جواهر الكلام - ج ١٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

للقادم من المدينة ، على معنى ان كلا لمن يمر عليه في قدومه ، ولا يكلف غيره ولذا قال المصنف والأفضل ان يغتسل من بئر ميمون أو من فخ ، وإلا ففي منزله والأمر سهل بعد أن كان الحكم استحبابيا ، وقد تقدم غير مرة الحال في هذه الأغسال المندوبة بالنسبة إلى انتقاضها بالأصغر وعدمه ، فلاحظ ، والله العالم.

وكذا يستحب مضغ الإذخر كما في القواعد ومحكي الجامع والجمل والعقود وفيه تطييب الفم بمضغ الإذخر أو غيره عند دخول مكة كما في النافع وعن الوسيلة والمهذب ، وفيه نحو ما عن الجمل والعقود من تطييب الفم به أو بغيره ، أو عند دخول الحرم كما عن التهذيب والنهاية والمبسوط والسرائر والتحرير والتذكرة والمنتهى والاقتصاد والمصباح ومختصره ، وفي هذه التطييب بغيره أيضا ، كما في الكتابين والأصل فيه‌ قول الصادق عليه‌السلام في حسن معاوية (١) « إذا دخلت الحرم فخذ من الإذخر فامضغه » وفي‌ خبر أبي بصير (٢) « فتناول من الإذخر فامضغه » وهو وإن كان يحتمل التأخير عن دخول الحرم والتقديم ، إلا أن المنساق إرادة فعله عند الدخول ، قال الكليني : « سألت بعض أصحابنا عن هذا فقال : يستحب ذلك ليطيب به الفم لتقبيل الحجر » وهو يؤيد استحبابه لدخول مكة بل المسجد وكونه من سنن الطواف ، وكأنه الذي حمل الشيخ على حمل غيره عليه ، ولعل الأولى الحكم باستحباب الجميع ، كما أن الأولى الحكم باستحباب مضغ غيره بما يطيب به الفم وإن كان هو أولى من غيره ، لكونه المأثور ، والأمر سهل ، والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٢.

٢٨١

وان يدخل مكة من أعلاها كما في النافع والقواعد وغيرهما ومحكي النهاية والمبسوط والاقتصاد والجمل والعقود والمصباح ومختصره والكافي والغنية والجامع ، ولكن عن المقنعة والتهذيب والمراسم والوسيلة والسرائر إذا أتاها من طريق المدينة ، بل عن الفاضل أو الشام ، ولعله لاتحاد طريقهما قبلها قال : فاما الذين يجيئون من سائر الأقطار فلا يؤمرون بأن يدوروا ليدخلوا من تلك الثنية وربما استشعر من‌ خبر يونس (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام من أين أدخل مكة وقد جئت من المدينة؟ فقال : ادخل من أعلى مكة ، وإذا خرجت تريد المدينة فاخرج من أسفل مكة » الذي هو الأصل في المسألة مع التأسي بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حكاه‌ الصادق عليه‌السلام عنه في الصحيح (٢) قال : « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين » إلا أن التقييد في الأول قد كان في كلام السائل ، والتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتضي الأعم ، خصوصا مع كون الأعلى على غير جادة طريق المدينة ، بل قيل إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل اليه ، فالمتجه حينئذ ما أطلقه المصنف ، والأعلى كما في الدروس وعن غيرها ثنية كداء بالفتح والمد ، وهي التي ينحدر منها الى الحجون لمعبر مكة ، ويخرج من ثنية كدا بالضم والقصر منونا ، وهي بأسفل مكة ، والله العالم.

وان يكون حافيا كما في القواعد والنافع ومحكي المبسوط والوسيلة وظاهر الجمل والعقود والاقتصاد والمهذب والسرائر والجامع ، لكن لم نعثر عليه بنص بخصوصه ، نعم قد سمعت خبر عجلان أبي صالح (٣) بل قد سمعت ما يدل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٢.

٢٨٢

عليه في دخول الحرم ، قال الصادق عليه‌السلام في صحيح معاوية (١) « إذا دخلت المسجد الحرام فادخله حافيا على السكينة والوقار والخشوع ، قال : ومن دخله بخشوع غفر له إن شاء الله ، قلت ما الخشوع؟ قال : السكينة لا تدخل بتكبر » وفي حسنه الآخر (٢) أيضا « من دخلها بسكينة غفر له ذنبه ، قلت كيف يدخلها بسكينة؟ قال : يدخل غير متكبر ولا متجبر » وفي‌ خبر إسحاق (٣) « لا يدخل رجل مكة بسكينة إلا غفر له ، قلت : ما السكينة؟ قال : بتواضع » ولعل دخولها حافيا من التواضع المزبور ، فما في كشف اللثام من التوقف فيه في غير محله ، ثم قال : ويدخل في الحفاء المشي لغة أو عرفا ، وفيه منع ، ضرورة كون المنساق منه نزع النعلين ، بل قوله تعالى (٤) ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) صريح في ذلك ، بل لعل قوله : « انك » تشعر بالحكم السابق ، إذ هو كالتعليل المستفاد منه نحوه.

