جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بالحال على وجه يخرج به عن الاغتيال المنهي عنه ، فمع الرضا به يصح ولا يحتاج إلى تجديد ، نعم لو أردن النساء الصلح على تأدية الجزية منهن دون الرجال بطل الصلح من أصله ، وهو واضح.

ولو حاصر المسلمون حصنا من حصون أهل الكتاب ف قتل الرجال قبل عقد الجزية فسأل النساء إقرارهن ببذل الجزية قيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه يصح عقد الذمة لهن على أن يجري عليهن حكم الإسلام ، ولا يأخذ منهن شيئا ، فإن أخذ منهن شيئا رده عليهن لكنه كما ترى ليس قولا بالصحة على وجه تثبت به الجزية كما هو ظاهر العبارة ، نعم حكاه في المبسوط قولا لبعض أصحابنا ولم نعرفه.

وقيل لا يصح وهو الأصح كما صرح به الفاضل وغيره لأنه من المحلل للحرام كما عرفت ، فيتوصل حينئذ إلى فتح الحصن بما يتمكن ، وهل يجوز اغتيالهن بإظهار صورة الصلح لأجل فتح الحصن ثم يسبين باعتبار كونهن أموالا؟ وجهان ، وفي المختلف عن المبسوط نسبة أولهما إلى القيل ، وأنه لا يعقد لهن الأمان ، لكن في حاشية الكركي والمسالك « ولو كن في حصن ولم يمكن فتحه جاز عقد الأمان لهن كما لو طلبن ذلك في دار الحرب ، ولا جزية في الموضعين » ومقتضاه صحة عقد الأمان لهن على وجه لا يجوز سبيهن ، لعموم الوفاء بالعهد والعقد (١) ومشروعية الصلح (٢) والنهي عن الاغتيال (٣) ، والله العالم.

ولو كان بعد عقد الجزية كان الاستصحاب حسنا قال في حاشية الكركي : « المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٧٢ وسورة المائدة ـ الآية ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ٣ من كتاب الصلح.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢١ من أبواب جهاد العدو.

٢٤١

مع الرجال ، والقول به ضعيف ، فالأصح بطلانه » وتبعه في المسالك قال : « المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع مع الرجال وإثبات الجزية على النساء ، وما حسنه المصنف غير واضح ، فإنه كما يمتنع إقرارهن بالجزية ابتداء فكذا استدامة للعقد السابق ، فالمنع في الموضعين أقوى » قلت : لا ينبغي التأمل في فساد ذلك على هذا التقدير بل المصنف أجل من أن ينسب إليه ما لا ينسب إلى أصاغر الطلبة ، ولعله لذا قال شارح الترددات : « إن معنى الاستصحاب استدامة الأمان للنساء من غير ضرب جزية عليهن حيث قد ثبت لهن الأمان مع الرجال ضمنا ، فيجب الوفاء » وإن قال في المسالك : هذا التوجيه غريب ، فإن السياق إنما هو في بذل الجزية لا في الأمان خاصة ، إذ أقصاه قصور العبارة في الجملة عن ذلك ، والله العالم.

ولو أعتق العبد الذمي منع من الإقامة في دار الإسلام إلا بقبول الجزية كما صرح به غير واحد ، بل عن التذكرة نفي الخلاف فيه ، بل في المنتهى هو مذهب عامة العلماء إلا ما روي عن أحمد بن حنبل من الإقرار بغير جزية ، ولا ريب في ضعفه بعد عموم الأدلة الذي مقتضاه أيضا عدم الفرق في المعتق بين كونه مسلما أو كافرا ، خلافا لمالك فلا جزية على الأول ، لأن الولاء شعبة من الرق ، وهو كما ترى فيلزم حينئذ بالإسلام أو بأداء الجزية ، فإن أبى ألحق بمأمنه ، لأنه قد دخل بشبهة الأمان ولو مع سيده ، خلافا للإسكافي فيحبس ، لما في إلحاقه من الإعانة على المسلمين والدلالة على عوراتهم ، وهو اجتهاد ، وكذا الكلام لو كان من أهل دين لا تقبل منهم الجزية ، خلافا له أيضا لما عرفت ، والله العالم.

