جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) وقال (١) ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ )‌ وروي « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج يوما من داره فوجد في يد عمر صحيفة فقال : ما هي : فقال : من التوراة ، فغضب عليه ورماها من يده ، وقال : لو كان موسى وعيسى عليهما‌السلام حيين لما وسعهما إلا اتباعي ».ولو أوصى أن تكتب كتب طب أو حساب أو غيرهما مما لا حرمة فيه جاز لعموم الأدلة من غير فرق بين كون ذلك لهم أو لغيرهم ، بل في المنتهى الإجماع عليه ، وهو كذلك ، إذ الممنوع إنفاذ الوصية بالمحرم وهو ما عرفت.

وكذا لو أوصى باستئجار الأجير الخاص لخدمة البيع والكنائس أو شراء مصباح لهما أو أرض توقف عليهما أو غير ذلك مما هو محرم لما عرفت ، نعم لو أوصى ببناء ذلك مأوى للمارة من أهل الذمة خاصة أو مع المسلمين أو سكناهم أو غير ذلك مما هو ليس معصية جاز ، لعموم الوصية ، هذا ، وعن الشهيد « أن هذا ليس على إطلاقه ، بل هو في موضع ليس لهم الإحداث فيه » وفيه أن عدم جواز إنفاذنا لها إذا رجع الأمر إلينا باعتبار كونها معصية في نفسها ، وهو المراد من عدم صحتها ، فإن لم يرجع الأمر إلينا لم يكن لنا التعرض لهم فيما يقتضيه شرعهم ، وإن كان لنا المنع لو أرادوا إحداثها فيما لا يجوز الإحداث فيه ، وكذا الكلام في الوصية بشراء الخمر أو الخنزير أو الوقف عليهما أو غير ذلك من المحرمات ، وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم في غير ذلك ولو أوصى للراهب والقسيس وغيرهما جاز كما تجوز الصدقة عليهم والهبة وغيرهما بلا خلاف ولا إشكال للعموم ، وضمير‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٧٣.

٣٢١

الجمع في العبارة إما لأن لام الجنس تلحقهما بالمتعدد ، أو لأن أقل الجمع اثنان ، أو لأن المراد به أهل الذمة ، والأمر سهل ، ولو أوصى بالكنيسة مثلا للمارة والصلاة ففي المنتهى « قيل يبطل الوصية في الصلاة وتصح في نزول المارة ، فتبنى كنيسة بنصف الثلث لنزول المارة خاصة فإن لم يمكن ذلك بطلت الوصية ، وقيل تبنى الكنيسة بالثلث ، وتكون لنزول المارة ، ويمنعون من الاجتماع في الصلاة ، وفي الوجهين قوة » قلت : لعل الحكم ببطلان الوصية أقوى منهما لكونهما من الوصية بالمحرم وإن اشترك معه غاية محللة ، فتأمل.

المسألة الخامسة يكره للمسلم أجرة رم الكنائس والبيع وإصلاحها من بناء ونجارة وغير ذلك ولا يحرم بلا خلاف أجده ، بل قد مر ما عن المنتهى من الاتفاق على جواز رم ما انشعب منها ، ولعل الوجه في الكراهة بعد التسامح فيها أنه نوع إعانة لهم على ما يفعلونه ، من المحرمات فيها من صلاة ونحوها.

( الركن الرابع في قتال أهل البغي )

الذي هو لغة مجاوزة الحد والظلم والاستعلاء وطلب الشي‌ء ، وفي عرف المتشرعة الخروج عن طاعة الإمام العادل عليه‌السلام على الوجه الآتي ، والمناسبة بينه وبين الجميع واضحة ، وإن كانت هي في الظلم أتم ، ومن ذلك وغيره يعلم أن البغاة اسم ذم ، خلافا لبعض العامة فأنكره ، وقال : المراد بالبغاة المخطئون من أهل الاجتهاد ، وهو كما‌

٣٢٢

ترى ناش عن عناد ، وعلى كل حال فخبر الأسياف (١) المروي في التهذيب والكافي وعمل به الأصحاب وتسمعه إن شاء الله صريح فيما ذكره بعض من أنه نزل فيهم قوله تعالى (٢) ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي‌ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ، فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) وإن كان قد أشكله بعض بأنها في المؤمنين ، والفرق الثلاثة عندنا كفار وإن انتحلوا الإسلام ، ولفظ البغي فيها أعمّ من ذلك ، إذ يمكن إرادة التعدي من بعض المؤمنين على بعض ، ولكن يمكن أن يكون على ضرب من المجاز ولو باعتبار معتقدهم كما ستعرف ذلك.

