جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وقع الصلح من بعض نواب الإمام عليه‌السلام على ذلك كان باطلا ، بل الظاهر بطلان العقد من أصله لا خصوص الشرط ، لكون التراضي قد وقع عليه ، كعقد الذمة المشتمل على ما منع الشارع من عقدها عليه نحو عدم الصغار في الجزية أو إظهار المنكرات في شرعنا أو نحو ذلك مما عرفته سابقا ، بل ظاهر المصنف هنا اعتبار الأخير في عقد الهدنة وهو مشكل ، لعدم الدليل عليه ، اللهمّ إلا أن يستفاد من منعه في عقد الذمة منعه هنا ، وهو كما ترى ، وفي المنتهى الشروط المذكورة في عقد الهدنة قسمان صحيح وفاسد ، فصحيح الشروط لازم بلا خلاف ، مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين عند حاجتهم ، وفاسد الشرط يبطل العقد مثل أن يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد السلاح المأخوذ منهم أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك ، أو أن لهم نقض الهدنة متى شاءوا ، أو شرط رد الصبيان أو الرجال ، فهذه الشروط كلها فاسدة يفسد بها عقد الهدنة ، كما يفسد عقد الذمة باقتران الشروط الباطلة مثل ما لو شرط عدم التزام أحكام المسلمين أو إظهار الخمور والخنازير أو يأخذ من الجزية أقل ، وإن كان هو أيضا لا يخلو بعضه من نظر أو منع.

نعم الظاهر فساد عقد الهدنة باشتماله على ما لا يجوز لنا فعله شرعا كرد النساء المسلمات المهاجرات إليهم ونحوه مما يكون الصلح معه من المحلل للحرام أو بالعكس ، أما إظهار المناكير في شرعنا دون شرعهم من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونحو ذلك فلا دليل على فسادها به ضرورة كون ذلك من أفعالهم لا أفعالنا ، والفرض عدم تمام التمكن منهم ، بل عن الإسكافي « لو كان بالمسلمين ضرورة أباحت لهم شرطا في الهدنة فحدث للمسلمين ما لم يكن يجوز معه ذلك الشرط ابتداء لم‌

٣٠١

يجز عندي فسخ ذلك الشرط ، ولا الهدنة لأجل الحادث ، لقوله تعالى (١) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ولأنه أمر بالوفاء بالعهد ، وقد رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) أبا بصير إلى المشركين بعد أن رجع إليه ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) حذيفة بن اليمان أن يفي للمشركين بما أخذوه عليه من أن لا يقاتل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر ، قال : وقد‌ روي في بعض الحديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن حيا من العرب جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا يا رسول الله نسلم على أن لا ننحني ولا نركع فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعم ولكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم قالوا نعم ، فلما حضرت الصلاة أمرهم بالركوع والسجود فقالوا : أليس قد شرطت لنا أن لا ننحني ولا نركع؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقررتم بأن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» ‌ـ قال ـ : وهذا إن صح فموجب أن الشرط العام ماض على الخاص ، أو الشرط الأخير ناسخ للشرط الأول ـ ثم قال أيضا ـ : ولا نختار لأحد إذا كان مختارا غير مضطر أن يشترط في عقد ولا صلح يعقده ما لا يبيح الدين عقده مما هو محظور ، وقد‌ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) « ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ١.

(٢) سيرة ابن هشام ـ القسم الثاني ص ٣٢٣.

(٣) المنتقى من أخبار المصطفى ج ٢ ص ٨١٨ الرقم ٤٤٣٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ٣٨ من أبواب المهور الحديث ٢ من كتاب النكاح مع اختلاف يسير.

٣٠٢

باطل ولم يجز له ولا عليه » وقد روي أن ثقيف سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يركعوا ولا يسجدوا وأن يتمتعوا باللات سنة من غير أن يعبدوها فلم يجبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك » ‌قلت. وهو كذلك ، لكن لو فرض اقتضاء ضرورة لبعض المسلمين الرضا بالشرط الباطل وقلنا بمشروعية الرضا حينئذ كان المتجه عدم الالتزام به بعد التمكن ، والوفاء بالعقد والعهد لا يشمله بعد أن كان فاسدا ، ورد أبي بصير ونحوه لأن له عشيرة تمنعه كما ستعرف الحال فيه ، والأقرب في المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه اشتباه من الراوي ، على أنه في الإسلام ، وهو غير ما نحن فيه.

وكيف كان فلو عقد الهدنة مطلقا وهاجرت الامرأة وتحقق إسلامها بعد مجيئها أو قبله لم تعد إجماعا كما في المنتهى للآية (١) وغيرها ، ولو جاء أبوها أو غيره من أرحامها يطلب مهرها لم يدفع إليه أيضا بلا خلاف كما في المنتهى ولا إشكال ، لعدم حق له بل لو جاء زوجها أو وكيله مثلا لم تسلم إليه أيضا ولكن يعاد على زوجها ما سلم إليها من مهر خاصة إذا كان مباحا ، ولو كان محرما كالخمر لم يعد لا عينه ولا قيمته بلا خلاف أجده في شي‌ء مما تقتضيه القيود المزبورة ولا إشكال ، لعدم كونه مالا ، بل وعدم وجوب غير المهر مما أنفقه في العرس أو وهبه إياها أو غير ذلك مما هو ليس بمهر بعد أن كان المراد مما أنفقوا في الآية (٢) خصوص المهر ، بل وعدم وجوب المهر أيضا إذا لم يكن قد سلمه إليها للأصل وظاهر الآية وغيرها ، كما أني لا أجد خلافا أيضا في وجوب دفع المهر المباح‌

__________________

(١) سورة الممتحنة ـ الآية ١٠.

