جواهر الكلام - ج ٢٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الصادق عليه‌السلام في خبر حنان بن سدير (١) في الغراب الأبقع الذي دعا عليه بالابعاد ، بل في فوائد الشرائع للكركي تقييد جواز الرمي للغراب بالمحرم الذي هو من الفواسق الخمس دون المحلل الذي هو محترم ، وليس من الفواسق بل في الرياض « لا بأس به إن لم نقل بحرمته مطلقا ، لإطلاق ما دل على حرمة الصيد من الكتاب والسنة المتواترة الشامل لما حل من الغراب ، وتقييده بما عدا الغراب لهذين الصحيحين وإن أمكن لكنه ليس بأولى من تقييد إطلاقهما بما عدا المحلل ، فان التعارض بينهما وبين نحو الكتاب من وجه ، بل هو أولى لقطعية الكتاب ونحوه ، وإشعار بعض النصوص السابقة بإباحة القتل وآخر بالتقييد أيضا ، على أن الجمع الأول مبني على عدم القول بتحريم الغراب مطلقا ، ولكنه كما سيأتي خلاف التحقيق ، وأن الأصح تحريمه مطلقا ، وحينئذ فالأظهر إباحة رمي الغراب مطلقا ، لعدم التعارض بين الأدلة ضرورة كونهما متباينين ، فلا موجب لتقييد أحدهما بالآخر ، مضافا إلى إمكان التأمل في دعوى تعارض العموم من وجه ، بل النسبة بينهما إما التباين الكلي ، أو العموم والخصوص المطلق ، الأول في الكتاب ، والثاني فيهما ، فتدبر وتأمل » وفيه أنه تطويل بلا حاصل ، لما عرفت سابقا من عموم الصيد للمحلل والمحرم ، ومقتضاه عدم الفرق بين الحدأة والغراب وغيرهما ، كما أن مقتضاه عدم الفرق بين القتل والتنفير وغيرهما من أنواع الأذى ، لكن للنصوص السابقة جاز رمي الغراب والحدأة بأفرادهما عن ظهر البعير أو مطلقا ، ولا ريب في أنه خاص بالنسبة إلى ذلك مطلقا ، بل إن قلنا إن المحرم في الكتاب خصوص أكل الصيد أو قتله كان بينهما التباين ، فلا تعارض ، فالمتجه حينئذ إطلاق جواز الرمي للحدأة والغراب مطلقا ، كما هو مقتضى عبارة المتن وغيره ، بل لا فرق بين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٨١ من أبواب تروك الإحرام الحديث ١١.

١٨١

رميهما عن ظهر البعير وغيره ، خلافا لظاهر المحكي من عبارة المقنع فعبر به بل في كشف اللثام احتماله أيضا احتياطا واقتصارا على المنصوص خصوصا ، بل قال : « ويحتمل أن يكون المراد عن ظهر بعير به دبر ، فيجوز رميهما عنه لايذائهما البعير » وفيه ما عرفت من إطلاق بعض النصوص الذي لا تنافي بينه وبين الآخر بعد التوافق في الإباحة ، بل ما ذكره من الاحتمال أخيرا واضح الضعف بعد ما سمعت ، نعم يجب الاقتصار على الرمي دون القتل وإن تقدم عن الحلبي جواز قتل الغراب ، لكنه خلاف ظاهر الأدلة ، وعلى كل حال فلا جزاء بقتلهما ، بل عن المبسوط اتفاق الأمة على ذلك ، والله العالم.

وكذا لا بأس بقتل البرغوث كما في القواعد وعن موضع من المبسوط للأصل ، وقول الصادق عليه‌السلام في مرسل ابن فضال (١) « لا بأس بقتل البرغوث والقملة والبقة في الحرم » وما في محكي السرائر عن‌ نوادر البزنطي عن جميل (٢) أنه سأله « عن المحرم يقتل البقة والبراغيث إذا أذاه قال : نعم » وخبر زرارة (٣) سأل أحدهما عليهما‌السلام « عن المحرم يقتل البقة والبرغوث إذا رآه قال : نعم » فما عن الجامع والتذكرة والتحرير والمنتهى وموضع من المبسوط من الحرمة على المحرم ، بل يعطيه ما سمعته من الحلبي والسرائر واضح الضعف ولعله لما سمعته في صحيح ابن عمار (٤) وحسنه وخبر زرارة (٥) سأله « هل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٨٤ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٤ عن ابن فضال عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ٧٨ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ٧٩ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ٨١ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٢ و ٣ و ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ٧٣ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٤.

١٨٢

يحك المحرم رأسه؟ قال : يحك رأسه ما لم يتعمد قتل دابة » لعمومها البرغوث وفيه بعد تسليم دلالة الثاني أنهما مخصصان بما سمعت ، ومنه يعلم ما في محكي التهذيب والنهاية والمهذب والغنية والسرائر من الحرمة على المحرم في الحرم ، بمعنى أنه لا يحرم على المحل وإن قيل كأنهم جمعوا به بين الدليلين ، ولكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط ، والله العالم.