وعلى كل حال فقد قيل إنهم استفادوا منها أمورا خمسة : أحدها أن البغاة على الإمام عليه‌السلام مؤمنون ، لأن الله تعالى سماهم مؤمنين وهو لا يوافق أصولنا في الإمامة ، ومن هنا حمل على ضرب من المجاز بناء على الظاهر أو على ما كانوا عليه أو على ما يعتقدونه ، نحو قوله تعالى (٣) ( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) المعلوم أنه في المنافقين بل في المنتهى وهذه صفة المنافقين إجماعا ، الثاني وجوب قتالهم ، وهو كذلك عندنا كما ستعرف إن شاء الله ، الثالث وجوب القتال إلى غاية وهو كذلك أيضا لنص الآية كما ستعرف ، الرابع عدم الرجوع على أهل البغي بنفس أو مال بعد الصلح ، لعدم ذكر شي‌ء منهما بعده ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

(٢) سورة الحجرات ـ الآية ٩.

(٣) سورة الأنفال ـ الآية ٥ و ٦.

٣٢٣

ومناف لما عندنا كما ستعرف ، بل ولقوله تعالى فيها ( وَأَقْسِطُوا ) المراد به العدل ، الخامس دلالتها على جواز قتال كل من منع حقا طولب به فلم يفعل ، للعلة التي جوزت قتال البغاة ، وفيه أنها مستنبطة وليست حجة عندنا ، خصوصا بعد معلومية تفاوت الحقوق ، وأن أعظمها مخالفة الإمام عليه‌السلام على وجه يترتب عليه الفساد في الدين ، فلا يقاس عليه غيره ، كما هو واضح.

وكيف كان فلا خلاف بين المسلمين فضلا عن المؤمنين في أنه يجب قتال من خرج على إمام عادل عليه‌السلام بالسيف ونحوه إذا ندب إليه الإمام عليه‌السلام عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام لذلك أو ما يشمله ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص (١) من طرق العامة والخاصة ، مضافا إلى ما سمعته من الكتاب بناء على نزوله فيهم كما تسمع التصريح به في خبر الأسياف في الخاتمة المروي في الكافي والتهذيب وعمل به الأصحاب ومنهم الناكثون أصحاب الجمل أعوان الامرأة ، والقاسطون أهل الشام والمارقون الخوارج الذين هم كلاب أهل النار ، وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ولا يتجاوز الإيمان تراقيهم ، وقد بشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام بمباشرة قتالهم أجمع من بعده كما تسمعه إن شاء الله في خبر الأسياف وغيره ، وأنه الذي يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله ، وعن علي عليه‌السلام (٢) أنه قال : « أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ففعلت ما أمرت » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٦ من أبواب جهاد العدو وسنن البيهقي ج ٨ ص ١٦٨.

(٢) دعائم الإسلام ج ١ ص ٣٨٨.

٣٢٤

وقال عليه‌السلام أيضا (١) « والله ما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌وعن الباقر عليه‌السلام (٢) أنه ذكر الذين حاربهم علي عليه‌السلام فقال : « أما إنهم أعظم حربا ممن حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قيل له وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال : لأن أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرءوا القرآن وعرفوا فضل أهل الفضل ، فأتوا ما أتوا بعد البصيرة ».

وكيف كان ف التأخر عنه كبيرة بلا خلاف ولا إشكال ، خصوصا بعد أن كان من الجهاد ، بل هو من أعظم أفراده ، وفي‌ خبر هاشم بن يزيد (٣) قال : « سمعت يزيد بن علي يقول : كان علي عليه‌السلام في حربه أعظم أجرا من قيامه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حربه ، قال : قلت : وأي شي‌ء تقول أصلحك الله؟ قال : فقال لي لأنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تابعا ، ولم يكن له إلا أجر تبعيته ، وكان في هذه متبوعا وكان له أجر كل من تبعه ».

ولكن إذا قام به من فيه غنى سقط عن الباقين ما لم يستنهضه الإمام عليه‌السلام على التعيين إذ هو واجب كفاية كجهاد المشركين ، وحينئذ فالمراد من ندب الإمام أو منصوبه طلب من تقوم به الكفاية من المسلمين ، وإلا فلو أمرهم على العموم الاستغراقي وجب امتثال أمره ، فيكون عينيا من هذه الحيثية ، كالذي يستنهضه الإمام عليه‌السلام بخصوصه ، كما هو واضح ، وفي‌

خبر محمد بن عمر بن‌

__________________

(١) و (٢) المستدرك ـ الباب ٢٤ من أبواب جهاد العدو الحديث ١٢ ـ ١٣

(٣) التهذيب ـ ج ٦ ص ١٧٠ الرقم ٣٢٦ وفيه « قال : سمعت زيد بن علي » وهو الصحيح.

