقوط بالأول ، ثم قال : نعم إن ظهر استمراره على ترك التوبة كان اللازم أمره بها ، ولكن هذا غير الأمر بالمعروف الذي وجب عليه التوبة بتركه ، وفي الكفاية قالوا : لو ظهر الإقلاع سقط ، ولا ريب فيه إن كان المراد بالإقلاع الندم ، ولو كان مجرد الترك ففيه تردد ، قلت : لا ريب في أولوية مراعاة التوبة كما أشرنا إليه سابقا ، والله العالم.

والرابع أن لا يكون في الإنكار مفسدة ، فلو علم أو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى عرضه أو إلى أحد من المسلمين في الحال أو المال سقط الوجوب بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم ، لنفي الضرر والضرار والحرج في الدين ، وسهولة الملة وسماحتها ، وإرادة الله اليسر دون العسر و‌قول الرضا عليه‌السلام في الخبر المروي (١) عن العيون : « والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك ولم يخف على نفسه» ‌كقول الصادق عليه‌السلام في حديث شرائع الدين (٢) مع زيادة « ولا على أصحابه » وقوله عليه‌السلام أيضا في خبر مسعدة (٣) السابق : « وليس ذلك في‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٢٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١ مع اختلاف يسير.

٣٧١

هذه الهدنة إذا كان لا قوة له ولا مال ولا عدد ولا طاعة » ‌بل وقوله عليه‌السلام في خبر يحيى (١) الطويل السابق ، بل و‌قوله عليه‌السلام أيضا في خبر مفضل بن زيد (٢) : « من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها » ‌وغير ذلك من النصوص السابقة وغيرها.

والمناقشة بأن التعارض بينها وبين ما دل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجه يدفعها أولا أن مورد جملة منها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، نعم هو كذلك بالنسبة إلى نحو‌ قوله (ص) (٣) « لا ضرر ولا ضرار » ‌وقوله تعالى (٤) ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ونحوهما ، ومن التخصيص في السابقة يعلم الرجحان حينئذ في هذه العمومات ، خصوصا بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف التي تسقط مع الضرر كالصوم ونحوه ، و‌قول الباقر عليه‌السلام في الخبر (٥) السابق : « يكون في آخر الزمان قوم مراءون يتقرءون ـ إلى أن قال ـ : لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر ، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير » ‌محمول على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات ، أو على إرادة فوات النفع من الضرر ، بل في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر اليسير ، أو على استحباب تحمل الضرر العظيم ، وإن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٢ ـ ٣

(٣) الوسائل ـ الباب ١٢ من كتاب إحياء الموات.

(٤) سورة الحج ـ الآية ٧٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٦.

٣٧٢

ثبوت الحرمة حينئذ كما صرح به الشهيدان والسيوري ، وما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها.

ثم إن ظاهر الأصحاب اعتبار العلم أو الظن بالضرر ، ويقوى إلحاق الخوف المعتد به عند العقلاء ، هذا ، وعن البهائي رحمه‌الله في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بعد كون الآمر والناهي متجنبا عن المحرمات وعدلا ، لقوله تعالى (١) ( أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقوله تعالى (٢) : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) وقوله تعالى (٣) ( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) و‌قول الصادق عليه‌السلام في خبر محمد بن عمر (٤) المروي عن الخصال وعن روضة الواعظين : « إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال : عامل بما يأمر به ، تارك لما ينهى عنه » ‌وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة (٥) : « وأمروا بالمعروف وائتمروا به ، وانهوا عن المنكر وانتهوا عنه ، وإنما أمرنا بالنهي بعد التناهي » ‌وفي الخبر « ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به ، ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه » ‌على أن هداية الغير فرع الاهتداء ، والإقامة بعد الاستقامة ، وفيه أن الأول‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٤١.

(٢) و (٣) سورة الصف ـ الآية ٢ ـ ٣

(٤) الوسائل ـ الباب ١٠ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٣ عن محمد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام والباب ٢ منها الحديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ١٠ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٨.