٣٠٣

الذي سلمه إياها ، بل في المنتهى ومحكي التذكرة نسبته إلى علمائنا ، لقوله تعالى (١) ( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) المؤيد باقتضاء عقد الهدنة حرمة مالهم أو كالمال وهو البضع ولو بضميمة رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ذلك في صلح الحديبية ، خلافا لأبي حنيفة وابن حنبل والمزني والشافعي في أحد قوليه فلا يجب ، لعدم كون البضع مالا ، وهو كالاجتهاد في مقابل القرآن الذي لم يثبت نسخه.

نعم رد المهر من بيت المال المعد لمصالح المسلمين وإن كانت عينه موجودة عندها ، لكن عن الشيخ أن ذلك إذا كان الذي قد منع ردها الإمام عليه‌السلام أو خليفته ، أما إذا كان المانع غير الإمام عليه‌السلام وغير خليفته من باب الأمر بالمعروف لم يلزم الإمام عليه‌السلام أن يعطيهم شيئا ، لأن الذي يعطيه الإمام عليه‌السلام من المصالح ، ولا تصرف لغير الإمام عليه‌السلام أو خليفته فيه ، وفي المنتهى إذا ثبت هذا فقول الشيخ إنه يدفع إليه من سهم المصالح لأنها قهرت الكفار على ما أخذته فملكته بالقهر ، وإنما أوجبنا الرد من سهم المصالح للآية ، وفيه أنه لا يتم في مال المعاهدين على أنفسهم وأموالهم ، كما أنه لا يتم عدم الوجوب لو كان المانع غير الإمام عليه‌السلام حسبة بعد إطلاق قوله تعالى ( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) الذي هو خطاب للإمام ونوابه ، هذا ، وفي حاشية الكركي وإنما يعاد المهر إذا طلبها زوجها في العدة ، فلو كان الطلب من غير الزوج ولم يكن وكيلا أو كان في غير العدة لم يجب شي‌ء ، لأن الطلب حق الزوج خاصة ، ولا زوجية بعد‌

__________________

(١) سورة الممتحنة ـ الآية ١٠.

(٢) سيرة ابن هشام ـ القسم الثاني ص ٣٢٦.

٣٠٤

العدة ، وحكاه في المسالك عن بعض الأصحاب مشعرا بتردده فيه ، ولعله كذلك ، لإطلاق الآية والفتاوى.

فرعان : الأول إذا قدمت مسلمة فارتدت لم ترد ، لأنها بحكم المسلمة بلا خلاف أجده فيه ، فتحبس وتضرب أوقات الصلاة حتى تتوب أو تموت عندنا ، ولكن يدفع المهر إلى زوجها.

الثاني لو قدم زوجها وطالب بالمهر فماتت بعد المطالبة دفع إليه مهرها كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا ، لأن الموت قد كان بعد الحيلولة ، والأمر بالإيتاء حينئذ بحاله ، بل لو مات دفع إلى ورثته بلا خلاف ولا إشكال أيضا ، نعم لو ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه شي‌ء كما صرح به الفاضل والكركي وثاني الشهيدين وغيرهم ، بل لا أجد فيه خلافا ، لأن الحيلولة حصلت بالموت لا بالإسلام ولكن في المتن فيه تردد من ذلك ، ومن سبق الإسلام عليه الموجب للحيلولة ، فيستحق ، مؤيدا بأصالة بقاء الاستحقاق ، وإطلاق قوله تعالى ( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) وفيه أن المتيقن من الاستحقاق ـ المخالف للأصل مع المطالبة التي هي مقتضى سؤالهم ـ ما أنفقوا الذي ينزل عليه إطلاق الأمر بالإيتاء ، فالاستصحاب حينئذ في غير محله ، اللهمّ إلا أن يقال إن كلا من الإطلاق والأصل يقتضي بقاء حق المطالبة والسؤال له بعد الموت ، ولكنه كما ترى ، ضرورة كون المنساق حال وجود الزوجة الممنوعة بالإسلام عن الرجوع إليه ، ومنه ينقدح سقوط الرد الذي هو مقتضى الأصل في كل مقام لم يحصل المطالبة فيه ولو بجنون ونحوه ، بل في قيام وليه مقامه في ذلك إشكال والله العالم.

ولو قدمت فطلقها بائنا لم يكن له المطالبة بالمهر كما صرح‌

٣٠٥

به الفاضل وغيره ، لأن الحيلولة منه حينئذ بالطلاق لا بالإسلام ، نعم لو طالب به ثم طلقها رد إليه ، لاستقراره له بالمطالبة والحيلولة ، ولو طلقها رجعيا لم يكن له المطالبة بالمهر إلا إذا راجعها في العدة حتى يكون الحائل بينهما الإسلام كما صرح به الفاضل أيضا.

