جواهر الكلام - ج ٢١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأمان قبل إجماعا كما في المنتهى ، لقاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به ، وإلا فلا بأن كان إقراره بعد الأسر لم يصح ، لأنه لا يملكه حينئذ حتى يملك الإقرار به ، بل هو في الحقيقة إقرار في حق الغير ، نعم لو قامت للمشرك بينة على ذلك ثبت وجرى عليه حكم الأمان ، وكذا لو أقر جماعة كما عن الشيخ وغيره التصريح به ، ضرورة أن تعدد المقر لا يقتضي كونه من الشهادة التي موضوعها الإخبار الجازم بحق للغير لا ما يشمل فعل أنفسهم ، فما عن بعض الجمهور من القبول لكونهم عدولا غير متهمين واضح الفساد ، نعم لو شهد بعض أنه أمنه بعض آخر اتجه القبول حينئذ مع حصول شرائطه من العدالة ونحوها

ولو ادعى الحربي على المسلم الأمان فأنكر المسلم ولا بينة فالقول قوله كما في القواعد وغيرها للأصل ، بل صرح فيها كما عن جماعة بعدم اليمين عليه للأصل ، ولعله لما قيل من أن الأسر والقتل حكمان ثابتان على الحربي ، وبمجرد دعواه لا يسقطان ، وأن إنكار المسلم لا يأتي على حق يترتب عليه ، بل على ما يقتضي سقوط ما قد علم ثبوته من الأسر والقتل ، وإن كان لا يخلو من نظر كما اعترف به في المسالك ، قال : « لأنه إن كان في حالة يمكن المسلم فيها إنشاء الأمان أو ينفعه إقراره له فيبقى على القاعدة المشهورة : البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وإن كان في وقت لا ينفعه كما لو كان أسيرا لم يثبت عليه يمين ، لأن إقراره في تلك الحال لا ينفعه ، بل إنشاؤه كذلك » ويمكن الجواب عن الأول بأن الحق في الأمان ليس منحصرا في المسلم ، بل يتعلق به وبغيره ممن استحق المال والنفس ، فيكون ذلك كالوكيل الذي يقبل إقراره ولا يتوجه عليه يمين ، قلت : قد يقال إن دعوى الحربي إن كانت وهو باق على امتناعه لم يتوجه له يمين على‌

١٠١

المسلم ، لأن له الرجوع عن الأمان في تلك الحال ، فإنكاره حينئذ بمنزلة رجوعه ، وقولهم يجب الوفاء به يراد به بعد غرور الحربي وركونه إليه وصيرورته في قبضته ، لأنه حينئذ يكون غدرا ، وربما كان في قوله تعالى ( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) إشارة إلى إرادة وجوب الوفاء بهذا المعنى وإن كانت منه على من جاء به كما تسمعه من المنتهى فقد يقال بتوجه اليمين كما ستعرف ، وإن كانت دعواه على غيره فلا يمين له عليه ، لما عرفت ، فتأمل. ولو حيل بينه وبين الجواب بموت أو إغماء لم تسمع دعوى الحربي إلا بالبينة ، لعدم ما يدل عليها ، فيبقى العموم بحاله ولكن في الحالين يرد إلى مأمنه ثم هو حرب كما في الكتب السابقة معللا له في الأخيرين بالشبهة ، وفيه أنه مناف للحكم بتقديم قول المسلم وعدم قبول دعواه ، فإن مقتضاهما جريان حكم الأسر والقتل عليه ، وليس في الأدلة درء ذلك عنه بمجرد الشبهة نحو ما جاء في الحد وإنما فيها دخول الحربي بشبهة الأمان ، وهو يقتضي تحقق اشتباهه لا الاكتفاء بمجرد دعواه ، والاحتياط في الدماء في غير أهل الحرب ، ولكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط مع إمكانه ، وفرض المسألة في المنتهى « أنه لو جاء المسلم بمشرك فادعى أنه أسره وادعى الكافر أنه أمنه قال : فالقول قول المسلم ، لأنه معتضد بالأصل ، وهو إباحة دم الحربي وعدم الأمان ، وقيل يقبل قول الأسير لأنه يحتمل صدقه فيكون هذا شبهة يمنع من قتله ، وقيل يرجع إلى من يعضده الظاهر فإن كان الكافر ذا قوة ومعه سلاحه فالظاهر صدقه ، وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه ، والوجه الأول ، ولو صدقه المسلم قال أصحاب الشافعي لا يقبل ، لأنه لا يقدر على أمانه ولا يملكه ، فلا يقبل‌

