جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

في الإذن لهم به إعانة على الإثم ولو استجدت وجب إزالتها على الوالي سواء كان البلد مما استجده المسلمون وأحدثوه كالبصرة وبغداد وكوفة وبسرّمن‌رأى وجملة من بلاد الجزائر ونحوها مما مصرها المسلمون أو فتح عنوة أو صلحا على أن تكون الأرض للمسلمين إذ هي على كل حال ملك للمسلمين ، بل في المنتهى نفي الخلاف عن ذلك في الأول ، بل عن التذكرة والتحرير وغيرهما الإجماع عليه ، بل في محكي السرائر لا يجوز للإمام أن يقرهم على إنشاء البيعة أو الكنيسة أو صومعة الراهب أو مجتمع صلاتهم ، وأنهم إن صالحهم على ذلك بطل الصلح بلا خلاف ، وهو الحجة بعد ما‌ في الدعائم (١) عن علي عليه‌السلام « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن إحداث الكنائس في دار الإسلام » ‌وعن ابن عباس (٢) الذي من عادته الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أيما مصر مصره العرب فليس لأحد من أهل الذمة أن يبني فيه بيعة ، وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يقر لهم » وفي آخر (٣) « أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ، ولا يشربوا فيه خمرا ، ولا يتخذوا فيه خنزيرا » ‌إلى غير ذلك مما يدل على الحكم المزبور ولو بضميمة الإجماع المذكور ، نعم في المنتهى والمسالك ومحكي التذكرة من غير نقل خلاف أن ما وجد من الكنائس والبيع في هذه البلاد مثل كنيسة الروم في بغداد فإنها كانت في قرى لأهل الذمة أقرت على حالها ، وكذا الكلام في الثاني الذي قد صارت للمسلمين بالفتح أيضا ، بل في المسالك نفي الخلاف‌

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ١ ص ٣٨١ المطبوعة عام ١٣٨٣.

(٢) كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص ٩٧ الرقم ٢٦٩.

(٣) الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ص ١٤٩.

٢٨١

عن عدم جواز الإحداث فيه وهو الحجة إن أريد به الإجماع بعد الخبر المنجبر بما عرفت ، ضرورة صدق بلاد الإسلام على مثله.

نعم لا بأس بما كان قبل الفتح ولم يهدمه المسلمون ، فإن المشهور كما في المسالك جواز إقرارهم عليه ، كالمحكي عن أحد قولي الشافعي ، لما سمعته من المروي عن ابن عباس ، بل في المنتهى الاستدلال عليه‌ بآخر (١) عنه أيضا « أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم » ‌وبأن الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة ولم يهدموا شيئا من الكنائس ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن لا تهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار ، وبحصول الإجماع فإنها موجودة في بلاد الإسلام من غير نكير ، لكن عن الشيخ عدم جواز إقرارهم عليه ، ولعله للإعانة على الإثم ، ولا حجة في المروي عن ابن عباس ، بل لا تصلح الشهرة جابرة له ، على أن الثاني منه لا دلالة فيه ، ضرورة قوله فيه « فإن للعجم ما في عهدهم » وهو غير الفرض ، وكذا لا حجة في فعل عمر بن عبد العزيز بل وفعل الصحابة إذا لم يكن فيهم من يتأسى بفعله ومعصوم من الخطأ مبسوط اليد ، والإجماع المزبور أقصاه الإقرار على ما نجده الآن في أيديهم من غير نكير ، ولم نعلم ابتداءه ولعله كان في ذمتهم وعهدهم ، أو كان من فعل سلطان الجور الذي قد أمرنا بإمضائه على حاله حتى يظهر الحق ، أو غير ذلك ، وعلى كل حال فهو غير الفرض الذي هو الجواز وعدمه واقعا في ابتداء الأمر بعد ملك المسلمين له عنوة ، ولعله لذا كان ظاهر الفاضل في محكي التذكرة التردد حيث حكى القولين ساكتا عنهما.

وكذا لا بأس أيضا بما استجدوه من المعابد في‌

__________________

(١) الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ص ١٤٩.

٢٨٢

أرض فتحت صلحا على أن تكون الأرض لهم ويؤدون الخراج ، فإنه حينئذ يجوز إقرارهم على بيعهم وكنائسهم وبيوت نيرانهم ومجتمع عباداتهم وإحداث ما شاءوا من ذلك منها ، وإظهار الخمور والخنازير وضرب الناقوس وغير ذلك مما يجوز للمالك فعله في ملكه مع عدم الشرط في متن الصلح عدم ذلك كله أو بعضه كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا بل ولا إشكالا ، وأما أرض الصلح التي تكون للمسلمين وهي القسم الثالث في المتن فكذلك لا يجوز لهم إحداث شي‌ء فيها بعد أن صارت الأرض للمسلمين أيضا ، لعموم النهي وغيره مما عرفت ، كما أن في إقرارهم عليها ما سمعت أيضا ، نعم إن شرط في الصلح أن تكون السكنى لهم والإحداث للبيع والكنائس وغيرها والإقرار على ما كان فيها كانوا على شرطهم الذي لا إشكال في جوازه للإمام عليه‌السلام إذا رأى المصلحة ، كما يجوز له جعل الأرض كلها لهم فضلا عن بعضها ، وما تقدم عن السرائر من بطلان الصلح نافيا للخلاف فيه واضح المنع إن أراد ما يشمل المقام ، على أن المحكي عنه هنا التصريح بالموافقة.