ولو أسلم في العدة الرجعية مثلا كان أحق بها ووجب عليه رد مهرها إن كان قد أخذه منها قبل الطلاق ، لأن استحقاقه للمهر إنما كان بسبب الحيلولة وقد زالت ، ولو أسلم بعد انقضاء عدتها لم يجمع بينهما ، لأنها قد بانت منه ، وفي المنتهى « ثم ينظر ، فإن كان قد طالب بالمهر قبل انقضاء عدتها كان له المطالبة لأن الحيلولة حصلت قبل إسلامه ، وإن لم يكن طالب قبل انقضاء العدة لم يكن له المطالبة بالمهر ، لأنه التزم حكم الإسلام ، وليس من حكم الإسلام المطالبة بالمهر بعد البينونة ، ولو كان غير مدخول بها وأسلمت ثم أسلم لم يكن له المطالبة بالمهر ، لأنه أسلم بعد البينونة ، وحكم الإسلام يمنع من وجوب المطالبة في هذا الحال ، ولكن لا يخفى عليك ما فيه خصوصا بعد عدم كون الحكم مخصوصا بالذمي الملتزم أحكام الإسلام التي منها هذا ، وقد سمعت ما ذكرناه سابقا عن الكركي والنظر فيه.

ولو أنكرت الامرأة زوجية المطالب كان القول قولها بيمينها ، ولو اعترفت أو قامت بينة على ذلك فأنكرت قبض المهر كان القول قولها أيضا ، وكذا لو أنكرت قدر المقبوض ، ولو كان الزوج عبدا وطالب بالمهر دفع بيد مولاه ، ولو طالب المولى به دون العبد ففي المنتهى لم يدفع إليه ، لأنه وجب للحيلولة ، فإذا طالب الزوج ثبت المهر لها ، فيدفع حينئذ بيد المولى ، ولا فرق بين الأمة والحرة في الحكم المزبور فلو جاءت أمة مسلمة وطالب زوجها بالمهر دفع إليه ، لإطلاق الآية‌

٣٠٦

سواء تحررت بالإسلام أو لا ، كما أنه لا فرق بين العاقلة والمجنونة في ذلك أيضا إذا كانت قد جنت بعد إسلامها ، ولو لم يعلم حالها أنها أسلمت قبل الجنون أو بعده ففي المنتهى لا ترد أيضا ، لاحتمال أن تكون قد أسلمت عاقلة ، ولا يرد مهرها لاحتمال الإسلام بعده ، فإن أفاقت فأقرت بالإسلام رد مهرها عليه ، وإن أقرت بالكفر ردت عليه وفيه أن النهي عن الإرجاع مشروط بالإتيان مسلمة ، ولم يتحقق ، وأشكل من ذلك ما فيه أيضا من أنها لو جاءت مجنونة ولم يخبر عنها بشي‌ء لم ترد إليه ، لأن الظاهر أنها إنما جاءت إلى دار الإسلام ، ولا يرد مهرها للشك ، إلى أن قال فيتوقف في ردها إلى أن تفيق ، فإن ذكرت أنها مسلمة أعطي المهر ومنع منها ، وإن ذكرت أنها لم تزل كافرة ردت إليه ، وكذا ما فيه أيضا من أنها لو قدمت صغيرة ووصفت الإسلام لم ترد إليه ، لئلا تفتن عند بلوغها عن الإسلام ، وهل يجب رد المهر؟ قال الشيخ : لا يجب بل يتوقف عن رده حتى تبلغ ، فإن بلغت وأقامت على الإسلام رد المهر ، وإن لم تقم ردت هي وحدها ، إذ لا يخفى عليك ما في ذلك كله من المنافاة لظاهر الآية الناهية عن إرجاع المؤمنات ، كما هو واضح.

ثم إن الظاهر اختصاص هذا الحكم بالمعاهدين ونحوهم دون الحربيين كما صرح به بعضهم ، بل لعله ظاهر بملاحظة طلب المهر من كل منهم ، فإنه كما يسأل الكافر مهره كذلك يسأل المسلم مهره لو مضت زوجته ، كما هو مقتضى الآية ، والله العالم.

هذا كله في النساء وأما إعادة الرجال فلا خلاف بل ولا إشكال في عدم وجوب إعادة أحد منهم جاء إلينا مسلما مع إطلاق الهدنة الذي لا يقتضي أزيد من الأمان على أنفسهم وأموالهم ، بل لا‌

٣٠٧

يجوز إعادته أو التمكين من قهره على ذلك بعد أن كان الواجب الهجرة من دار الحرب التي لا يتمكن من إقامة شعار الإسلام فيها ، ومن هنا لو طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها مع المكنة ، بل وجب عليه ذلك ، و‌في المرسل « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي عليه‌السلام قالت يا بن عمي إلى من تدعني فتناولها فدفعها إلى فاطمة عليها‌السلام حتى قدم بها المدينة» ‌ولعل المستضعف كذلك أيضا.