والمجنون المطبق لا جزية عليه بلا خلاف ولا إشكال كما‌

٢٤٢

عرفته سابقا وإن كان يفيق وقتا ويجن آخر قيل والقائل الشيخ في محكي المبسوط والخلاف يعمل بالأغلب فتؤخذ الجزية منه إن كانت الإفاقة أغلب ، بأن يجن يوما ويفيق يومين مثلا ، وتسقط عنه مع العكس ، وهو مع عدم نقل الحكم عنه حال التساوي لم نعرف له مستندا ينطبق على مذهب الإمامية ، وإن وافقه عليه في المنتهى ومحكي التذكرة والتحرير إذا كان جنونه غير مضبوط ، وأما المضبوط مثل أن يجن يوما ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففي المنتهى فيه احتمالان : أحدهما الاعتبار بالأغلب أيضا ، والثاني تلفيق أيام إفاقته ، وفيه احتمالان أيضا : أحدهما تلفيقها حولا وتؤخذ منه لأن أخذها منه قبل أخذ لها قبل الحول ، فلم يجز كالصحيح ، والثاني أخذها منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق ، قال : وكذا الاحتمالان لو كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثه أو بالعكس ، أما لو استوت إفاقته وجنونه مثل أن يجن يوما ويفيق آخر أو يجن نصف حول ويفيق في الآخر فإن إفاقته تلفق ، لتعذر اعتبار الأغلب هنا لعدمه ، فيتعين الاحتمال الآخر ، ثم قال : ولو جن نصف الحول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق من الحول إذا استمرت الإفاقة بعد الحول ، وفي الثاني لا جزية عليه ، لأنه لم يتم الحول مفيقا ، وجميعه كما ترى لا يرجع إلى محصل ولا إلى قاعدة يركن إليها ، على أن الحولية لم تذكر هنا شرطا على حسب الحول في الزكاة ، ولعله لذا قال في المسالك الأقوى أن المجنون لا جزية عليه مطلقا إلا أن يتحقق له إفاقة سنة متوالية ، لإطلاق النص ، ولعل إليه يرجع ما في فوائد الشرائع من أن الأصح عدم الجزية عليه ، وإن كان فيه أنه ليس في النص إلا سقوطها عن المغلوب على عقله ، فمع‌

٢٤٣

فرض انسياق المطبق منه يتجه عدم السقوط في غيره للعموم ، بل وكذا مع الشك ، ورفع القلم لا ينافي ثبوت خطاب الوضع ، وإلا اتجه السقوط مطلقا ، وأما اعتبار الإفاقة سنة متوالية فليس في النصوص ما يشهد له خصوصا بعد عدم تضمنها لاعتبار الحول في الإفاقة ، وكان اعتبار الأغلب الذي سمعته من الشيخ ترجيحا لإلحاقه بدليل السقوط وعدمه بعد أن كان الحكم ثبوتها على العاقل وسقوطها عن المجنون ، فمع الغلبة يترجح اللحوق بأحدهما ، ومقتضاه الحكم بالبراءة مع عدم الغلبة ، ولكن فيه أنه ليس في الأدلة اعتبار العقل ، اللهمّ إلا أن يدعى اقتضاء سقوطها عن المغلوب عليه ذلك ، ولكنه شك في شك ، ضرورة ظهور الأدلة في وجوبها على الذمي ، وأقصى ما سقطت عن المغلوب عليه ، فمع فرض الشك يتحقق مقتضى الثبوت ، وهو الذمية ، ولم يتحقق مقتضى السقوط وهو صدق المغلوب على عقله ، ولعله الأقوى.

وكيف كان ف لو أفاق حولا وجبت عليه ولو جن بعد ذلك كما صرح به غير واحد ، بل لعله لا خلاف فيه بل ولا إشكال لما عرفته من عموم الأدلة الذي مقتضاه أزيد من ذلك كما سمعت.

وكل من بلغ من صبيانهم يؤمر بالإسلام أو بذل الجزية ، فإن امتنع صار حربيا بلا خلاف بل ولا إشكال ، لعموم الأدلة ، ولحوق أولاده به في الأمان إنما هو ما دام الصغر ، فإذا بلغوا احتاجوا إلى عقد جديد ، خلافا لأحمد بن حنبل فيدخلون فيه ولا يحتاجون إلى تجديد ، وفيه منع واضح ، وحينئذ فإن اختار الجزية عقد معه الإمام عليه‌السلام على حسب ما يراه ، ولا اعتبار بجزية أبيه ، فإذا حال الحول من وقت العقد أخذ منه ما شرط عليه ، ولا يدخل حوله في حول أبيه فضلا عن غيره ، ولو بلغ سفيها على وجه يحجر عليه في المال‌

٢٤٤

واختار عقد الجزية ففي المنتهى « كان له ذلك ، وليس للولي المنع ، لأن الحجر لا يتعلق بحقن دمه وإباحته ـ إلى أن قال ـ : ولو أراد عقد الأمان ببذل جزية كثيرة فالوجه عندي أن للولي المنع ، لأنه يمكن حقن دمه بالأقلّ » قلت : بل مقتضى القواعد عدم نفوذ العقد الأول أيضا إلا بإذن الولي ، ضرورة كونه عقدا بمال ، والفرض الحجر عليه فيه ، نعم قد يقال بإلزام الولي لو امتنع باعتبار كون صلاحه بلاد الإسلام ، ولو صالح الإمام عليه‌السلام قوما على أن يؤدوا الجزية عن أولادهم فإن كان المراد الزيادة في جزيتهم على وجه تكون في أموالهم صح ، وإلا كان الصلح باطلا على نحو ما سمعته في النساء ، وعلى كل حال فإذا اختار الحرب رد إلى مأمنه ولا يجوز اغتياله ، لأنه كان داخلا في أمان أبيه.