وعلى كل حال فقد قيل ينبغي أن يعين مواضع البيع والكنائس ولا بأس به ، وإن كان الظاهر عدم وجوبه ، أما إذا اشترط عليهم عدم الإحداث وتخريب الموجود منها فهو على شرطه أيضا.

ومن ذلك كله ظهر لك أن كل موضع لا يجوز لهم إحداث المعابد فيه ينقض لو أحدثوها فيه ، وكل موضع جاز إقرارهم على ما فيه من المعابد لا خلاف في جواز رمها لو انشعب شي‌ء منها ، بل في المنتهى الاتفاق على جوازه ، أما إذا انهدمت فهل يجوز بناؤها وكذا لو هدموها؟ فالمحكي عن الشيخ التردد في ذلك ، من عدم صدق كونه إحداثا بل هو استدامة‌

٢٨٣

كما عن الشافعي وأبي حنيفة ، ومن ‌النبوي (١) « لا تبنى الكنيسة في الإسلام » ‌وكونه كالإحداث كما عن بعض العامة ، ولعله الأولى ضرورة عدم اقتضاء الإقرار على ما كان منها جواز تجديدها ، فيبقى على حرمة التصرف في أرض المسلمين ، نعم لو كانت الأرض لهم اتجه حينئذ الجواز.

وإلى ذلك كله أشار المصنف بقوله وإذا انهدمت كنيسة مثلا مما لهم استدامتها جاز لهم إعادتها ، وقيل لا يجوز وإن كنا لم نعرف القائل بالأخير منا ، بل والأول قبله ، وإن كان قد عرفت أن الأخير منهما لا يخلو من قوة ، والله العالم.

وأما المساكن فكلما يستجده الذمي لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه لا غيرهم كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا في الظاهر كما اعترف به في الرياض بل في المسالك « المنع من العلو موضع وفاق بين المسلمين » وفي المنتهى « دور أهل الذمة على أقسام ثلاثة : أحدها دار محدثة ، والثاني دار مبتاعة ، والثالث دار مجددة ، فالمحدثة هي أن يشتري عرصة يستأنف فيها بستانا فليس له أن يعلو على بناء المسلمين إجماعا ـ إلى أن قال ـ : وأما المجددة فكالمحدثة سواء » ونحوه عن التذكرة ، وهو الحجة بعد إمكان استفادته من‌ قوله عليه‌السلام (٢) « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » ‌ومن قوله تعالى (٣) ( وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) وغير ذلك مما دل على رجحان‌

__________________

(١) كتاب نصب الراية ج ٣ ص ٤٥٤.

(٢) كنز العمال ج ١ ص ١٧ ـ الرقم ٢٤٦ وجامع الصغير ج ١ ص ١٢٣.

(٣) سورة المنافقون ـ الآية ٨.

٢٨٤

رفعة المؤمن وضعة الكافر في جميع الأحوال.

بل لعل المستفاد من ذلك خلاف ما ذكره المصنف من أنه يجوز مساواته على الأشبه وإن حكي عن المبسوط نسبته إلى القيل ، بل ربما حكي عن بعض منا ، بل هو مقتضى الأصل ، إلا أن الشيخ والحلي والفاضل والشهيدين وغيرهم على المنع ، بل هو المشهور لما عرفت وبه يخص الأصل.

نعم يقر على ما ابتاعه من مسلم على علوه كيف كان كما صرح به في المنتهى وغيره معللين له بأنه ملكه كذلك ، فلا يندرج في المنع عن العلو على المسلم ، ولذا لا يجوز هدمها ، وإن كان لا يخلو من نظر ضرورة ظهور الخبر المزبور المؤيد بما سمعت في الأعم من ذلك ومن هنا لو انهدم من أصله أو خصوص ما علا به لم يجز أن يعلو به على المسلم إجماعا كما في المنتهى ومحكي التذكرة بل يقتصر على المساواة على القول بجوازها ، وإلا فما دون أما لو انشعب شي‌ء منه ولم ينهدم جاز له رمه وإصلاحه لأنه استدامة واستبقاء لا تجديد ، وكذا الكلام فيما لو اشترى المسلم دارا في جانب دار الذمي من ذمي مثلا أقصر منها أو بناها كذلك ، فإن المتجه فيه على الأول عدم المنع ، لعدم كونه علوا من الذمي على المسلم وعلى ما ذكرناه يمكن القول بالمنع ، لأنه علو في نفسه وإن لم يكن بعمل الذمي ، بل الظاهر أن ذلك من أحكام الدين التي لا ينفع فيها رضا الجار بعلوه عليه ، بل منه ينقدح المنع عن أن يستجد دارا على نشر من الأرض تكون به أرفع من دار المسلم التي هي في أرض منخفضة وإن لم يعل ببنائه على بناء المسلم خلافا للشهيد في الدروس فجوزه ، واحتمله في المسالك ، نعم لا يبعد جواز الإفراط للذمي في الارتفاع في‌