وفي جواز تعمد قتل الزنبور تردد من الأصل وكونه من المؤذيات ، وخبري غياث بن إبراهيم (١) وأبي البختري (٢) السابقين ، ولا ينافيهما وجوب الكفارة التي وجبت في قتل الصيد خطأ ، ولذا جوز في محكي المبسوط قتله مع التكفير كما عن جماعة على ما في المسالك ، ومن صحيح (٣) معاوية بن عمار وحسنه وفحوى الأمر بالكفارة التي لا ينافيها التخلف في بعض الأفراد ومن هنا تردد أولا في محكي المنتهى ثم ذكر أن أصحابنا رووا أن فيه شيئا من الطعام ، فبان أن الوجه المنع كالمصنف إذا لم يرده ، لما سمعته من النهي في النصوص السابقة عن قتل ما لم يرده من المؤذيات ، ول‌ صحيح معاوية بن عمار (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن محرم قتل زنبورا قال : إن كان خطأ فليس عليه شي‌ء ، قلت : لا بل متعمدا قال : يطعم شيئا من الطعام ، قلت : إنه أرادني قال : إن أرادك فاقتله » ونحوه خبره (٥) الآخر أيضا إلى قوله عليه‌السلام « قلت » وكذا خبر يحيى الأزرق (٦) وبذلك ينقطع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٨١ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٨ عن غياث بن إبراهيم عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ٨١ من أبواب تروك الإحرام الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ٨١ من أبواب تروك الإحرام الحديث ٢ و ٣ و ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ٨ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ٨ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ٨ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٣.

١٨٣

الأصل وينزل الخبران مع ضعفهما على ما إذا أراده أو خاف منه ، فإنه لا إشكال ولا خلاف في الجواز حينئذ ، بل الظاهر سقوط الكفارة كما صرح به بعضهم للأصل بعد دعوى انسياق نصوصها لغير الفرض ، وإن كان يحتمل ثبوتها للإطلاق الذي لا ينافيه الرخصة في القتل ، فتأمل.

وكذا من النصوص المزبورة مع الأصل يعلم أنه لا كفارة في قتله خطأ وكأنه لا خلاف فيه وإن حكي عن جماعة إطلاق التكفير ، كما أن منها يعلم الوجه في الجملة أيضا في قوله وفي قتله عمدا صدقة ولو بكف من طعام وفي القواعد ومحكي المقنع والفقيه والغنية والكافي والوسيلة والمهذب والجامع التكفير بكف من طعام ، كما عن الفقه المنسوب (١) إلى الرضا عليه‌السلام ، وفي دعائم الإسلام (٢) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام « من قتل عظاية أو زنبورا وهو محرم فان لم يتعمد ذلك فلا شي‌ء عليه فيه ، وإن تعمده أطعم كفا من طعام ، وكذلك النمل والذر والبعوض والقراد والقمل » ولعله إليه أشار في كشف اللثام بقوله : وفي بعض الكتب إرساله عن الصادق وفي الأول منها زيادة « وشبهه » وفي النافع التكفير بشي‌ء من الطعام نحو ما سمعته في النصوص ، وعن النهاية التكفير بشي‌ء ، ويمكن ولو على بعد إرجاعها أجمع عدا ما في المتن إلى ما في النصوص ، نعم ما في السرائر وكذا التلخيص ـ من التكفير بتمرة ، بل عن الأخير والغنية والمهذب « في الكثير منه شاة » وعن الكافي « فإن قتل زنابير فصاع ، وفي قتل الكثير دم شاة » وعن المقنعة تصدق بتمرة ، فإن قتل زنابير كثيرة تصدق بمد من طعام أو مد من تمر » ونحوه عن جمل العلم والعمل ، وعن التحرير « هو حسن » ونحوه عن المراسم إلا في مد من طعام ، فلم‌

__________________

(١) المستدرك ـ وسائل ـ الباب ٨ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٢.

(٢) المستدرك ـ وسائل ـ الباب ٨ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١.

١٨٤

يذكره ـ لم أعرف له دليلا معتبرا وإن قيل كان القول بالتمر لكونه من الطعام وأنه ليس خيرا من الجراد ، إلا أنه كما ترى ، اللهم إلا أن يقال إن‌ قوله عليه‌السلام « يطعم شيئا من طعام » ظاهر فيما يتناوله ، بل من ذلك يعرف ما في زيادة « وشبهه » في القواعد كما سمعت بناء على كون المراد به التمر والزبيب وغيرهما ، وكذا ما قيل كان إيجاب الشاة لكثيرة للحمل على الجراد.

نعم قد يقال إن إيجاب المد والصاع بضم فداء بعضه إلى بعض مع أنه كما ترى أيضا ، فالوجه الاقتصار على النصوص المستفاد منها أنه ليس من الصيد ، كما هو مقتضى العرف أيضا ، وإلا لتساوى خطأه وعمده ، بل قيل إن موردها كبعض العبارات الزنبور المتحد ، فالمتعدد والكثير خال عن النص ، فيجب الرجوع فيهما إلى الأصل ، ويحتمل إلحاقها بالواحد في كفارته إن لم يثبت بالأصل الزيادة عليها ، قلت : لعل المنساق تعددها بقدر كل واحد ، كما أنه قد يقال بانسياق الندب منها إن لم يكن إجماع ، لكن هي متفقة على شي‌ء من الطعام لا مطلق الصدقة بكف من طعام كما هو ظاهر المتن ، اللهم إلا أن يريد الصدقة بطعام ولو بكف منه ، ولعل التقدير بها لأنه أقل ما ينتفع به الفقير ، وأقل ما قدر به ذلك من الطعام في غيرها ، مضافا إلى ما سمعته من المرسل عن الصادق عليه‌السلام والى الفقه المنسوب إلى الرضا عليه‌السلام وإلى خبر الدعائم ، لكن في المسالك اكتفى بالأقل للإطلاق ، هذا ، ولا دلالة في المتن على المنع في صورة الخطأ وإن عقبه بذكر الكفارة لإرادة ذكر ما في النصوص ، وللفرق بينه وبين الصيد الذي تترتب الكفارة على خطأه وعمده.