١٠٢

إقراره ، وقيل يقبل ، لأنه كافر لم يثبت أسره ، ولا نازعه فيه منازع فيقبل قوله في الأمان » قلت : لا يبعد القبول مع كونه في يد المسلم وتحت سلطانه ، إذ الحق راجع إليه ، بل قد يشك في جريان الأصل في أصل المسألة بدعوى اعتبار كون الأسر وهو محارب في ترتب الأحكام وإن كان يمكن دفع ذلك بأصالة صحة فعل المسلم ، وأصالة عدم صدور الأمان منه ، على أن ذلك يقتضي سد باب التمكن منه ، ضرورة إمكان الدعوى على كل حال ، وأيضا الأمر غير منحصر في الدم حتى يتجه الاحتياط فيه ، لأنه قد يكون الاستيلاء مقتضيا للاسترقاق ، كما لو كان الأسير امرأة وملكية المال ونحو ذلك ، ولو كانت الدعوى على غير من جاء به فلا يمين له على المنكر ، لأن إقراره في تلك الحال غير مجد نعم له اليمين على من جاء به على نفي العلم بأمان غيره له إذا قلنا إن إقراره يجدي في تلك الحال ، وبالجملة فالمسألة غير محررة في كلامهم وفي‌ المروي في دعائم الإسلام (١) عن علي عليه‌السلام « إذا ظفرتم برجل من أهل الحرب فإن زعم أنه رسول إليكم فإن عرف ذلك وجاء بما يدل عليه فلا سبيل لكم عليه حتى يبلغ رسالته ويرجع إلى أصحابه وإن لم تجدوا على قوله دليلا فلا تقبلوا » ‌هذا ، وفي القواعد لا يعقد أكثر من سنة ، ولكن لم يحضرني ما يدل عليه ، بل قد سمعت إطلاق الأدلة ، وفي المنتهى إذا انعقد الأمان وجب الوفاء به بحسب ما شرط أو غيره إجماعا ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع بلا خلاف ، وستسمع الكلام في نحو ذلك في المهادنة إن شاء الله وإن عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن في دار الإسلام دخل ماله تبعا في وجوب الوفاء له ، وعدم جواز التعرض له وإن لم يذكره بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ٣٧ من أبواب جهاد العدو الحديث ٢.

١٠٣

في المنتهى ضرورة اقتضاء الأمان الكف عنه ، وأخذ ماله مناف لذلك ولو ذكر ماله في الأمان كان تأكيدا ولو التحق بدار الحرب فإن كان لتجارة أو رسالة أو تنزه وفي نيته العود إلى دار الإسلام فالأمان باق لبقاء نيته على الإقامة ، وإن كان للاستيطان بها انتقض أمانه لنفسه بنقض ما هو كالشرط عليه دون ماله الذي ثبت الأمان له ، ولم ينتقض بما انتقض به أمان النفس ، فيستصحب ، ولا ينافي ذلك تبعية المال للنفس في الأمان ، ضرورة اقتضائها ثبوت الأمان له ، لا دوران أمانه على أمانها ، فيجب حينئذ رده إليه لو طلبه ، وصح له بيعه وهبته وغير ذلك من التصرفات ، إذ هو بالتبعية المزبورة صار كالمصرح بأمانه مستقلا ، نعم لو أخذه إلى دار الحرب انتقض الأمان فيه ، بل وكذا لو كان قد اشترط عليه عدم الأمان لما له إذا استوطن دار الحرب ، ولعل هو مراد من قيد بقاء الأمان للمال بما إذا كان الأمان مطلقا ، فلو كان مقيدا بكونه في دار الإسلام انتقض أمان المال أيضا ، فلا يرد عليه بما في المسالك من أن الأمان لا يكون إلا في دار الإسلام ، ومن ثم يبطل أمانه لو انتقل إلى دار الحرب بنية الإقامة أما لو دخله بنية العود لم ينتقض أمانه في نفسه ولا ماله قطعا ، والله العالم.

ولو مات أو قتل انتقض الأمان في المال أيضا إذا لم يكن له وارث مسلم وصار فيئا ، ويختص به الإمام عليه‌السلام ، لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو من الأنفال التي جعلها الله له عليه‌السلام كإرث من لا وارث له وكذا الحكم لو مات في دار الإسلام ولم يكن له وارث مسلم ، ضرورة كون الوجه فيهما معا بناء على ما‌

١٠٤

صرح به الفاضل وغيره انتقاله إلى وارثه الكافر الذي لم يعقد له الأمان خلافا لابن حنبل والمزني والشافعي في أحد قوليه ، فيبقى الأمان فيه لوارثه باعتبار انتقاله إليه متعلقا به حق الأمان كالرهن ونحوه ، وفيه منع كون الأمان حقا كذلك ، وإنما هو متعلق بذي المال وقد مات وللشافعي قول آخر يكون غنيمة ، وفيه أنه غير مأخوذ بقهر وغلبة ، وكذا الكلام في الذمي لو مات في دار الإسلام وله وارث حربي كما هو واضح ، كذا قالوا ، ولكن الإنصاف عدم خلو ذلك عن بحث ونظر إن لم يكن إجماع ، ضرورة ملكيته لمن في يده المال لكونه مال حربي ، قد استولى عليه ، بناء على انتقاض الأمان فيه بالموت ، بل لا يخلو ما سمعته من ابن حنبل من وجه ، خصوصا إذا كان وارثه معه ولو متجددا له بولادة ونحوها.

ولو أسره المسلمون لم يزل الأمان على ماله ، لكن لا يخلو إما أن يمن عليه الإمام عليه‌السلام أو يفاديه أو يقتله أو يسترقه ، ففي الأولين يرد ماله إليه ، وفي الثالث يكون ماله للإمام عليه‌السلام إذا لم يكن له وارث إلا الحربي على حسب ما عرفت ، وفي الرابع الذي أشار إليه المصنف بقوله فإن استرق ملك ماله تبعا لرقبته كما في القواعد مع زيادة ولا يختص به من خصه الإمام برقبته ، بل للإمام عليه‌السلام وإن أعتق ، وفي المنتهى « وإن استرقه زال ملكه عنه لأن المملوك لا يملك شيئا وصار فيئا ، وإن أعتق بعد ذلك لم يرد إليه ، وكذا لو مات لم يرد على ورثته سواء كانوا مسلمين أو كفارا ، لأنه لم يترك شيئا » وفي المسالك التصريح بكون ماله فيئا للإمام عليه‌السلام نحو ما سمعته من القواعد ، قال : « فقول المصنف ملك ماله تبعا أراد به التبعية في الملك لا في المالك ، فلا يستحقه مسترقه ، لأنه مال‌

