جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

تحقق عنوان السقوط بالمرض وعدم الوجدان ، نعم قد يختلف الأخير بالنسبة إلى أحوال المجاهدين وأنواع الجهاد فقد تكون المسافة قصيرة لا يحتاج معها إلى الحمولة بخلاف المسافة الطويلة معها إليها ، وعن الشيخ اعتبار مسافة التقصير ، ولا دليل عليه والظاهر تحقق الوجدان بالبذل على نحو الحج كما ستسمع إن شاء الله.

فروع ثلاثة : الأول إذا كان عليه دين مؤجل فليس لصاحبه منعه منه وإن علم حلوله قبل رجوعه ولم يترك مالا في بلده يقابله ولا ضامنا ، لعدم استحقاق المطالبة ، واحتمل بعضهم جواز المنع إذا كان يحل قبل رجوعه ، لاستلزامه تعطيل حقه ، لكنه كما ترى ولو كان الدين حالا وهو معسر قيل له منعه وإن كنا لم نتحقق القائل به منا ، نعم حكاه في المنتهى عن الشافعي وأحمد ، وفي المسالك أن الشيخ ذكر في المبسوط كلاما يدخل فيه المعسر لا بخصوصه وعلى كل حال هو بعيد جدا ، ضرورة شمول العمومات له بعد فرض سقوط المطالبة عنه وعدم استحقاق له في عينه ، وكون الجهاد يقصد منه الشهادة التي يفوت الحق بها لا يقتضي تسلطا له على منعه على أن الشهادة غير معلومة ولا مظنونة ، فلا يترك لأجلها أعظم أركان الإسلام ، بل لو علمت أو ظنت كان المتجه الجواز أيضا ، وفي المرسل (١) « إن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا رسول الله : إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عني خطئي قال : نعم إلا الدين ، فإن جبرئيل عليه‌السلام قال لي ذلك » ‌محمول على المفرط في قضاء الدين بقرينة استثنائه من الخطايا ، ولو تعين على المديون الجهاد وجب عليه الخروج فيه سواء كان الدين حالا أو مؤجلا موسرا كان أو معسرا أذن له غريمه أو لا لأن الجهاد تعلق بعينه فكان مقدما‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٢٥.

٢١

على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ، ولكن ينبغي له عدم التعرض لمظان القتل بأن يبارز أو يقف في أول المقاتلة أو نحو ذلك مما فيه تغرير ، ولو ترك وفاء أو أقام كفيلا مليا جاز له الغزو أذن له صاحب الدين أو لم يأذن ، لعدم المانع حينئذ ، ولما يحكى (١) عن عبد الله أبي جابر من أنه خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاء عنه ابنه جابر ولم يذمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك مع علمه به ، بل قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه : « لا زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه » (٢) ‌والله العالم.

الثاني للأبوين المسلمين العاقلين الحرين منعه من الغزو ما لم يتعين عليه بلا خلاف أجده فيه ، بل عن ظاهر التذكرة والإيضاح الإجماع عليه ، بل في المنتهى من له أبوان مسلمان لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما ، ولهما منعه ، وبه قال كافة أهل العلم ، وفي‌خبر عمرو بن شمر (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا رسول الله : إني راغب في الجهاد نشيط فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فجاهد في سبيل الله ـ إلى أن قال له ـ يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقم مع والديك فو الذي نفسي بيده لأنسك بهما يوما وليلة خير من جهاد سنة » بل ‌في آخر‌

__________________

(١) البحار ج ١٨ ص ٣١ الطبع الحديث.

(٢) البحار ج ٢٠ ص ١٣١ الطبع الحديث.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ عن عمرو بن شمر عن جابر.

٢٢

« لأنسهما بك ليلة خير من جهاد سنة » ‌وعن ابن عباس (١) « جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أجاهد معك فقال : لك أبوان قال : نعم ، قال ففيهما جاهد » وفي آخر (٢) « إني جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما » وعن أبي سعيد (٣) « أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل لك باليمن أحد قال : نعم أبواي قال : أذنا لك قال : لا ، قال فارجع فاستأذنهما ، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فسرهما » ‌بل ظاهر الأخير ومعقد الإجماع المزبور اعتبار الإذن فضلا عن سلطنة المنع ، بل ربما كان ذلك أيضا ظاهر محكي المبسوط والوسيلة والتحرير والتذكرة ، إلا أن الخبر عامي ، ومعقد الإجماع محتمل لإرادة ولاية المنع ، وزاد في المنتهى الاستدلال بأن طاعة الأبوين فرض عين ، والجهاد فرض كفاية ، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية إلا أنه لا يقتضي اعتبار الإذن ، وبالجملة إن تم الإجماع المزبور فذاك وإلا أشكل اعتبار الإذن بحيث إن خرج من دون ذلك ولو مع عدم علمهما وعدم نهيهما عنه يكون آثما للأصل وعموم الأدلة ، ولعل ذلك هو ظاهر المصنف والفاضل ويحيى بن سعيد والشهيدين والكركي وغيرهم على ما حكي عن بعضهم لاقتصارهم على أن لهما المنع ، بل قد يشكل عموم وجوب الطاعة في جميع ما يقترحانه في غير فعل محرم وترك واجب مما لا أذية عليهما فيه في الفعل والترك على وجه يكون كالسيد والعبد بعدم دليل معتد به على ذلك ، ودعوى كون مطلق المخالفة عقوقا وإيذاء وعدم مصاحبته بالمعروف واضحة المنع ، خصوصا بعد أن كان العقوق‌