٣٢٥

علي عليه‌السلام (١) عن أبيه عن جده عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي مسندا عن مجالس الحسن بن محمد الطوسي أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم الجهاد مع المشركين معي ، فقلت يا رسول الله : وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني ، فقلت فعلى ما نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دم عترتي » ‌، وعن علي عليه‌السلام (٢) « أنه حرض الناس على القتال يوم الجمل ، فقال : قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ، لعلهم ينتهون ، ثم قال : والله ما رمى أهل هذه الآية سهم قبل اليوم » ‌وعنه عليه‌السلام أيضا (٣) أنه قال يوم صفين : « اقتلوا بقية الأحزاب وأولياء الشيطان ، اقتلوا من يقول : كذب الله ورسوله ، وتقولون صدق الله ورسوله ».

ومن ذلك وغيره كان الفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين وأنه يجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا وإن استعاذوا بالمصاحف والدعوة إلى حكم الكتاب لم يلتفت إلى قولهم إذا كان قد دعوا إليه فامتنعوا فيقاتلون حينئذ حتى يصرحوا بالفئة على وجه لم يعلم كونه خديعة ، وما وقع من أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين كان مغلوبا عليه من جيشه الذي كان أكثره من المخالفين ، وإلا فهو قد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٧.

(٢) و (٣) دعائم الإسلام ـ ج ١ ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠ المطبوعة عام ١٣٨٣.

٣٢٦

صابرهم أي مصابرة ، خصوصا ليلة الهرير في وقعة صفين ، وعن‌ عبد الرحمن السلمي (١) قال : « شهدت صفين مع علي عليه‌السلام فنظرت إلى عمار بن ياسر وقد حمل فأبلى وانصرف وقد انثنى سيفه من الضرب ، وكان مع علي عليه‌السلام جماعة قد سمعوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار : يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، فكان لا يسلك واديا إلا اتبعوه فنظر إلى هاشم بن عتبة المرقال صاحب راية علي عليه‌السلام وقد ركز الراية وكان هاشم أعور فقال له عمار : يا هاشم عورا وجبنا لا خير في أعور لا يغشى الناس ، فانتزع هاشم الراية وهو يقول :

أعور يبقى أهله محلا

قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا

فقال عمار : أقدم يا هاشم ـ إلى أن قال : فحملا جميعا فما رجعا حتى قتلا » ‌

وعن علي عليه‌السلام (٢) « أنه أعطى الراية يوم الجمل محمد بن الحنفية وأقامه بين يديه ، وقدم الحسن عليه‌السلام على الميمنة والحسين عليه‌السلام على الميسرة ، ووقف خلف الراية على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشهباء ، قال ابن الحنفية : فدنا منا القوم ورشقونا بالنبل ، وقتلوا رجلا ، فالتفت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فرأيته نائما قد استثقل نوما ، فقلت يا أمير المؤمنين على مثل هذه الحال تنام وقد فضخونا بالنبل وقتلوا رجلا منا ، هلك الناس ، فقال علي عليه‌السلام لا أراك إلا تحن حنين العذراء الراية راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذها فهزها وكانت الريح في وجوهنا فانقلبت عليهم ، فحسر علي عليه‌السلام عن ذراعه وشد عليهم فضرب‌

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ١ ص ٣٩٢ مع اختلاف يسير.

(٢) دعائم الإسلام ج ١ ص ٣٥٣.

٣٢٧

بسيفه حتى صبغ كم قبائه وانحنى سيفه ».

وكيف كان فقتال البغاة كقتال المشركين في الوجوب وكفائيته وكون تركه كبيرة ، وأن الفرار منه كالفرار منه بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك كما اعترف به في المنتهى ، والنصوص من الطرفين وافية به كفعل علي عليه‌السلام في قتال الفرق الثلاثة.

والمقتول مع العادل شهيد لا يغسل ولا يكفن بل يصلى عليه بلا خلاف أجده فيه ، بل ظاهر المنتهى الإجماع عليه ، وبالجملة فهم كالمشركين في أصل القتال والمصابرة ونحوهما مما تقدم هناك حتى بالنسبة إلى قتل الوالد وغيره من الأرحام الذي حكي عن الشيخ هنا كراهته بل في المنتهى نسبته إلى أكثر العلماء ، وإن كان فيه أن التعارض مخصوص بالوالد ، للأمر (١) بالصحبة في الدنيا معروفا ، ومع فرض التكافؤ من جميع الوجوه يتجه التخيير ، أما غير الوالد فهو باق على مقتضى عموم القتل كالمشرك الرحم ، بل يمكن منع التكافؤ في الأول ، لقوة دليل وجوب قتلهم المؤيد بإعزاز الدين ، ونهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر وأبا حذيفة عن قتل أبويهما لم يثبت من طرقنا ، والغرض من ذلك بيان اتحاد كيفية قتال المشركين والبغاة من هذا الوجه ونحوه.