١٠٥

لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، ولو أعتق بعد ذلك لم يعد عليه ، أما لو من عليه عاد إليه » قلت : ظاهرهم بناء المسألة على مسألة مالكية العبد وعدمها ، وأنه لا فرق في ذلك بين الابتداء والاستدامة ، فيتجه حينئذ بناء على القول بها كما هو ظاهر المصنف فيما يأتي إن شاء الله ولو لاستدامة بقاء المال على ملكيته ، ولكن يثبت سلطان المولى عليه بواسطة ثبوت سلطانه على المالك ، فيصح له جميع التصرفات فيه ، بخلاف العبد فإنه محجور عليه للآية (١) ولثبوت حق المولى في المال ولو على الوجه المزبور ، فلا يصح تصرفه في شي‌ء منه بدون إذنه ، وحينئذ فبقاء عبارة المصنف على ظاهرها من التبعية في المالك حينئذ أولى ، بل الظاهر ذلك أيضا في غير المال المزبور من أمواله التي في دار الحرب ، ولعل هذا من أكبر الشواهد على قابلية العبد للملك ولو الاستدامي باعتبار كونه مالكا قبل العبودية ، وأقصى ما يدل على عدم ملكية العبد على القول به عدم ابتداء ملكه وهو عبد لا ما ملكه سابقا ، إذ على القول بعدمها يزول ملكه بمجرد استرقاقه ، فيبقى بلا مالك ، أو يدخل في ملك من استرقه وإن لم يستول على المال ، لكونه في دار الحرب مثلا أو يكون للإمام عليه‌السلام لأنه من الأنفال التي منها المال الذي لا مالك له ، أو لمن هو في يده ولو كافر إن كان في يد ، وإلا فهو مباح والكل لا تساعد عليه الأدلة ، بل هو مجرد تهجس ، وقولهم « العبد وماله لمولاه » لا يراد منه ما يشمل ما نحن فيه ، بل المراد به بناء على الملكية أن سلطنة التصرف للمولى وإن كانت العين ملكا للعبد ، فيصح بهذا الاعتبار نسبته إلى كل منهما ، وعلى عدم الملكية ضرب من التجوز في مالية‌

__________________

(١) سورة النحل ـ الآية ٧٧.

١٠٦

العبد كالاختصاص ونحوه ، وقد أشبعنا الكلام في المسألة في محله ، والحمد لله ، فلاحظ وتأمل ، والله العالم.

ولو دخل المسلم دار الحرب مستأمنا فسرق وجب إعادته أي المسروق كما صرح به الفاضل وغيره سواء كان صاحبه في دار الإسلام أو دار الحرب قيل لظهور أمان المستأمن في عدم خيانته لهم وإن لم يكن مصرحا به ، ولكن لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا فإن الأمان لا يقتضي أزيد من مأمونية المستأمن لا العكس ، ولعل الأولى الاستدلال بالنهي عن الغلول والغدر لهم ، ضرورة أولوية هذا الفرد من غيره ، والله العالم.

ولو أسر المسلم الحربيون وأطلقوه بأمان وشرطوا عليه الإقامة في دار الحرب والأمن منه لم تجب عليه الإقامة بل تحرم مع التمكن من الهجرة على حسب ما عرفت سابقا وحرمت عليه أموالهم بالشرط كما في المنتهى وغيره ، ولكن فيه أنه شرط لا يجب الوفاء بالعقد الذي تضمنه ، بل هو في الحقيقة ليس عقدا مشروعا ولذا لو أطلقوه على مال لم يجب الوفاء لهم به فالأولى الاستدلال بإطلاق النهي عن الغلول والغدر ، نعم لو هرب منهم كان له الأخذ من مالهم كما في المنتهى لإباحة أنفسهم وأموالهم للمسلمين ، فليس غلولا ، ولا غدرا في الحقيقة كي يشمله النهي المزبور عنهما.

ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فاقترض مالا من حربي وعاد إلينا ودخل صاحب المال بأمان ففي المنتهى كان عليه رده إليه ، لأن مقتضى الأمان الكف عن أموالهم ، قلت هو كذلك وإن لم يدخل المقرض إلينا ، وكذا قوله أيضا ولو اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل المقترض إلينا بأمان فإن عليه رده إليه ، لأن الأصل وجوب الرد‌

١٠٧

ولا دليل على براءة الذمة ، والله العالم.