__________________

(١) و (٣) المستدرك ـ الباب ٢ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ ـ ٣

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٩ ص ٢٦.

٢٣

ضد البر على ما في القاموس والنهاية ، بل إليه يرجع ما في المصباح المنير ومجمع البحرين وقد‌ مر (١) في صلاة الجماعة السؤال عن الصلاة مع رجل لا بأس به غير أنه يخالف أبويه قال : « لا بأس ».

نعم يحرم عليه العقوق الذي هو أحد الكبائر كما استفاضت به النصوص (٢) بل من أكبرها ، والإيذاء لهما ولو بقول أف ونهرهما كما أنه يجب عليه الإحسان إليهما والمصاحبة لهما بالمعروف ، بل في المنتهى بعد ذلك في أثناء فروع ذكرها « لو سافر لطلب العلم والتجارة استحب له استئذانهما ، ولو منعاه لم يحرم عليه مخالفتهما ، وفارق الجهاد ، لأن الغالب فيه الهلاك ، وهذا الغالب فيه السلامة » وهو مناف لما ذكره أولا من وجوب الطاعة عليه مع فرض عدم تعين السفر المزبور عليه ، ومن هنا التزم بعضهم عدم الفرق بين الجهاد وغيره من الأسفار المباحة والمندوبة والواجبة كفاية مع قيام من فيه الكفاية.

وعلى كل حال فلو كانا كافرين لم يعتبر إذنهما في الجهاد ، بل ولا يحرم مخالفتهما فيه كما صرح به الشيخ والفاضل وغيرهما ، خلافا للمحكي عن الثوري ، بل قيل إنه مقتضى إطلاق المصنف والوسيلة والفاضل ويحيى بن سعيد والشهيد والكركي وغيرهم ، بل في الروضة « وفي اشتراط إسلامهما قولان ، وظاهر المصنف عدمه » ولكن لا يخفى عليك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١ وفيه‌ « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ خلفه؟ قال : لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا » وقد ذكره في الجواهر في الجزء ١٣ ص ٢٧٥ و ٢٨٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس.

٢٤

ضعفه ، لعموم الأدلة الراجح هنا على غيره من وجوه ، خصوصا بناء على ما قيل من كون التعارض بينهما من وجه ، بل في المنتهى « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج معه من الصحابة إلى الجهاد من كان له أبوان كافران من غير استئذان كأبي بكر وغيره ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر وأبوه كان رئيس المشركين يومئذ قتل ببدر ، وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد ، بل فيه أيضا الاستدلال بأنهما كافران ، فلا ولاية لهما على المسلم ، ولأنه يسوغ قتلهما فترك قبول قولهما أولى » وإن كان لا يخلو من نظر في الجملة بعد الأمر بمصاحبتهما في الدنيا بالمعروف ، فتأمل.

ولو كان الجهاد متعينا عليه وجب عليه الخروج له من غير استئذان بل ومع المخالفة بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به الفاضل ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وكذا في جميع الواجبات ، ولو كانا مملوكين فعن ظاهر الشيخ وغيره كونهما كالحرين ، بل هو صريح ثاني الشهيدين لعموم الأدلة ، ولكن في المسالك حكاية قول بالعدم ، ولم أتحققه ، ولعله لكونهما مولى عليهما فلا ولاية لهما ، وفيه أن الطاعة ونحوها غير الولاية ، وفي إلحاق الأجداد والجدات بهما قول للفاضل في التذكرة ، وقواه في المسالك ، بل قال : « ولو كانا مع الأبوين ففي اعتبار إذن الجميع أو سقوط الأجداد وجهان ، أجودهما الأول » ولعل الأجود الثاني ، لعموم أدلة الجهاد ، ولأن المستفاد من الكتاب والسنة وأكثر الفتاوى منع الأبوين ، واحتمال إرادة الأب فصاعدا والأم كذلك خلاف المنساق ، ومن ذلك يستفاد ضعف القول المزبور ، ولذا كان خيرة الفخر والكركي عدم الإلحاق ، نعم لا فرق في الحكم بين منعهما أو أحدهما كما صرح به غير واحد ، بل لا خلاف فيه ، بل‌