٣٧٣

إنما يدل على ذم غير العامل بما يأمر به لا على عدم الوجوب عليه ، واحتمال الثاني اللوم على قول فعلنا أو ما يدل على ذلك ولا فعل ، والثالث الإشارة إلى الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعريض بأئمة الجور المتلبسين بلباس أئمة العدل ، كل ذلك لإطلاق ما دل على الأمر بهما كتابا وسنة وإجماعا من غير اشتراط للعدالة ، بل ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها ، بل عن السيوري والبهائي والكاشاني التصريح بعدم اعتبار العدالة ، نعم يعتبر في الأمر التكليف ، كما أنه يعتبر في المأمور والمنهي ، ومنع الصبي والمجنون عن إضرار الغير ليس من الأمر بالمعروف ، بل هو كمنع الدابة المؤذية ، فما في كنز العرفان ـ من أنه لا يشترط في المأمور والمنهي أن يكون مكلفا ، فإن غير المكلف إذا علم إضراره للغير منع من ذلك وكذا الصبي ينهى عن المحرمات لئلا يتعودها ، ويؤمر بالطاعات ليتمرن عليها ـ واضح الفساد بعد ما عرفت من أن المنكر المحرم والمعروف الواجب ، ولا واجب ولا محرم بالنسبة إلى غير المكلف.

وكيف كان ف مراتب الإنكار ثلاث بلا خلاف أجده فيه بين الأصحاب : الأولى الإنكار بالقلب كما سمعته سابقا في‌ الخبر (١) المروي عن الباقر عليه‌السلام « فأنكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم ـ إلى أن قال ـ فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم » ‌إلى آخره ، وفي‌ المروي (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا « من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت في الأحياء » ‌وفي الآخر المروي (٣) عنه عليه‌السلام

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١ ـ ٤ ـ ١٠

٣٧٤

أيضا « إن أول ما تقبلون عليه من الجهاد الجهاد بأبدانكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم ، فمن لم يعرف معروفا ولم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله » ‌وفي المروي (١) عن العسكري (ع) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من رأى منكرا فلينكر بيده إن استطاع ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره » ‌إلى غير ذلك من النصوص لكن عن النهاية تفسيره باعتقاد الوجوب والحرمة ، بل في المسالك هو الظاهر من الإطلاق ، وجعل في القواعد ذلك الاعتقاد مع عدم الرضا بالمعصية أول مراتب الإنكار القلبي ، وعن التنقيح تفسيره بذلك أيضا مع الابتهال إلى الله تعالى في إهداء العاصي ، وفي الكفاية بعدم الرضا بالفعل ، ولعله لاستفاضة النصوص (٢) بأن الراضي بالحرام كفاعله ، بل به علل (٣) قتل ذراري قتلة الحسين عليه‌السلام ، وعن المفاتيح تفسيره بالبغض في الله ، ولعله لبعض الأخبار ، وظاهر المنتهى وما تسمعه من المتن أنه إظهار الكراهية ، ولعله لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) : « أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة » ‌والصادق عليه‌السلام (٥) : « قد حق لي أن آخذ البري‌ء منكم بذنب السقيم ، وكيف لا يحق ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تنهرونه ولا تؤذونه حتى يترك » ‌وقوله عليه‌السلام أيضا (٦) : « لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١٢.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٥ من أبواب جهاد العدو ٠ ـ ٤

(٤) الوسائل ـ الباب ٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

(٥) و (٦) الوسائل ـ الباب ٧ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٤ ـ ٥

٣٧٥

تمشيتم إليه فقلتم يا هذا إما أن تعتزلنا أو تتجنبنا ، وإما أن تكف عن هذا ، فإن فعل ، وإلا فاجتنبوه » ‌وقوله عليه‌السلام أيضا (١) : « إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها فلما انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلا يدعو ويتضرع ـ إلى أن قال ـ فعاد أحدهما إلى الله تعالى فقال : يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعوك ويتضرع إليك ، فقال : امض إلى ما أمرتك ، فإن ذا رجل لم يتمعر ـ أي يتغير ـ وجهه غضبا لي » ‌إلى غير ذلك من النصوص التي تقدم بعضها الآمرة بهجرانهم وهجران مجالسهم.

لكن لا يخفى عليك ما في جملة من هذه التفاسير ، إذ الأول كما ذكرنا سابقا ليس من الأمر بالمعروف ولا من النهي عن المنكر لغة ولا عرفا ، وإنما هو من أحكام الإيمان حال وجود موضوعهما وعدمه وكذا زيادة عدم الرضا بالمعصية معه ، فإن الرضا وإن كان محرما في نفسه لكن عدمه ليس أمرا ولا نهيا ، وكذا البغض ما لم يظهر ، وأغرب من ذلك زيادة الابتهال الذي لا مدخلية له في الأمر بالمعروف ، بل لا قائل بوجوبه ، نعم إظهار الكراهة والهجر ونحوهما دالان على طلب الفعل أو الترك ، ومن هنا قلنا سابقا إنه لا بد من ضميمة في الإنكار بالقلب يكون بها داخلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلا أنه بهذا المعنى مشروط أيضا بتجويز التأثير وبعدم الضرر.