وعلى كل حال ف لو أرادوا اشتراط ذلك في عقد الهدنة جاز قبوله لكن بالنسبة إلى من أمن عليه الفتنة بكثرة العشيرة وما ماثل ذلك من أسباب القوة التي تمنعه لو أراد إظهار ما عليه من الإسلام ، ولا يخشى عليه الذل ولا القتل ولا الأذية ، وحينئذ فإذا اشترطوا رد مثل ذلك جاز إعادته على معنى التخلية بينهم وبينه وإلا يكون كذلك بل كان مستضعفا يخشى عليه الفتنة والهوان والأذية ونحوها لم يصح اشتراط رده في عقد الهدنة ومنعوا منه إن أرادوا رده بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بين من تعرض للحكم وإن كنت لم أجد في شي‌ء من نصوصنا ما يدل عليه ، نعم‌ في المنتهى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رد أبا جندل وأبا بصير في صلح الحديبية (١) ‌بمعنى أنه لم يمنعهم من أخذه إذا جاءوا في طلبه ، ولا يجبره الإمام عليه‌السلام على المضي معهم ، وله أن يأمره في السر بالهرب منهم ويقاتلهم ، فإن‌ أبا بصير لما جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء‌

__________________

(١) سيرة ابن هشام ـ القسم الثاني ص ٣١٨ و ٣٢٣ المطبوعة عام ١٣٧٥ وكامل ابن الأثير ـ ج ٢ ص ٢٠٤ و ٢٠٥ المطبوعة عام ١٣٨٥.

٣٠٨

الكفار في طلبه قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه لا يصلح في ديننا الغدر ، وقد علمت ما عاهدناهم عليه ، ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا ، فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك ، قد ردني الله إليهم ، وأنجاني الله منهم ، فلم ينكر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يلمه ، بل قال : ويك أمه مسعر حرب لو كان معه رجال ، فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا يمر عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناشده الله والرحم أن يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاء ففعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ‌ذلك.

بل يستفاد منه عدم دخول من تجدد إسلامه منهم في عقد الهدنة فيجوز له السلب والقتل ، ولذا لم يؤد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم من قتله أبو بصير ولا ما أخذه هو وأصحابه من عير قريش ، ولعله لظهور عقد الهدنة فيمن كان في قبضة الإمام عليه‌السلام وقت العقد دون من كان قد أسلم منهم إلا أن يشترطوا ذلك على وجه يشملهم الصلح.

وقد يشكل صحة الاشتراط في الأول بأن في إعادته وقهره على ذلك ظلما له ، فلا يجوز قبول اشتراط ما يقتضي الظلم على المؤمن ، إذ هو من الصلح المحلل للحرام ، ويدفع بإطلاق الإذن بالمسالمة الشاملة للفرض إذا اقتضت المصلحة ، ونصرة المظلوم واجبة مع التمكن المفروض عدمه بالشرط الواجب الوفاء به ، إذ لا ضرر على المسلم بالرجوع مع فرض‌

__________________

(١) سيرة ابن هشام ـ القسم الثاني ص ٣٢٣ وكامل ابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٥.

٣٠٩

كونه من ذي القوة المانعة عنه ، بل ربما يكون وجوده بينهم أصلح مع هذا الحال ، لإمكان رغبة غيره معه في الإسلام ، نعم لو فرض الأذية عليه ولو من عشيرته فضلا عن خوف القتل اتجه حينئذ عدم جواز اشتراط رده ، بل اللازم على الإمام عليه‌السلام منعهم من قهرهم إياه ، كل ذلك بعد كون الحكم مفروغا منه بين من تعرض له على وجه يظهر منه كونه من المسلمات ، ولو لا ذلك لأمكن المناقشة فيه بعد من وجوه أخر أيضا ، كما أن ما في المنتهى أيضا كذلك ، قال : « لو جاء صبي ووصف الإسلام لم يرد ، لأنه لا يؤمن افتتانه عند بلوغه ، وكذا لو قدم مجنون لم يرد ، ولو بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن وصفا الإسلام كانا مع المسلمين ، وإن وصفا الكفر فإن كان كفرا لا يقر أهله عليه ألزمناهما بالإسلام ، أو رددناهما إلى مأمنهما ، وإن كان مما يقر أهله عليه ألزما بالإسلام أو الجزية أو الرد إلى مأمنهما » وكذا ما فيه أيضا من أنه « لو جاء عبد حكمنا بحريته ، لأنه قهر مولاه على نفسه ، وقد تقدم ولو جاء سيده لم يرد عليه ، لأنه مستضعف لا يؤمن عليه الافتتان ، وهل يرد عليه قيمته؟ للشافعي قولان » ثم قال في مقام آخر : « لو كان القادم عبدا فأسلم صار حرا ، فإن جاء سيده بطلبه لم يجب رده ولا رد ثمنه ، لأنه صار حرا بالإسلام ، ولا دليل على وجوب رد ثمنه » إذ لا يخفى عليك أن المعاهد حرام المال ، وإسلام العبد لا يقتضي أزيد من عدم ملك الكافر المسلم ، فيجب استنقاذه من الكافر بدفع ثمنه له.