٢٨٥

صورة العكس ليقارب دار المسلم كما صرح به في الدروس ونفى عنه البعد في المسالك ، قال في الأخير في أصل المسألة : وهل يعتبر في العلو وعدمه نفس البناء أو مجرد الهواء؟ نظر ، وتظهر الفائدة فيما لو كان بيت الذمي على أرض مرتفعة ودار المسلم في أرض منخفضة ، فعلى الأول يجوز للذمي أن يرتفع عنه بحيث لا يبلغ طول حائط المسلم ، وعلى الثاني يعتبر ارتفاع الأرض عن المسلم من جملة البناء ، وقطع في الدروس بالأول ، وجوز مع انعكاس الحكم أن يرتفع الذمي إلى أن يقارب دار المسلم وإن أدى إلى الإفراط في الارتفاع ، وليس ببعيد ، ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرنا محل النظر ، بل منه ينقدح النظر فيما ذكره في الدروس وغيرها من عدم منع الذمي عن الارتفاع لو فرض دار المسلم نحو السرداب ، لعدم صدق البناء ، وفيه أن المدار على علو الذمي على المسلم ، وليس في شي‌ء من النص البناء كي يكون المدار عليه.

ثم إن ظاهر المتن أو صريحه كغيره اعتبار الجار في الحكم المزبور فلا يمنع حينئذ من العلو على غيره من المسلمين من أهل البلد ، إذ المدار على أهل محلته بل مجاوريه ، ولكن قد يقال بالمنع إذا فرض استئناف بناء للذمي مرتفع على أهل البلد أجمع ، بل لعله أولى بالمنع المستفاد من نحو‌ قوله عليه‌السلام « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » ‌هذا وظاهر المصنف وغيره بل ومعقد الإجماع أن ذلك من أحكام الذمي والمسلم لا أنه من أحكام عقد الذمة كي يكون المدار على اشتراطه في عقدها وعدمه كما عساه يظهر من بعض ، فتأمل جيدا.

وأما المساجد فلا يجوز أن يدخلوا المسجد الحرام إجماعا من المسلمين محصلا ومحكيا مستفيضا ، مضافا إلى قوله تعالى (١)( إِنَّمَا

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٢٨.

٢٨٦

الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) من غير فرق بين اللبث وعدمه ، ولا بين تعدي النجاسة وعدمها ولا غيره من المساجد عندنا كما عن التحرير وكنز العرفان مرادا منه. معشر الإمامية كما صرح بإجماعهم عليه في المسالك ، بل في المنتهى نسبته إلى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما يستفاد من التفريع في الآية المفيد للاشتراك بينه وبين غيره من المساجد أيضا ، خصوصا مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من المساجد ، ضرورة اعتبار التعظيم فيها أجمع ، بل لو قلنا بجواز كون النجاسة غير المتعدية فيها لم يجز هنا إما للإهانة في دخولهم أو لغير ذلك ، بل ربما كانوا أسوأ من الكلب والخنزير والعذرة اليابسة ونحوها لو قلنا بجواز كونها فيها دونهم وإن كان الأقوى المنع من كل ما اقتضى الإهانة أو التلويث كما حققناه في محله ، بل لو أذن المسلمون لهم في ذلك لم يصح الإذن لعموم أدلة المنع ، خلافا‌ للجمهور الذين رووا في طرقهم ما يقتضي المفروغية من عدم دخولهم ، قالوا : « دخل أبو موسى الأشعري على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله ، فقال له عمر ادع الذي كتبه ليقرأه فقال : إنه لا يدخل المسجد ، قال : ولم لا يدخل المسجد؟ قال لأنه نصراني ، فسكت » ‌وما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إدخال بعض الكفار المسجد ولبثهم فيه غير ثابت أو أنه كان قبل نزول الآية.