ولو أسلم الحربي وفي ذمته مهر لزوجته وكانت قد أسلمت معه أو قبله كان لها المطالبة به إن كان مما يملكه المسلم ، وإلا فقيمته وإن كان قد أسلم هو خاصة لم يكن للزوجة مطالبته ولا لوارثها الحربي كما صرح به الفاضل وغيره ، لأنهم حربيون ، ولا أمان لهم على ذلك ، فله منعه عليهم ، بل في المسالك « أن مقتضى إطلاق المصنف الوارث عدم الفرق بين المسلم منه والحربي ، وهو متجه من حيث أن إسلام الزوج قبلها أوجب استيلاءه على ما أمكنه من مالها الذي من جملته المهر ، وكلما استولى عليه يملكه كغيره من أموال أهل الحرب وكونه في ذمته بمنزلة المقبوض في يده ، فينبغي أن يملكه بإسلامه مع بقائها على الحربية ، وحينئذ فلا يزيله ما يتجدد من إسلامها ولا موتها مع كون وارثها مسلما ، فهذا الإطلاق في محله ، وكذلك أطلق العلامة في كثير من كتبه » قلت قد تبعه على ذلك الأردبيلي ، ومقتضاه أن الحكم كذلك في سائر الديون وإن كانت ثمن مبيع ، ولكن في حاشية الكركي أن الذي صرح به جماعة عدم السقوط ، بل حكى في المسالك بعد ذلك عن جماعة من الأصحاب أن الحربي إذا أسلم سقط عنه مال أهل الحرب الذي كان في ذمته إذا كان غصبا أو إتلافا أو غير ذلك مما حصل بغير التراضي والاستئمان ، وأما ما ثبت في ذمته بالاستئمان كالقرض وثمن المعاوضات فإنه يبقى في ذمته بشبهة الأمان وإن لم يكن وقع صيغة أمان ، ويؤيده ما ذكروه من أن المسلم أو الحربي لو دخل إليهم وخرج لهم بمال ليشتري به شيئا لم يجز التعرض له ، لأنه أمانة وكذا لو دفعوا إلى أحد شيئا وديعة لم يجز التعرض لها إلحاقا للأمانة بالأمان.

١٠٨

ولا يخفى عليك حينئذ الإشكال فيما ذكره مضافا إلى ما صرح به الفاضل في المنتهى والتذكرة ومحكي التحرير في مفروض المسألة بأنه ليس لها ولا لورثتها الكفار المطالبة ، أما إذا كانوا مسلمين فإن لهم المطالبة ، وأولى من ذلك ما لو أسلمت هي بعد إسلام الزوج ، ضرورة أن استحقاق الوارث فرع استحقاقها ، بل عنه في الإرشاد في باب النكاح التصريح بأن إسلام الزوج الحربي يوجب للحربية عليه نصف المهر إن كان قبل الدخول ، وجميعه إن كان بعده ، ومقتضى ثبوت ذلك لها في ذمته أن لها المطالبة به لو أسلمت أو ماتت وكان لها وارث مسلم ولو الإمام عليه‌السلام ، بل مقتضى ما ذكره هو من التأييد أن لها المطالبة به وهي كافرة ، ولعل التحقيق في المسألة سقوط مطالبتها به وهي حربية وعدم وجوب الأداء لها كذلك ، ولكن لا يملكه ، لأنه في ذمته ، وليس عينا كي تدخل في ملكه باغتنامها وحيازتها ، فإذا أسلمت هي بعده أو ماتت وكان لها وارث مسلم صحت المطالبة به ، لكون المال باقيا على ملكها أو ملك وارثها ، وإنما امتنع وجوب الأداء باعتبار كونها حربية فلا يجب لها على المسلم شي‌ء إما لأنه سبيل ، أو لأن المراد من جب الإسلام ما قبله ذلك ونحوه مما هو من التكاليف الشرعية ، بخلاف ما كان بالمعاملات والتجارة عن تراض وما أشبه ذلك.

ومن هنا أمكن الفرق بين عوض المتلفات والغصب ونحوهما وبين المعاملات إذا فرض كون الحكم اتفاقيا ، فلا يجب الوفاء بالأولى بل تبرأ الذمة بالإسلام ، لكونه من قبيل التكاليف مثل قضاء الصلاة والصوم وإن كان له جهة دينية ، إلا أنه ليس من جميع الوجوه ، بخلاف ما كان بالمعاملة كالقرض وثمن المبيع ونحو ذلك مما يقع بين المشركين والمسلمين ويحكم بصحته ، بخلاف مثل الإتلاف الذي لو وقع من‌

١٠٩

المسلم لم يطالب به ، لأن مال الحربي ونفسه هدر ، فيمكن أن يكون ذلك كذلك حتى لو وقع فيما بينهم ، وإن كانوا يلزمون بما ألزموا به أنفسهم ، فليس في الحقيقة عليه دين ، وإنما هو مجرد تكليف بالإسلام يسقط ، وليس كذلك ثمن المبيع ونحوه ، وإن كان لا يجب الأداء عليه بعد الإسلام بالمطالبة بعد فرض كون من له المال حربيا ، إلا أنه دين ثابت عليه في ذمته ، وحينئذ فالمتجه تنزيل عبارة المصنف وغيرها ممن أطلق على ما إذا كان الوارث حربيا ، بل لعل الظاهر منها ذلك ، وأما احتمال الفرق بين المهر وغيره من ثمن المبيع ونحوه كاحتمال جواز تملك من أسلم ما في ذمته مطلقا فمناف لظاهر كلام الأصحاب بل وللأدلة من الاستصحاب وغيره ، فتأمل جيدا ، فإن منه يظهر لك وجه النظر فيما أطنب فيه في المسالك بلا حاصل يرجع إليه.