وكيف كان ف لو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقا قيل يبطل الصلح ، لأنه كما يتناول من يؤمن افتتانه الذي يصح اشتراط إعادته يتناول من لا يؤمن الذي لا يصح اشتراط إعادته‌

٣١٠

فيكون الصلح باطلا باعتبار ظهور الإطلاق في الأمرين ، ولعل وجه توقف المصنف فيه باعتبار نسبته إلى القيل من ذلك ، ومن إمكان إرادة الأول من الإطلاق ، لأصالة الصحة ، أو يقال بالصحة فيه دون الثاني فيكون كبيع ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه ، وللمعاهدين الخيار مع عدم علمهم بالحال ، ومن ذلك يعلم الحال على فرض إرادة عدم التقييد بالرجال من الإطلاق أو التصريح بالإطلاق الشامل لكل منهما ، وإن قال في حاشية الكركي : « لم يكن وجه حينئذ للتوقف » وفي المسالك « كان الشرط فاسدا قطعا ، ويتبعه فساد الصلح على الأقوى ، ويمكن أن يريد هذا المعنى ، ويكون نسبة البطلان إلى القيل بناء على التردد في فساد العقد المشتمل على شرط فاسد ، وسيأتي في البيع ما يشعر بتوقف المصنف في ذلك كما هنا » قلت : قد عرفت وجه التوقف أيضا من غير هذه الجهة ، بل قد يقال بجواز الاشتراط على الإطلاق ، لإطلاق الإذن في الصلح ، وليس في شي‌ء من النصوص المعتبرة عدم جواز ذلك شرعا على وجه لا يصح اشتراطه ، لكن لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، بل وبما ذكره المصنف من الموافقة على عدم جواز إعادة من لا قوة له ، والأمر سهل بعد وضوح الحال.

ثم إنه إذا بطل الصلح لم يرد من جاء منهم مسلما رجلا كان أو امرأة كما صرح به في المنتهى ، بل قال : « ولا يرد البدل بحال ، لأن البدل استحق بشرط ، وهو مفقود هنا ، كما لو جاءنا من غير هدنة » وفيه أن الآية وإن كانت في خصوص المعاهدين على ما يظهر من الأصحاب لكن قاعدة الغرور تقتضي رد البدل مع فرض الجهل منهم بفساد الصلح ، كما أن لهم الخيار في فسخه لو علموا بالحال ، ثم قال في المنتهى أيضا : « وإذا أريد رد من له عشيرة لم نكرههم على الرجوع‌

٣١١

لأنه ليس للإمام عليه‌السلام إخراج مسلم من بلد إلى بلد من بلاد الإسلام ، فكيف إلى دار الحرب ، بل يمنعه من الرجوع إن اختار ذلك ، فيقول لك في الأرض مراغم كثيرة وسعة ، ولا يمنع منه من جاء لرده ويوصيه بالهرب » ولا يخفى عليك ما فيه بعد فرض فساد الصلح ، والله العالم.

وكل من وجب رده لا يجب حمله وإنما يخلى بينه وبينهم كما سمعته من المنتهى ، ولكن ينبغي أن يكون ذلك على حسبما وقع عليه عقد الهدنة الذي يجب الوفاء به وبكل شرط صحيح مشتمل عليه كما هو واضح ولا يتولى عقد الذمة ولا عقد الهدنة على العموم ولا لأهل البلد الكبير ولا الصقع أي الناحية إلا الإمام عليه‌السلام أو من يقوم مقامه في ذلك كما صرح به غير واحد ، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا ، قال : « لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام عليه‌السلام وما يراه من المصلحة ، فلم يكن للرعية تولية ، ولأن تجويزه من غير الإمام عليه‌السلام يتضمن إبطال الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية » بل عنه أيضا « الإجماع على عدم جواز مهادنة أحد من الرعية بلدا أو صقعا » قلت لا كلام في أن ذلك من وظائف الإمام عليه‌السلام ، إلا أن الظاهر قيام نائب الغيبة مع تمكنه مقامه في ذلك لعموم ولايته ، بل لا يبعد جريان الحكم على ما يقع من سلطان الجور المعد نفسه لمنصب الإمامة كما أومأ إليه الرضا عليه‌السلام فيما تقدم (١) من أن بني تغلب على ما صالحهم عليه عمر حتى يظهر الحق ، بل قد ذكرنا سابقا استمرار السيرة من الأعوام والعلماء في كل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ٦.

٣١٢

مصر على تناول الجزية من أيديهم كتناول الخراج ، بل يعدون ذلك من الحلال البين ، وقد تقدم منا بعض الكلام في ذلك.

وإذا عقد الإمام عليه‌السلام الهدنة ثم مات وجب على من بعده من الأئمّة عليهم‌السلام العمل بموجب ما شرط الأول إلى أن تخرج مدة الهدنة ، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا ، لأنه معصوم فعل مصلحة فوجب على القائم بعده تقريرها إلى وقت خروج العهد ، قلت : ولعل ما يقع من نائبه الخاص بل العام كذلك أيضا ، بل يمكن جريانه فيما يقع من الجائر الغاصب لما عرفت ، هذا ، ولعل التقييد بالعموم وأهل البلد والصقع للاحتراز عن ذمام آحاد المسلمين لآحاد المشركين بل وللبلد الصغير كما تقدم الكلام فيه سابقا ، فإنه يتضمن ترك القتال في الجملة أيضا ، وعلى كل حال فالظاهر عدم ضمان نفس المعاهد ونحوه كما صرح به بعضهم وإن أثم ، لأنه من أهل الحرب الذين لا ضمان لأنفسهم أما ماله فهو مضمون على من أتلفه ، والله العالم.