وعلى كل حال فلا يجوز لهم الدخول لا استيطانا ومكثا ولا اجتيازا ولا امتيارا للطعام بمعنى جلبه أو مطلق البيع والشراء‌

٢٨٧

ضرورة اقتضاء النهي عن قرب المسجد الحرام الذي قد عرفت اشتراكه مع غيره في هذا الحكم ذلك ، وحينئذ فما دل (١) على جواز اجتياز الجنب في غير المسجدين خاص بالمسلمين دون غيرهم ، بل عن الشيخ عدم جواز دخولهم الحرم لا اجتيازا ولا استيطانا ، واختاره الفاضل وغيره بل لا أجد خلافا فيه بينهم معللا له بأنه المراد من المسجد الحرام في الآية بقرينة قوله (٢) ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ) إلى آخره وقوله تعالى (٣) ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) مع أنه أسرى به من بيت أم هانئ ، بل لعل قول الأصحاب بعدم جواز الامتيار مشعر بإرادة ذلك ، ضرورة عدم الامتيار في نفس المسجد ، مضافا إلى ما دل (٤) على تعظيم الحرم على وجه ينبغي تنزيهه عنهم ، وإلى ما في‌ الدعائم (٥) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه قال : « لا يدخل أهل الذمة الحرم ولا دار الهجرة ، ويخرجون منها » ‌وحينئذ فإن قدم ميرة لأهل الحرم منع من الدخول إليه ، فإن أراد أهل الحرم الشراء منه خرجوا إليه إلى الحل ، ولو جاء رسولا بعث إليه الإمام عليه‌السلام من يسمع رسالته ، ولو أراد المشافهة خرج إليه الإمام عليه‌السلام من الحرم ، ولو دخله عالما بالحرمة عزر ، وجاهلا أعذر ، فإن عاد عزر ، فإن مرض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب الجنابة.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ٢٨.

(٣) سورة الإسراء ـ الآية ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ١٣ من أبواب مقدمات الطواف من كتاب الحج.

(٥) المستدرك ـ الباب ٤٣ من أبواب جهاد العدو الحديث ١.

٢٨٨

في الحرم نقله منه ، ولو مات فيه لم يدفن فيه ، بل عن الشيخ لو دفن نبش ، ويحتمل إلحاق حرم الأئمّة عليهم‌السلام بذلك فضلا عن الحضرات المشرفة بل والصحن ، ولكن السيرة على دخولهم بلدانهم ، ولو صالحهم الإمام عليه‌السلام على دخول الحرم بعوض فعن الشيخ الجواز ، قال : « وإن كان خليفة الإمام ووافقهم على عوض فاسد بطل المسمى وثبت أجرة المثل » ولكن لا يخفى عليك ما في ذلك بناء على أن المنع للتعظيم ولعله لذا أبطل الشافعي الصلح على ذلك ، إلا أنه قال : « وإن دخلوا الموضع الذي صالحهم عليه لم يرد العوض ، لحصول المعوض لهم ولا أجرة مثل » وهو كما ترى.

ولا يجوز لهم استيطان الحجاز على قول مشهور بل في المنتهى ومحكي المبسوط والتذكرة الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد السيرة القطعية التي يمكن استفادة الإجماع أيضا منها ، مضافا إلى ما سمعته من خبر الدعائم وإلى‌ خبر ابن الجراح (١) المروي من طرق العامة « أن آخر ما تكلم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن قال : أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب » ‌متمما بعدم القول بالفصل ، بل وإلى ما رواه‌ ابن عباس (٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا « أنه أوصى بثلاثة أشياء ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالث ، أو قال : أنسيته » وأنه قال : « لا يجتمع ذميان في جزيرة العرب » ‌وقال (٣) « لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب » ‌بناء على أن المراد‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٢٠٨.

(٢) و (٣) سنن البيهقي ج ٩ ص ٢٠٧.

٢٨٩

من جزيرة العرب في هذه الأخبار الحجاز خاصة كما في المنتهى وعن المبسوط والتذكرة ، بل في الأول « ونعني بالحجاز مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع وفدك ومخاليفها ، ويسمى حجازا لأنه حجز بين نجد وتهامة ـ إلى أن قال ـ : وإنما قلنا إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصة لأنه لو لا ذلك لوجب إخراج أهل الذمة من اليمن ، وليس بواجب ، ولم يخرجهم عمر منها ، وهي من جزيرة العرب ، وإنما أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراج أهل نجران من الجزيرة لأنه صالحهم على ترك الربا فنقضوا العهد ».

وكيف كان فقد قيل وإن كنت لم أعرف القائل قبل المصنف المراد به أي الحجاز مكة والمدينة نعم هو محكي عن الفاضل في جملة من كتبه ، ولعل الأولى الرجوع إلى ما يسمى الآن حجازا كما في المسالك ، قال : فيدخل فيه البلدان مع الطائف وما بينهما ، وإنما سمي حجازا لحجزه بين نجد وتهامة بكسر التاء بلد وراء مكة ، وقد يطلق على مكة تهامة ، والله العالم.

وفي الاجتياز به والامتيار منه تردد من إطلاق الأمر بالإخراج ومن أن المنساق منه منع السكنى ، ولعله الأقوى وفاقا لجماعة ، بل في المسالك هو الأشهر ، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن من غير فرق بين إذن الإمام عليه‌السلام وعدمه ، كما عن الشيخ التصريح به خلافا للمحكي عن الفاضل فشرط الإذن ومرجعه إلى المنع ولم أجد دليلا له ، كما أني لم أجد دليلا لما ذكره المصنف من أن من أجازه حده بثلاثة أيام وإن كان ظاهر المصنف اتفاق القائلين بذلك إلا أني لم أتحققه ، فإن كان على وجه يكون إجماعا فذلك ، وإلا كان المتجه عدم التحديد ، على أن ظاهر المنتهى إقامة الثلاثة في خصوص‌

٢٩٠

المكان لا مجموع الحجاز ، وسواحل بحر الحجاز بل وجزائره التي هي من الحجاز بحكم بلدانه ، أما ركوب بحره فلا يمنعون من الإقامة فيه فضلا عن المرور به لو قلنا بالمنع منه في البر.