وعلى كل حال فمما سمعت يعلم استحباب كون ذلك على سكينة ووقار والمراد بهما واحد ، قيل أو أحدهما الخضوع الصوري ، والآخر المعنوي ، والله العالم.

وأن يغتسل لدخول المسجد الحرام كما عرفت الكلام فيه.

وأن يدخل من باب بني شيبة للتأسي والخبر (٥) عن الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب مقدمات الطواف الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب مقدمات الطواف الحديث ٢.

(٤) سورة طه ـ الآية ١٢.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ١.

٢٨٣

كما في كشف اللثام ، وقول الصادق عليه‌السلام في خبر سليمان بن مهران (١) في حديث المأزمين « انه موضع عبد فيه الأصنام ، ومنه أخذ الحجر الذي نحت منه هبل الذي رمى به علي عليه‌السلام من ظهر الكعبة لما علا ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر به فدفن من عند باب بني شيبة ، فصار الدخول الى المسجد من باب بني شيبة سنة لأجل ذلك » ، ولما وسع المسجد دخل الباب ، ولعله لذا قيل فليدخل من باب السلام وليأت البيت على الاستقامة ، فإنه بإزائه حتى يتجاوز الأساطين فإن التوسعة من عندها.

وليكن الدخول بعد أن يقف عندها ويسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدعو بالمأثور عن‌ الصادق عبد الله عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٢) قال : « تقول على باب المسجد بسم الله وبالله ومن الله والى الله وعلى ما شاء الله وعلى ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخير الأسماء لله والحمد لله ، والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلام على محمد بن عبد الله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام على أنبياء الله ورسله ، السلام على إبراهيم خليل الرحمن ، السلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم صل على محمد وآل محمد عبدك ورسولك ، وعلى إبراهيم خليلك وعلى أنبيائك ورسلك وسلم عليهم وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، واستعملني في طاعتك ومرضاتك واحفظني بحفظ الإيمان أبدا ما أبقيتني ، جل ثناء وجهك ، الحمد لله الذي جعلني من وفده وزواره ، وجعلني ممن يعمر مساجده ، وجعلني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٢.

٢٨٤

ممن يناجيه ، اللهم اني عبدك وزائرك في بيتك ، وعلى كل مأتي حق لمن أتاه وزاره ، وأنت خير مأتي وأكرم مزور فأسألك يا الله يا رحمن ، وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وبأنك واحد أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأن محمدا عبدك ورسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أهل بيته ، يا جواد يا ماجد يا جبار يا كريم أسألك أن تجعل تحفتك إياي من زيارتي إياك أول شي‌ء أن تعطيني فكاك رقبتي من النار ، اللهم فك رقبتي من النار ، تقولها ثلاثا ، وأوسع علي من رزقك الحلال الطيب ، وادرأ عني شر شياطين الجن والانس ، وشر فسقة العرب والعجم » وقال أيضا في صحيح معاوية (١) « إذا انتهيت الى باب المسجد فقم وقل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، بسم الله وما شاء الله والسلام على أنبياء الله ورسله ، والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسلام على إبراهيم خليل الله ، والحمد لله رب العالمين ، فإذا دخلت المسجد فارفع يديك واستقبل البيت ، وقل : اللهم إني أسألك في مقامي هذا في أول مناسكي أن تقبل توبتي ، وأن تتجاوز عن خطيئتي ، وتضع عني وزري ، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام ، اللهم إني أشهدك أن هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمنا ومباركا وهدى للعالمين ، اللهم إني عبدك والبلد بلدك ، والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك ، وأؤم طاعتك مطيعا لأمرك راضيا بقدرك ، أسألك مسألة المضطر إليك الخائف عقوبتك ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، واستعملني بطاعتك ومرضاتك ».

المقصد الثاني في كيفية الطواف وهو يشتمل على واجب وندب ، فالواجب سبعة‌ منها النية بلا خلاف معتد به ولا إشكال ابتداء واستدامة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ١.

٢٨٥

التي تقدم الكلام في حكمها وكيفيتها غير مرة ، نعم في الدروس هنا « ظاهر بعض القدماء أن نية الإحرام كافية عن خصوصيات نيات الافعال ، ولعله لخلو الأخبار الواردة بتفصيل أحكام الحج من ذكر النية في شي‌ء من أفعاله سوى الإحرام الذي هو أولها ، فيكون حينئذ كباقي العبادات المركبة من الصلاة وغيرها التي لا تحتاج اجزاؤها إلى نية » وهو كما ترى ، ضرورة الفرق بينه وبين الصلاة التي أفعالها مرتبطة ومتصلة ، بخلاف أفعال الحج الباقية على مقتضى‌ قوله عليه‌السلام (١) « لا عمل إلا بنية » و « إنما الأعمال بالنيات » (٢) الذي هو لو لا الإجماع لكان معتبرا في اجزاء الصلاة أيضا ، بل لعله كذلك فيها بناء على أنها الداعي المفروض وجوده في تمام الصلاة ، بل ربما كان ذلك مرجحا للقول بأنه الداعي كما أوضحناه في محله ، بل ربما كان على ذلك لا فرق بين الابتداء والاستدامة التي هي على هذا التقدير فعلية لا حكمية إلا في صورة نادرة ، وهي فيما لو فرض ذهاب الداعي في الأثناء مع بقاء الافعال منتظمة ، بل يمكن منع الفرض المزبور ومنع صحة الصلاة فيه لو سلم ، ولتحقيق المسألة مقام آخر ، هذا ، وربما كان الوجه في تخصيص الإحرام بذكر النية فيه توقف امتياز نوع الحج والعمرة عليه.