ويجوز شراء القماري جمع قمرية بالضم ضرب من الحمام ، والقمرة بالضم لون الخضرة أو الحمرة فيه كدرة والدباسي جمع أدبس من الطير الذي لونه بين السواد والحمرة ، ومنه الدبسي لطائر أدكن يقرقر وإخراجهما‌

١٨٥

من مكة على رواية‌ العيص بن القاسم بل حسنه بل صحيحه (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شراء القماري يخرج من مكة والمدينة قال : لا أحب أن يخرج منها شي‌ء » وبه صرح في النافع والقواعد بل ومحكي المبسوط لحكمه بالكراهة كالدروس ، بل والنهاية والجامع لحكمهما بالكراهة في القماري وشبهها.

خلافا للحلي والفاضل في المختلف وولده وجماعة من متأخري المتأخرين للنصوص الدالة على عدم جواز إخراجهن من مكة ، قال علي بن جعفر عليه‌السلام (٢) في الصحيح « سألت أخي موسى عليه‌السلام عن رجل أخرج حمامة من حمام الحرم إلى الكوفة أو غيرها قال : عليه أن يردها ، فان ماتت فعليه ثمنها يتصدق به » وقال يونس بن يعقوب (٣) « أرسلت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أن أخا لي اشترى حماما من المدينة فذهبنا بها إلى مكة فاعتمرنا وأقمنا إلى الحج ثم أخرجنا الحمام معنا من مكة إلى الكوفة فعلينا في ذلك شي‌ء ، فقال للرسول : إني أظنهن كن فرهة ، فقال : قل له يذبح مكان كل طير شاة » وسأل زرارة (٤) أبا عبد الله عليه‌السلام « عن رجل أخرج طيرا من مكة إلى الكوفة قال : يرده إلى مكة » وسأل أيضا أبا جعفر عليه‌السلام (٥) « عن رجل أخرج طيرا من مكة إلى الكوفة فقال : يرده إلى مكة » ونحوه‌ خبر علي بن جعفر (٦) عن أخيه موسى عليه‌السلام وزاد « فان مات تصدق بثمنه » وفي‌ مرسل يعقوب (٧) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا أدخلت الطير المدينة فجاز بذلك أن تخرجه منها ، فإذا أدخلته مكة فليس لك أن تخرجه » بل في‌ خبر مثنى (٨) « خرجنا إلى مكة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٥.

(٨) الوسائل ـ الباب ١٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١٠.

١٨٦

فاصطاد النساء قمرية من قماري أمج حيث بلغنا البريد فنتفت النساء جناحها ثم دخلوا به مكة فدخل أبو بصير على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبره فقال : ينظرون امرأة لا بأس بها فيعطونها الطير تعلفه وتمسكه حتى إذا استوى جناحاه خلته » بل نحوه غيره (١) في إطعام طير الحرم وسقيه إذا كان منتوف الجناح ، فإذا استوى خلى عنه ، وإن كان مسافرا أودعه عند أمين ، ودفع إليه ما يحتاج من الطعام حتى يستوي جناحاه فيتخلى عنه ، بل والروايات الدالة (٢) على عدم جواز التعرض لطير الحرم فضلا عن قوله تعالى (٣) ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) على أن الصحيح (٤) المزبور بعد الإغضاء عن المناقشة في صحته كما في كشف اللثام مختص بالقماري ، ولا صراحة فيه بالجواز ، بل قيل ولا ظهور ، بل عن ظاهر الشيخ في التهذيب وغيره دلالته على التحريم ، ولعله لدوران الأمر فيه بين إبقاء لفظ « لا أحب » على ظاهره من الكراهة وتخصيص الشي‌ء المنفي في سياق النفي بخصوص القماري والدباسي أيضا ، وبين إبقاء العموم بحاله وصرف « لا أحب » عن ظاهره إلى التحريم أو الأعم منه والكراهة ، والأول خلاف التحقيق وإن كان التخصيص أولى من المجاز بناء على اختصاص الأولوية بالتخصيص المقبول ، وهو ما بقي من العام بعده أكثر أفراده ، وليس هنا كذلك ، فاختيار الثاني لازم ، هذا إن سلم ظهور لفظ « لا أحب » في الكراهة وإلا فهو أعم منها ومن الحرمة لغة ، لكن مقتضى هذا عدم دلالته على الحرمة أيضا ، بل تكون الرواية حينئذ مجملة لا تصلح حجة لأحد القولين ولكن الأصل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١ و ٢ و ١٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ١٣ من أبواب كفارات الصيد.

(٣) سورة آل عمران الآية ٩١.

(٤) الوسائل ـ الباب ١٤ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٣.

١٨٧

عدم الجواز للعمومات ، لكن ذلك كله كما ترى مناف لما يقتضيه الانصاف من دلالة الصحيح على جواز الإخراج من مكة ولو بملاحظة حكم المدينة المعلوم أنه الجواز ، ودعوى إرادة القدر المشترك بين الكراهة والحرمة من قوله « لا أحب » لا دليل عليها ، فلا إشكال في دلالته على ذلك.