وكذا لا يسكنون أيضا في جزيرة العرب بلا خلاف أجده فيه ولكن قيل المراد بها مكة والمدينة واليمن ومخاليفها وقد سمعت ما في المنتهى من أن المراد بها في النصوص المزبورة الحجاز ، ونحوه عن المبسوط والتذكرة ، وحينئذ يتحد المراد بهما وقيل هي من عدن إلى ريف عبادان طولا ، ومن تهامة وما والاها إلى أطراف الشام عرضا وفي المسالك هو الأشهر بين أهل اللغة وعليه العمل ، ولعله يرجع إليه ما عن الأصمعي وأبي عبيدة من أنها عبارة عن ما بين عدن إلى ريف العراق طولا ، ومن جدة والسواحل إلى أطراف الشام عرضا ، وربما قيل إنها من ريف أبي موسى إلى اليمن طولا ، ومن رمل تبريز إلى منقطع السماوة عرضا ، ولكن قد يقال إن مرادهم مجرد تفسيرها ، وإلا فالسيرة على عدم منعهم من جميع ذلك ، وعلى كل حال فقد قيل إنما سميت جزيرة العرب لأن بحر الهند وهو بحر الحبشة وبحر فارس والفرات أحاطت بها ، وإنما نسبت إلى العرب لأنها منزلهم ومسكنهم ومعدنهم ، وعدن بفتح الدال بلد باليمن والريف الأرض التي فيها زرع وخصب ، والجمع أرياف ، وعبادان بفتح العين وتشديد الباء الموحدة جزيرة يحيط بها شعبتان من دجلة والفرات والمخاليف الكور ، واحدها مخلاف ، وفي الصحاح والمخلاف أيضا لأهل اليمن واحد المخاليف ، وهي كورها ، ولكل مخلاف منهما اسم يعرف به ، وفيه أيضا الكورة المدينة والصقع ، والجمع كور ، والله العالم.

الأمر الخامس في المهادنة التي يراد منها كما في المنتهى‌

٢٩١

المواعدة والمعاهدة وهي المعاقدة على ترك الحرب مدة معينة بعوض وغير عوض كما في المنتهى ومحكي التذكرة والتحرير ، وما في القواعد ومحكي المبسوط من زيادة بغير عوض في التعريف يراد منه عدم اعتبار العوض فيها ، لا اعتبار عدم العوض ، بل في المنتهى يجوز مهادنتهم على غير مال إجماعا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال ، ويجوز على مال يأخذه منهم بلا خلاف ، وهو كذلك للأولوية ولأنه شرط سائغ غير مناف لها ، بل فيه الجواز أيضا على مال يدفعه إليهم مع الضرورة المقتضية ذلك ، ولعل منه‌ ما رواه الإسكافي من خبر الزهري الذي رواه العامة أيضا ، قال : « أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عيينة بن حصين وهو مع أبي سفيان يوم الأحزاب أرأيت إن جعلت لك ثلث تمر الأنصار أن ترجع بمن معك من غطفان وتخذل جيش الأحزاب فأرسل إليه عيينة إن جعلت لي الشطر فعلت ، فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة : يا رسول الله والله لقد كانوا يحرسونه في الجاهلية حول المدينة ما يطيق أن يدخلها ، فالآن حيث جاء الله بالإسلام نعطيهم ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنعم إذا » ‌ولو لا جوازه لم يبذله ،كالمرسل من طرقهم أيضا « أن الحرث بن عمرو رئيس غطفان أرسل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنك إن جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا وركابا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وسعد بن زرارة ، فشاورهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا يا نبي الله إن كان هذا أمرا من السماء فتسليما لأمر الله ، وإن كان رأيك وهواك‌

٢٩٢

اتبعنا رأيك وهواك ، وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك وهواك فو الله ما كنا نعطيهم في الجاهلية برة ولا تمرة إلا شراء أو قرى فكيف وقد أعزنا الله تعالى بالإسلام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسوله : أو تسمع » ‌بل لا يبعد الجواز مع المصلحة للإسلام والمسلمين أيضا وأولى بالجواز ما نص عليه في المنتهى من وضع شي‌ء من حقوق المسلمين في مال المهادنين كما شرط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يعشروا وأنه لا يهجر عليهم إلا من أحبوا ، ولا يؤمن عليهم إلا بعضهم ، وحظر صيد واديهم وشجره وسن فيمن فعل ذلك جلده ونزع ثيابه.