٢٥

ولا إشكال بعد ما عرفت من كونه مقتضى الأدلة السابقة ، ولو منعه أحدهما وألزمه الآخر فالظاهر السقوط أيضا للأصل وغيره ، والله العالم‌

الثالث لو تجدد العذر بعد التحام الحرب والتقاء الصفين لم يسقط فرضه المستفاد من قوله تعالى (١) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) وغيره مما دل على وجوب الصبر وحرمة الفرار من الزحف وتولية الدبر لكن على تردد من ذلك ، ومن الشك في الوجوب معه ، لإطلاق ما دل على السقوط معه إلا مع العجز عن القيام به المانع من التكليف المعلوم اشتراطه بعدمه عقلا ونقلا ، فإنه لا إشكال حينئذ في السقوط معه ، هذا ، ولكن في المسالك إذا تجدد العذر بعد التئام الحرب فإن كان خارجا كرجوع الأبوين وصاحب الدين لم يعتبر رجوعه ، لعموم الأوامر الدالة على الثبات حينئذ ، وإن كان ذاتيا كالمرض والعمى والإقعاد ففي السقوط قولان ، أقربهما ذلك لعدم القدرة التي هي شرط الوجوب ، وقال ابن الجنيد : يجب الثبات هنا أيضا ، وهو ضعيف ، نعم لو لزم من رجوعه تخاذل في المسلمين وانكسار اتجه عدم السقوط ، قال : « واعلم أن ظاهر العبارة كون الخلاف في القسم الأول خاصة ، والموجود في كتب الخلاف كونه في الثاني » قلت : قد حكي التفصيل المزبور في المنتهى عن الشيخ وخلاف الشافعي في أحد قوليه فيهما ، وصرح هو بعدم سقوط الفرض عنه في رجوع الأبوين عن الإذن في ذلك الحال ، وكذا لو أسلما ولم يأذنا أو رجع الغريم أو السيد عنها كذلك ، بل صرح فيه بأنه لو رجع الأبوان قبل التعين عليه رجع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع ولو من حدوث مرض أو ذهاب نفقة ، فإن أمكنه الإقامة في الطريق وإلا مضى‌

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ٤٧.

٢٦

مع الجيش ، فإذا حضر الصف تعين عليه بحضوره ، ولم يبق لهما إذن بل صرح فيه أيضا بأنه لو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك ، وقد يناقش في الأخير بمنع التعين عليه بعد فرض اعتبار الإذن في الخروج ، بل وسابقه ، بل وأصل التفصيل بنحو ذلك مع كون التعارض بين الأدلة من وجه ، ومع التسليم فدعوى انتفاء القدرة بالعمى ونحوه يمكن منعها إن كان المراد منها المقاومة ، لمعلومية عدم اعتبارها هنا ، نعم لو انتفى بذلك حقيقة المقاتلة اتجه السقوط حينئذ ، ولعل هذا الذي أشار إليه المصنف بقوله ، « إلا مع العجز » فإن احتمال الوجوب في هذا الحال واضح الفساد ، وأوضح منه فسادا دعوى تناول إطلاق الأمر بالثبات ونحوه لمثله ، والله العالم وإذا بذل للمعسر ما يحتاج إليه وجب بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المسالك ، لصدق الوجدان حينئذ ، فيندرج في أدلة الوجوب كتابا وسنة ، نعم لو كان ذلك على سبيل الأجرة لم يجب لا أن الإجارة لا تتم إلا بالقبول ، وهو نوع اكتساب لا يجب تحصيله للواجب المشروط ، بخلاف البذل الذي يتحقق بالإيجاب من الباذل ، فيتفرع عليه الوجوب ، وقد تقدم في الحج ما له دخل في المقام ، فإنه شبيه بالبذل له ، بل عن بعض هنا أيضا اعتبار كونه على وجه لازم كالنذر أو قبوله البذل ، وإلا لم يجب نحو ما سمعته في البذل للحج ، فلاحظ وتأمل.