نعم من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الإجهاز على جريحهم وإتباع مدبرهم وقتل أسيرهم ، ومن لم يكن لهم فئة فالقصد بمحاربتهم تفريق كلمتهم ، فلا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل لهم مأسور بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، نعم في الدروس ونقل الحسن أنهم يعرضون على السيف ، فمن تاب منهم ترك‌

__________________

(١) سورة لقمان ـ الآية ١٤.

٣٢٨

وإلا قتل ، إلا أنه لم نعرف القائل به ، بل المعلوم من فعل علي عليه‌السلام في أهل الجمل خلافه ، وحينئذ فلا خلاف معتد به فيه ، بل في المنتهى ومحكي التذكرة نسبته إلى علمائنا ، بل عن الغنية الإجماع عليه صريحا ، وهو الحجة بعد‌ خبر حفص بن غياث (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والأخرى عادلة فهزمت العادلة الباغية قال : ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يقتلوا أسيرا ، وهذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد ولم يكن فئة يرجعون إليها ، فإذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فإن أسيرهم يقتل ، ومدبرهم يتبع ، وجريحهم يجهز عليه » ‌وخبر الحسن بن علي بن شعبة المروي عن تحف العقول (٢) عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أنه قال في جواب مسائل يحيى بن أكثم : « وأما قولك إن عليا عليه‌السلام قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين وأجهز على جريحهم ، وإنه يوم الجمل لم يتبع موليا ، ولم يجهز على جريح ، ومن ألقى سلاحه أمنه ومن دخل داره أمنه ، إن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، ورضوا بالكف عنهم ، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم ، والكف عن أذاهم إذا لم يطلبوا عليه أعوانا ، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة ، وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف ، ويسني لهم العطاء ، ويهيئ لهم المنازل ، ويعود مريضهم ، ويجبر كسيرهم ، ويداوي جريحهم ، ويحمل راجلهم ، ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم ، فلم يساو بين الفريقين في الحكم‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٢٤ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ ـ ٤

٣٢٩

لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد ، لكنه شرح ذلك لهم ، فمن رغب عرض على السيف أو يتوب عن ذلك » ‌وعن شريك (١) قال : « لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تتبعوا موليا ولا تجهزوا على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، فلما كان يوم صفين قتل المقبل والمدبر وأجاز على جريح ، فقال أبان بن تغلب لعبد الله بن شريك هاتان سيرتان مختلفتان ، فقال : إن أهل الجمل قتل طلحة والزبير وإن معاوية كان قائما بعينه ، وكان قائدهم » ‌وفي الدعائم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « سار علي عليه‌السلام بالمن والعفو في عدوه من أجل شيعته ، لأنه كان يعلم أنه سيظهر عليهم عدوهم من بعده ، فأحب أن يقتدي من جاء بعده به ، فيسير في شيعته بسيرته ولا يجاوز فعله ، فيرى الناس أنه قد تعدى وظلم إذا انهزم أهل البغي وكان لهم فئة يلجئون إليها طلبوا وأجهز على جرحاهم وأتبعوا وقتلوا ما أمكن إتباعهم وقتلهم ، وكذلك سار علي عليه‌السلام في أصحاب صفين ، لأن معاوية كان وراءهم ، وإذا لم يكن لهم فئة لم يطلبوا ولم يجهز على جرحاهم ، لأنهم إذا ولوا تفرقوا »إلى غير ذلك من النصوص التي قد تظافرت في أنه عليه‌السلام سار في أهل الجمل بالمن والعفو.

قال أبو حمزة الثمالي (٣) « قلت لعلي بن الحسين عليهما‌السلام بما سار علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : إن أبا اليقظان كان رجلا حادا رحمه‌الله فقال يا أمير المؤمنين : بم تسير في هؤلاء غدا؟ فقال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٤ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

(٢) ذكر صدره في المستدرك في الباب ٢٣ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤ وذيله في الباب ٢٢ منها الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤.