وكيف كان ف لو ماتت الزوجة قبل إسلام الزوج وكان لها وارث مسلم ثم أسلم أو أسلمت هي قبله ثم ماتت طالبه وارثها المسلم دون الحربي بلا خلاف بل ولا إشكال ، أما في الأول فلانتقال المهر للوارث المسلم ، فلا يسقط بإسلامه ، وأما في الثاني فلثبوت الحق للمسلمة وينتقل منها إلى وارثها ، كما هو واضح ، والله العالم‌

خاتمة فيها فصلان ، الأول في التحكيم الذي هو العقد مع الكفار بعد التراضي على أن ينزلوا على حكم حاكم ، فيعمل على مقتضى حكمه ، وإليه أشار المصنف بقوله. يجوز أن يعقد العهد على حكم الإمام عليه‌السلام أو غيره ممن نصبه للحكم وإن كان فيه بعض القصور ، وعلى كل حال فلا خلاف في مشروعيته ، وقد رواه العامة والخاصة ، ففي رواية الجمهور (١) « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما‌

__________________

(١) سيرة ابن هشام القسم الثاني ص ٣٤٠ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٨٨.

١١٠

حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك ، فحكم عليهم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقد حكمت بما حكم الله تعالى به فوق سبعة أرفعة أي سبع سماوات » وفي‌ خبر مسعدة بن صدقة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن يؤمره على سرية « وإذا حصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله تعالى فلا تنزلهم ، ولكن أنزلهم على حكمكم ، ثم اقض فيهم بعد بما شئتم ، فإنكم إن أنزلتموهم على حكم الله لم تدروا تصيبوا حكم الله فيهم أم لا وإذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أبنائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله » ‌ونحوه في رواية الجمهور (٢) ومن هنا كان المحكي عن محمد بن الحسن الشيباني من العامة عدم جواز إنزال الإمام لهم على حكم الله تعالى ، بل في المنتهى الذي رواه علماؤنا المنع ، وقال أبو يوسف : يجوز ذلك ، لأن حكم الله تعالى معلوم ، إذ هو في حق الكفرة المقاتلين القتل والاسترقاق في ذراريهم والاستغنام لأموالهم ، قلت : لا ينبغي التأمل في جواز ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام الذي هو معصوم عن الخطإ ، نعم هو غير جائز لأئمتهم ، فلا وجه لما يظهر من الفاضل من المنع ، خصوصا بعد‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ « قد حكم الله بذلك فوق سبعة أرفعة » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٥ من أبواب جهاد العدو الحديث ٣.

(٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٨٤ وكنز العمال ج ٢ ص ٢٩٧ الرقم ٦٢٨٠.

١١١

وما سمعته من أبي يوسف من الجواز لأن حكم الله معلوم يدفعه أن المراد بالنزول على حكم الله هو تعيين أحد أفراد التخيير المذكورة عند الله تعالى شأنه ، ولا ريب في كونه غير معلوم لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام عندنا ، كما هو واضح.

وكيف كان ف يراعى في الحاكم كمال العقل إذ لا عبرة بحكم الصبي والمجنون والسكران ونحوهم والإسلام المستغنى عن ذكره بقوله والعدالة لعدم كون الفاسق محل ائتمان لما هو دون ذلك ، بل هو ظالم منهي عن الركون إليه ، وحكومة أبي موسى الأشعري المعلوم فسقه أو كفره كعمرو بن العاص لم تكن برضا أمير المؤمنين عليه‌السلام كما هو معلوم من كتب السير والتواريخ وهل تراعى الذكورة والحرية؟ قيل نعم لقصور الامرأة والعبد عن هذه المرتبة وظهور‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنزلوهم على حكمكم » ‌في غيرهما ولكن فيه تردد من ذلك ، ومن إطلاق الفتاوى ، وانجبار القصور باعتبار العدالة والمعرفة بالمصالح الحاضرة والمتأخرة ، بل واعتبار المعرفة في الأحكام الشرعية كي لا يكون حكمه مخالفا للشرع ، هذا ، وفي المنتهى « يشترط في الحاكم شروط سبعة : أن يكون حرا مسلما بالغا عاقلا ذكرا فقيها عدلا » وفيه أن شرط العدالة يغني عن اشتراط البلوغ والإسلام وأما الذكورة والحرية فقد عرفت الكلام في اشتراطهما ، ولعل الأقوى عدمه لما عرفت.

والظاهر جواز كونه أعمى أو محدودا في قذف مثلا وتاب أو أسيرا معهم ، خلافا لبعض العامة لوجوه اعتبارية مدفوعة باعتبار العدالة والمعرفة والفقاهة.

١١٢

ولا خلاف في أنه يجوز المهادنة على حكم من يختاره الإمام عليه‌السلام بل في المنتهى الإجماع عليه ، لأنه لا يختار إلا الصالح للحكم دون المهادنة على حكم من يختاره أهل الحرب إلا أن يعينوا رجلا تجتمع فيه شروط الحاكم كما وقع من بني قريظة حيث اختاروا سعد بن معاذ فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ولكن لا يخفى عليك أن هذا ليس مهادنة على اختيارهم ، وقد سمعت الأمر بإنزالهم على حكمكم ، وفي المنتهى « لو نزلوا على حكم رجل غير معين وأسندوا التعيين إلى ما يختارونه لأنفسهم قبل ذلك منهم ثم ينظر فإن اختاروا من يجوز أن يكون حاكما قبل منهم ، وإن اختاروا من لا يجوز تحكيمه كالعبد والصبي والفاسق لم يجز اعتبارا للانتهاء بالابتداء وقال الشافعي : لا يجوز إسناد الاختيار إليهم ، لأنهم ربما يختارون من لا يصلح لذلك ، والأول مذهب أبي حنيفة ، وعندي فيهما تردد » قلت : إن كان الاختيار إليهم في التعيين من العسكر بعد أن كان الحكم للجيش يتجه الجواز ، ضرورة كونه من النزول على حكمنا ، فيندرج في الخبر المزبور ، ولكن لو فرض اختيارهم غير الصالح منهم فلا ريب في عدم قبوله ، إلا أنه هل يقتضي بطلان عقد الهدنة المزبور أو يبقى على مقتضاه فيختارون خيرة جديدة للصالح وجهان ، أقواهما الثاني ، كما أن الأقوى بقاء الحكومة للحاكم لو فرض حكمه بخلاف الشرع خطأ ، فينفذ حكمه حينئذ بعد ذلك بالمشروع خلافا لأبي حنيفة وهو واضح.