ومن عجز عنه بنفسه لعذر من الأعذار السابقة وكان مؤسرا وجب إقامة غيره كما عن الشيخ والقاضي والحلي والمقدار في الكنز ، وإن كنا لم نتحققه ، والكركي في جامعه ، بل في غاية المراد نسبته إلى الشيخ وأتباعه وقيل يستحب وإن كنا لم نعرف القائل‌

٢٧

به قبل المصنف ، نعم هو خيرة جماعة ممن تأخر عنه كالفاضل وثاني الشهيدين والصيمري وغيرهم ولكن هو أشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها أصل البراءة وإطلاق نفي الحرج الشامل للنفس والمال وكما لا يشترط في غير الواجد الضعف أو المرض فكذا لا يشترط في الضعيف والمريض عدم الوجدان ، ولم يفرق أحد بين أصناف المعذورين ولمعلومية سقوط المباشرة عنه بالعجز الذي يتبعه سقوط النيابة ، لأنها تتبع وجوب المباشرة ، ودعوى كون الوجوب أصالة لا بطريق البدل يدفعها أنه خلاف ظاهر فرض موضوع المسألة ، بل لم أعرف قائلا بوجوب الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس ، وإن كان مقتضى ما استدل به للأول من قوله تعالى (١) ( وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) بل وقوله تعالى (٢) ( وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) باعتبار ذمه لهم على عدم الإنفاق ، وعموم الأوامر بالجهاد القابل للنيابة وخصوصا قوله تعالى ( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) (٣) فإن التأكيد مشعر بالمعذور ، وعموم الأمر (٤) بالمعاونة على البر والتقوى المندرج فيه المقام ، إلا أن ذلك كله كما ترى لا دلالة في شي‌ء منه على وجوب الاستنابة مع العجز ، ودعوى أن الجهاد بالمال لا يكون إلا به في غير الجهاد بالنفس وإلا كان إنفاقا على نفسه لا جهادا بالمال ـ مع أنها لا تدل على الترتيب المزبور ضرورة إمكان وجوب الجهاد بالنفس والجهاد بالمال بمعنى تجهيز المعسرين له ـ يمكن منعها بمعلومية صدق الإنفاق في سبيل الله والمعاونة على ما هو أعمّ من بذل المال على نفسه حال‌

__________________

(١) و (٢) سورة التوبة ـ الآية ٤١ ـ ٨٢

(٣) سورة الحج ـ الآية ٧٧.

(٤) سورة المائدة ـ الآية ٣.

٢٨

الجهاد وغيره ، إلا أن يقال إن مقتضى الآية وجوب الجهاد بالمال على الإطلاق أي سواء جاهد بنفسه مع ذلك أو كان عاجزا ، خرج عنه الصورة الأولى بالإجماع ، فتبقى الثانية ، ولكن ذلك لا يقتضي الاستنابة المفروضة ، بل يمكن أن يكون المراد معونة المجاهدين بماله في الخيل والسلاح والظهر والزاد وسد الثغر كما عن ظاهر الحلبي إيجاب ذلك على المعذور الغني ، اللهمّ إلا أن يقال بأولوية التقييد الأول ، لندرة القول بالثاني بعد الإجماع على عدم وجوب الأعم منهما ، ولأن الاستنابة أقرب المجازات لصدق الجهاد بالمال من ذلك ، خصوصا بعد كون فعل النائب فعل المنوب عنه ، إلا أن ذلك كله كما ترى تهجس في تهجس ، وليس بأولى من القول بأن المراد من الأمر القدر المشترك بين الوجوب والندب ، وإن كان قد يقال إن الأول تقييد ، وهذا مجاز والأول أولى ، على أنه لم نعلم قائلا برجحان الاستنابة في حال القدرة على الجهاد بالنفس إلا أن مرجعه أيضا إلى التهجس المزبور الذي يمكن معارضته بإرادة ما ينفقه المجاهد من المال حال الجهاد بالنفس أو غير ذلك.

وبالجملة لا دلالة فيها واضحة على المطلوب نحو الاستدلال بقاعدة عدم سقوط الميسور بالمعسور ، بل وبما سمعته من آية (١) التعاون والأمر بالجهاد حق الجهاد الذي لا يخفى ما فيه خصوصا الأخير المحتمل أمورا متعددة خارجة عما نحن فيه من الجهاد بمعنى المقاتلة ، فالأصل حينئذ بحاله ، ولكن يسهل الخطب في المسألة ما في الرياض ، فإنه قال بعد ذكر المسألة : « ثم إن هذا إذا لم يحتج إلى الاستنابة بأن يعجز القائمون بدونها وإلا فيجب قولا واحدا » وظاهره فرض الخلاف‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٣ وسورة الحج ـ الآية ٧٧.