الأمر الثاني في كمية الجزية والمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنه لا حد لها ، بل تقديرها إلى الإمام عليه‌السلام بحسب الأصلح بل عن الغنية الإجماع كما عن السرائر نسبته إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، بل لم نعرف القائل منا بتقديرها في جانب القلة والكثرة وإن أرسله الفاضل وغيره ، نعم عن الإسكافي تقديرها في جانب القلة بالدينار على معنى أن لا تكون أقل من ذلك ، أما جانب الكثرة فأمره إلى الإمام عليه‌السلام ، ولم نجد ما يشهد له إلا ما‌ روي (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال له : « خذ من كل حالم دينارا » ‌وهو ـ مع أنه قضية في واقعة ، ولا دلالة فيه على كون الأقل ذلك ـ لا يصلح معارضا لما سمعته وتسمعه من الأدلة ، كما أن ما قرره علي‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٣.

٢٤٥

عليه‌السلام على ما أرسله (١) غير واحد منهم المفيد في المقنعة والفاضل وغيرهما من وضع ثمانية وأربعين درهما على الغني ، وأربعة وعشرين درهما على المتوسط واثنا عشر درهما على الفقير ، على فرض ثبوته محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال إذ هو قضية في واقعة ، ففي‌ خبر مصعب (٢) المروي في التهذيب قال : « استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام على أربعة رساتيق المدائن ـ إلى أن قال ـ : وأمرني أن أضع على كل جريب ذرع غليظ درهما ونصفا ، وعلى كل جريب وسط درهما ، وعلى كل جريب ذرع رقيق ثلثي درهم ، وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم ، وعلى كل جريب نخل عشرة دراهم ، وعلى كل جريب البستان التي تجمع النخل والشجر عشرة دراهم ، وأمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى لمارة الطريق وابن السبيل ولا آخذ منه شيئا ، وأمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين ويتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية وأربعين درهما ، وعلى أوساطهم والتجار منهم على كل رجل منهم أربعة وعشرين درهما ، وعلى سفلتهم وفقرائهم اثنا عشر درهما على كل إنسان منهم قال : فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة » ‌

وعلى كل حال فلا يصلح معارضا لإطلاق الأدلة فضلا عن ما سمعته من الإجماع المحكي المعتضد بالنسبة إلى أهل البيت عليهم‌السلام في محكي السرائر وبالشهرة العظيمة ، وبصحيح (٣) زرارة « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما حد الجزية على أهل الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شي‌ء موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال : ذلك إلى الإمام (ع)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ٨ ـ ٥ ـ ١

٢٤٦

يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ما يطيق ، إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا ، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتى يسلموا ، فإن الله عز وجل (١) قال : ( حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) وكيف يكون صاغرا ولا يكترث بما يؤخذ منه حتى يجد ذلا لما أخذ منه ، فيألم لذلك فيسلم » ‌بل منه يستفاد أن ما وقع (٢) من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدينار وألفي حلة في صلح نصارى نجران ومن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد كان لما يراه من المصلحة ، بل منه يستفاد أنها عوض ، فلا يتقدر بقدر كالأجرة ، بل منه يستفاد أيضا أن ذلك هو المناسب للصغار المصرح به في القرآن الكريم كما أومأ إليه ابن إدريس في المحكي عنه تبعا للشيخ في محكي الخلاف ، قال : اختلف المفسرون في الصغار ، والأظهر أنه التزام أحكامنا عليهم ، وأن لا تقدر الجزية فيوطن نفسه عليها ، بل تكون بحسب ما يراه الإمام عليه‌السلام بما يكون معه ذليلا صاغرا خائفا ، فلا يزال كذلك غير موطن نفسه على شي‌ء ، فحينئذ يتحقق الصغار الذي هو الذل ، ولعله لذا قال المفيد في المحكي عنه : الصغار أن يأخذهم بما لا يطيقون حتى يسلموا ، وإلا فكيف يكون صاغرا وهو لا يكترث بما يؤخذ منه فيسلم ، بل ذكر غير واحد أن المشهور في تعريفه التزام الجزية بما يراه الإمام عليه‌السلام من غير أن تكون مقدرة ، والتزام أحكامنا عليهم ، لكن عن الإسكافي الصغار هو أن يشترط عليهم وقت العقد جريان أحكام المسلمين عليهم في الخصومات بينهم إذا تحاكموا إلينا ، وفي الخصومات بينهم وبين المسلمين ، وأن تؤخذ منهم وهم قيام‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٢٩.

(٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٤ و ١٩٥.

٢٤٧

وعن الشيخ في المبسوط هو التزام أحكامنا وجريانها عليهم ، وعن الشافعي هو تطأطؤ الرأس عند التسليم ، فيأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهازمه ، ولعل الأولى الجميع ، بل وغيره مما يتحقق به ، إذ المراد إهانتهم وإذلالهم الذي هو أشد من القتل عند ذوي النفوس العالية ، ولعله لذا كان المحكي عن التذكرة في تفسيره أن تؤخذ منه قائما والمسلم جالس ، وأن يخرج الذمي يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطئ رأسه ، ويصب ما معه في كفة الميزان ، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته ، واللهزمتان في اللحيين مجمع اللحم بين الماضغ والأذن ، وفي كنز العرفان « قيل هو أي الصغار أن يدفع ويقهر بحيث تظهر ذلته ، وقيل أن يجي‌ء ماشيا ويسلمها وهو قائم والآخذ جالس ، ويقال له أد الجزية وأنت صاغر ، ويصفع على قفاه صفعة ، وقال فقهاؤنا إنه التزام أحكام الإسلام أن تجرى عليهم ، وأن لا يقدر الجزية عليهم فيوطنوا أنفسهم على حال ، وقيل أن يأخذهم بما لا يطيقونه حتى يسلموا ثم ذكر الخبر ثم فيه أيضا « اختلف في معنى عن يد فقيل أن يعطوها نقدا لا نسية وقيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب ، فإنه أنسب بذلتهم ، وهو أقرب وقيل عن قدرة وقهر لكم عليهم ، وقيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام لكم عليهم بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم » قلت : لعل المنساق الثاني ، والله العالم.