وكيف كان فلا بد من مقارنة النية للطواف على حسب غيره من الاعمال ، لكن في المدارك ولا يضر الفصل اليسير ، وفيه نظر ، ولذا اعتبره الفاضل وغيره عند الشروع فيه ، بل في كشف اللثام لا قبله بفصل ولا بعده ، وإلا لم تكن نية ، على انه لا يتم على تقدير كونها الداعي ، كما أن ما في كشف اللثام من انه لا بد من خطور معنى الطواف وهو الحركة حول الكعبة سبعة أشواط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

٢٨٦

لا يخلو من نظر أيضا ، لإطلاق الأدلة ، وأما الاستدامة حكما فقد تقدم الكلام فيها في الصلاة وغيرها ، بل ذكرنا بناء على انها الداعي كما هو التحقيق أنه موجود غالبا في جميع اجزاء الفعل ، وإلا لم يقع منه منتظما ، كما هو واضح.

ومنها البدأة بالحجر الأسود والختم به بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص ، مضافا الى التأسي به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصوصا بعد‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « خذوا عني مناسككم » منها‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح معاوية (١) « من اختصر في الحجر الطواف فليعد طوافه من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود » وما عن الشيخ في الاقتصاد من التعبير بلا ينبغي محمول على إرادة الوجوب قطعا ، وحينئذ فلو ابتدأ الطائف بغيره مما قبله أو بعده ففي القواعد لم يعتد بذلك الشوط الى ان ينتهي إلى أول الحجر فمنه يبتدأ الاحتساب ان جدد عنده النية للإتمام مع احتمال البطلان ، ومزجها في كشف اللثام ، فقال ، « إن جدد عنده النية لمجموع سبعة أشواط سواء ألغى ما قبله أو لا تذكره وزعم دخوله في الطواف واحتسابه منه أو لا ، فإنه الآن طواف مقرون بالنية من ابتدائه ، فإذا أتمه سبعة أشواط غير ما قدمه صح وإن كان ذلك سهوا ، ولا يكفي استدامة حكم النية السابقة ، لعدم مقارنتها لأول الطواف ، وكذا يصح الاحتساب منه جدد عنده النية للإتمام اي إتمام سبعة أشواط بفعل سبعة أخرى أو ضمها الى ما قدمه ، ولكن إنما يصح إذا أكمل سبعة أخرى بأن علم في الأثناء كون المقدم لغوا فأكملها بنية ثانية ، أو أكملها سهوا ، وإنما يصح الأول بناء على جواز تفريق النية على أجزاء المنوي ، والثاني بناء على ان نية الإتمام تتضمن نية مجموع السبعة أشواط ، لكن سهى أو جهل فزعم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٣.

٢٨٧

ان منها ما قدمه ، كما إذا نوى القضاء بفريضة لزعمه خروج الوقت ولم يكن خرج مع احتمال البطلان ، لبطلان النية المفرقة على أجزاء المنوي ، ومنافاة نية إتمام السابق الفاسد بستة لنية مجموع السبعة ، فإنه ينوي الآن ستة لا غير ، وغايته لو صح ما قدمه تفريق النية على الاجزاء ، ويجوز ان يريد بالإتمام فعل مجموع سبعة أشواط لا مع إلغاء ما قدمه ليحتمل البطلان ، إذ لا شبهة في الصحة مع الإلغاء ووجه الاحتمال حينئذ انه وإن نوى مجموع السبعة بنية مقارنة للمبدأ لكنه لما اعتقد دخول ما قدمه منها كان بمنزلة نية ستة أشواط ، هذا كله على كون اللام في الإتمام لتقوية العامل ، ويجوز كونها وقتية اي منه يحتسب ان أتم سبعة عدا ما قدمه مع تجديد النية عنده بأحد المعنيين ، ويحتمل التعليل اي منه يحتسب إن جدد النية عنده بأحد المعنيين ، لانه أتم حينئذ الطواف وشروطه وإن فعل قبله ما يلغو ، وأتم النية واتى بها صحيحة مقارنة لما يجب مقارنتها له ».