٢٩

حال عدم الاحتياج ، ومن المعلوم سقوط الواجب كفاية بذلك ، وحينئذ فيرتفع الخلاف ، ولعله لذا قال في غاية المراد بعد ذكر الخلاف وأدلة الطرفين : ولقائل أن يقول : الخلاف مرتفع لأن الجهاد فرض كفاية إجماعا من المسلمين إلا من شذ ، والتكليف به مشروط بعدم ظن الاكتفاء به ، فإن حصل الشرط وجب قطعا بالنفس والمال بطريق أولى وإن انتفى سقط قطعا ، وإن احتيج إلى غزو أحد وهناك مؤسر ومعسر وجب على المؤسر أحد الأمرين إما الخروج بنفسه أو تجهيز المعسر ، وكذا لو كان أكثر وفرض كثرة المؤسرين والمعسرين ، وقد نبه في المختلف على شي‌ء من ذلك ، ولعله أشار إلى ما ذكره فيه ، فإنه بعد أن ذكر ترجيح القول بعدم الوجوب قال : نعم لو احتيج إلى الاستنابة بأن يعجز القائمون وجبت ، ولكن عن الكركي في جامعه أنه قال : « وعبارة المختلف تدل على الوجوب إذا كان محتاجا إليه ، وعدمه مع عدم الحاجة ، وهو مشكل ، فإن الوجوب كفائي والدليل فيه جار أيضا » قلت قد يقال إن لم يكن إجماع إن القائل بالسقوط عن المعذور لا يوجب الاستئجار عليه ولو مع الحاجة ، كما لا يجب عليه نفسه ، والقائل بالوجوب يريد الوجوب كفاية على معنى أنه إن فعل كان ممن قام بالواجب وإن لم يحتج إليه ، وإلا لم يكن كذلك وإن لم يكن مأثوما مع فرض قيام الغير به ، نعم لو لم يقم به الجميع أثم الجميع ، وكأنه لذا قال في المسالك : الأقوى وجوب الاستئجار مع الحاجة إليه أو أمر الإمام له بذلك ، وإلا فلا ، لأصالة البراءة ، فيكون الاستئجار واجبا كفائيا كما يجب النهوض على القادر ، ولعل هذا هو الأصح.

هذا كله في العاجز عن الجهاد بنفسه ولو كان قادرا عليه فجهز غيره سقط عنه ما لم يتعين بتوقف الأمر عليه ، أو‌

٣٠

بتعيين الإمام عليه‌السلام بلا خلاف أجده فيه ، بل عن المنتهى نسبته إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع ، كما هو مقتضى المحكي عن التذكرة أيضا ، وفي الدروس يجوز الاستئجار على الجهاد عندنا ، قد استثناء غير واحد من عدم جواز الاستئجار على الواجب ولو كفاية في كتاب المكاسب ، ولعله لمعلومية عدم إرادة المباشرة من الجهاد ، فيكفي استنابة الغير ، وهو المراد مما في المسالك من أن الغرض في الواجب الكفائي المقتضي لسقوطه عمن زاد على ما فيه الكفاية لحصول من فيه الكفاية تحصيله بنفسه أو بغيره ، وربما يؤيد ذلك‌ خبر أبي البختري (١) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام سئل عن إجعال الغزو فقال لا بأس أن يغزو الرجل عن الرجل ، ويأخذ الجعل منه » ‌مؤيدا‌ بالنبوي (٢) « من جهز غازيا كان له كمثل أجره » ‌بل ظاهره كظاهر الفتاوى عدم الفرق في النائب بين كونه قادرا بنفسه على الغزو من دون حاجة إلى الجعل وغيره ممن لم يكن قادرا ، ولا ينافي ذلك كونه واجبا على الأول بعد أن كان مخيرا بين فعله لنفسه وبين فعله عن غيره ، كما أن الجاعل مخير بين فعله بنفسه وبين النائب عنه ومن ذلك يعلم ما في تقييد بعضهم النائب في المسألة السابقة بكونه غير واجب عليه الجهاد لفقر ونحوه ، هذا ، وفي محكي التحرير قال الشيخ : « للنائب ثواب الجهاد ، وللمستأجر ثواب النفقة » وكان نسبته إلى الشيخ مشعرة بنوع تردد فيه ، ولعله لاقتضاء الإجارة كون الثواب للمستأجر لكونه نائبا عنه وفعله فعله ، نعم مقتضى ما سمعته من النبوي أن الله تعالى شأنه يعطيهما معا ثواب ذلك تفضلا منه ، والأمر سهل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

(٢) كنز العمال ج ٢ ص ٢٥٤ الرقم ٥٤١٩.

