جواهر الكلام - ج ١٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) لا يقتضي الفساد بالنية المزبورة ، كما أن‌ صحيح عبد الله بن سنان (١) عن الصادق عليه‌السلام أنه سأله « عن رجل متمتع نسي أن يقصر حتى أحرم بالحج قال : يستغفر الله تعالى » لا دلالة فيه على ذلك أيضا ، خصوصا بعد ما في المدارك في المسألة من أنه متى امتنع الإدخال وقع الثاني فاسدا إلا إذا وقع الإحرام بالحج بعد السعي وقبل التقصير من العمرة فإنه يصح في المشهور ، وتصير الحجة مفردة ومن الغريب استدلاله بالصحيح الوارد في النسيان المعلوم إرادة الندب من الاستغفار فيه ، مع ذكره الحكم المزبور في العمد فضلا عنه ، ولكن مما ذكره يعلم كون المراد بعدم الجواز الذي هو معقد الإجماع المذكور الفساد في الداخل لا فيهما معا ، فينبغي الاقتصار في الحكم المخالف للإطلاق المتقدم عليه ، بل يمكن الاستدلال عليه حينئذ بظهور الأدلة في عدم مشروعية الإحرام جديدا مثل الإحلال من الإحرام الأول إلا في الصورة المزبورة التي ستعرف البحث فيها إن شاء الله ، ولعله لما ذكرنا حكي عن الجمهور أجمع جواز إدخال الحج على العمرة ، واختلفوا في العكس ، لكن قد عرفت الإجماع منا على عدم الجواز مطلقا ، وكفى به دليلا للحكم على الوجه المزبور ، والله العالم.

وكذا لا يجوز نية حجتين ولا عمرتين فيه فصاعدا ، لأنه بدعة كالقران بين الحج والعمرة الذي قد عرفت انحصار دليل البطلان فيه بالتشريع المشترك بين الجميع وحينئذ ف لو فعل ذلك على وجه يقتضي التشريع في النية بطلا معا كما عن الفاضل التصريح به ، ولكن قيل هنا والقائل الشيخ فيما حكي من خلافه تنعقد واحدة منهما مدعيا الإجماع عليه ، وبه قال الشافعي ، وصححهما أبو حنيفة ، وأوجب عليه قضاء أحدهما ، لأنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ١.

١٠١

أحرم بها ولم يتمها ، إلا أن الجميع كما ترى وإن قال المصنف هنا فيه تردد إلا أنه في غير محله مع فرض كون النية على جهة التشريع ، وإلا فلا تردد أيضا في صحة الأولى التي قارنتها نيتها ، وأما الثانية فإن جمعت شرائطها التي منها مقارنة النية لأول أفعالها صحت أيضا ، وإلا فلا ، كما هو واضح ، ومنه يظهر لك النظر فيما ذكره في المسالك من وجهي التردد ، والله العالم.

المقدمة الرابعة في المواقيت

جمع ميقات ، والمراد به هنا حقيقة أو توسعا مكان الإحرام وعلى كل حال ف الكلام الآن في أقسامها وأحكامها وتعدادها ، فنقول : المواقيت خمسة كما عن المنتهى والتحرير أو ستة كما في القواعد وغيرها بل قيل هو المشهور ، أو سبعة كما هو مقتضى بعض العبارات أيضا ، أو عشرة كما في الدروس ، إذ لكل اعتبار ، أما الأول فباعتبار تعيين الأمكنة المخصوصة ، كما‌ قال الصادق عليه‌السلام في حسن الحلبي (١) : « الإحرام من مواقيت خمسة وقتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر ان يحرم قبلها ولا بعدها ، وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهو مسجد الشجرة ، يصلي فيه ويفرض الحج ، ووقت لأهل الشام الجحفة ، ووقت لأهل نجد العقيق ، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل ووقت لأهل اليمن يلملم ، ولا ينبغي لأحد ان يرغب عن مواقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » والثاني باعتبار ذكره في التوقيت وإن لم يكن مكانا مخصوصا ، كما في‌ صحيح معاوية بن عمار (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « من تمام الحج والعمرة ان تحرم من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا تجاوزها إلا وأنت محرم ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢.

١٠٢

فإنه وقت لأهل العراق ـ ولم يكن يومئذ عراق ـ بطن العقيق من قبل العراق ، ووقت لأهل اليمن يلملم ، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقت لأهل المغرب الجحفة وهي مهيعة ، ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ومن كان منزله خلف هذه المواقيت مما يلي مكة فوقته منزله » والثالث باعتبار زيادة الإحرام من مكة ، والرابع زيادة فخ لحج الصبيان ، ومحاذاة الميقات لمن لم يمر به ، وادنى الحل أو مساواة أقرب المواقيت إلى مكة لمن لم يحاذ ميقاتا ، بل يمكن جعلها احد عشر بنوع من الاعتبار أيضا إذا جعل الأخير مغايرا لأدنى الحل ، والأمر في ذلك سهل كسهولة الاختلاف في التعبير عن السادس بدويرة الأهل أو بمكة لحج التمتع ، بل في بعض العبارات كالنافع والقواعد ذكرهما معا مع فرضها ستة ، فيحتمل كون الزائد عليها منهما دويرة الأهل كما يفهم من بعض ، لأن المنزل الأقرب غير محدود ، ويفهم من عبارة المصنف كونه الآخر حيث عد من الستة الدويرة بدله ، إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يترتب عليها ثمرة يعتد بها.