وكيف كان ف مع ما ظهر لك وتبين من انتفاء ما يقتضي التقدير يكون الأولى إطراحه أي التقدير تحقيقا للصغار الذي قد عرفت تحققه بالتزام الذمي ما يقترح عليه ، فلا يعلم ما يكون عليه في كل سنة ، بخلاف ما إذا كان أمرا يقدر عليه ، فإنه ربما‌

٢٤٨

يكون فيهم من لا يكترث به فلا يصيبه صغار ، اللهمّ إلا أن تقتضي المصلحة ذلك ، والله العالم.

ويجوز وضعها على الرءوس أو على الأرض بلا خلاف أجده فيه ، بل ولا إشكال بعد الأصل والعمومات كتابا وسنة ، وخصوص النصوص (١) المتضمنة لإثبات كل منهما التي مر جملة منها وغيرها ، نعم في محكي الوسيلة ويضع الجزية على الرءوس أو على الأرض ولا يجمع بينهما وفي محكي النهاية الإمام (ع) مخير بين أن يضعها على رءوسهم أو على أرضهم ، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا ، ونحوه عن السرائر ، وظاهرها عدم جواز الجمع ، بل هو ظاهر محكي الغنية ، بل حكاه في المختلف عن القاضي أيضا واختاره ولكن قيل والقائل الإسكافي والتقي على ما حكي عنهما بجوازه ابتداء وتبعهما أكثر المتأخرين ، بل هو الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها ما سمعته من عدم موظف للجزية ، وأن تقديرها إلى الإمام عليه‌السلام كما وكيفا كما هو مقتضى الأصل وغيره ، بل هو المناسب للصغار ، ولما دل على مشروعية العقود بالتراضي ولغير ذلك ، ولا ينافيه‌ صحيح ابن مسلم (٢) عن الصادق عليه‌السلام « قلت له أرأيت ما يأخذ هؤلاء من الخمس من أرض الجزية ويأخذون من الدهاقين جزية رءوسهم أما عليهم في ذلك شي‌ء موظف ، قال : كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم ، وليس للإمام عليه‌السلام أكثر من الجزية ، إن شاء وضع الإمام عليه‌السلام على رءوسهم ، وليس على أموالهم شي‌ء ، وإن شاء فعلى أموالهم ، وليس على رءوسهم شي‌ء ، فقلت : هذا الخمس فقال : إنما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدو ٠ ـ ٢

٢٤٩

كان هذا شي‌ء صالحهم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌بعد ظهوره في كون المراد عدم جواز أخذ الإمام عليه‌السلام من الرءوس أو الأرض بعد العقد منهم على أحدهما المجمع عليه نقلا وتحصيلا ، بل هو مقتضى الوفاء بالعقد والشرط ، كخبر محمد بن مسلم (١) الآخر « سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم فيما يحقنون به دماءهم وأموالهم؟ قال : فإن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل له على أرضهم ، وإن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رءوسهم» ‌بل مقتضى‌ قوله عليه‌السلام في الأول « عليهم ما أجازوا على أنفسهم » ‌صحة العقد معهم عليهما ، مضافا إلى العمومات ، بل و‌قوله عليه‌السلام فيه أيضا : « هذا شي‌ء صالحهم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌بل وخبر مصعب (٢) المتقدم سابقا بناء على إرادة الجزية منه في الأراضي والرءوس.

ومن ذلك يظهر لك ضعف الاستدلال بهما للأول الذي لم يظهر المراد منه ، ففي المختلف بعد أن اختاره واستدل للقول الآخر بأن الجزية لا حد لها ، فجاز أن يضع قسطا على أرضهم ، قال : والجواب ليس النزاع في تقسيط جزية على الرءوس والأرض ، بل في وضع جزيتين عليهما ، وظاهره المفروغية من جواز تقسيط الجزية عليهما ، وأن النزاع في الجزيتين ، ولكنه كلام مجمل أيضا إذ من المعلوم عدم مدخلية النية في ذلك ، كما أن من المعلوم عدم مشروعية جزية أخرى بعد عقدها على أحدهما ، فإن التعدي عما اقتضاه العقد أولا غير جائز إجماعا ، ومن هنا كان ظاهر المنتهى أن النزاع في جواز توزيع الجزية على الرءوس والأرض ، قال : « ويتخير الإمام عليه‌السلام في وضع الجزية إن شاء‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣ ـ ٥

٢٥٠

على رءوسهم ، وإن شاء على أرضهم ، وهل يجوز أن يجمع بينهما فيأخذ منهم عن رءوسهم شيئا وعن أرضهم شيئا؟ قال الشيخان وابن إدريس لا يجوز ذلك ، وقال أبو الصلاح : يجوز الجمع بينهما ، وهو الأقوى عندي » إلى آخره ، وهو كالصريح في كون النزاع في توزيع الجزية على الأرض والرءوس ، وإن شئت سميتها جزيتين ، لكن على معنى إيقاع العقد عليهما ابتداء بالرضا من الإمام عليه‌السلام ومنهم ، لا على وجه التعدي عليهم ، ولعل هذا هو المراد من الابتداء في عبارة المتن ، وكأنه لذا قال ابن فهد في المحكي عن مهذبه : ويظهر لي أن النزاع لفظي ، لأن عقد الجزية إن تضمن تعيين أحدهما لم يجز تعديته إلى غيره إجماعا وإن لم يتضمن التعيين جاز للإمام عليه‌السلام أن يأخذ منهما ومن أحدهما ، لعدم المانع ، ولأن الجزية إذا لم تكن مقدرة لم يكن لقصرها على أحد المذكورين معنى لأنه جاز أن يأخذ من الرءوس بقدر ما يمكن أن يأخذ منهما ويزيد عليه ، إذ ليس لها قدر معين لا يجوز تخطيه ، وإن كانت عبارته لا تخلو من شي‌ء ، ضرورة كون المراد بلفظية النزاع هو أن المانع لم يجوز الأخذ من الآخر بعد تعيينها في غيره ، والمجوز يريد الجواز ابتداء في عقد الذمة بأن يجعلها على الرءوس والأراضي ، ولا ينبغي التوقف في جوازه ، بل إن شاء جعلها مع ذلك في المواشي وفي الأشجار وغيرها مما لهم ، ضرورة كونها على حسب ما يراه الوالي الذي قد عرفت أن له تضعيفها عليهم ، بل هو أنسب بالصغار كما عرفته مفصلا.

وعلى كل حال فإن أراد المانع عدم الجواز تعبدا ، وأن مشروعيتها ولو ابتداء إما على الرءوس أو على الأراضي كان محجوجا بالأصول‌

٢٥١

والعمومات وغيرها حتى ما تسمعه من بعض النصوص (١) في بحث ضم الضيافة ، مع عدم دليل له على ذلك إلا ما زعمه من دلالة الخبرين التي قد عرفت الحال فيها ، وإن أراد عدم الجواز بعد أن كان عقد الذمة على أحدهما كان صحيحا ، ضرورة كونه مخالفا لمقتضى العقد وأكل مال بالباطل ، بل لا يبعد فيما لو فرض عقدها دراهم على الرءوس مثلا عدم جواز أخذ مقدار الدراهم من الأراضي بدون رضاهم وبالعكس إذ هو خلاف مقتضى العقد ، بل لو اقترح عليهم الدراهم من الأرض لم يكن له ذلك إلا برضاهم ، لوجوب الوفاء بالعقد على حسب ما وقع والتخيير في الوفاء لهم كما هو واضح.

ومن ذلك يعلم النظر فيما عن التنقيح حيث أنه بعد نقل القولين مع الدليل من الطرفين قال : « والأقوى أن نقول إذا اتفقوا هم والإمام على قدر معين فأراد الإمام بعد ذلك تقسيطه على الرءوس والأموال جاز وأما إذا أراد جعل جزية أخرى على الأراضي فلا يجوز للرواية » قلت لعل تحقيق الحال أن يقال إن عقد الذمة شي‌ء وتقدير الجزية أمر آخر ضرورة أن عقد الذمة عبارة عن العهد لهم بالأمان وسكنى أراضي المسلمين بالجزية التي يبقى تقديرها إلى الإمام عليه‌السلام في كل سنة على حسب ما يراه من المصلحة ، وقد سمعت أن قبول الذمي على الإجمال هو الصغار أو من الصغار ، وحينئذ فله تقديرها على رءوسهم وعلى أراضيهم وعلى غير ذلك ، نعم لو فرض تعيين الجزية في الأراضي خاصة أو على الرءوس خاصة في ابتداء عقد الذمة معهم اتجه حينئذ عدم جواز تغييره وتبديله ، لعموم الوفاء بالعقد وبالشرط ، وأما في الأول فللإمام عليه‌السلام التصرف في تعيينها إلى حين استيفائها منهم ، إن شاء من‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٥ و ١٩٦.

٢٥٢

الأراضي ، وإن شاء من الرءوس ، وإن شاء من غيرهما ، وإن شاء من الجميع ، لأن الفرض وقوع عقد الذمة على إعطاء الجزية في كل سنة على حسبما يراه الوالي كما وكيفا ، بل يكفي في ذلك إطلاق عقد الذمة بالجزية من دون تصريح ، ضرورة بقاء تقديرها وكيفية أخذها موكولا إليه ، هذا ، وفي المسالك تبعا لحاشية الكركي احترز بقوله « ابتداء » عما لو وضعها على رأس بعض منهم وعلى أرض بعض آخر فانتقلت الأرض التي وضعت عليها إلى من وضعت على رأسه ، فإنه يجتمع عليه الأمران ، لكن ذلك ليس ابتداء ، بل بسبب انتقال الأرض إليه » وفيه ـ مع أنه مبني على كون الجزية على من انتقلت إليه الأرض وقد عرفت الكلام فيه سابقا ـ أن الاحتراز به عن ذلك إنما يتم لو قيد المنع به وليس كذلك ، فإنه قد أطلق المنع أولا ثم نقل قولا بالجواز بهذا القيد فيفيد المنع في غيره قولا واحدا لا الجواز ، كما لا يخفى ، ومن هنا كان ما ذكرناه أولا أولى ، والله العالم.