وكيف كان ف هي في الجملة جائزة ومشروعة إذا تضمنت مصلحة للمسلمين ، إما لقلتهم عن المقاومة ، أو لما يحصل به الاستظهار وهو زيادة القوة أو لرجاء الدخول في الإسلام مع التربص أو غير ذلك بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى قوله تعالى (١) ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ) ـ ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ ) (٢) » وإلى المقطوع به من وقوعها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجملة كما لا يخفى على من أحاط خبرا بخصوص ما وقع منه مع قريش وأهل مكة وغيرهم مما روي في طرق العامة والخاصة وما عن ابن عباس ـ من أن آية السلم منسوخة بقوله تعالى (٣) ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) إلى آخرها ، والحسن وقتادة ومجاهد من أنها منسوخة بقوله تعالى (٤) ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ـ غير ثابت ، بل في الكنز أن آية ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) نزلت في سنة تسع‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٤.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ٦٣.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٢٩.

(٤) سورة التوبة ـ الآية ٥.

٢٩٣

وبعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكة ، ثم صالح أهل نجران على ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب ، فلا إشكال حينئذ في مشروعيتها بل الظاهر عدم الفرق فيها بين أهل الكتاب وغيرهم ، لإطلاق الأدلة ، بل وخصوص ما ورد في مهادنة قريش وغيرهم ، ويجب الوفاء لهم بالمدة ما داموا هم كذلك بلا خلاف ولا إشكال بعد قوله تعالى (١) ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ) وقوله تعالى (٢) ( فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ) نعم في القواعد وغيرها ولو استشعر الإمام خيانة جاز له أن ينبذ العهد إليهم وينذرهم ، ولا يجوز نبذ العهد بمجرد التهمة ، وهو كذلك ضرورة وجوب الوفاء لهم ، بخلاف ما إذا خاف منهم الخيانة لأمور استشعرها منهم ، فإنه ينبذ العهد حينئذ لقوله تعالى (٣) ( وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) أي أعلمهم نقض عهدهم حتى تكونون سواء في ذلك ، وليس كذلك عقد الذمة الذي هو حق لهم ، ولهذا يجب على الإمام إجابتهم إليه وإن كان له قوة عليهم ، بخلاف عقد الهدنة الذي هو تابع للمصلحة ، على أن عقد الذمة بعوض وهو الجزية ، بخلاف عقد الهدنة الذي لم يلزمه العوض ، على أنه منقطع بخلاف عقد الذمة فإنه للأبد ، ويجب الرد إلى مأمنهم إذا فرض صيرورتهم بالهدنة بين المسلمين ، أما إذا لم يكونوا كذلك بل كانوا باقين على منعتهم وقوتهم غزاهم بعد الإعلام ، ولو نقض بعضهم العقد دون البعض جرى على الناقض حكم الحربي دون غيره ، وإذا أراد الإمام غزوهم ميزهم عنهم ، وكذا الحكم لو خاف الخيانة من بعض دون آخر نبذ إليه عهده ، ولو تاب الناقض فعن‌

__________________

(١) و (٢) سورة التوبة ـ الآية ٤ ـ ٧

(٣) سورة الأنفال ـ الآية ٦٠.

٢٩٤

الإسكافي قبوله ، ولا بأس به.

وكيف كان فظاهر المتن أنها جائزة في جميع أحوالها على معنى عدم وجوبها بحال كما هو صريح المنتهى ومحكي التحرير والتذكرة جمعا بين ما دل على الأمر بها المؤيد بالنهي عن الإلقاء باليد في التهلكة (١) وبين الأمر بالقتال حتى يلقى الله شهيدا بحمل الأول على الرخصة في ذلك ، ومنها ما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسن عليه‌السلام ، كما أن من الثاني ما وقع من الحسين عليه‌السلام ومن النفر الذين وجههم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذيل وكانوا عشرة فقاتلوا حتى قتلوا ولم يفلت منهم إلا حبيب ، فإنه أسر وقتل بمكة إذ القتل في سبيل الله ليكون من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون ليس من الإلقاء في التهلكة ، كما سمعته في حرمة الفرار من الزحف ، لكن في القواعد يجب على الإمام الهدنة مع حاجة المسلمين إليها ، ويمكن إرادته من المتن بحمل الجواز فيه على المعنى الأعم ، وهو ما عدا الحرام ، فيشمل الواجب حينئذ في الفرض المزبور ترجيحا لما دل على وجوب حفظ النفس والإسلام من عقل ونقل مقتصرا في الخروج منهما على المتيقن كالفرار من الزحف ونحوه ، وما وقع من الحسين عليه‌السلام مع أنه من الأسرار الربانية والعلم المخزون يمكن أن يكون لانحصار الطريق في ذلك ، علما منه عليه‌السلام أنهم عازمون على قتله على كل حال كما هو الظاهر من أفعالهم وأحوالهم وكفرهم وعنادهم ، ولعل النفر العشرة كذلك أيضا ، مضافا إلى ما ترتب عليه‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٩١.