٣١

ويحرم الغزو في أشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم إلا أن يبدأ الخصم أو يكون ممن لا يرى للأشهر الحرم حرمة بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، لقوله تعالى (١) ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ : قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي ذنب كبير ، وقوله تعالى (٢) ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) الآية ، وقوله تعالى (٣) ( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) الذي قيل في سبب نزوله أنه كان أهل مكة قد منعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية سنة ست في ذي القعدة وهتكوا الشهر الحرام ، فأجاز الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه أن يدخلوه في سنة تسع في ذي القعدة لعمرة القضاء مقابلا لمنعهم في العام الأول ، ثم قال : ( وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ) أي يجوز القصاص في كل شي‌ء حتى في هتك حرمة الشهر ، ثم عمم الحكم فقال ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) الآية ، و‌مضمر العلاء بن الفضيل (٤) المنجبر بما عرفت « سألته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام فقال : إذا كان المشركون يبتدئونهم باستحلاله ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه ، وذلك قول الله عز وجل ( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ) والروم في هذا بمنزلة المشركين ، لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة ولاحقا لهم يبتدئون بالقتال فيه ، وكان المشركون يرون له حقا وحرمة‌

__________________

(١) و (٣) سورة البقرة ـ الآية ٢١٤ ـ ١٩٠

(٢) سورة التوبة ـ الآية ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ٢٢ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٣٢

فاستحلوه ، فاستحل منهم ، فأهل البغي يبتدئون بالقتال » والمراد إذا كان المشركون يبتدئونهم فنعم ، وحينئذ فجواب « إذا » محذوف ، وكان المشركون يرون له حرمة أي في بدء أمرهم ، فأهل البغي يعني من استحل منهم يبتدئون بالبناء للمفعول.

وفي المنتهى كان الفرض في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجهاد في زمان دون زمان وفي مكان دون آخر ، أما الزمان فإنه كان جائزا في جميع السنة إلا في أشهر الحرم ، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، لقوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وأما المكان فإن الجهاد كان سائغا في جميع البقاع إلا الحرم ، فإن الابتداء بالقتال فيه كان محرما ، لقوله تعالى (١) ( وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ) إذا عرفت هذا فإن أصحابنا قالوا : إن تحريم القتال في أشهر الحرم باق إلى الآن لم ينسخ في حق من يرى للأشهر الحرم حرمة للأصل ، وأما من لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله فيها ، وذهب جماعة من الجمهور إلى أنهما منسوختان بقوله تعالى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام إلى الطائف فافتتحها في ذي القعدة وقال الله تعالى (٢) ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أما تحريم القتال في المسجد الحرام فإنه منسوخ أي بقوله تعالى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ومن ذلك يعلم الوجه في قول المصنف ويجوز القتال في الحرم وقد كان محرما فنسخ بالآية المزبورة ، بل وبقوله تعالى (٣)

__________________

(١) و ( ٢) و (٣) سورة البقرة ـ الآية ١٨٧ ـ ١٨٩ ـ ١٨٧

٣٣

( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) قال في الكنز : « هذه الآية ناسخة لكل آية فيها أمر بالمرادعة أو الكف عن القتال ، كقوله (١) ( وَدَعْ أَذاهُمْ ) وقوله (٢) ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) وأمثاله ، لأن حيث للمكان أي في أي مكان أدركتموهم من حل أو حرم ، وكان القتال في الحرم محرما ثم نسخ بهذه الآية وأمثالها ، فصدرها ناسخ لعجزها » إلى آخره ، هذا ، وقال بعض الأفاضل : « وهل يلحق بمحل البحث أي الحرمة في الأشهر المقاتلة لدفع الكفار الذين دهموا المسلمين في زمن الغيبة لتسخيرهم وأخذ بلادهم؟ فيه إشكال ، ولكن احتمال الإلحاق في غاية القوة ، مع أنه أحوط في الجملة » وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع من الأرس في بلد العجم ، وفيه أولا أن محل البحث في غزوهم لا في دفاعهم ، وثانيا أنهم ممن لا يرون حرمة لهذه الأشهر ، فاحتمال الإلحاق حينئذ في غاية الضعف ، بل هو واضح الفساد ، والله العالم.

وتجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعار الإسلام من الأذان والصلاة والصوم وغيرها ، سمي ذلك شعارا لأنه علامة عليه ، أو من الشعار الذي هو الثوب الملاصق للبدن ، فاستعير للأحكام اللاحقة للدين ، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له كالفاضل والشهيدين وغيرهم ، والأصل فيه بعد معلومية إيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها قوله تعالى (٣)( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا : كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ الآية ٤٧.

(٢) سورة الجحد ـ الآية ٦.

(٣) سورة النساء ـ الآية ٩٩ ـ و ١٠٠.

٣٤

مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ، وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ) وقوله تعالى (١) ( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ ) بناء على كون المراد به الإشارة إلى الهجرة عن المكان الذي لا يتمكن فيه من العبادة ، بل وقوله تعالى (٢) ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) الآية وقوله تعالى (٣) ( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) وقوله تعالى (٤) ( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) وغير ذلك مما دل على طلب المهاجرة من الكتاب والسنة ، كالنبوي « من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌الذي الأصل فيه الوجوب.