نعم هو خاص بالقماري ويمكن إتمامه بعدم القول بالفصل ، فمن الغريب عن المختلف والتذكرة من الاستدلال بالصحيحة على الحرمة ، وأغرب من ذلك ما في كشف اللثام من أنه ليس فيها أي الصحيحة ولا في شي‌ء من الفتاوى إلا الإخراج من مكة لا الحرم ، فلا يخالفه منع ابن إدريس من الإخراج منه ونصوص المنع من إخراج الصيد أو الحمام منه والأمر بالتخلية ، نعم نص الشهيد على جواز الإخراج من الحرم ، ولم أعرف جهته ، إذ هو كما ترى ضرورة ظهور النص فضلا عن الفتاوى في الإخراج من مكة الشامل للخروج عن الحرم ولو بترك الاستفصال ، ومن هنا تحقق التعارض والتنافي بينه وبين ما سمعته من ابن إدريس كما فهمه الأصحاب حيث ذكروا الحلي مخالفا للشيخ هنا ، فمنهم من وافقه ، ومنهم من خالفه ، بل قيل إن مورد السؤال في النص الذي ينطبق عليه الجواب هو الإخراج منها ومن المدينة بمقتضى الواو المفيدة للجمعية في الحكم الذي هو هنا الإخراج ، والإخراج منهما معا يستلزم الإخراج من الحرم ، وإن كان لا يخلو من نظر أو منع ، نعم في قواعد الفاضل الاقتصار في جواز الإخراج من مكة على المحل ، قال : وفي المحرم إشكال ، قيل من عموم الخبر ، ومن عموم نصوص حرمة الصيد على المحرم من الكتاب والسنة ، مع احتمال اختصاص الخبر بالمحل بل ظهوره فيه ، قلت : قد يمنع ظهوره في ذلك ، وحينئذ فإطلاقه كالفتاوى يقتضي جواز الإخراج مطلقا ، بل الظاهر أن مكة فيه مثال لغيرها ، نعم قد يقال إن مقتضاهما جواز إخراجهما‌

١٨٨

لا صيدهما ، فيقتصر عليه ، بل لعل خبر مثنى شاهد لذلك.

ومن هنا لا يجوز قتلهما ولا أكلهما للمحرم ولغيره في الحرم اتفاقا على ما في كشف اللثام ، بل ظاهر غيره المفروغية من ذلك ، للعمومات المقتصر في الخروج عنها على ما عرفت ، وما تسمعه من خبر سليمان بن خالد (١) ولذا قال في الدروس والقماري والدباسي مستثنى من الصيد ، فيجوز على كراهة شراؤهما وإخراجهما من الحرم للمحل والمحرم على الأقوى لا إتلافهما ، ثم قال : « ولو كان الصيد مملوكا فعليه الجزاء لله تعالى والقيمة للمالك ، وفي القماري في الحرم نظر ، أقربه وجوب جزاء وقيمة للمالك ، فعلى هذا يجب جزاء لله تعالى أيضا ـ ثم قال فيها ـ : وروى سليمان بن خالد (٢) في القمري والدبسي والسماني والعصفور والبلبل القيمة ، فإن كان محرما في الحرم فعليه قيمتان ، ولا دم عليه ، وهذا جزاء الإتلاف » وفيه تقوية تحريم إخراج القماري والدباسي ، وفي كشف اللثام لدلالته على أنها كسائر الصيود ، قلت : لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه عدم الوقع لهذا الكلام بعد أن كان المستثنى الشراء والإخراج دون القتل والإتلاف في الحرم أو في الإحرام ، بل احتمل في المسالك تحريم الإتلاف والأكل لو خرج بهما المحل من الحرم ، لتحريمهما في الحرم ابتداء خرج منه الإخراج ، فيبقى الباقي ، وإن كان فيه ما لا يخفى ، والله العالم.

القسم الثاني ما يتعلق به الكفارة وهو ضربان‌ الأول ما لكفارته بدل على الخصوص ، وهو كل ما له مثل من النعم في الصورة تقريبا لأنه المنساق من المماثلة لا القيمة ، نحو البدنة في النعامة ، والبقرة الأهلية في بقرة الوحش‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٤٤ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ٤٤ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٧.

١٨٩

والشاة الأهلية في الظبي ، والأصل فيه قوله تعالى (١) ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) لكن المصنف وغيره عدوا البيض من ذوات الأمثال ، ولا مماثلة بينه وبين فدائه لا صورة ولا قيمة ، ومن هنا كان المدار على الثابت شرعا ، والأمر في التسمية سهل بعد وضوح الحكم في نفسه كما ستسمع تفصيله إنشاء الله.

وكيف كان فـ ( أقسامه خمسة : الأول النعامة ، وفي قتلها بدنة ) مع فرض شمول البدنة للجزور كما ستعرف الحال فيه بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع حينئذ بقسميه عليه ، بل هو المحكي عن أكثر المخالفين أيضا ، لأنه أظهر أفراد المثل المأمور به في الكتاب ، قال الصادق عليه‌السلام في صحيح حريز (٢) في قول الله عز وجل ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ ) إلى آخره : « في النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي الظبي شاة ، وفي البقرة بقرة » وقال أيضا في صحيح زرارة وابن مسلم (٣) : « في محرم قتل نعامة عليه بدنة ، فان لم يجد فإطعام ستين مسكينا ، فان كان قيمة البدنة أكثر من إطعام ستين مسكينا لم يزد على إطعام ستين مسكينا وإن كانت قيمة البدنة أقل من إطعام ستين مسكينا لم يكن عليه إلا قيمة البدنة » وقال له عليه‌السلام أيضا يعقوب بن شعيب (٤) : « المحرم يقتل نعامة قال : عليه بدنة من الإبل قلت : يقتل حمار وحش قال : عليه بدنة ، قلت : فالبقرة قال : بقرة » وقال عليه‌السلام أيضا في صحيح سليمان بن خالد (٥) : « في الظبي شاة ، وفي البقرة بقرة ، وفي الحمار بدنة ، وفي النعامة بدنة ، وفيما سوى ذلك قيمته » ‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٢.

١٩٠

وقال أبو بصير (١) : « سألته عليه‌السلام أيضا عن محرم أصاب نعامة أو حمار وحش قال : عليه بدنة ، قلت : فان لم يقدر على بدنة قال : فليطعم ستين مسكينا ، قلت فان لم يقدر على أن يتصدق قال : فليصم ثمانية عشر يوما ، والصدقة مد على كل مسكين » هذا ، ولكن في‌ خبر أبي الصباح (٢) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل في الصيد ( مَنْ قَتَلَهُ ) إلى آخره قال : في الظبي شاة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي النعامة جزور ».