٣٣٠

بالمن كما سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل مكة » ‌وعن الأصبغ (١) « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الجمل لما قتل طلحة والزبير وقبض على عائشة وانهزم أصحاب الجمل نادى مناديه لا تجهزوا على جريح ، ولا تتبعوا مدبرا ، من ألقى سلاحه فهو آمن ، ثم دعا ببغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشهباء فركبها ، ثم قال : تعال يا فلان ، وتعال يا فلان حتى جمع إليه زهاء من ستين شيخا ، كلهم من همدان قد تنكبوا الترسة وتقلدوا السيوف ولبسوا المغافر ، فسار وهم حوله حتى انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح ففتح له ، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار ، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن هذا قاتل الأحبة ، فلم يقل لهن شيئا ، وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها وسمع بينهما كلام شبيه بالمعاذير لا والله وبلى والله ، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة فقال لها يا صفية فأتته مسرعة ، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني قاتل الأحبة ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه وأومأ إلى ثلاث حجر ، فذهبت إليهن وقالت لهن فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت ، قال الأصبغ وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها ، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش ، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله فقيل للأصبغ فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلم استبقيتموهم قال : قد ضربنا والله بأيدينا إلى قوائم سيوفنا وأحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل وأوسعهم عفوا » ‌

ولعله لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابنا إدريس وحمزة فيما حكي عنهم إنه يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في منعة وكثرة لا‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ٢٢ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٣٣١

يمكن كفهم وتفريق جمعهم إلا بالاتفاق وتجهيز الجيوش والقتال ، فأما إن كانوا نفرا يسيرا كالواحد والاثنين والعشرة وكيدهم ضعيف لم يجر عليهم حكم أهل البغي ، وهو المحكي عن الشافعي ، مستدلين عليه بأن‌ ابن ملجم (١) لما جرح عليا عليه‌السلام وقبض عليه أوصى أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإحسان إليه ، وقال : « إن برئت فأنا أولى بأمري وإن مت فلا تمثلوا به» ‌ولكن عن بعض الجمهور جريان حكم البغاة حتى على الواحد إذا خرج بالسيف ، بل في المنتهى وعن التذكرة أنه قوي بل قيل إنه مقتضى إطلاق المتن والقواعد والإرشاد وغيرها ، وإن كان قد يناقش بانسياق غير ذلك من الإطلاق المزبور ، خصوصا بعد ذكرهم الفئة ونحوها مما يظهر منه الاجتماع المعتد به ، ولا أقل من الشك ، فيبقى الأصل حينئذ بحاله ، نعم يجري عليهم حكم المحارب لو فرض إشهاره للسلاح أو غيره مما يندرج فيه.

وحكي عن الشيخ أيضا وابني حمزة وإدريس اشتراط الخروج عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية في جريان حكم البغاة أما لو كانوا معه وفي قبضته فليسوا أهل بغي ، ولعله‌ للمرسل (٢) « أن عليا عليه‌السلام كان يخطب فقال رجل بباب المسجد لا حكم إلا لله تعريضا بعلي عليه‌السلام أنه حكم في دين الله الرجال ، فقال علي عليه‌السلام : كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث ، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا اسم الله فيها ، ولا نمنعكم الفي‌ء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال » ‌إذ المراد من‌ قوله عليه‌السلام « ما دامت أيديكم معنا » ‌عدم الانفراد ، ولكنه مرسل غير جامع لشرائط الحجية ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦٢ من أبواب القصاص في النفس الحديث ٤.

(٢) المستدرك ـ الباب ٢٤ من أبواب جهاد العدو الحديث ٩.

٣٣٢

قد يقال إن حكم البغاة لم يعلم إلا من فعل علي عليه‌السلام كما اعترف به الشافعي وغيره ، ولم يثبت لنا شي‌ء من فعله فيما عدا الفرق الثلاثة ، وقد كانوا كذلك.

وربما حكي عنهم أيضا اشتراط أن يكونوا على المباينة بتأويل يعتقدونه ، ولم نجد لهم ما يدل عليه ، بل الواقع من علي عليه‌السلام مع أهل الجمل وصفين خلافه ، ضرورة عدم شبهة لهم ، نعم قد كان ذلك في خصوص الخوارج ، ففي‌ خبر السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام « لما فرغ أمير المؤمنين عليه‌السلام من أهل النهر قال لا يقاتلهم أحد بعدي إلا من هم أولى بالحق منه » ‌كما هو المحكي عن خط العلامة بيده ، فيكون حينئذ إخبارا لا نهيا ،وفي بعض « إلا من هو أولى بالحق منهم » ‌وفي خبره الآخر (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أيضا قال : « ذكرت الحرورية عند علي عليه‌السلام قال : إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإن لهم في ذلك مقالا » وفي خبر جميل بن دراج (٣) قال : « قال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام الخوارج شكاك فقال : نعم ، قال : فقال بعض أصحابه : كيف وهم يدعون إلى البراز ، قال : ذلك مما يجدون في أنفسهم » ‌وفي نهج البلاغة (٤) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه يعني معاوية‌

__________________

(١) و (٣) و (٤) الوسائل ـ الباب ٢٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٤ ـ ٦ ـ ١٣

(٢) الوسائل ـ الباب ٢٦ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣ عن ابن المغيرة إلا أن الموجود في علل الشرائع عن السكوني.