ويجوز أن يشترط عليهم مضافا إلى الجزية ضيافة مارة العساكر بل المسلمين مجاهدين أولا كما صرح به غير واحد ، بل في المسالك هذا هو المشهور في الأخبار (١) والفتاوى ، وهو الذي شرطه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في المنتهى ، بل عن التذكرة الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد الأصل والعمومات ، والمحكي من (٣) فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنتهى أنه ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار ، وكانوا ثلاثمائة نفر في كل سنة ، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ، وشرط على نصارى نجران إقراء‌

__________________

(١) و (٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٦.

(٣) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٥.

٢٥٣

رسله عشرين ليلة فما دونها ، وعارية ثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين درعا مضمونة إلى آخره ، وغير ذلك.

ولكن يحتاج مع ذلك أن تكون الضيافة معلومة بأن يقدر القوت والإدام وعلف الدواب وجنس كل واحد منهما ووصفه بما يرفع الجهالة وعدد أيام الضيافة كما صرح به غير واحد ، بل في المنتهى إذا شرط الضيافة وجب أن تكون معلومة بأن يكون عدد من يطعمونه من المسلمين في كل سنة معلوما ، ويكون أكثر الضيافة لكل أحد ثلاثة أيام ، لأن‌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) قال : « الضيافة ثلاث ، وما زاد صدقة » ‌والأقرب عندي جواز الزيادة على ذلك مع الشرط والتراضي ، فيقال : يضيفون في كل سنة خمسين يوما أو أقل أو أكثر في كل يوم عشرة من المسلمين أو أكثر ، ويعين القوت قدرا وجنسا فيقول لكل رجل كذا وكذا رطلا من الخبز ، ويعين الإدام من لحم وسمن وزيت وشيرج ، ويكون قدره معلوما ، ويعين علف الدواب من الشعير والتبن والقت ، لكل دابة شي‌ء معلوم ، فإن شرط الشعير قدره بمقدار معين ، وإن لم يشترط الشعير بل اشترط العلف فالوجه أنه لا يدخل فيه الشعير ، بل التبين والحشيش ، ولا يكلفوا الذبيحة ولا ضيافتهم بأرفع من طعامهم إلا مع الشرط معللين له بما عن المبسوط من عدم صحة العقد على المجهول ، نظرا إلى عموم الأدلة على اشتراط التعيين في العقود ، وهو كما ترى ، ضرورة عدم دليل على اعتبار المعلومية في كل عقد حتى عقد الذمة ، بل المحكي من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ذلك ، بل لا يبعد الاكتفاء بما تقتضيه العادة في المقدار والجنس والوصف وغيرهما كما أن الظاهر ابتناء ذلك على طهارتهم ، أو قبل‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٧.

٢٥٤

الحكم بنجاستهم ، ضرورة صعوبة التحرز عنهم مع الضيافة عندهم والاقتصار على الجامد والمائع الذي لم يعلم مباشرتهم له بما ينجسه ، فالمتجه حينئذ مع الحكم بنجاستهم اشتراط الضيافة عليهم بما لا يتجنبه المسلمون من حبوبهم ونحوها.

وكيف كان فقد ذكر المصنف أنه لو اقتصر على الشرط ولم يذكر إضافته إلى الجزية وجب أن يكون زائدا على أقل مراتب الجزية مع فرض كونها مقدرة ، وإلا وجب أن يكون أزيد من أقل ما تقتضي المصلحة وضعه عليهم من الجزية ، ولا يقتضي الإطلاق كون الضيافة من الجزية ، للتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) فإنه شرط الضيافة زيادة على الدينار على كل نفس على نصارى أيلة ، ولأنه لو شرط الضيافة من الجزية أو كان الإطلاق يقتضيه ولم يمر بهم أحد خرج الحول بغير جزية ، ولأن مصرف الجزية مصرف الغنيمة ، بخلاف الضيافة فإنها لا تختص بذلك ، بل يجوز اشتراطها لسائر المسلمين ، فلا بد معها من جزية ، وفي المسالك قد صرح بهذا التفسير العلامة في التذكرة وغيره قلت : قال في المنتهى أيضا : « يجب أن تكون الضيافة زائدة على أقل ما يجب عليهم من الجزية ، وهو أحد قولي الشافعي ، وفي القول الثاني أنها تحتسب من الدينار الذي هو قدر الجزية عنده ، لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرط على نصارى أيلة الضيافة زائدة على الدينار ، والدينار عنده مقدار الجزية لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه ، ولأنه لو شرط الضيافة عليهم من الجزية ولم يمر بهم أحد من المسلمين خرج الحول بغير جزية ، وهو باطل ، وفي حاشية الكركي « إنما اشترطت الزيادة ليتحقق الأمران أي الجزية والضيافة معا التي هي‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٥.