وبه أفتى في محكي النهاية والمبسوط والسرائر إلا أن في طريقه محمد بن الفضيل ، بل في كشف اللثام لا مخالفة بينه وبين النصوص السابقة ولا بين القولين كما يظهر من المختلف ، إذ لا فرق بين الجزور والبدنة إلا أن البدنة ما يحرز للهدي والجزور أعم ، وهما يعمان الذكر والأنثى كما في العين والنهاية الأثيرية وتهذيب الأسماء للنووي ، وفي التحرير له والمعرب والمغرب في البدنة ، وخصت في الصحاح والديوان والمحيط وشمس العلوم بالناقة والبقرة ، لكن عبارة العين « كذا البدنة ناقة أو بقرة ، الذكر والأنثى منه سواء ، يهدى إلى مكة » فهو مع تفسيره بالناقة والبقرة نص على التعميم للذكر والأنثى ، فقد يكون أولئك أيضا لا يخصونها بالأنثى ، وإنما اقتصروا على الناقة والبقرة تمثيلا ، وإنما أرادوا تعميمها للجنسين ردا على من يخصها بالإبل ، وهو الوجه عندنا ، ويدل عليه قوله تعالى (٣) ( فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها ) قال الزمخشري : « وهي الإبل خاصة ، ولأن‌ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال (٤) : « البدنة عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٣.

(٣) سورة الحج الآية ٣٧.

(٤) سنن البيهقي ج ٥ ص ٢٣٤.

١٩١

سبعة ، والبقرة عن سبعة » فجعل البقر في حكم الإبل صارت البدنة في الشريعة متناولة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل ، وعليه تدل الآية » انتهى ، قلت : وفي المحكي عن مصباح المنير « الجزور من الإبل خاصة يقع على الذكر والأنثى » بل فيه أيضا « وإذا أطلقت البدنة في الفروع فالمراد البعير ذكرا كان أو أنثى » وإن كان ظاهر هذه العبارة كونه مرادا شرعيا لا وضعا لغويا ، لكن في المحكي عن مجمع البحرين بعد ذكر البدنة « وإنما سميت بذلك لعظم بدنها وسمنها ، وتقع على الجمل والناقة عند جمهور أهل اللغة وبعض الفقهاء » وفي محكي التذكرة « يجب في النعامة بدنة عند علمائنا أجمع ، فمن قتل نعامة وهو محرم وجب عليه جزور » ونحوه عن المنتهى ، وهو مشعر أو ظاهر في إرادة الجمع بين القولين ، وربما يؤيده ما عن ابن زهرة من نفي الخلاف عن وجوب البدنة ، نعم في الرياض مناقشة الأصبهاني فيما حكاه من ظهور الاتحاد وعدم المخالفة بين الروايات والقولين بأن الذي وقفنا عليه من عبارته تفيد العكس ، وهو كذلك ، لكن يمكن أن يريد المخالفة لا نفيها ، وعبر بذلك غير مرة ، والأمر سهل.

وكيف كان فان تم ذلك فذاك وإلا فالترجيح للبدنة ، لصحة نصوصها وتعددها واعتضادها بمعقد نفي الخلاف والإجماع ، وأكثر الفتاوى ، بل هو المشهور في التعبير نقلا وتحصيلا ، ودعوى الجمع بالتخيير يدفعها عدم دخول البقرة فيها وإن سمعت التصريح به عن العين بل تقدم سابقا ما في الصحاح والقاموس من أن البدنة اسم للناقة والبقرة التي تنحر بمكة كما عن صريح شمس العلوم ، قال : « البدنة الناقة والبقرة تنحر بمكة » ولكن المنساق منها عرفا الإبل خاصة ، والإطلاق أعم ، مضافا إلى ما سمعته من الزمخشري في‌

١٩٢

الآية ، وإن كان قد حكي ما سمعته عن أبي حنيفة وأصحابه ، بل مقابلة البدنة للبقرة فيما سمعته من النصوص السابقة أوضح شاهد على مغايرتها لها أيضا.

ثم لما كانت البدنة اسما لما يهدى اعتبر فيها السن المعتبر في الهدي ، نعم مقتضى إطلاق النص والفتوى إجزاؤها معه وافقت النعامة في الصغر والكبر وغيرهما أم لا ، خلافا للمحكي عن التذكرة فاعتبر المماثلة بين الصيد وفدائه ففي الصغير من الإبل ما في سنه ، وفي الكبير كذلك ، وفي الذكر ذكر ، وفي الأنثى أنثى ، ولم نقف له على دليل سوى دعوى كونه المراد من المماثلة في الآية ، وهو كالاجتهاد في مقابلة النص المقتضي كون مسمى البدنة مثلا مماثلا للنعامة على كل حال ، والله العالم.

وكيف كان فـ ( مع العجز ) عن البدنة تقوم البدنة قيمة عدل ويفض ثمنها على البر ، ويتصدق به لكل مسكين مدان ، ولا يلزم ما زاد عن ستين إن زاد البر ولا الإتمام لو نقص كما صرح بذلك كله غير واحد ، بل في الحدائق حكايته عن الشيخ وابن إدريس وأنه المشهور بين المتأخرين ، بل في المدارك نسبته إلى الأكثر ، ونسبه في كشف اللثام إلى الشيخ وبني حمزة وإدريس والبراج وسعيد ، لكن قال : إلا أن في المبسوط والخلاف والوسيلة والجامع مكان البر الطعام ، وفي التذكرة والمنتهى الطعام المخرج الحنطة أو الشعير أو التمر أو الزبيب ، قال : « ولو قيل يجزي كل ما يسمى طعاما كان حسنا ، لأن الله تعالى أوجب الطعام » قلت : ومقتضى ذلك قلة القائل بالبر وإن كان فيه‌ قول علي بن الحسين عليهما‌السلام للزهري (١) فيما رواه الصدوق في محكي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١ من أبواب بقية الصوم الواجب الحديث ١ من كتاب الصوم عن الكليني ( قده ) والمقنع ص ٥٦ والهداية ص ٤٩ المطبوعين جديدا وروى في المستدرك عنهما أيضا في الباب ١ من أبواب بقية الصوم الواجب الحديث ٢.