٣٣٣

وأصحابه » ‌والغرض من ذلك تنقيح موضوع البغاة على وجه تجري عليه أحكامهم ، وإلا فقد يجب قتلهم لكونهم محاربين ، أو لأنهم نصاب ، ولاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ونحو ذلك مما هو إنكار ضروري الدين ، أو لغير ذلك من موجبات القتل التي هي مذهبهم ، فإنهم لم يبقوا على ما كانوا حال خروجهم ، بل صارت لهم عقائد ملعونة خرجوا بها عن ربقة الإسلام ، ولذا حكم الأصحاب بنجاستهم في كتاب الطهارة من غير خلاف يعرف فيه بينهم.

وكيف كان فقد عرفت عدم اعتبار الشبهة أيضا في البغي للقطع بكون أهل الجمل وصفين منهم ، ولا شبهة لهم ، كما أن من حكم أهل البصرة والنهر يعلم أيضا عدم اعتبار نصب إمام لأنفسهم كما عن بعض العامة.

نعم الظاهر عدم الخلاف بل والإشكال في اعتبار إرشادهم قبل القتل ، وذكر ما يزيح عنهم الشبهة كما فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام في حربهم بنفسه وبرسله حتى ذكر ما ذكر لهم جريا على مذاقهم ، ولم يكتف بذلك حتى بدءوه بالحرب ففعله بهم ما فعل ، والله العالم.

مسائل : الأولى لا يجوز سبي ذراري البغاة وإن تولدوا بعد البغي ولا تملك نساؤهم إجماعا محصلا ومحكيا عن التحرير وغيره بل عن المنتهى « نفي الخلاف فيه بين أهل العلم » وعن التذكرة « بين الأمة » لكن في المختلف والمسالك نسبته إلى المشهور ، ولعله لما في الدروس ، قال : ونقل الحسن أن للإمام عليه‌السلام ذلك إن شاء ، لمفهوم‌ قول علي عليه‌السلام «إني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله (ص) على أهل مكة ، وقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسبي فكذا الإمام عليه‌السلام » ‌وهو شاذ ، قلت : بل لم نعرفه لأحد‌

٣٣٤

منا ، مع احتمال كون مراده أنه قد كان ذلك لأمير المؤمنين عليه‌السلام لو أراده ، إلا أن التقية جعلت الحكم كذلك كما استفاضت به النصوص ، ففي‌ خبر عبد الله بن سليمان (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن الناس يروون أن عليا عليه‌السلام قتل أهل البصرة وترك أموالهم ، فقال : إن دار الشرك يحل ما فيها ، وإن دار الإسلام لا يحل ما فيها ، فقال : إن عليا عليه‌السلام إنما من عليهم كما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أهل مكة ، وإنما ترك علي عليه‌السلام لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة ، وأن دولة الباطل ستظهر عليهم فأراد أن يقتدى به في شيعته ، وقد رأيتم آثار ذلك هو ذا سائر في الناس سيرة علي عليه‌السلام ، ولو قتل علي عليه‌السلام أهل البصرة جميعا واتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا ، لكنه من عليهم ليمن على شيعته من بعده » ‌وخبر زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « لو لا أن عليا عليه‌السلام سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما ، ثم قال : والله لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس » ‌وخبر أبي بكر الحضرمي (٣) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لسيرة علي عليه‌السلام في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه الشمس ، إنه علم أن للقوم دولة ، فلو سباهم لسبيت شيعته ، قلت فأخبرني عن القائم عليه‌السلام يسير بسيرته قال : لا إن عليا سار فيهم بالمن لما علم من دولتهم ، وإن القائم عليه‌السلام يسير فيهم بخلاف تلك السيرة ، لأنه لا دولة لهم » وخبر الحسن بن هارون بياع الأنماط (٤) قال : « كنت عند أبي عبد الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٦ ـ ٨ ـ ١ ـ ٣

٣٣٥

عليه‌السلام جالسا فسأله معلى بن خنيس أيسير الإمام عليه‌السلام بخلاف سيرة علي عليه‌السلام؟ قال : نعم ، وذلك أن عليا سار بالمن والكف لأنه علم أن شيعته سيظهر عليهم ، وأن القائم عليه‌السلام إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي لأنه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبدا» ‌إلى غير ذلك من النصوص المروية في الكافي والتهذيب وغيرهما