نعم لو مات الحاكم قبل الحكم بطل الأمان ويردون إلى مأمنهم بلا خلاف أجده فيه بل ولا إشكال ، ضرورة عدم ما اتفقوا عليه من الحاكم الشخصي ، والفرض أنهم نزلوا على حكمه ، فهم في الأمان حتى‌

١١٣

يردوا إلى مأمنهم ، نعم لو اتفقوا ثانيا على حاكم آخر جامع للشرائط جاز ونفذ حكمه ، لعموم الأدلة ، والله العالم.

ويجوز أن يستند الحكم إلى اثنين أو أكثر مع ملاحظة الاجتماع بلا خلاف أجده فيه ، بل في المنتهى الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد إطلاق الخبر المزبور ، فيعتبر حينئذ اتفاقهما على الحكم فلو مات مثلا أحدهم أو أحدهما بطل حكم الباقي أو الباقين كالوصيين المراد كون الوصي مجموعهما إلا مع الاتفاق عليه أو يعينوا غيره ، وهل يجوز إسناد الحكم إلى اثنين أو أكثر على أن يكون كل واحد مستقلا ولكن التخيير بيد المسلمين مع الاختلاف في المحكوم به أو الكفار؟ وجهان ، أقواهما الجواز للإطلاق ، ولا يجوز النزول على حكم اثنين أحدهما كافر كما صرح به في المنتهى ، بل وكذا غيره ممن فقد شرطا من شرائط الحاكم ، ضرورة اقتضاء الدليل عدم الفرق بين الاستقلال والانضمام ، ولو نزلوا على حكم حاكم معين فمات قبل الحكم لم يحكم عليهم غيره إلا إذا اتفقوا ، ولو طلبوا غيره ممن لا يصلح للحكم لم يجابوا إليه ، ولكن يردون إلى مأمنهم ، وكذا لو نزلوا على حكم معين فبان أنه غير صالح للحكم ، والظاهر عدم جواز التراضي بين الجميع بحكم غير الصالح ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف بل ولا إشكال بعد مشروعية التحكيم في أنه يتبع ما يحكم به الحاكم إلا أن يكون منافيا لوضع الشرع كالحكم بالرد إلى مأمنهم إلا إذا شرطوا في عقد الهدنة بأنهم إن لم يحكم فلان مثلا نرد إلى مأمننا ، فإنه يجوز حينئذ ، أو يكون منافيا لمصلحة المسلمين ، إذ يجب على الحاكم ملاحظة ما فيه الحظ لهم ، وحينئذ ينفذ حكمه كما نفذ حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بقتل الرجال وسبي‌

١١٤

الذرية واغتنام المال حتى‌ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد حكم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة » ‌وكذا لو حكم باسترقاق الرجال وسبي النساء والذرية وأخذ المال ، أو حكم بالمن على الرجال والنساء والذرية وترك السبي مطلقا ، إذ قد تكون المصلحة في ذلك ، فكما يجوز للإمام عليه‌السلام المن كذلك يجوز للحاكم بعد فرض مشروعية حكمه ، وما عن بعض الجمهور من عدم الجواز ، لأن الإمام لا يملك ذلك في الذرية مثلا مع السبي يدفعه الفرق بين ما تحقق فيه السبي المقتضي للتملك وبين ما نحن فيه مما لم يتحقق فيه السبي كما هو واضح ، ولو حكم بأن يعقدوا عقد الذمة ويؤدوا الجزية جاز أيضا ولزمهم أن ينزلوا على حكمه كما عن الشيخ التصريح به ، وما عن الشافعي ـ من عدم الجواز في أحد الوجهين ، لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذا لم يجز أن يجبر الأسير على ذلك يدفعه وضوح الفرق بين المقام المسبوق بالرضا بالحكم الذي منه ذلك وبين الأسير الذي لم يسبق منه التراضي المعتبر في العقد ، ولو حكم بالفداء مضى حكمه ، وبالجملة ينفذ حكمه الموافق لما قرره الشرع فيهم مع ملاحظة مصلحة المسلمين ، ولو أريد المن على من حكم عليه بالقتل جاز كما يحكى‌ عن ثابت بن قيس الأنصاري (١) أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل بعد حكم سعد عليهم بقتل الرجال ،نعم لو حكم على الكافر منهم مثلا بالقتل ثم أراد الاسترقاق ففي المنتهى لم يكن له ذلك ، لأنه لم يدخل على هذا الشرط ، ولكن لا يخلو من نظر ، وعلى كل حال فالظاهر عدم وجوب الحكم على الحاكم وإن كان قد قبل التحكيم للأصل.