١٩٣

المقنع والهداية : « أتدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟ قال : قلت : لا أدري ، فقال : يقوم الصيد قيمة عدل ثم تفض تلك القيمة على البر ، ثم يكال ذلك البر أصواعا ، فيصوم لكل نصف صاع يوما » ونحوه عن الفقه المنسوب (١) إلى الرضا عليه‌السلام ، وهو وإن أمكن حمل إطلاق الكتاب والسنة عليه ، بل ربما قيل بانصراف الطعام إلى البر إلا أنه بعد وضوح منع الانصراف المزبور قاصر عن ذلك من وجوه ، نعم هو أحوط ، فالمتجه الاجتزاء بغيره مما يجزي في الكفارة كما أن المتجه الاجتزاء بالمد كغيره من الكفارة وإن كان بالمدين خبر الزهري السابق وصحيح أبي عبيدة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا أصاب المحرم الصيد ولم يجد ما يكفر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد قوم جزاؤه من النعم دراهم ثم قومت الدراهم طعاما لكل مسكين نصف صاع ، فان لم يقدر على الطعام صام لكل نصف صاع يوما ».

إلا أن غيره من النصوص بين مطلق ـ كصحيح زرارة ومحمد بن مسلم (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في محرم قتل نعامة قال : عليه بدنة ، فان لم يجد فإطعام ستين مسكينا ، قال : فان كان قيمة البدنة أكثر من إطعام ستين مسكينا لم يزد على إطعام ستين مسكينا ، وإن كانت قيمة البدنة أقل من إطعام ستين مسكينا لم يكن عليه إلا قيمة البدنة » ونحوه مرسل جميل (٤) عنه عليه‌السلام أيضا بلا تفاوت ، وخبر علي بن جعفر (٥) عن أخيه موسى عليه‌السلام « سألته عن رجل محرم أصاب نعامة ما عليه قال عليه بدنة ، فان لم يجد فليتصدق على ستين مسكينا ، فان لم يجد فليصم ثمانية عشر يوما » ومرسل تحف العقول (٦) عن الجواد عليه‌السلام

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ١ من أبواب بقية الصوم الواجب الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ٣ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٢.

١٩٤

« وإن كان من الوحش فعليه في حمار الوحش بدنة ، فكذلك في النعامة بدنة ، فان لم يقدر فإطعام ستين مسكينا ، وإن لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوما » وعن المقنع والمقنعة وجمل العلم والعمل والمراسم الإطلاق كالنصوص المزبورة ـ وبين مقيد بالمد ، كخبر أبي بصير (١) « سألته عن محرم أصاب نعامة أو حمار وحش قال : عليه بدنة قلت فان لم يقدر على بدنة قال : فليطعم ستين مسكينا قلت : فان لم يقدر على أن يتصدق قال : فليصم ثمانية عشر يوما ، والصدقة مد على كل مسكين ، قال : وسألته عن محرم أصاب بقرة قال عليه بقرة ، قلت : فان لم يقدر على بقرة قال : فليطعم ثلاثين مسكينا قلت : فان لم يقدر على أن يتصدق قال : فليصم تسعة أيام » وصحيح ابن عمار (٢) عن الصادق عليه‌السلام « من أصاب شيئا فداؤه بدنة من الإبل فان لم يجد ما يشتري به فأراد أن يتصدق فعليه أن يطعم ستين مسكينا ، لكل مسكين مد ، فان لم يقدر على ذلك صام مكان ذلك ثمانية عشر يوما ، لكل عشرة مساكين ثلاثة أيام » وخبر عبد الله بن سنان (٣) المروي عن تفسير العياشي عنه عليه‌السلام أيضا قال : « سألته عن قول الله عز وجل فيمن قتل صيدا متعمدا وهو محرم ( فَجَزاءٌ ). إلى آخره ما هو؟ قال : ينظر الذي عليه جزاء ما قتل فاما أن يهديه وإما أن يقوم فيشتري به طعاما فيطعمه المساكين ، يطعم لكل مسكين مدا وإما أن ينظر كم يبلغ عدد ذلك من المساكين فيصوم لكل مسكين يوما ».

والجمع بينهما يقتضي حمل الأول على الندب ، خصوصا بعد أن كان إطعام المسكين في غير المقام من الكفارات مدا على الأصح كما حررناه في محله ، ولعل هذا الاختلاف راجع إلى ذلك ، لا أنه شي‌ء مخصوص بهذه الكفارة ، وإن كان المصنف قد اختار المد هناك ، ولعله للفرق بين المقام وغيره بتعارض حق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ١٢.

١٩٥

الفقراء هنا ، إذ هو تفريق للموجود ، بخلاف غيره فإنه دفع ممن عليه الكفارة فلا بأس باستحباب دفعه للمدين بخلاف ما هنا ، ومن هنا يمكن ترجيح نصوص المدين بالفتاوى ، وفي كشف اللثام احتمال الجمع بينها باختلاف القيمة ، فإن وفت بمدين تصدق بهما ، وإلا فبمد على كل أو على البعض ، ولكن لا أعرف به قائلا بالتنصيص ، ويحتمله كلام من أطلق إطعام الستين ، وفيه ما لا يخفى من عدم شاهد له ، مضافا إلى ما اعترف به من عدم القائل.