فلا يتم قول المصنف بل والعلامة في المحكي عن جميع كتبه : وهو أي الإنكار بالقلب يجب وجوبا مطلقا على معنى أنه لا يتوقف على التجويز ولا على أمن الضرر كما صرح به غير واحد ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٢.

٣٧٦

وبالجملة الإنكار القلبي بمعنى الاعتقاد ونحوه ليس من الأمر بالمعروف بل وكذا عدم الرضا أو البغض أو نحو ذلك مما هو في القلب من دون إظهار منه وإن قلنا بوجوبه في نفسه لبعض النصوص ، وأما الإظهار ونحوه فهو منه ، لدلالته على طلب الفعل أو الترك ، إلا أن ذلك ليس واجبا مطلقا بل هو مشروط بما عرفت.

ومن هنا كان المتجه للمصنف والفاضل تفسيره بذلك مع ترك إطلاق وجوبه ، وذلك لكونه حينئذ كالمرتبة الثانية والثالثة وهي الإنكار باللسان وباليد اللتين لا خلاف في اشتراطهما بما سمعت كما لا خلاف في وجوبهما أيضا لما سمعته من النصوص السابقة ، مضافا إلى‌ خبر (١) يحيى الطويل عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد ، ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا » ‌وغيره أيضا ، نعم يستفاد منها أيضا خصوصا خبر العسكري (ع) السابق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) الإنكار القلبي المحض ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من رأى منكرا فلينكر بيده إن استطاع ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره » وخبر يحيى (٣) الطويل صاحب المقري عن الصادق عليه‌السلام « حسب المؤمن عزا إذا رأى منكرا أن يعلم الله عز وجل من قلبه إنكاره » ‌مع زيادة المقت والبغض كما يستفاد من غيرها (٤) ولكنه ليس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ضرورة عدم دلالته على الطلب من المأمور‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١.

٣٧٧

والمنهي بوجه من الوجوه مع فرض عدم أمارة تدل على ذلك حتى تغير الوجه ونحوه.

وكيف كان فقد صرح الفاضل وابن سعيد والسيوري والشهيدان وغيرهم على ما حكي عن بعضهم بوجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل نسبه بعض الأفاضل إلى الشهرة بل لم أجد من حكى الخلاف في ذلك ، وإليه أشار المصنف بقوله : ويجب دفع المنكر بالقلب أولا كما إذا عرف أن فاعله ينزجر بإظهار الكراهية ، وكذا إذا عرف أن ذلك لا يكفي وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجر وجب ، واقتصر عليه مراعيا للأيسر فالأيسر ، ولو عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الإنكار باللسان مرتبا للأيسر من القول فالأيسر ، ولو لم يرتفع إلا باليد مثل الضرب وما شابهه من فرك الأذن والحبس ونحوهما جاز ودعوى أن إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي خلاف الترتيب المزبور ـ بل قد سمعت ما في بعض الأخبار السابقة من التزام ارتكاب الأثقل من الإنكار ـ يدفعها ما يستفاد من غيرها من مراعاة الترتيب مضافا إلى قاعدة حرمة إيذاء المؤمن وإضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار ما ترتفع به الضرورة ، بل لعل قوله تعالى (١) ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي‌ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) إلى آخره ظاهر في ذلك باعتبار تقديم الصلح أولا ، على أن التعارض بين إطلاق الأمر بالمعروف وبين النهي عن الإضرار بالمؤمن والإيذاء له من وجه ، والمعلوم من تخصيص الأخير بالأول حال الترتيب الذي ذكرناه ، وحينئذ فالمتجه الاقتصار فيهما على أول مراتب الإنكار‌

__________________

(١) سورة الحجرات ـ الآية ٩.

٣٧٨

بالقلب على وجه يظهر للمأمور والمنهي ذلك ، ثم المرتبة الأخرى منه الأيسر فالأيسر إلى أن تنتهي مراتبه بأقسام الهجر وتغير الوجه ونحوهما فإن لم يجد استعمل اللسان أيضا بمراتبه الأيسر فالأيسر ، فإن لم يجد استعمل اليد أيضا بمراتبها.