__________________

(١) البحار ج ٢٠ ص ٢٧٧ الطبع الحديث.

١١٥

ولو حكم بالقتل والسبي وأخذ المال فأسلموا سقط الحكم في القتل وفي بعض النسخ « خاصة » وفي أخرى « لا في المال » كما في القواعد والمنتهى والتذكرة ، وهي التي شرحها ثاني الشهيدين ، فقال « لأن الإسلام يحقن الدم بخلاف الاسترقاق والمال ، فإنهما يجامعان الإسلام ، كما لو أسلم المشرك بعد الأخذ » ونحوه في فوائد الشرائع للكركي إلا أن المتن فيها « سقط الحكم إلا في المال » ومقتضاه عدم جواز السبي ، لكن لم أجد به قائلا ، بل لا أجد خلافا في عدم سقوط السبي وأخذ المال ، نعم ليس له استرقاق من حكم عليه بالقتل بعد سقوط القتل عنه بالإسلام ، خلافا لبعض العامة فجوزه ، كما لو أسلموا بعد الأسر ، وفيه أن الأسير قد ثبت للإمام عليه‌السلام استرقاقه ، بخلاف المفروض الذي قد تعين فيه بحكم الحاكم القتل ولكن قد سقط بالإسلام ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم » ‌نعم لا يسقط سبي الذرية والنساء لثبوت ذلك عليهم بالحكم قبل الإسلام ، ولا ينافيه الإسلام بعده أصالة أو تبعا ، أما لو أسلموا قبل الحكم عصموا أموالهم ودماءهم وذراريهم من الاستغنام والقتل ، ضرورة أنهم أسلموا وهم أحرار لم يسترقوا وأموالهم لم تغنم ، فلا يجوز استرقاقهم ولا اغتنام أموالهم ، لاندراجهم حينئذ في قاعدة من أسلم حقن ماله ودمه ، والفرض عدم تعلق حكم الحاكم به كالسابق.

ولو جعل للمشرك فدية عن أسراء المسلمين لم يجب الوفاء ، لأنه لا عوض للحر كما صرح بذلك غير واحد من غير فرق بين الشراء وغيره ، نعم لو جعل جعلا على رفع الأسر عنه ممن يجوز له‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ١٨٢.

١١٦

الجعالة على ذلك على وجه يدخل في الجعالة الشرعية وجب الوفاء ، ولو دخل الحربي بأمان فقال له الإمام عليه‌السلام إن رجعت إلى دار الحرب وإلا حكمت عليك حكم أهل الذمة فأقام سنة ففي المنتهى جاز أن يأخذ منه الجزية ، وإن قال له : اخرج إلى دار الحرب فإن أقمت عندنا صيرت نفسك ذميا فأقام سنة ثم قال أقمت لحاجة قبل قوله ، ولم يجز أخذ الجزية منه ، لأصل البراءة ، بل يرد إلى مأمنه ، وقال الشيخ : وإن قلنا يصير ذميا كان قويا ، لأنه خالف الإمام عليه‌السلام ، وفيه منع المخالفة بعد فرض كون المراد من الإقامة التوطن لا مثل الفرض الذي لم يعلم فيه ذلك بعد قوله : إني أقمت لحاجة ، وهو شي‌ء لا يعلم إلا من قبله.

ويجوز الأمان لمن قال من المشركين : أنا أفتح لكم الحصن مثلا لإطلاق الأدلة ، وحينئذ لو فتح ثم اشتبه بين أهل الحصن فلا يقتل أحد منهم للمقدمة بل عن الشافعي ولا يسترق لذلك أيضا وعن بعض الجمهور استخراجه بالقرعة ثم يسترق الباقون ، والاحتياط في الدم لا يأتي مثله في الاسترقاق ولكنه كما ترى ، ومقتضى المقدمة عدم جوازهما معا ، وكذا لو أسلم واحد منهم قبل الفتح فقال : كل واحد منهم أنا هو ، وعن الأوزاعي يسعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته ، ولا دليل عليه ، بل مقتضى الدليل خلافه ، والله العالم.

الفصل الثاني في الجعالة ، لا خلاف كما اعترف به الفاضل بل ولا إشكال في أنه يجوز لوالي الجيش إماما أو غيره جعل الجعائل لمن يدله على مصلحة من مصالح المسلمين كالتنبيه على عورة القلعة وطريق البلد الخفي أو نحو ذلك ، ويستحق المجعول له‌

١١٧

الجعل بنفس الفعل كغيره من أفراد الجعالة ، سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الأدلة ، وليس للجيش الاعتراض وإن كانت الغنيمة لهم ، لعموم الولاية ، ولفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد استوفينا الكلام بحمد الله تعالى في أحكام الجعالة في محلها ، فلاحظ وإن قال المصنف وغيره هنا إن كانت الجعالة من ماله دينا اشترط كونها معلومة الوصف والقدر ، وإن كانت عينا فلا بد أن تكون مشاهدة أو موصوفة بما يرتفع به الغرر المنهي عنه وإن كانت من مال الغنيمة جاز أن تكون مجهولة كجارية وثوب للحاجة ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) قد جعل للسرية من الجيش الثلث أو الربع من الغنيمة المجهولة ، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا ، ولكن قد ذكرنا في كتاب الجعالة ما يعلم منه تحقيق الحال في ذلك وغيره ، فلاحظ وتأمل.