نعم إنما تجب مع المكنة لا مع عدمها بلا خلاف أجده أيضا فيه لما سمعته من ظاهر الآية المؤيد بنفي الحرج وغيره من العقل والنقل ومن هنا كان الناس في الهجرة على أقسام ثلاثة كما صرح به في المنتهى أحدها من تجب عليه ، وهو من أسلم في بلاد الشرك وكان مستضعفا‌

__________________

(١) سورة العنكبوت ـ الآية ٥٦.

(٢) سورة النساء ـ الآية ١٠١.

(٣) سورة الحج ـ الآية ٥٧.

(٤) سورة النحل ـ الآية ٤٣ و ٤٤.

٣٥

فيهم لا يمكنه إظهار دينه ولا عذر له من مرض ونحوه ، والثاني من تستحب له ، وهو من أسلم في بلاد الشرك أو كان فيها ويمكنه إظهار دينه لعشيرة تمنعه أو غير ذلك ، فإنها لا تجب عليه كما صرح به جماعة بل لا أجد فيه خلافا ، للأصل وظاهر الآية أيضا وغيره ، ولكن يستحب له كما صرح به جماعة تجنبا لهم عن تكثير عددهم وعن معاشرتهم ، اللهمّ إلا أن يكون في بقائه مصلحة للدين ، الثالث من لا تجب عليه ولا تستحب له ، وهو من كان له عذر يمنعه عنها من مرض ونحوه مما أشير إليه بقوله تعالى ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ ) الآية ، نعم إذا تجددت له القدرة وجبت.

وعلى كل حال ف الهجرة باقية ما دام الكفر باقيا كما صرح به الفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل لا أجد فيه خلافا بيننا ، بل ظاهر المسالك انحصار المخالف في بعض العامة ، ولا إشكالا لإطلاق الأدلة السابقة ، و‌النبوي (١) « لا هجرة بعد الفتح » ‌

مع عدم ثبوته من طرقنا معارض‌ بالآخر « لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها » ‌فيجب حمله على إرادة نفيها عن مكة لصيرورتها بالفتح بلد إسلام ، أو على إرادة نفي الكمال على نحو قوله تعالى (٢) ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ) أو غير ذلك.

هذا كله في بلاد الشرك ، وعن الشهيد إلحاق بلاد الخلاف التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان ، فتجب عليه الهجرة مع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٣٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٧.

(٢) سورة الحديد ـ الآية ١٠.

٣٦

الإمكان إلى بلد يتمكن فيها من إقامة ذلك ، واستحسنه الكركي ، لكن قال : « الظاهر أن هذا إنما يكون حال وجود الإمام عليه‌السلام وارتفاع التقية ، أما مع غيبته وبقاء التقية فهذا الحكم غير ظاهر ، لأن جميع البلاد لا يظهر فيها شعار الإيمان ولا يمكن إنفاذها إلا بالمسارة ، وإن تفاوتت في ذلك » قلت : قد يظهر من النصوص (١) ـ الواردة في الحث على التقية والترغيب فيها ، حتى‌ ورد (٢) أن المصلي معهم كمن صلى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصف الأول ، وأنها دينهم عليهم‌السلام (٣) والنصوص (٤) الواردة في الأمر بحسن المعاشرة والمصاحبة معهم واستعمال عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم ، والسيرة المستمرة على كثرة الممارسة لهم والمجاورة ونحو ذلك ـ عدم وجوب المهاجرة في زمن الغيبة وإن تمكن من بلاد يظهر فيها شعار الإيمان ، لأن الزمان زمان تقية حتى يظهر ولي الأمر روحي له الفداء بل لعل ذلك معلوم من مذهب الإمامية قولا وفعلا ، فمن الغريب ما سمعته عن الشهيد ، ولم أعرف ذلك لغيره ، بل ولا له أيضا في كتاب من كتبه المعروفة.

ثم إن الظاهر كون المراد بالتمكن من إظهار شعار الإسلام الذي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٤ من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف.

(٢) الوسائل ـ ٥ من أبواب صلاة الجماعة.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢٤ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٣ و ٢٣ من كتاب الأمر بالمعروف.

(٤) الوسائل ـ الباب ٧٥ من أبواب صلاة الجماعة والباب ٢٦ من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف.