ومن لواحق هذا الطرف مسائل : الأولى كل ذمي انتقل عن دينه إلى دين لا يقر أهله عليه لا يقبل منه البقاء على ذلك ولا يقر عليه بلا خلاف ولا إشكال ، بل في المنتهى ومحكي التذكرة والتحرير الإجماع عليه ، وهو كذلك ، ضرورة عدم قبول دين من انتقل إليهم وعدم إقرارهم عليه ، فهو أولى ، إنما الكلام في حكمه حينئذ ففي المسالك وحاشية الكركي وغيرهما أنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل بل عن الشيخ أنه قواه أيضا ، بل هو المحكي عن الإسكافي أيضا لعموم قوله تعالى (١) ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ٧٩.

٣١٣

والنبوي (١) « من بدل دينه فاقتلوه » ‌ولأنه بارتداده عن دينه معترف ببطلانه ومعلومية بطلان غيره ما عدا الإسلام ، فصار كالمرتد عن الإسلام الذي لا يقبل منه غيره أو القتل ، وإن كان قد يناقش في الأخير بعدم تمامية التشبيه بالمرتد الذي هو عنوان مستقل في النص والفتوى ، بخلاف الفرض فإنه لا يصدق عليه أنه مرتد ، بل لعل المراد ذلك من الآية (٢) والرواية (٣) التي لم تجمع شرائط الحجية ، مضافا إلى معلومية عدم العمل بإطلاقها في المرتد الملي ، بل يمكن كون المراد من الآية عدم قبول غير الإسلام من الأديان وإن أقر بعض أهل غيره بالجزية ، لكن ذلك ليس قبولا ، كما هو واضح ، ومن هنا قيل يقبل منه الرجوع إلى دينه مضافا إلى الإسلام ، ضرورة صدق أهل تلك الملة عليه ، فيشمله عموم الأدلة ، بل قيل يقبل منه الرجوع إلى دين غير دينه الأول إذا كان ممن يقر أهله عليه ، ولعله للصدق المزبور بعد ما عرفت من عدم صراحة الآية بل ولا ظهورها في ذلك ، وعدم جمع الخبر المزبور شرائط الحجية.

بل من ذلك يظهر لك الحال فيما ذكره المصنف بقوله أما لو انتقل إلى دين يقر أهله عليه كاليهودي ينتقل إلى النصرانية أو المجوسية قيل والقائل الإسكافي والشيخ فيما حكي عنهما يقبل بل جعله الثاني منهما في المبسوط هو الظاهر من المذهب ، بل عنه في الخلاف الإجماع عليه ، ولعله لذا كان هو خيرة الفاضل في المختلف‌

__________________

(١) و (٣) المستدرك ـ الباب ١ من أبواب حد المرتد الحديث ٢

(٢) سورة آل عمران ـ الآية ٧٩.

٣١٤

وغيره ، وحينئذ فالمراد بقوله عليه‌السلام الكفر ملة واحدة (١) ما يشمل الفرض وقيل لا يقبل لقوله تعالى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) واختاره الكركي وثاني الشهيدين لذلك وللنبوي (٢) مع القطع بأن الكفر ملل متعددة لا ملة واحدة ، فلا بد أن يراد كالملة الواحدة ، فلعل المراد حينئذ بالنسبة إلى العقاب والنجاسة وغيرهما من الأحكام لا ما نحن فيه ، خصوصا بعد اقتضاء الآية والرواية عدم قبول غير الإسلام منه أو القتل.

بل لعله الظاهر من المصنف أيضا لقوله وإن عاد إلى دينه قيل يقبل لأن الكفر ملة واحدة وقيل لا يقبل وهو أشبه للآية والرواية ، فإن ذلك منه يستلزم عدم القبول في الأول ضرورة اقتضاء عدم قبول دينه الأول منه عدم قبول الثاني منه أيضا للآية والرواية ، ولكن قد سمعت سابقا المفروغية من عدم قبول الجزية ممن تهود أو تنصر بعد النسخ ، بل حكينا عن ظاهر التذكرة والمنتهى الإجماع على ذلك ، بل لعل قولهم سابقا إنه لا يقبل من غير الفرق الثلاثة إلا الإسلام أو القتل شاهد على ذلك ، ضرورة أنه لو لم يكن كذلك لقبل منهم الدخول في اليهودية مثلا مع أداء الجزية ، بل خبر الأسياف (٣) الطويل الذي تسمعه إن شاء الله في الخاتمة كالصريح في ذلك ومنه ومن غيره يعلم أن المراد من الآية أنه لا يقبل دين غير دين الإسلام بعد نزول الآية ، نعم الفرق الثلاثة وما يتولد منهم إذا اختاروا دين‌

__________________

(١) الموجود في الشرائع : « قيل ؛ يقبل لأن الكفر ملة واحدة » والمصنف قدس‌سره أسقط كلمة « لأن ».