قلت لا يخفى عليك ان ذلك كله متعبة لا فائدة فيها ، مضافا الى ما فيه من التجشم في الأخير بل وسابقه ، والى إمكان منع إرادة التفريق من التجديد ولذا قال في المدارك : « فلو ابتدأ الطائف من غيره لم يعتد بما فعله حتى ينتهي إلى الحجر الأسود فيكون منه ابتداء طوافه إن جدد النية عنده أو استصحبها فعلا » والمهم تنقيح وجوب قصد البدأة بالحجر وعدمه ، ولا ريب في انه أحوط بل لعل احتمال البطلان في كلام الفاضل لذلك ، وإن كان الأقوى عدم اعتباره ، ضرورة صدق الطواف سبعة أشواط من الحجر الى الحجر في الفرض وإن لم يقصد البدأة والختم به ، إلا ان الذي وقع منه ذلك ولو سهوا ، على ان النية هي الداعي والفرض استمراره ، فهو موجود عند مروره على الحجر. والابتداء الواقع منه كان لغوا ، لأن الزيادة المتأخرة المفسدة لا المتقدمة التي هي في الحقيقة ليست‌

٢٨٨

زيادة ، وليست من التشريع إذا اتفق وقوعها منه سهوا ونحوه ، وبالجملة المتجه الصحة في الفرض المزبور مع فرض كون الحاصل منه في الخارج سبعة أشواط صحيحة بلا زيادة عليها ، وكانت النية التي هي الداعي موجودة عند مروره على الحجر ، وقلنا بعدم وجوب قصد البدأة منه كما عرفت. هذا.

وذهب الفاضل بل غيره ممن تأخر عنه إلى أنه لا بد من الابتداء بأول الحجر بحيث يمر كله على كله ، قال في المسالك : « والبدأة بالحجر بان يكون أول جزء منه محاذيا لأول جزء من مقاديم بدنه بحيث يمر عليه علما أو ظنا » ونحوه في غيرها ، ولم نعرف شيئا من ذلك لمن سبق العلامة ، وعلله في كشف اللثام بأنه لازم من وجوب الابتداء بالحجر والبطلان بالزيادة على سبعة أشواط والنقصان عنها ولو خطوة أو أقل ، فإنه إن ابتدأ بجزء من وسطه لم يأمن من الزيادة أو النقصان ، وحينئذ فلو حاذى آخر الحجر ببعض بدنه في ابتداء الطواف بعد النية بجميع بدنه لم يصح ، لعدم ابتدائه فيه بأول الحجر بل بما بعده ، بل لا بد أن يحاذي بأقدم عضو من أعضائه أوله ، بل قيل إنهم اختلفوا لذلك في تعيين أول جزء البدن هل هو الأنف أو البطن أو إبهام الرجلين ، وربما اختلف الأشخاص بالنسبة الى ذلك ، ولكن ذلك كله بعد الإغضاء عما في الأخير كما ترى لا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، خصوصا ما في خبر محمد (١) من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاف على راحلته واستلم الحجر بمحجنه ، وسيما في هذه الأزمنة التي يشتد فيها الزحام كما أشار إليه في‌ صحيح عمار (٢) « وكنا نقول لا بد أن يستفتح الحجر ويختم به ، فاما اليوم فقد كثر الناس » وإن كان الظاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨١ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١.

٢٨٩

إرادة الاستلام له في المبدأ والمنتهى ، لكن الفرض شدة الحرج والضيق فيما ذكروه المنافي لسهولة الملة وسماحتها ، ودعوى الاستلزام المزبور واضحة المنع ، ضرورة تحقق الصدق عرفا بدون ذلك ، اللهم إلا أن يراد من نحو قوله « من الحجر » الطواف بالحجر الذي هو اسم للمجموع ، كما ان المراد من الطواف به الطواف ببدنه عليه ، إلا أن ذلك كله شك في شك ، مضافا الى إجمال الكيفية المزبورة التي هي الطواف بأول جزء من مقاديم بدنه على أول جزء منه مارا بجميع بدنه كله محافظا على الطواف على اليسار ، وإن كان الظاهر عدم البأس في إدخال جزء من باب المقدمة مع استصحاب النية وقصد الاحتساب من حيث يحاذي ولا يلزم من ذلك الزيادة كما في إدخال جزء من الرأس في غسل الوجه ، وبالجملة لا يخفى حصول المشقة بملاحظة نحو ذلك ، بل ربما كان اعتباره مثارا للوسواس كما انه من المستهجنات القبيحة نحو ما يصنعه بعض الناس عند إرادة النية للصلاة بناء على انه الاخطار من الأحوال التي تشبه أحوال المجانين ، مع انه مناف للتقية ، بل قد يقال إنه لم يطف بالجزء المحاذي له من المقاديم ، لان الطواف عبارة عن الحركة الدورية ، فالتحقيق عدم اعتبار ذلك ، بل ظاهر المدارك والرياض وغيرهما عدم اعتبار محل الابتداء ، فلو ابتدأ مثلا بآخر الحجر كان له الختم بأوله ولعله لصدق أنه ابتدأ بالحجر وختم به ، ودعوى عدم صدق الختم حتى يصل الى محل الابتداء الذي هو الوسط أو الآخر ممنوعة ، والزيادة والنقيصة في الفرض غير قادحة بعد ظهور الأدلة في كون المراد منهما الزيادة على الحجر الذي هو محل الابتداء والنقيصة عنه ، بل الظاهر اعتبار إدخال الاولى في الطواف بقصد انه منه في المنع لا لغوا أو مقدمة كما ستعرف إن شاء الله ، ولكن صرح جماعة باعتبار محاذاة الحجر في آخر شوط كما ابتدأ به أولا من غير فرق بين الأول وغيره ، فينبغي حينئذ ان يعلم محل الابتداء وإن كان الظاهر عدم البأس بالزيادة مقدمة ، ولعله‌