٢٩٥

من حفظ دين جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشريعته وبيان كفرهم لدى المخالف والمؤالف ، على أنه له تكليف خاص قد قدم عليه وبادر إلى إجابته ، ومعصوم من الخطأ لا يعترض على فعله ولا قوله ، فلا يقاس عليه من كان تكليفه ظاهر الأدلة والأخذ بعمومها وإطلاقها مرجحا بينها بالمرجحات الظنية التي لا ريب في كونها هنا على القول بالوجوب ، على أن النهي عن الإلقاء لا يفيد الإباحة ، بل يفيد التحريم المقتصر في الخروج منه على المتيقن ، وهو حيث لا تكون مصلحة في الهدنة ، وحب لقاء الله تعالى وإن كان مستحسنا ولكن حيث يكون مشروعا ، والكلام فيه في الفرض الذي هو حال الضرورة ، والمصلحة التي قد ترجح على القتل ولو شهيدا الذي قد يؤدي إلى ذهاب بيضة الإسلام وكفر الذرية ونحو ذلك ، ولعله لذا ربما فصل بين الضرورة والمصلحة ، فأوجبها في الأول ، وجوزها في الثاني ، ولا بأس به ، فإن دعوى الوجوب على كل حال كدعوى الجواز كذلك في غاية البعد ، فالتحقيق انقسامها إلى الأحكام الخمسة.

وحينئذ ف متى ارتفع ذلك أي مقتضى الجواز ولو على كراهة كما إذا كان في المسلمين قوة على الخصم واستعداد وفي الكافرين ضعف ووهن على وجه يعلم الاستيلاء عليهم بلا ضرر على المسلمين لم تجز المهادنة قطعا ، لعموم الأمر بقتلهم مع الإمكان في الكتاب والسنة على وجه لا يعارضه إطلاق قوله تعالى (١) ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) المحمول على غير الفرض ولو بملاحظة ما كان يوصي به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراء السرايا من الأمر بالمنابذة‌

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ٦٣.

٢٩٦

معهم إلا مع الإسلام أو الجزية من أهلها وغيره في الكتاب والسنة ، بل وقوله تعالى (١) ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وقوله تعالى (٢) ( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللهُ مَعَكُمْ ) وغيرها.

نعم لا خلاف في أنه تجوز الهدنة إلى أربعة أشهر فما دون مع القوة ، بل في المنتهى والمسالك ومحكي التذكرة وغيرها الإجماع عليه ، مضافا إلى الاستدلال عليه بقوله تعالى (٣) ( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) وكان ذلك عند منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك في أقوى ما كان ، وصالحهم صفوان بعد الفتح أربعة أشهر ، وإن كان قد يناقش بأن ذلك إمهال لهم على وجه التهديد والتوعد لخصوص من عاهدوا من المشركين ، لأنه عقد هدنة أربعة أشهر ، فالعمدة حينئذ في إثبات ذلك على جهة العموم الإجماع إن تم ، وإلا فالحث على قتلهم والعقود لهم في كل مرصد يقتضي عدمه.

ومن هنا لا تجوز أكثر من سنة على قول مشهور بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في المسالك ، بل في المنتهى ومحكي التذكرة الإجماع عليه ، بل في محكي المبسوط ولا تجوز إلى سنة وزيادة عليها بلا خلاف ، ولعله كذلك ، لأن الآية تدل على وجوب الجهاد في السنة وهو مناف لجوازها سنة ، ولذا قال في الدروس وتنعقد المهادنة بما دون السنة ، فيراعى الأصلح ، وعلى كل حال فنسبة المصنف الأكثر من السنة إلى الشهرة في غير محله ، وفي المسالك كان الباعث له على ذلك‌

__________________

(١) و (٣) سورة التوبة ـ الآية ٥ ـ ١

(٢) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الآية ٣٧.

٢٩٧

استضعاف دليله مع عدم تحقق الإجماع عنده وإن لم يعلم بالمخالف ، فإن ذلك لا يكون إجماعا ، ووجه ضعف الدلالة أن الشيخ والجماعة احتجوا على ذلك بقوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) إلى آخره وهو يتحقق في كل سنة مرة ، وفيه أن الأمر لا يقتضي التكرار ، ولكن ذلك كله كما ترى ، خصوصا بعد إمكان استفادة التكرار من غير ذلك ولو على وجه يكون قرينة على المراد به ، فتأمل.