ولكن ذلك كله مع فرض ترتبها في الإيذاء ، وإلا فلو فرض أن الهجر أشد إيذاء من بعض القول وجب الثاني ، ولو علم من أول الأمر أنه لا يجدي إلا المرتبة الأخيرة من المراتب استعملها من غير تدرج ، إذ هو في مجهول الحال ، لكن عن الشيخ وابن حمزة « يجب أولا باللسان ثم باليد ثم بالقلب » وعن سلار « باليد أولا ، فإن لم يمكن فاللسان ، فإن لم يمكن فالقلب » وعن الحلبي في الإشارة « يجب باليد واللسان ، فإن فقدت القدرة أو تعذر الجمع فيه بين ذلك فباللسان والقلب خاصة ، فإن لم يمكن الجمع فيه بينهما لأحد الأسباب المانعة فلا بد منه باللسان ، ولا يسقط الإنكار به شي‌ء ».

ولا يخفى عليك ما في الجميع ، خصوصا الأخير ، ضرورة سقوط الإنكار باللسان مع الضرر والخوف وعدم تجويز التأثير ، وربما يكون المراد من الاختلاف بيان مراتب سقوط الإنكار بالنسبة إلى التمكن وعدمه على معنى سقوطه باليد عند الحاجة إليه مع عدم التمكن ، ولكن لا يسقط باللسان مع التمكن ولو بالنسبة إلى غير الفرد الذي يتوقف إنكاره على الضرب باليد ، فإن لم يتمكن منه أيضا باللسان بالنسبة إلى بعض الأشخاص اقتصر على القلب بالطريق الذي ذكرناه ، وهكذا ، وعلى ذلك فلا يكون خلافا في المسألة ، وحينئذ فالسقوط مترتب أيضا كالثبوت ، ولعل هذا أولى مما في المختلف ، فإنه بعد أن حكى بعض ما ذكرناه من الاختلاف قال : « ولا أرى في ذلك كثير بحث ، والتحقيق أن النزاع‌

٣٧٩

لفظي ، فإن القائل بوجوبه باللسان أولا ثم باليد أشار إلى أنه يعد فاعل المعروف بالخير ، ويعظه بالقول ، ويزجره على الترك ، فإن أفاد وإلا ضربه وأدبه ، فإن خاف وعجز عن ذلك كله اعتقد وجوب الأمر بالمعروف وتحريم المنكر ، وذلك مرتبة القلب ، والقائل بتقديم القلب يريد أنه يعتقد الوجوب ويغضب في قلبه غضبا يظهر على وجهه الكراهة والإعراض ، والقائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف ويتجنب المنكر بحيث يتأسى الناس به ، فإن لم ينجع وعظ وخوف باللسان ، فإن لم ينجع اقتصر على الإنكار القلبي » وهو كما ترى ، ولعله لذا قال في محكي التنقيح : « أنه مجرد تخمين لا دليل عليه ».

وعلى كل حال فمما ذكرنا يعلم وجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في المراتب كلها ، كما يعلم منه أيضا أن المراد بالجواز في المتن الوجوب بل ويعلم أيضا التخيير في الأفراد مع فرض تساويها مرتبة ، ولو كان المنكر مثلا يرتفع بالقول الغليظ والضرب الخفيف اقتصر على الأول بناء على ما ذكرنا من الترتيب بين اللسان واليد ، مع احتمال التخيير مع فرض التساوي في الإيذاء ، وإلا وجب الأسهل ، لما سمعته من القاعدة السابقة التي منها يعلم الحال في أفراد المراتب ، فرب إعراض وهجر من بعض الأشخاص بالنسبة إلى بعض الأشخاص يكون أشد إيذاء من بعض الكلام وبالجملة الميزان ما عرفت ، وهو مع أنه أحوط به تجتمع النصوص.

ثم إن ظاهر المصنف وغيره الإجماع على عدم توقف الضرب الخالي عن الجرح على إذن الإمام عليه‌السلام أو القائم مقامه ، لكن في محكي نهاية الشيخ « الأمر بالمعروف يكون باليد واللسان ، فأما اليد فهو أن يفعل المعروف ويتجنب المنكر على وجه يتأسى به الناس ، وأما باللسان فهو أن يدعو الناس إلى المعروف ، ويعدهم على فعله المدح والثواب ،

٣٨٠