(٢) المستدرك ـ الباب ١ من أبواب حد المرتد الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

٣١٥

آبائهم تقبل منهم الجزية ، ويقرون على دينهم إلى أن يشاء الله ، بل يمكن كون المراد من‌

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « من بدل دينه فاقتلوه » ‌ذلك أيضا ، وحينئذ فالوثني لو اختار اليهودية لا يقر على ذلك ، وكذا اليهودي لو اختار النصرانية ، نعم لا يبعد إقراره لو رجع إلى دينه الأول الذي كان مقرا عليه ، لتناول العمومات له ، والخبر محمول على من بدل مصرا على البدل ، وأما احتمال وجوب قتله إلى أن يسلم وإن رجع تمسكا بإطلاق التبديل والابتغاء في غاية البعد.

ومن ذلك كله ظهر لك أن الحكم الآن بتبعية الأطفال في الفرق الثلاثة يكفي في صدق التبديل ، فلو بلغ واختار دينا غير من حكم بتبعيته عليه لم يقبل منه ولا يقر عليه ، لأنه ابتغاء غير الإسلام دينا بعد النسخ ، قال في المنتهى وتؤخذ الجزية ممن دخل في دينهم أي الثلاثة من الكفار إن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل ومن نسله وذراريه ويقرون بالجزية ، ولو ولدوا بعد النسخ فإن دخلوا في دينهم بعد النسخ لم يقبل منهم إلا الإسلام ، ولا يؤخذ منهم الجزية ، ذهب إليه علماؤنا ، ونحوه عن التذكرة ، ثم استدل بالآية والرواية ، وقد سمعت الكلام في بني تغلب ، كما أنه ظهر لك من ذلك الإشكال فيما أطلقه المصنف وغيره في المسألة من غير إشارة منهم إلى حال النسخ وغيره حتى العلامة في المنتهى فإنه بعد ذلك ذكر المسألة على حسبما ذكره المصنف هنا ، فلاحظ وتأمل ، ولعل التحقيق ما ذكرناه ، وبه تندفع المناقشة السابقة.

وكيف كان ف لو أصر على ما هو عليه وقلنا بقتله أو حيث يكون حكمه ذلك فقتل هل تملك أطفاله قيل والقائل الشيخ‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ١ من أبواب حد المرتد الحديث ٢.

٣١٦

لا ، استصحابا لحالهم الأول قال فيما حكي عنه : ما هذا لفظه « وأما أولاده فإن كانوا كبارا أقروا على دينهم ، ولهم حكم نفوسهم ، وإن كانوا صغارا نظر في الأم فإن كانت على دين يقر أهله عليه ببذل الجزية أقر ولده الصغير في دار الإسلام ، سواء ماتت الأم أو لم تمت وإن كانت على دين لا يقر أهله عليه كالوثنية وغيرها فإنهم يقرون أيضا لما سبق لهم من الذمة ، والأم لا يجب عليها القتل » ومرجعه إلى ما ذكره المصنف من الإقرار مطلقا كما هو خيرة الكركي وثاني الشهيدين للأصل ، ولكن ظاهر نسبة المصنف له إلى القيل التوقف فيه ، ولعله لتبعية الولد الوالد في الأحكام ، وهو حسن إن ثبت العموم ، والله العالم.

المسألة الثانية إذا فعل أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر ونحوه لم يتعرضوا ما لم يتجاهروا به كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا بل ولا إشكالا لا بعد إقرارهم على دينهم فيما بينهم بأخذ الجزية منهم والقيام بشرائط الذمة ، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب شرع الإسلام لأنهم مكلفون بالفروع ، ولم ينقض عقد الذمة إقرارهم عليه مع التجاهر به ، فيبقى حينئذ ما دل على الأمر بالمعروف وإقامة الحدود والنهي عن تعطيلها وغير ذلك من العمومات على حاله بل عن المبسوط روى أصحابنا (١) أنه يقيم عليهم الحد ، وهو الصحيح ، لكن عنه أيضا قبل ذلك أن للإمام عليه‌السلام منعهم وتأديبهم على إظهاره ، بل قيل هو ظاهر المنتهى والتذكرة والتحرير وأنه الموافق للأصول ، وفيه ما لا يخفى ، بل الظاهر انتقاض عقد الذمة إذا كان مثل نكاح المحرمات الذي قد عرفت وجوبه فيه وإن لم يشترط كما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦ من أبواب حد المسكر.

٣١٧

أسلفنا الكلام فيه سابقا.

وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم أيضا كالزنا واللواط فالحكم فيه أيضا كما في المسلم للعموم كما صرح به غير واحد أيضا بل وبأنه إن شاء الحاكم دفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحد فيه بمقتضى شرعهم ولكن إن كان إجماعا فذاك ، وإلا كان مشكلا ، وربما وجه بأن مقتضى عقد الذمة بقاؤهم على أحكامهم ومقتضيات شرعهم ، وفيه أن ذلك كذلك مع عدم الاطلاع ، أما معه فلا ، لعموم الأدلة ، وخصوصا إذا كان قد تجاهروا به ، وفي حاشية الكركي والمسالك هذا إذا تساوت الملتان في وجوب المؤاخذة وإن حصل الاختلاف في الكم والكيف ، أما إذا لم يكن في ملتهم مؤاخذة على ذلك فإنه يجب إجراء حكم الإسلام ، ولا يجوز تعطيل حد الله ، وهو وإن كان جيدا في الجملة بل هو مقتضى قول المصنف « ليقيموا الحد بمقتضى شرعهم » لكن قد يناقش بصدق التعطيل مع فرض كون الحد فيه عندهم الضرب وعندنا القتل ونحو ذلك.

نعم لو تحاكم إلينا ذميان مثلا كان الحاكم مخيرا بين الحكم عليهما بحكم الإسلام ، لقوله تعالى (١) ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) وقوله تعالى (٢) ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) وبين الإعراض عنهم بلا خلاف أجده فيه بيننا ، لقوله تعالى (٣) ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) و‌خبر أبي بصير (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام « أن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء تركهم » ‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) سورة المائدة ـ الآية ٤٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ٢٧ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١ من كتاب القضاء.

٣١٨

خلافا للشافعي في أحد قوليه والمزني فأوجبا الحكم بينهم ، لقوله تعالى (١) ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) المخصص بالآية الأولى بل الظاهر أنه يجوز له أيضا نقض حكمهم الباطل إذا استعداه أحد الخصمين منهما للعمومات ، ولخبر هارون (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قلت : رجلان من أهل الكتاب نصرانيان أو يهوديان كان بينهما خصومة فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور فأبى الذي قضى عليه أن يقبل وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين ، قال : يرد إلى حكم المسلمين ».

ولو ترافع إلينا مستأمنان حربيان من غير أهل الذمة ففي المنتهى « لا يجب على الحاكم الحكم بينهم إجماعا ، لأنه لا يجب على الإمام عليه‌السلام دفع بعضهم عن بعض ، بخلاف أهل الذمة ، ولأن أهل الذمة آكد حرمة فإنهم يسكنون دار الإسلام على التأييد » قلت : العمدة ما حكاه من الإجماع ، ولو ترافع ذمي مع مسلم أو مستأمن مع مسلم وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله ، لقوله تعالى ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) وغيره من العمومات الدالة على ذلك ، وعلى وجوب دفع الظلم والأمر بالمعروف والحكم بالعدل وغير ذلك.

ولو استعدت زوجة ذمي على زوجها في ظهار مثلا جاز الحكم عليه بحكم الإسلام ، فيمنعه حينئذ أن يقربها حتى يكفر ، ولكن في المنتهى « لا يجوز له أن يكفر بالصوم ، لافتقاره إلى نية القربة ، ولا بالعتق لتوقفه على ملك المسلم ، وهو لا يتحقق في طرفه إلا أن يسلم في يده أو‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٥٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢٧ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٢ من كتاب القضاء.

٣١٩

يرثه ، بل بالإطعام » وفيه أن ذلك لا يوافق حكم الإسلام ، ضرورة الترتب في كفارة الظهار ، فيكلف بالمرتبة الأولى ولو بأن يسلم.

ولو ترافع إلينا ذمي ومسلم في خمر اشتراه من الذمي أو بالعكس أبطلناه بكل حال تقابضا أو لم يتقابضا ، ورددنا الثمن إلى المشتري ، فإن كان المسلم استرجع الثمن ، وفي المنتهى « وأرقنا الخمر لأنا لا نقضي على المسلم برد الخمر ، وجوزنا إراقتها لأن الذمي عصى بإخراجها إلى المسلم فيعاقب بإراقتها عليه » قلت لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا وإن كان المشتري الذمي رددنا إليه الثمن ولا نأمره برد الخمر بل يريقها لأنها ليست بمال في حق المسلم ، والله العالم.

المسألة الثالثة إذا اشترى الكافر مصحفا كله أو بعضه لم يصح البيع ، وقيل يصح وترفع يده والأول أنسب بإعظام الكتاب العزيز ، ومثل ذلك كتب أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل يجوز على كراهية ، وهو أشبه عند المصنف بأصول المذهب وقواعده وقد أشبعنا الكلام بحمد الله تعالى في المسألة وأطرافها في المكاسب عند ذكر المصنف حكم بيع العبد المسلم على الكافر ، فلاحظ وتأمل.

المسألة الرابعة لو أوصى الذمي ببناء كنيسة أو بيعة أو غير ذلك معبدا لهم ومحلا لصلاتهم ونحوها من عباداتهم الباطلة ورجع الأمر إلينا لم يجز لنا إنفاذها لأنها معصية والوصية فيها غير جائزة إجماعا في المنتهى ومحكي التذكرة وغيرهما ، بل هو محصل وكذا لو أوصى بصرف شي‌ء في كتابة التوراة والإنجيل وغيرها لأنها محرفة فصارت من كتب الضلال ، قال الله تعالى شأنه (١)

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٤٨.

٣٢٠