٢٩٠

لتوقف صدق اسم الطواف بالبيت الذي منه الحجر عليه ، ضرورة صدق النقصان مثلا على بعض الافراد ، ولا ريب في انه أحوط إن لم يكن أقوى ، وأحوط منه مراعاة أول جزء من الحجر على حسب ما عرفته سابقا.

وكيف كان فلا ريب في استحباب استقبال الحجر بوجهه قبل الطواف للتأسي ، وظاهر خبري الحسن بن عطية (١) ومعاوية بن عمار (٢) السابقين ، بل في المدارك وينبغي إيقاع النية حال الاستقبال ثم الأخذ في الحركة على اليسار عقيب النية ، وما قيل من فوات المقارنة لأول الطواف الذي هو الحركة الدورية حينئذ ضعيف جدا ، لان مثل ذلك لا يخل بها قطعا ، وفيه ما عرفت ، نعم بناء على انها الداعي لا بأس بذلك ، ضرورة خطورة في الحالتين ، والله العالم.

ومنها أن يطوف على يساره بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا الى التأسي ، بل ربما استفيد من‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٣) : « إذا كنت في الطواف السابع فائت المتعوذ وهو إذا قمت في دبر الكعبة حذاء الباب ، فقل : اللهم ـ الى ان قال ـ : ثم استلم الركن اليماني ثم ائت الحجر فاختم به » وفي‌ صحيح معاوية (٤) « إذا فرغت من طوافك وبلغت مؤخر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الركن اليماني بقليل فابسط يدك على البيت ـ الى ان قال ـ : ثم ائت الحجر الأسود » وصحيحه الآخر (٥)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١ والظاهر انه لم يتقدم وإنما يأتي في مسألة نقصان الطواف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب زيارة البيت ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٩.

٢٩١

« ثم تطوف بالبيت سبعة أشواط ـ الى ان قال ـ فإذا انتهيت إلى مؤخر الكعبة وهو المستجار دون الركن اليماني بقليل في الشوط السابع فابسط يدك على البيت وألصق يدك وبطنك بالبيت ثم قل : اللهم ـ الى ان قال ـ ثم استقبل الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود واختم به » بتقريب استلزام الترتيب المزبور في الشوط السابع لكون الطواف على اليسار.

وعلى كل حال فلو جعله على يمينه أو استقبله بوجهه أو استدبره جهلا أو سهوا أو عمدا لم يصح عندنا ، فما عن أبي حنيفة ـ من انه إن جعله على يمينه اعاده إن أقام بمكة ، وإلا جبره بدم ، بل عن أصحاب الشافعي لم يرد عنه نص في استدباره ، والذي يجي‌ء على مذهبه الاجزاء ، بل عنهم أيضا في وجه الاجزاء ان استقبله أو مر القهقرى نحو الباب ـ قول بغير علم ، نعم لا يقدح في جعله على اليسار الانحراف إلى جهة اليمين قطعا ، والله العالم.

ومنها ان يدخل الحجر في الطواف بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص ، قال الحلبي في الصحيح (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل طاف بالبيت فاختصر شوطا واحدا في الحجر كيف يصنع؟ قال : يعيد الطواف الواحد » ورواه الشيخ « يعيد ذلك الشوط » وفي‌ حسن ابن البختري (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « في الرجل يطوف بالبيت قال : يقضي ما اختصر في طوافه » وقد سمعت‌ قوله عليه‌السلام في صحيح معاوية (٣) : « من اختصر في الحجر الطواف فليعد طوافه من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٣.

٢٩٢

ولا فرق في الحكم المزبور بين القول بخروجه من البيت ودخوله فيه الذي قد تشعر به النصوص المزبورة ، بل في الدروس المشهور كونه منه ، بل في التذكرة والمنتهى ان جميعه منه ، وروي عن عائشة (١) « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ستة أذرع من الحجر من البيت » لكن‌ سأل معاوية بن عمار (٢) الصادق عليه‌السلام في الصحيح « أمن البيت هو أو فيه شي‌ء من البيت؟ فقال : لا ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن امه فيه فكره أن توطأ فجعل عليه حجرا ، وفيه قبور أنبياء » وفي‌ خبر يونس بن يعقوب (٣) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اني كنت أصلي في الحجر فقال لي رجل : لا تصل المكتوبة في هذا الموضع فان في الحجر من البيت فقال : كذب صل فيه حيث شئت » وفي‌ خبر مفضل بن عمر (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « الحجر بيت إسماعيل ، وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل » وسأله أيضا الحلبي (٥) في المروي عن نوادر البزنطي « عن الحجر فقال : إنكم تسمونه الحطيم ، وإنما كان لغنم إسماعيل ، وإنما دفن فيه امه وكره أن يوطأ قبرها فحجر عليه ، وفيه قبور أنبياء » الى غير ذلك من النصوص الدالة على ذلك ، وما في التذكرة ـ من ان قريشا لما بنت البيت قصرت الأموال الطيبة والهدايا والنذور عن عمارته ، فتركوا من جانب الحجر بعض البيت ، وقطعوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم ، وضيقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه ، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعا ، وهو الذي يسمى الشاذروان ـ لم نتحققه‌