٣٧

يسقط معه وجوب الهجرة هو عدم المعارضة والأذية من العمل على ما يقتضيه دينه في واجب أو ندب ، فلو تمكن من بعض دون بعض وجبت خصوصا إذا كان المتروك مثل الصوم والصلاة والحج ونحوها مما هو من أعظم الشعائر ، بل الظاهر إرادة التجاهر بما يقتضيه الإسلام ، فلا يكفي في عدم وجوبها الإتيان بها متخفيا ، كما أنه لا يكفي الإتيان بها على مقتضى مذهبهم تقية ، فإن التقية الدينية غير مشروعة في مذهبنا من غير أهل الخلاف من المسلمين ، والله العالم.

ومن لواحق هذا الركن المرابطة وهي الإرصاد والإقامة لحفظ الثغر من هجوم المشركين الذي هو الحد المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام كما في التنقيح ، أو كل موضع يخاف منه كما في جامع المقاصد أو هما معا كما في المسالك ، قال : الثغر هنا الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام بحيث يخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام ، وكل موضع يخاف منه يقال له ثغر لغة.

وعلى كل حال ف هي مستحبة لما تسمعه من النصوص (١) كما صرح به الفاضلان والشهيدان وغيرهم ، بل لا أجد فيه خلافا بينهم للأصل السالم عن معارضة ما يقتضي الوجوب كتابا وسنة ، ضرورة خلو الأول عما يزيد على مدح الذين جاهدوا ورابطوا ، وقصور ما وصل إلينا من الثانية عن إثبات الحكم بالوجوب ، لكن في التنقيح وجوبها على المسلمين كفاية من غير شرط ظهور الإمام عليه‌السلام ، ولعله يريد حال الضرر بعدمها على الإسلام ، لا أن المراد وجوبها من حيث كونها كذلك مطلقا ، نعم هي راجحة ولو كان تسلط الإمام عليه‌السلام مفقودا أو كان غائبا لأنها لا تتضمن قتالا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦ و ٧ من أبواب جهاد العدو.

٣٨

ابتداء مع غير إمام عادل كي يكون مندرجا فيما دل على النهي عنه بل تتضمن حفظا وإعلاما إذ الرباط الإقامة في الثغر للإعلام بأحوال المشركين كي يؤخذ الحذر من هجومهم على بلاد الإسلام ، ولو اتفق الاحتياج معه إلى القتال فهو من الدفاع حينئذ عن البيضة الذي قد عرفت كونه قسما من الجهاد ومأمورا به ، قال يونس (١) : « سأل أبا الحسن عليه‌السلام رجل وأنا حاضر فقال له جعلت فداك إن رجلا من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا وفرسا في سبيل الله فأتاه فأخذهما منه ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردهما قال : فليفعل ، قال : قد طلب الرجل فلم يجده ، وقيل له قد شخص الرجل قال : فليرابط ولا يقاتل ، قلت : مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور قال : نعم ، قال فإن جاء العدو من الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال : يقاتل عن بيضة الإسلام ، قال : يجاهد قال : لا إلا أن يخاف على ذراري المسلمين ، قلت : أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم قال يرابط ولا يقاتل قال : فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل ، فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان ، لأن في درس الإسلام درس ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌

ومنه يعلم كون الرباط لا قتال فيه ، واستحبابه حال زمان قصور اليد الملحق به زمان الغيبة ، ولا ينافيه الأمر بالرد المحتمل إرادة الاحتياط باعتبار إرادة التارك الجهاد معهم ابتداء في سبيل الله تعالى شأنه ، أو كون ذلك أظهر الأفراد عنده ، كما لا ينافي النهي عن الجهاد الأمر بالمقاتلة عن البيضة بعد حمله على إرادة الابتداء بالقتال مع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٣٩

غير العادل.

وعلى كل حال فلا ريب في دلالته على أن المرابطة في سبيل الله تعالى شأنه مستحبة ، مضافا إلى إطلاق المروي في المنتهى عن‌ سلمان (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان » ‌وعن فضالة بن عبيدة (٢) قال : « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتان القبر » والمروي عن ابن عباس (٣) قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله » ‌ولا ينافي ذلك ما في‌ خبر عبد الله بن سنان (٤) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور ، قال : فقال الويل لهم ليعجلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة ، والله ما الشهداء إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم » ‌بعد إمكان إرادة المرابطين الذينهم من أتباع الجائرين أو المجاهدين بابتداء القتال معهم ، أو غير ذلك مما هو غير المفروض الذي قد صرح به غير واحد من الأصحاب ، بل ظاهر المنتهى الاتفاق عليه‌

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٢ ص ٢٥٣ الرقم ٥٣٧٨.

(٢) كنز العمال ـ ج ٢ ص ٢٥٧ الرقم ٥٤٧٨ عن فضالة بن عبيد.

(٣) تيسير الوصول ج ١ ص ٢٢٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤.

٤٠