ثم العمل المجعول له إن كان مما لا يتوقف تحققه على الفتح كالدلالة على الطريق ونحوه استحق المجعول له الجعل بنفس ذلك وإن لم يحصل الفتح ، وإن كان مما يتوقف على الفتح كما لو قال من دلنا على ما نفتح به القلعة فله كذا توقف على الفتح ، ولعل منه ما لو قال : من دلنا على طريق القلعة فله الجارية المعينة أو مطلقا منها ، لأن جعالة شي‌ء منها يقتضي اعتبار فتحها حكما وإن لم يذكر لفظا.

تفريع لو كانت الجعالة عينا كجارية ونحوها وفتح البلد على أمان فكانت في الجملة التي تعلق بها الأمان لم يبطل الأمان لإمكان مضيه ، خلافا لأبي إسحاق من الشافعية فأبطله ، لاستحقاق المجعول له العين المفروض تعلق الأمان بها ، وفيه أن مجرد ذلك لا يقتضي البطلان ف إنه إن اتفق المجعول له وأربابها على بذلها ولو بدفع‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٢ ص ٣٠٩ الرقم ٦٤٢٣.

١١٨

العوض لهم أو إمساكها بالعوض له جاز الأمان ولا يبطل ، نعم إن تعاسرا فسخت الهدنة كما صرح به الشيخ منا في المحكي عنه ، والشافعي من العامة ، لتعذر الإمضاء حينئذ ، لسبق تعلق حق الدال المفروض تعذر الجمع بينه وبين الأمان المتأخر عنه ولكن يردون إلى مأمنهم تجنبا عن الغدر بعد فرض نزولهم على الأمان بل لهم تحصيل القلعة كما كانت من غير زيادة ، وقد يقال بتقديم بقاء الهدنة واستحقاق المجعول له القيمة ، كما لو تعذر تسليمها إليه بالإسلام لو كانت جارية ، ترجيحا لهذه المصلحة على الفسخ المحتمل عدم التمكن من الفتح ، أو توقفه على قتل جملة من المسلمين أو نحو ذلك مما يدخل به تحت قاعدة الضرر ، بل عن الفاضل في المختلف اختياره ، بل مال إليه بعض من تأخر عنه ، لكن لا يخفى عليك صعوبة انطباقه على قواعد الإمامية.

ولو كانت الجعالة جارية فأسلمت قبل الفتح لم تدفع إليه سواء كان مسلما أو كافرا ، لخروجها عن قابلية الاسترقاق ولكن دفعت إليه القيمة عوضا عنها كما صرح به غير واحد ، ولعله لكونه أقرب من استحقاق أجرة المثل ، وربما استدل عليه بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاء منهم رده إليهم ، فلما جاء نساء مسلمات منعه الله تعالى من ردهن إلى أزواجهن وأمره برد مهورهن وفسخ ما وقع من الهدنة وإن كان هو كما ترى وكذا الكلام لو أسلمت بعد الفتح وكان المجعول له كافرا لعدم ملك الكافر المسلم ابتداء ، ووجوب نقله عنه استدامة ، نعم لو كان المجعول له مسلما دفعت إليه ، لأن الإسلام لا يرفع الملك الحاصل بالفتح ، كما لو أسلم المسبي بعد سبيه ولو ماتت قبل الفتح أو بعده‌

١١٩

ولا تفريط بالدفع لم يكن له عوض عنها كما صرح به الشيخ فيما حكي عنه وغيره ، بل والشافعي في أحد قوليه ، لأن حقه فيها ففات بفواتها ، خلافا للشافعي في القول الآخر ، فتدفع له القيمة ، كما لو تعذر تسليمها بالإسلام ، وفيه أن التسليم في المسلمة ممكن ، ولكن منع منه الشرع فجبر بالقيمة جمعا بين الحقين بخلاف الفرض الذي تعذر التسليم فيه عقلا من دون تفريط ، ولا دليل على استحقاق غيره ، بل الأصل ينفيه ، والله العالم.

الطرف الرابع في الأسارى وهم ذكور وإناث فالإناث من الكفار الأصليين الحربيين غير معتصمين بذمة أو عهد أو أمان يملكن بالسبي ولو كانت الحرب قائمة ، وكذا الذراري أي غير البالغين بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك كما اعترف به في المنتهى بل عن الغنية والتذكرة الإجماع عليه ، وهو الحجة مع‌ ما أرسله في المنتهى (١) من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن قتل النساء والولدان ، وكان يسترقهم إذا سباهم ،نعم يعتبر في التملك تحقق صدق السبي والقهر ، لأصالة عدمه مع عدمهما ، فلا يكفي مجرد النظر ولا وضع اليد ولا غير ذلك مما لا يتحقق معه صدقهما ، نعم لا يعتبر استمرار القهر ، فيبقى على الملك لو هرب كالصيد الذي ما نحن فيه نحوه بعد أن أباح الشارع تملكهم بذلك ، بل الظاهر عدم اعتبار نية التملك بعد الاستيلاء على الوجه المزبور كما قلناه في حيازة المباح ، بل الظاهر عدم اختصاص التملك بهما بالمسلمين ، فلو قهر بعضهم بعضا ملكه كما يملك الصيد باصطياده وقد دلت عليه جملة من النصوص المذكورة في كتاب البيع من الحيوان‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٧٨ و ٦٣.

١٢٠