__________________

(١) رواه في المغني ج ٣ ص ٣٨٢ وسنن البيهقي ج ٥ ص ٨٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١٠.

٢٩٣

بل الثابت في نصوصنا (١) المشتملة على قصة هدم قريش الكعبة خلافه ، نعم ربما كان في‌ مرفوع علي بن إبراهيم (٢) وغيره « انه كان بنيان إبراهيم الطول ثلاثون ذراعا ، والعرض اثنا وعشرون ذراعا ، والسمك تسعة أذرع » تأييد لكون نحو ستة أذرع منه من البيت.

وعلى كل حال فلا بد من إدخاله في الطواف ، فلو طاف بينه وبين البيت لم يصح شوطه إجماعا ، لا الطواف كله كما سمعته في النصوص السابقة ، لكن قال الشهيد : فيه روايتان ، ويمكن اعتبار تجاوز النصف هنا ، وحينئذ لو كان السابع كفى إتمام الشوط من موضع سلوك الحجر ، ولعله أراد بالرواية الأخرى ما سمعته من صحيح معاوية بن عمار المحتمل لكون الاختصار في جميع الأشواط ، وكون الطواف بمعنى الشوط ، وكذا‌ خبر إبراهيم بن سفيان (٣) « كتبت الى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام امرأة طافت طواف الحج فلما كانت في الشوط السابع اختصرت فطافت في الحجر وصلت ركعتي الفريضة وسعت وطافت طواف النساء ثم أتت منى قال : تعيد » بل عن التذكرة لو دخل إحدى الفتحتين وخرج من الأخرى لم يحتسب له ، وبه قال الشافعي في أحد قوليه ، ولا طوافه بعده حتى ينتهي إلى الفتحة التي دخل منها ، يعني فإن دخلها أيضا لم يحتسب أيضا وإن تجاوزها وطاف بالحجر احتسب مطلقا أو بعد النصف ، وفيه إشارة الى عدم الاكتفاء بإتمام الشوط من الفتحة ، بل يجب الاستئناف ، لظهور الإعادة في الخبرين فيه ، بل نص الثاني منهما على الإعادة من الحجر الأسود كما سمعت ، والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطواف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ـ ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٤.

٢٩٤

ومنها ان يكمله سبعا بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا الى النصوص (١) المستفيضة بل المتواترة.

ومنها ان يكون بين البيت والمقام الذي هو لغة موضع قدم القائم ، والمراد به هنا مقام إبراهيم عليه‌السلام أى الحجر الذي وقف عليه لبناء البيت كما عن ابن أجير ، أو للأذان بالحج كما عن غيره ، بل عن العلوي وابن جماعة أنه لما أمر بالنداء وأقام على المقام تطاول المقام حتى كان كأطول جبل على ظهر الأرض فنادى ، أو لما عن ابن عباس من أنه لما جاء بطلب ابنه إسماعيل فلم يجده قالت له زوجته انزل فأبى فقالت دعني اغسل رأسك فأتته بحجر فوضع رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته وقد غابت رجله فيه ، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته فغابت رجله الثانية فيه ، فجعله الله من الشعائر ، وعن الأزرقي أنه لما فرغ من الأذان عليه جعله قبلة فكان يصلي اليه مستقبل الباب ، وذكر أيضا ان ذرع المقام ذراع ، وان القدمين داخلان فيه سبعة أصابع ، وعن ابن جماعة ان مقدار ارتفاعه من الأرض نصف ذراع وربع وثمن بذراع القماش ، وأن أعلاه مربع من كل جهة نصف ذراع وربع ، وموضع غوص القدمين ملبس بفضة ، وعمقه من فوق الفضة سبع قراريط ونصف قيراط بالذراع المتقدم أي ذراع مصر المستعمل في زمانه ، ولعل اختلافهما باعتبار الذراع باليد والحديد.

وعلى كل حال فلا خلاف معتد به أجده في وجوب كون الطواف بينه وبين البيت ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، لخبر حريز عن ابن مسلم (٢) قال : « سألته عن حد الطواف الذي من خرج عنه لم يكن طائفا بالبيت قال : كان‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ و ٣٢ ـ من أبواب الطواف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١.