وأما عدم وجوب الزائد ولا إكمال الناقص فلا خلاف أجده فيه ، بل عن الخلاف الإجماع على الأول ، مضافا إلى ما سمعته من النصوص الدالة على الحكمين التي لا ينافيها إطلاق غيرهما من النصوص إطعام الستين بعد تنزيله على ذلك ، بل لعله كذلك أيضا في كلام من أطلق كالمفيد وابني بابويه وابن أبي عقيل والمرتضى وسلار على ما حكي عنهم ، نعم عن أبي الصلاح وابن زهرة إطلاق أن من لم يجد البدنة تصدق بثمنها ، كقول أبي جعفر عليه‌السلام لمحمد بن مسلم (١) في الصحيح « عدل الهدي ما بلغ يتصدق به » ويمكن تنزيله على إرادة الصدقة به على الوجه المزبور ، بل يمكن تنزيل إطلاقهما أيضا على ذلك وإلا كان لا دليل له ، نحو المحكي عن الحلبيين أيضا من الانتقال إلى الصوم مع العجز عنها ، بل هو مناف للكتاب والسنة والإجماع ، ومن هنا يمكن حمله على إرادة العجز عنها عينا وقيمة ، وإلا كان واضح البطلان ، كما أن‌ خبر داود الرقي (٢) عن الصادق عليه‌السلام « فيمن عليه بدنة واجبة في فداء إذا لم يجد بدنة فسبع شياه ، فان لم يقدر صام ثمانية عشر يوما » لا عامل به هنا وإن حكي عن المقنع والجامع الفتوى بمضمونه ، لكنهما وافقا المشهور في المقام.

ولو فقد العاجز عن البدنة مثلا البر وقلنا بتعينه دون قيمته فأقوى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد الحديث ٤.

١٩٦

الاحتمالات عند الفاضل وضع قيمة عادلة عند ثقة ليشتريه إذا وجده إذا أراد الرجوع ، وإلا أبقاها عنده مترقبا لوجوده ، لعدم صدق العجز مع القدرة على القيمة وعدم فورية الإخراج ، ثم أقواها شراء غيره من الطعام ، وحينئذ ففي الاكتفاء بالستين مسكينا لو زاد إشكال ، فإن تعدد احتمل التخيير ، والأقرب إليه ، ثم يحتمل الانتقال إلى الصوم ، قلت : قد يقال إن الأخير أقواها ، لصدق عدم القدرة عليه مع رجحان المسارعة ، ثم قال : « والأولى إلحاق المعدل بالزكاة أي المعزولة في عدم الضمان بالتلف بغير تفريط لإتيانه بالواجب ، وأصالة البراءة من الإخراج ثانيا ونفي الحرج » وفيه أن الأقوى عدم الإلحاق ، لعدم الدليل بعد وضوح الفرق بين الزكاة التي هي في العين والغداء الذي هو في الذمة.

بقي شي‌ء ، وهو أن ظاهر الآية اعتبار حكم العدلين في مثلية الجزاء ، ومن هنا قال الطبرسي في جامع الجوامع والمقداد في آيات الأحكام : « يحكم به رجلان عدلان فقيهان » وكذلك في الوجيز ، وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس ، إلا أني لم أجد له أثرا في كلام الفقهاء ، ولذا قال الأردبيلي في آيات الأحكام : « إن اعتبار التعدد ينافي اعتبار الحكم إذ ليس بعد شهادة العدلين شي‌ء إلا ما جاء من الحلف في دعوى الدين على الميت ، فلا يبعد إرادة الشهادة من الحكم في الآية » قلت : ولكن فيه أنه لا أثر في كتب الفروع لاعتبار شهادة العدلين في المثلية أيضا إلا ما تسمعه في آخر الكفارات ضرورة أن المنصوص حكمه ما جاء في النص وغير المنصوص حكمه ضمان القيمة ، وذلك كله يشهد لكون القراءة ذو عدل ، كما في الصافي‌ عن المجمع عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، قال « وفي الكافي والعياشي عن الباقر عليه‌السلام (١)

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٣٩٧ ـ باب النوادر من أبواب الصيد من كتاب الحج الحديث ٥ وتفسير العياشي ج ١ ص ٣٤٣ سورة المائدة الرقم ١٩٧.

١٩٧

« والعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام من بعده ، ثم قالا هذا مما أخطأت به الكتاب » وزاد العياشي « يعني رجلا واحدا يعني الإمام عليه‌السلام » (١) أقول يعني أن رسم الألف في ( ذَوا عَدْلٍ ) من تصرف نساخ القرآن خطأ والصواب عدم نسخها ، وذلك أنه يفيد أن الحاكم اثنان ، والحال أنه واحد وهو الرسول في زمانه ثم كل إمام في زمانه على سبيل البدل ، وفي‌ التهذيب عن الباقر عليه‌السلام (٢) العدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام من بعده يحكم به ، وهو ذو عدل ، فإذا علمت ما حكم به الرسول والامام فحسبك ، ولا تسأل عنه » قلت : وفي الموثق (٣) « ان زرارة سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ ) فقال : العدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام من بعده ، ثم قال : هذا مما أخطأت به الكتاب » ونحوه‌ حسن إبراهيم ابن عمر اليماني (٤) عن الصادق عليه‌السلام ، وفي الحسن عن حماد بن عثمان (٥) قال : « تلوت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ذوا عدل منكم فقال : ذو عدل ، هذا مما أخطأت فيه الكتاب » وفي المحكي عن‌ تفسير العياشي عن زرارة (٦) « سمعت‌

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٣٤٤ سورة المائدة الرقم ١٩٨ وهذا في رواية أخرى.