بل يمكن دعوى القطع بمضمونها إن لم يمكن دعوى تواترها بالمعنى المصطلح ، فلعل القائل المزبور أراد هذا المعنى ، لا أن المراد جواز السبي في زمان الهدنة إلى ظهور صاحب الأمر عليه‌السلام ، قال محمد بن مسلم (١) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن القائم عليه‌السلام إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس فقال بسيرة ما سار به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يظهر الإسلام ، قلت : وما كانت سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : أبطل ما كان في الجاهلية واستقبل الناس بالعدل ، وكذلك القائم عليه‌السلام إذا قام يبطل ما كان في الهدنة مما كان في أيدي الناس ويستقبل بهم العدل » ‌ولا ينافي ذلك ما‌ في جملة من النصوص من جواب علي عليه‌السلام لما سئل عن السبي فقال : « أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه » ‌منها‌ خبر مروان بن الحكم (٢) قال : « لما هزمنا علي بالبصرة رد على الناس أموالهم ، من أقام بينة أعطاه ، ومن لم يقم بينة أحلفه ، فقال له قائل يا أمير المؤمنين أقسم الفي‌ء بيننا والسبي ، قال : فلما أكثروا قال : أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه ، فكفوا » ‌وعن الصدوق رحمه‌الله قد روى (٣) « أن الناس اجتمعوا إلى‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ٢٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢ ـ ٥ ـ ٧

٣٣٦

أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم البصرة فقالوا يا أمير المؤمنين أقسم بيننا غنائمهم ، قال أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه » ‌ضرورة كون ذلك منه إسكاتا للخصم ، وإلا فالأصل هو ما تضمنته النصوص السابقة الذي لا يمكنه أن يبوح به ، فإن أكثر جيشه مخالفون كما صرح عليه‌السلام به في بعض خطبه ، بل هو من المعلوم من كتب السير والتواريخ ، ويكفيك خبر النهي (١) عن الاجتماع في نافلة شهر رمضان المشتمل على صيحة الكوفة من جميع جوانبها وا سنة عمراه فكف عن النهي عن ذلك ، فالعمدة حينئذ هذا وهو تكليف كالأصلي ، بل الأجر في التعبد به أعظم من الأجر بالعمل بالأول حال عدم التقية ، وإلا فقوله عليه‌السلام « أيكم يأخذ أم المؤمنين » ‌إلى آخره يمكن الجواب عنه باستثنائها خاصة ، إلا أنه عليه‌السلام أبدى ذلك إسكاتا لهم وجوابا على ما عندهم من الاعتقاد ، وبه قطع حجة الخوارج لما أنكروا عليه ما فعله بالبصرة من سفك الدماء وعدم السبي أو غير ذلك من الحكم التي هو أدرى بها ، ولكن الأمر المخزون المكنون هو الذي أبداه أئمة الهدى عليهم‌السلام ، على أنه عليه‌السلام مع منه عليهم بما من وكانت سيرته معلومة لديهم وقد فعلوا في كربلاء ما فعلوا.

ومما تضمنته النصوص المزبورة تنكشف الشبهة عن جملة من الأمور ، منها نكاح عمر لأم كلثوم ، ومنها ملاقاتهم بالرطوبة ونحوها وغير ذلك من المعاملة معاملة المسلم الحقيقي ، وحاصله أن هذا الزمان المسمى في النصوص بزمان الهدنة يجري عليهم فيه جميع أحكام المسلمين في الطهارة وأكل الذبائح والمناكحات وحرمة الأموال ونحو ذلك حتى يظهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٠ من أبواب نافلة شهر رمضان من كتاب الصلاة.

٣٣٧

الحق فيجري عليهم حينئذ حكم الكفار الحربيين ، ومنه‌ خبر مسعدة بن زياد (١) المروي عن قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام لم يكن ينسب أحدا من أهل البغي إلى الشرك ولا إلى النفاق ، ولكن كان يقول : إخواننا بغوا علينا » وخبر الفضل بن شاذان (٢) عن الرضا عليه‌السلام المروي مسندا عن العيون في حديث طويل « فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد ، وذلك إذا لم تخف على نفسك وأصحابك » ‌وفي الدعائم (٣) عن علي عليه‌السلام « أنه سئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أكافرون هم؟ قال : كفروا بالأحكام وكفروا بالنعم ، ليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوة ولم يقروا بالإسلام ، ولو كانوا كذلك ما حلت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم » ‌إلى غير ذلك من النصوص الدالة على جريان حكم المسلمين على البغاة من حيث البغي في زمن الهدنة ، فضلا عما هو المعلوم من تتبع كتب السير من مخالطتهم وعدم التجنب عن أسئارهم وغير ذلك من أحكام المسلمين ، وإن وجب قتالهم على الوجه الذي ذكرناه ، لكن ذلك أعمّ من الكفر ، نعم الخوارج منهم قد اتخذوا بعد ذلك دينا واعتقدوا اعتقادات صاروا بها كفارا لا من حيث كونهم بغاة ، وأما تغسيلهم ودفنهم والصلاة عليهم فقد فرعه بعضهم على الكفر وعدمه ، ولكن قد يقال بعدم وجوب ذلك وإن لم نقل بكفرهم حال حياتهم ، ولكن لهم حكمهم بعد موتهم كما سمعته سابقا في مطلق منكر الإمامة.