٢٩٥

الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطوفون بالبيت والمقام ، وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام وبين البيت فكان الحد موضع المقام اليوم ، فمن جازه فليس بطائف ، والحد قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي البيت كلها فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفا بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد ، لأنه طاف في غير حد ولا طواف له » المنجبر والمعتضد بما عرفت ، وكان وجه ما فيه من الاختلاف بين اليوم وعهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع‌ قوله عليه‌السلام « والحد قبل اليوم واليوم واحد » ما عن مالك والطبري من انه كانت قريش في الجاهلية الصقته بالبيت خوفا عليه من السيول ، واستمر كذلك في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد أبي بكر ، فلما ولي عمر رده الى موضعه الآن الذي هو مكانه في زمن الخليل ، وإن كان يبعد ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى من عمر بذلك ، خصوصا بعد عدم معرفته بموضعه في زمن الخليل ، ومن هنا كان المحكي عن ابن أبي مليكة أنه قال : موضع المقام هذا الذي هو فيه اليوم هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر ، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر ثم رد وجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده ، وعن تاريخ البخاري أن سئل أم نهشل لما أتى المسجد أخذ المقام إلى أسفل مكة فلما جف الماء أتوا بالمقام والصقوه بالكعبة وكتبوا الى عمر بذلك فورد مكة معتمرا في شهر رمضان من ذلك العام وسأل هل أحد عنده علم بمحل الحجر فقام المطلب بن وداعة السلمي وقيل رجل من آل عابد ، والأول أشهر ، أنا كنت أخاف عليه مثل هذا فأخذت مقياسه من محله الى الحجر ، فأجلسه عمر عنده وقال له : ابعث فأتني بالمقياس فاتي به فوضع عمر المقام في محله الآن ، ونحوه عن النواوي والأزرقي ، وعن ابن سراقة ان ما بين باب الكعبة ومصلى آدم أرجح من تسعة أذرع ، وهناك كان موضع‌

٢٩٦

مقام إبراهيم عليه‌السلام وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين ، وانزل عليه (١) ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) ثم نقله الى الموضع الذي هو فيه الآن ، وذلك على عشرين ذراعا من الكعبة لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه ، ثم ذهب به السيل في أيام عمر إلى أسفل مكة فأتي به وأمر عمر برده الى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحوه في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الواضع له هنا ما عن ابني عنبسة وعروية ، بل قد يظهر من‌ صحيح زرارة (٢) ان عمر قد أحيى فعل الجاهلية ، « قال لأبي جعفر عليه‌السلام قد أدركت الحسين عليه‌السلام قال : نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج فيقول قد ذهب به السيل ، ويدخل الداخل فيقول هو مكانه ، قال فقال يا فلان ما يصنع هؤلاء؟ فقلت أصلحك الله تعالى يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام فقال لهم : إن الله عز وجل جعله علما لم يكن ليذهب به فاستقروا ، وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه‌السلام عند جدار البيت ، فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم ، فلما فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة رده الى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه‌السلام ، فلم يزل هناك الى أن تولى عمر فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام فقال رجل أنا كنت قد أخذت مقداره بتسع ، فهو عندي فقال ائتني به فأتاه به فقاسه فرده الى ذلك المكان ».

وعلى كل حال فعن أبي علي اجزاء الطواف خارج المقام مع الضرورة ، لصحيح الحلبي (٣) سأل الصادق عليه‌السلام « عن الطواف خلف المقام فقال ما أحب‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١١٩.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ١٥٨ الرقم ٦٨١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٢.

٢٩٧

ذلك وما أرى به بأسا ، فلا تفعله إلا أن لا تجد منه بدا » قيل بل قد يظهر الميل اليه من المختلف والتذكرة والمنتهى ، ولكن فيه ان الخبر المزبور دال على الكراهة مع الاختيار دون الاضطرار كما عن ظاهر الصدوق الفتوى به لا الجواز وعدمه ، نعم يمكن القول بإجزائه تقية ، اما غيرها فمشكل ، بل ظاهر ما سمعته من النص والفتوى ومعقد الإجماع عدم الاجزاء مطلقا.

ثم إنه لا بد من ملاحظة المقدار المزبور من جميع الجوانب كما سمعت التصريح به في الخبر المزبور (١) بل نسبه في المدارك الى قطع الأصحاب ، وهو كذلك وهو كما عن تاريخ الأزرقي الى الشاذروان ست وعشرون ذراعا ونصف ، نعم لا إشكال في احتساب المسافة من جهة الحجر من خارجه بناء على أنه من البيت ، بل في المدارك وغيرها وإن قلنا بخروجه عنه لوجوب إدخاله في الطواف فلا يكون محسوبا من المسافة ، وفيه انه خلاف ظاهر الخبر المزبور ، ولذا احتمل في المسالك احتسابه منها وإن لم يجز سلوكه ، ولا ريب في انه الأحوط ، وهل المعتبر وقوع الطواف بين البيت وحائط البناء الذي هو على المقام الأصلي أو بين الصخرة التي هي المقام هنا؟ الظاهر الثاني ، كما انه لا مدخلية للمقام نفسه في الطواف ، فلو حول عن مكانه وجب الطواف في المقدار المخصوص كما دل عليه الخبران المزبوران (٢) بل خبر زرارة صريح ، هذا.