وهل تجوز أكثر من أربعة أشهر ودون السنة قيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه لا يجوز لقوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وغيره من الآيات المشتملة على التأكيد في المبادرة إلى قتلهم والتوصل إليه بأيّ طريق يكون وقيل ولكن لا أعرف القائل به منا ، وإنما هو محكي عن أحد قولي الشافعي نعم يجوز لقوله تعالى ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) » الذي قد عرفت أنه في غير الفرض ، كما أن الأمر في الآية الأولى ليس للفور ولذا كان الوجه كما في المنتهى والمسالك وحاشية الكركي ومحكي التحرير والقواعد مراعاة الأصلح كما هو مقتضى إطلاق الولاية الذي لا يقيده الرخصة لهم في سياحة الأربعة أشهر المحتملة موافقة المصلحة في ذلك الوقت ، على أنك قد عرفت كونها تهديدا ومهلة بعد نقض العهد ، وكذا في مراعاة الأصلح المهادنة للضعف في المسلمين من غير تقييد بمدة معينة كما في المنتهى ومحكي التذكرة وغيرهما ، وإن حكي عن الإسكافي والشيخ التقدير بالعشر سنين كالمحكي عن الشافعي محتجا عليه بعموم قوله تعالى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) إلى آخره المقتصر في الخروج منه على العشر سنين ، لمصالحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشا قدرها ، ولكن فيه أن‌

٢٩٨

الأدلة الدالة على مشروعية المهادنة مطلقة ، فيرجع فيه إلى نظر الإمام عليه‌السلام ، ووقوع العشر لا يقتضي التقييد بعد احتمال كونه الأصلح في ذلك الوقت ، والله العالم.

وكيف كان ففي المنتهى ومحكي المبسوط والتذكرة والتحرير وغيرها أنه لا تصح المهادنة إلى مدة مجهولة ولا مطلقا إلا أن يشترط الإمام عليه‌السلام لنفسه الخيار في النقض متى شاء بل لا أجد فيه خلافا بينهم في المستثنى والمستثنى منه الذي هو مقتضى الأصل بعد ظهور المفسدة في ذلك ، وقصور الإطلاقات عن تناوله ، واقتضاء الإطلاق التأبيد الممنوع في المهادنة ، مضافا إلى معلومية اعتبار المعلومية في كل أجل اشترط في عقد وإن كان مما يقع على المجهول كالصلح وغيره بل يمكن دعوى الإجماع على ذلك ، ومن هنا يتجه جعل الاستثناء للأخير خاصة ، خلافا للكركي وثاني الشهيدين فمالا إلى جعله لهما معللين له بانتفاء الجهالة بعد حصول التراضي منهما ، فإن ذلك واقع بمشية الجميع ، إلا أنه كما ترى ، بل الظاهر جواز اشتراط ذلك لنفسه في المدة المعلومة له مطلقا كما عن الإسكافي والشيخ التصريح به للعمومات وخصوص‌ النبوي (١) المروي من طرق العامة « أنه لما فتح خيبر عنوة بقي حصن فصالحوه على أن يقرهم ما أقرهم الله ، فقال لهم نقركم ما شئنا » ‌وفي آخر (٢) أنه فعل الأول ، خلافا لبعض الجمهور فمنع منه لأنها عقد لازم ، فلا يجوز اشتراط نقضه ، وهو كما ترى ، خصوصا بعد جواز اشتراط الخيار في العقود اللازمة ، نعم في المنتهى لا يجوز اشتراط نقضها لمن شاء منهما ، لأنه يفضي إلى ضد المقصود ، وفيه منع واضح ضرورة اقتضاء العمومات الجواز ، فيفي لهم ما داموا على العهد ، كما‌

__________________

(١) و (٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ٢٢٤.

٢٩٩

أن ما فيه أيضا ـ من أن الإمام عليه‌السلام لو شرط لهم أن يقرهم ما أقرهم الله لم يجز ، لانقطاع الوحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ واضح المنع ، ضرورة تظافر النصوص (١) بل لعله من قطعيات المذهب في إمكان معرفة ذلك لهم عليهم‌السلام بطرق متعددة ، كما أنها (٢) تظافرت في أنه ينكت في قلوبهم وأن لهم ملكا يقال له الروح أعظم من جبرئيل يأتي لهم ، وانقطاع الوحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما يراد منه ما يتعلق بالنبوة لا مطلقا ، كما هو مفروغ منه في محله ، وكل شرط سائغ وقع في عقد الهدنة من مال أو غيره يجب الوفاء به على حسبما اشترط بلا خلاف ولا إشكال ، كما أنه يجب حمايتهم من المسلمين ورعايتهم في أنفسهم وأموالهم وغيرها مما اقتضاه العقد

نعم لو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله لم يجب الوفاء به مثل التظاهر بالمناكير وإعادة من يهاجر من النساء المسلمات التي قال الله تعالى (٣) : « ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ) ـ إلى قوله تعالى ـ ( فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ ) » إلى آخره ، وفي‌ المروي (٤) من طرق العامة « أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة فجاء أخواها يطلبانها فأنزل الله تعالى الآية » ‌وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إن الله منع من الصلح في النساء » ‌ومن هنا لا خلاف أجده كما اعترف به في المنتهى في حرمة ردهن إليهم ، فلو‌

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٢٦٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٢٦٤ و ٢٧٣.

(٣) سورة الممتحنة ـ الآية ١٠.

(٤) سيرة ابن هشام ـ القسم الثاني ص ٣٢٥.

٣٠٠