٢٥٥

مشروطة زائدا على الجزية ، وبهذا صرح الشيخ في المبسوط والمتأخرون لأن مصرفها مختلف » هذا ، وفي المسالك « وربما احتمل في العبارة ونظائرها معنى آخر ، وهو أن يكون المراد أنه مع الاقتصار على شرط الضيافة عليهم من غير أن يذكر الجزية تكون الضيافة قائمة مقام الجزية ويجب حينئذ كونها زائدة عن أقل ما يجب في الجزية لتحقيق الجزية ويجب حينئذ كونها زائدة عن أقل ما يجب في الجزية لتحقيق الجزية في ضمنها ، ويكون في قوة جزية وضيافة ، وعلى هذا الاحتمال ينبغي اختصاص ما قابل الجزية من الضيافة بأهل الفي‌ء ، ونظير هذه العبارة في مقام الاحتمال عبارة القواعد ، والحق أن المراد هو المعنى الأول ، وبه صرح في التذكرة محتجا عليه بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستلزام شرط الضيافة من الجزية سقوطها لو لم يمر بهم أحد ».

قلت : لا يخفى عليك ما في الكلام في جميع المسألة من الغبار ضرورة أنه على المعنى الأول لا يتجه الاقتصار على الشرط من دون عقد الذمة إذ هو شرط فيه ، فلا يتصور الاجتزاء بإطلاقه عنه ، ومع فرضه فلا بد من الجزية ، لما ستعرفه إن شاء الله أنها من أركان عقد الذمة ، وحينئذ يسقط اعتبار كونها زائدة عن أقل مراتب الجزية ، ضرورة عدم ارتباط مقتضى كل منهما بالآخر ، كما أن المتجه على تقدير احتسابها من الجزية وجوب أدائها لو لم يمر بهم أحد لا سقوطها في الحول ، بل لم يظهر وجه لاعتبار زيادتها على الأقل على الاحتمال ، ويكفي مساواتها لها ، والتعليل بأن ذلك لتكون الجزية في ضمنها وتكون في قوة جزية وضيافة لا محصل له على تقدير جواز قيامها مقام الجزية ، كما هو واضح كوضوح عدم دلالة ما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اعتبار زيادة الضيافة على الجزية ، إذ لا إشكال في جواز اشتراط الضيافة‌

٢٥٦

زيادة على قدر الجزية مع التراضي ، بل الظاهر جواز جعلها جزية مع المصلحة ، ودعوى اختصاص مصرفها مطلقا بأهل الفي‌ء ممنوع وإن كان قد يشهد له‌ خبر ابن أبي يعفور (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية ، وإنما الجزية عطاء المهاجرين ، والصدقة لأهلها الذين سمى الله في كتابه ، فليس لهم من الجزية شي‌ء ، ثم قال : ما أوسع العدل إن الناس يستغنون إذا عدل بينهم ، وتنزل السماء رزقها ، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى » ‌ونحوه خبر محمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام ، لكن لعل المراد خصوص ما يجمع من الجزية ، لا أن المراد ما يشمل ما نحن فيه من جواز جعل الجزية ذلك مع اقتضاء المصلحة ، وتسمع إن شاء الله تمام الكلام في مصرفها ، وكان المراد لمن تعرض لذلك الرد على الشافعي القائل بوجوب اعتبار الضيافة منها بناء منه على تقديرها بالدينار من دون زيادة ولا نقصان ، فلم يحسنوا التأدية عن ذلك ، فوقع في العبارات وفي تفسيرها تشويش.

ثم إن ظاهر النصوص والفتاوى تكرار الجزية في كل حول ، وأن حالها حال الزكاة والخراج الذي على الأرض ، بل هو في أرضهم ضرب منها ، بل لعل المنساق منها أنها تجب في آخر الحول كما صرح به الفاضل في المنتهى حاكيا له عن الشافعي أيضا خلافا لأبي حنيفة فتجب في كل حول في أوله ، وهو مخالف لما يستفاد من النصوص (٣) من كونها تجبى‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ٦٩ من أبواب جهاد العدو الحديث ١ ـ ٢

(٣) الوسائل ـ الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدو.

٢٥٧

كجباية الخراج ، وقد سمعت خبر مصعب (١) بل النصوص (٢) الواردة في الخراج كالصريحة في كون جزية الرءوس على نحو ذلك ، بل المفهوم من سيرة العمال وقوله تعالى (٣) ( حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ) لا يقتضي أزيد من استحقاق إعطائها ولو في آخر الحول.

وحينئذ ف إذا أسلم الذمي قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية على الأظهر بل لا أجد فيه خلافا في الأول بل في المنتهى ومحكي التذكرة الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما تسمعه في الثاني الذي هو المشهور شهرة عظيمة ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، ولعله كذلك ، إذ لا أجد فيه خلافا إلا ما عساه يظهر من مفهوم عبارة الحلبي المحكية في المختلف ، قال : لو أسلم قبل حلول الحول سقطت عنه نفسه الجزية ، ولعله غير مراد له ، وإلا كان مخالفا في الأول بالنسبة إلى ما مضى منها ، ولم يحكه أحد عنه ، نعم هو أحد قولي الشافعي ، وعلى تقديره فهو محجوج بما سمعت من الإجماع وغيره ، وإلا ما حكاه الفاضل عن الشيخ في الخلاف ، ولم نتحققه ، خصوصا بعد أن حكى هو عنه السقوط ، وإن كان يحتمل كونه في غير الخلاف ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه بعد النبويين المستغنيين بشهرتهما نقلا وعملا عن البحث في سنديهما ، أحدهما (٤) « الإسلام يجب ما قبله » والآخر (٥) « ليس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٦٨ من أبواب جهاد العدو الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ٧٢ من أبواب جهاد العدو.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٢٩.