(٢) الوسائل ـ الباب ٧ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٦ والتهذيب ج ٦ ص ٣١٤ الرقم ٨٦٧.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٣٩٧ ـ باب النوادر من أبواب الصيد من كتاب الحج الحديث ٥.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٣٩٦ ـ باب النوادر من أبواب الصيد من كتاب الحج الحديث ٣.

(٥) روضة الكافي ص ٢٠٥ الرقم ٢٤٧ الطبع الحديث.

(٦) تفسير العياشي ج ١ ص ٣٤٤ سورة المائدة الرقم ٢٠٠.

١٩٨

أبا جعفر عليه‌السلام يقول : يحكم به ذوا عدل منكم ، قال : ذلك رسول الله والامام من بعده صلوات الله عليهما ، فإذا حكم به الامام فحسبك » وفيه‌ عن محمد بن مسلم (١) عنه عليه‌السلام في الآية « يعني رجلا واحدا يعني الإمام عليه‌السلام ».

فإذا عرفت ذلك يمكن أن يكون المراد من ذوا عدل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام على معنى الاجتزاء بحكم أحدهما ، وأن المراد من الحكم بيان المثل للمقتول من الصيد ، وهو حينئذ ما ذكره الفقهاء في كتبهم من الخمسة أو العشرة ، فتكون الآية دليلا على اعتبار النص الشرعي في المثلية ، لأنه منوط بنظر العدلين من سائر الناس كما توهمه بعض العامة ، حتى أنه جعل الآية من الأدلة على جواز القياس ، وفي دعائم الإسلام (٢) بعد أن ذكر الآية ذو عدل قال : « هكذا يقرؤها أهل البيت عليهم‌السلام ذو عدل على الواحد ، وهو الامام عليه‌السلام أو من أقامه الامام ، وقد روينا أن رجلا من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام وقف على أبي حنيفة وهو في حلقة يفتي الناس وحوله أصحابه ، فقال : يا أبا حنيفة ما تقول في محرم أصاب صيدا؟ قال : عليه الكفارة ، قال : ومن يحكم عليه بها؟ قال أبو حنيفة ( ذَوا عَدْلٍ ) كما قال الله تعالى ، قال الرجل : فان اختلفا قال أبو حنيفة : يتوقف عن الحكم حتى يتفقا ، قال الرجل : فأنت لا ترى أن تحكم في صيد قيمته درهم وحدك حتى يتفق معك آخر وتحكم في الدماء والفروج والأموال برأيك ، فلم يحر أبو حنيفة جوابا غير أن نظر إلى أصحابه فقال : مسألة رافضي » وفي قوله « يتوقف عن الحكم » إبطال للحكم ، لأنا لم نجدهم اتفقوا على شي‌ء من الفتيا إلا وقد خالفهم فيه آخرون ، ولما علم أصحاب أبي حنيفة بفساد هذا القول قالوا يؤخذ بحكم أقلهما قيمة ، لأنهما‌

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٣٤٤ سورة المائدة الرقم ١٩٨.

(٢) دعائم الإسلام ـ ج ١ ص ٣٠٦.

١٩٩

قد اتفقا على الأقل ، وهذا قول يفسد عند الاعتبار ، وإنما يكون ما قالوه على قياسهم لو كانت القيمة بدنانير أو دراهم وما هو في معناهما ، فيقول أحدهما قيمته خمسة ، ويقول الآخر عشرة ، فكأنهما اتفقا على خمسة عندهم ، وليس ذلك باتفاق بالحقيقة ، لأنه إذا جزى بخمسة لم يكن عند من قال بعشرة جزاء مع أن جزاء الصيد يكون بأعيان متفرقة من النعم ، ويكون بإطعام مساكين ، ويكون بصوم ، وليس في هذا شي‌ء متفق فيه على الأقل ، ولا يكون قد جزى عند كل واحد منهما إلا أن يجزي بما أمره به ان اتفق فيه قوم وخالفهم آخرون ، وهذا بين لمن تدبره ووفق لفهمه.

قلت : لعل أصحاب أبي حنيفة بنوا ذلك على المحكي من مذهب أبي حنيفة من إرادة القيمة من المماثلة في الآية ، فالاختلاف فيها حينئذ من الاختلاف في شغل الذمة بالأقل والأكثر ، يثبت الأقل وينفي الزائد بالأصل ، ولكن فيه أن الفرض أشبه شي‌ء بقاعدة وجوب البراءة اليقينية من الشغل اليقيني ، ومن هنا حكي عن بعضهم وجوب الأزيد ، وعلى كل حال فهو كما ترى ، ضرورة عدم مورد له ، كضرورة ذلك على تقدير تفسيرها بإرادة شهادة العدلين كما سمعته من بعض أصحابنا ، ومن العجب أن جماعة من الخاصة رووا قراءة السيدين الإمامين المعصومين من الزلل ذو عدل وأنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام من بعده ثم يذكرون بعد ذلك من التفسير ما ينافيه ، مع أنه لا مورد له ، بل العامة قد حكوا قرائتهما عليهما‌السلام كذلك ، فلا بد حينئذ من أتباعهما وإرجاع قراءة ذوي عدل إليها على الوجه الذي ذكرناه ، والله العالم.

وكيف كان فـ ( لو ) عجز عن إطعام الستين صام عن كل مدين يوما وفاقا للمشهور ، بل عن التبيان أنه مذهبنا ، كما عن المجمع‌

٢٠٠