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب جهاد العدو الحديث ١٠ ـ ٩

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب جهاد العدو ـ الحديث ١٤.

٣٣٨

ومن ذلك يعلم الحال في المسألة الثانية التي هي لا يجوز تملك شي‌ء من أموالهم التي لم يحوها العسكر سواء كانت مما تنقل كالثياب والآلات أو لا تنقل كالعقارات ، لتحقق الإسلام المقتضي لحقن الدم والمال بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل في المسالك هو موضع وفاق ، بل في صريح المنتهى والدروس ومحكي الغنية والتحرير الإجماع عليه ، بل يمكن دعوى القطع به بملاحظة ما وقع من أمير المؤمنين عليه‌السلام في حرب أهل البصرة والنهر بعد الاستيلاء عليهم ، مضافا إلى ما سمعته من النصوص السابقة ، نعم ما حكاه الحسن بن أبي عقيل مثله يأتي هنا أيضا ، وقد سمعت تحقيق الحال فيه على وجه لا يقدح في محكي الإجماع ولا محصله ، فمن الغريب دعوى بعض الناس الشهرة سابقا بالنسبة إلى سبي الذرية والنساء ، والإجماع في المقام على عدم جواز تملك المال الذي لم يحوه العسكر مع اتحاد المقامين ، ولكن الأمر سهل.

وهل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل ويحول كالسلاح والدواب وغيرهما قيل والقائل المرتضى وابن إدريس والفاضل في جملة من كتبه والشهيد في الدروس على ما حكي عن بعضهم لا يؤخذ لما ذكرناه من العلة التي قد عرفت دلالة النصوص عليها عموما وخصوصا ، بل عن الناصريات لا أعلم خلافا من الفقهاء فيه ، وعن السرائر إجماعنا بل المسلمين عليه ، وعن التذكرة نسبته إلى كافة العلماء وقيل والقائل العماني والإسكافي والشيخ في محكي الخلاف والنهاية والجمل والقاضي والحلبي وابن حمزة والفاضل في المختلف وثاني الشهيدين والكركي على ما حكي عن بعضهم نعم يؤخذ عملا بسيرة علي عليه‌السلام ، وهو الأظهر عند المصنف وفي المختلف نسبته‌

٣٣٩

إلى الأكثر ، وعن الخلاف ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع به ، ويكون غنيمة يقسم في المقاتلة ، وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له ، واستدل على ذلك بإجماع الفرقة وأخبارهم ، وهو جيد لو ثبت أن ذلك سيرة علي عليه‌السلام ، ضرورة كونها حينئذ المخصصة للعمومات الدالة على حرمة مال المسلم ، ودعواها من المصنف وغيره معارضة بدعواها من غيره كالشهيد في الدروس وغيره على العكس ، حتى استدل بها على العدم ، قال : وهو الأقرب عملا بسيرة علي عليه‌السلام في أهل البصرة ، فإنه أمر برد أموالهم ، فأخذت حتى القدور ، كما أن ما عن العماني من أنه‌ روي (١) « أن رجلا من عبد القيس قام يوم الجمل فقال يا أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم ولا تقسم بيننا نساءهم ولا أبناءهم ، فقال له : إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف ، وذلك أن دار الهجرة حرمت ما فيها ، وإن دار الشرك أحلت ما فيها ، فأيكم يأخذ أمه من سهمه ، فقام رجل فقال : وما غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ فقال : عبد لا يدع لله حرمة إلا انتهكها قال : يقتل أو يموت قال : بل يقصمه الله قاصم الجبارين » والشيخ في المبسوط روى أصحابنا (٢) « أن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يقسم » ‌معارض بما عن المبسوط من أنه روي « أن عليا عليه‌السلام لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له يا أمير المؤمنين ألا نأخذ أموالهم؟ قال : لا لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام ، فلا تحل أموالهم في دار الهجرة» وفيه أيضا روى أبو قيس « أن عليا عليه‌السلام نادى من‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب جهاد العدو ـ الحديث ١٠ إلا أنه ترك ذيله.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب جهاد العدو.

٣٤٠