(٤) المستدرك ـ الباب ١٥ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ٢ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٤٩ وكنز العمال ج ١ ص ١٧ الرقم ٢٤٣ وجامع الصغير ج ١ ص ١٢٣.

(٥) المستدرك ـ الباب ٦١ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣٤.

٢٥٨

على المسلم جزية » ‌المعتضدين بما سمعت من الإجماع‌ وبالنبوي الثالث (١) « لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج يعني الجزية » ‌وبقوله تعالى (٢) ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) وبأن وضعها للصغار والإهانة للرغبة في الإسلام المنزه عنهما المسلم ، وبظهور دليل وجوبها في الإعطاء صاغرا ، ومن المعلوم عدمه في المسلم ، وبفحوى سقوطها في الأول الذي قد عرفت الإجماع عليه الصادق على ما قبل الحول ولو بساعة وأقل ، ومنه يعلم ضعف التمسك بالاستصحاب الذي هو موجود فيهما ، فعدم مراعاته في الأول المجمع عليه يمكن أن يكون لكونه مشروطا بعدم الإسلام قبل حول الحول ، لظهور أدلة أخذها منه صاغرا في كونه باقيا على اليهودية ، وهو بعينه آت في الثاني ، ضرورة ظهوره في كونه وقت الأداء الذي هو الإعطاء كذلك أيضا ، بل منه يعلم كون المراد عدمها على المسلم الشامل لمحل الفرض ، كما أن منه يعلم إرادة ما يشمل المقام من خبر الجب ، ودعوى أنها من الديون التي لا يجبها الإسلام يدفعها ظهوره في جب الإسلام ما كان يقتضيه الكفر ، والجزية وإن كانت كالدين إلا أنها من مقتضيات الكفر الذي جبه الإسلام ولو أغضينا عن ذلك كله وقلنا بحصول الشك من تصادم الاستصحاب والإجماع المحكي وغير ذلك مما عرفت كان المتجه البراءة لأصالتها ولا يقطعها الاستصحاب الذي فرضناه من أسباب الشك.

نعم لو مات الذمي بعد الحول وهو ذمي لم تسقط وأخذت من تركته كالدين بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير واحد بل ولا إشكال ، خلافا لأبي حنيفة فتسقط ، لأنها عقوبة كالحد‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٩٣.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ٣٩.

٢٥٩

وهو كما ترى قياس فاسد ، بل لو مات في أثناء الحول أخذ القسط من تركته كما صرح به الفاضل والإسكافي فيما حكي عنه ، وإن كان لو لم يمت لم يطالب بها في الأثناء على ما صرح به في المنتهى قال : « ولو لم يمت لم يطالب في أثناء السنة مع عقد العهد على أخذها في آخر السنة لأن الالتزام بالشرط واجب » وظاهره الفرق مع الشرط المزبور بين حالي الموت في الأثناء والحياة ، وإن كان قد يناقش بأن حق الشرط لا يسقط بالموت ، اللهمّ إلا أن يكون هذا من قبيل الأجل الذي يحل بالموت ، ولكن يتجه عليه أخذها جميعا حينئذ منه ، ضرورة كونها دينا قد حل أجله لا القسط ، ودعوى أنها معاوضة على المكث في أرض المسلمين فهي كالإجارة في التقسيط تهجس ، إذ يمكن كونها عوضا عن حقن الدم ونحوه مما يقتضيه الكفر ، فتكون حينئذ كغيرها من الديون ، ولذا صرح في المنتهى بضرب الإمام بقدرها كسائر الغرماء لو أفلس أو مات وكانت تركته قاصرة.

ولو لم يخلف شيئا لم يطالب وارثه ، كما أنه لو مات قبل الدخول في الحول لم يؤخذ من تركته شي‌ء بل لو كان قد استسلفها الإمام عليه‌السلام منه ردها على وارثه ، والمراد باستسلافها أخذ الإمام عليه‌السلام لها قبل زمان حلولها ، وقد صرح غير واحد بجواز ذلك ، ولكن الظاهر كون المراد مع التراضي ، وإلا فللذمي الامتناع عن ذلك ، إذ ليس عليه مع أداء الجزية شي‌ء كما صرح به غير واحد ، بل هو ظاهر الكتاب والسنة ، ولو استسلف الإمام (ع) ثم أسلم في أثناء الحول ففي المنتهى رد عليه قسط باقي الحول ، قال : « وهل يرد لما مضى؟ الأقرب عدمه ، والفرق بين أن يؤخذ منه وأن لا يؤخذ منه ظاهر لتحقق الصغار للمسلم في الثاني دون الأول » وفيه أن المتجه الرد إن كان المراد‌

٢٦٠