وعن الشافعي لا بأس بالحائل بين الطائف والبيت كالسقاية والسواري ، ولا كونه في آخر باب المسجد وتحت السقف وعلى الاروقة والسطوح إذا كان البيت ارفع بناء على ما هو اليوم ، فان جعل سقف المسجد أعلى لم يجز الطواف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١ و ٢.

٢٩٨

على سطحه ، ومقتضاه كما عن التذكرة انه لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله لم يصح الطواف حول عرصتها ، وهو بعيد بل باطل كبطلان القول بجواز الطواف في المسجد خارجا عن القدر المزبور عندنا.

وكيف كان فـ (لو مشى ) الطائف في طوافه على أساس البيت الذي هو القدر الباقي من أساس الحائط بعد عمارته المسمى بالشاذروان أو على حائط الحجر لم يجزه بلا خلاف ولا إشكال ، لعدم صدق الطواف بالبيت والحجر ، إذ الأول من الكعبة فيما قطع به الأصحاب على ما في المدارك ، بل هو المحكي عن غيرهم من الشافعية والحنابلة وبعض متأخري المالكية ، نعم عن ابن ظهرة من الحنفية جواز الطواف عندنا على الشاذروان ، لانه ليس من البيت ، نص على ذلك الأصحاب ، ولعله ما رووه (١) من ان ابن الزبير لما هدم الكعبة وادخل الحجر أو ستة أذرع منه أو سبعة فيها لما سمعته من عائشة (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه بناها على أساس إبراهيم الخليل ولم ينقص من عرض جدارها شي‌ء ، اللهم إلا أن يكون النقصان المتعارف بين الناس في البناء إذا ظهر على الأرض ، ومثله يمكن منع كونه نقصانا من البيت ، نعم في بعض التواريخ انه لما قتل ابن الزبير هدموا الكعبة واخرجوا ما كان ادخله فيها من الحجر ، والمراد ان المعروف كون الشاذروان وهو ما نقصته قريش من عرض أساس الكعبة ، لكن قد بنيت بعدهم غير مرة ، منها في أواخر عشر الستين وستمائة أو أوائل عشر السبعين وستمائة فإن كان المراد النقصان المتعارف عند ظهور الأساس إلى الأرض أشكل حينئذ دعوى خروجه من البيت ، وإن كان غيره وانه لما جددوها أبقوها على ما نقصتها‌

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ١ ص ٤٨٠.

(٢) رواه في المغني ج ٣ ص ٣٨٢.

٢٩٩

قريش النقصان الغير المتعارف اتجه حينئذ وجوب احتسابه في الطواف ، لكون الطواف عليه حينئذ طوافا بالبيت لا به كما هو واضح ، وعلى كل حال فالعمل على ما عليه الأصحاب.

واما الثاني فلمنافاته لما سمعته سابقا من وجوب الطواف به ، سواء قلنا بكونه من البيت أو خارجا عنه ، ولا ريب في عدم تحقق ذلك مع الطواف ماشيا على حائطه ، بل عن التذكرة عدم جواز مس الطائف الجدار بيده في موازاة الشاذروان ، لانه يكون بعض بدنه في البيت ، فلا يتحقق الشرط الذي هو خروجه عنه بجميعه ، بل كان كما لو وضع احد رجليه اختيارا على الشاذروان ، ولكن فيه منع الشرط المزبور مع فرض صدق الطواف عليه ولو لخروج معظم بدنه ، ولعله لذا جزم بالصحة في القواعد ، لكن الأحوط ما ذكره ، نعم لو مسه لا في موازاته لم يكن به بأس ، وفي كشف اللثام هو مبني على اختصاصه ببعض الجوانب كما عرفت ، قلت : المحكي عن ابن ظهرة في شفاء الغرام ان شاذروان الكعبة هو الأحجار اللاصقة بالكعبة التي عليها البناء المسنم المرخم في جوانبها الثلاثة : الشرقي والغربي واليماني وبعض حجارة الجانب الشرقي بناء عليه وهو شاذروان أيضا ، واما الحجارة اللاصقة بجدار الكعبة التي تلي الحجر فليست شاذروانا ، لان موضعها من الكعبة بلا ريب ، والشاذروان هو ما نقصته قريش من عرض جدار أساس الكعبة حين ظهر على الأرض كما هو عادة الناس في الأبنية أشار الى ذلك الشيخ أبو حامد الأسفرايني وغيره ، والله العالم.

ومن لوازمه ركعتا الطواف ، وهما واجبتان في الطواف الواجب على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة عظيمة ، بل عن الخلاف نسبته إلى عامة أهل العلم ، وإن حكي فيه عن الشافعي قولا بعدم الوجوب ناسيا له الى قوم من أصحابنا ، لكن لا نعرفهم ، بل في الرياض عنه الإجماع مع ان فيه وفي السرائر نقل قول بالاستحباب ، وفي التذكرة نسبة ذلك الى شاذ كالمحكي عن ابن‌

٣٠٠