نعم لم أجد من ذكر التنعيم والجعرانة والحديبية من المواقيت مع تصريح النصوص بالإحرام للعمرة منها ، ولعلها هي أماكن مخصوصة على ادنى الحل ، إلا انه يفهم من بعض اختلافها في القرب والبعد.

وكيف كان فلا خلاف بيننا في الخمسة بل والستة بل عن جماعة الإجماع عليه بل قيل إنه كذلك عند العلماء كافة إلا من مجاهد في دويرة الأهل ، فجعل بدلها مكة ، واحمد في إحدى الروايتين في مكة لحج التمتع ، فقال : يخرج من الميقات ويحرم منه ، ونصوصنا (١) مستفيضة أو متواترة في خلافهما ، كاستفاضتها في توقيت الستة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما عن بعض العامة من ان العقيق منها لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ و ٢١ ـ من أبواب المواقيت.

١٠٣

يكن بتوقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه لم يكن يومئذ مسلم في العراق واضح الفساد وقد سمعت التصريح من الصادق عليه‌السلام بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقته ولم يكن يومئذ عراق ، ولعله لعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيرورتهم مسلمين ، أو لمن يمر منهم عليه.

وعلى كل حال ف لأهل العراق ومن يمر عليه من غيرهم العقيق إجماعا ونصا ، وهو في اللغة كل واد عقه السيل أي شقه فأنهره ووسعه ، وسمي به أربعة أودية في بلاد العرب ، أحدها الميقات ، وهو وادي يندفق سيله في غوري تهامة كما عن تهذيب اللغة والمشهور أن أفضله المسلخ وهو أوله ، كما في خبري أبي بصير أحدهما (١) عن الصادق عليه‌السلام والآخر (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام ، وهو بالسين والحاء المهملتين واحد المسالح ، وهي المواضع العالية ، أو بالخاء المعجمة ، وهو موضع النزع ، لأنه ينزع فيه الثياب للإحرام ، فتكون التسمية حينئذ متأخرة عن وضعه ميقاتا ، ودليل الأفضلية الأخبار (٣) والإجماع كما في كشف اللثام ، لكن ستسمع من النصوص (٤) ما يقتضي كون أوله ما دون المسلخ بستة أميال ، وفي النصوص (٥) أن أوله الأفضل ، ولعل الاحتياط في التأخير هذا المقدار جمعا بين النصوص والاحتمالات وتحصيلا ليقين البراءة ، ولذا قطع به الأصحاب ويليه في الفضل أوسطه آغمرة بالغين المعجمة والراء المهملة والميم الساكنة ، منهل من مناهل مكة ، وهو فصل ما بين نجد وتهامة كما عن الأزهري ، وعن فخر الإسلام أنها سميت بها‌

__________________

(١) ) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المواقيت.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المواقيت.

١٠٤

لزحمة الناس فيها ، وعلى كل حال فلم أجد في النصوص ما يقتضي كونها تلي المسلخ في الفضل ، بل ستسمع في النصوص ما يقتضي خروجها عن العقيق وإن كان المعروف بين الأصحاب أنها أوسطه ، نعم في كشف اللثام يمكن حمل صحيح عمر ابن يزيد (١) وخبر أبي بصير (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام الآتيين على شدة كراهية تأخير الإحرام عن غمرة ، والأمر سهل.

وآخره ذات عرق جبل صغير ، أو قليل من الماء ، أو قرية خربت ويجوز الإحرام من جميع مواضعه اختيارا كما هو ظاهر النص والفتوى ، بل عن الناصرية والخلاف والغنية الإجماع عليه ، قال الصادق عليه‌السلام في مرسل الصدوق (٣) : « وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل العراق العقيق ، وأوله المسلخ ووسطه غمرة ، وآخره ذات عرق ، وأوله أفضل » ونحوه عن كتاب فقه الرضا عليه‌السلام (٤) وقال أيضا في خبر أبي بصير (٥) : « حد العقيق أوله المسلخ ، وآخره ذات عرق » وكتب‌ يونس بن عبد الرحمن (٦) الى أبي الحسن عليه‌السلام « إنا نحرم من طريق البصرة ولسنا نعرف حد عرض العقيق فكتب عليه‌السلام أحرم من وجرة » وعن الأصمعي وجرة بين مكة والبصرة ، وهي أربعون ميلا ليس فيها منزل ، وقال الكاظم عليه‌السلام لإسحاق بن عمار (٧) « كان أبي مجاورا هاهنا فخرج يتلقى بعض هؤلاء فلما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٩.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٤.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أقسام الحج ـ الحديث ٨.

١٠٥

رجع وبلغ ذات عرق أحرم بالحج »

لكن عن ظاهر الصدوقين والشيخ في النهاية عدم جواز الإحرام من ذات عرق منه إلا لتقية أو مرض ولعله للجمع بين ما سمعته وبين‌ صحيح عمر بن يزيد (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل المشرق العقيق نحوا من بريد ما بين بريد البعث إلى غمرة » ، وصحيح معاوية بن عمار (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « أول العقيق بريد البعث ، وهو دون المسلخ بستة أميال مما يلي العراق وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلا بريدان » وفي حسنه الآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « آخر العقيق بريد أوطاس ، وقال بريد البعث دون غمرة ببريدين » وفي‌ مرسل ابن فضال (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « أوطاس ليس من العقيق » وخبر أبي بصير (٥) « حد العقيق ما بين المسلخ إلى عقبة غمرة » بل قد يرشد إلى حمل الخبرين الأولين على التقية‌ خبر الحميري (٦) المروي عن الاحتجاج فيما كتبه الى صاحب الزمان عجل الله فرجه يسأله « عن الرجل يكون مع بعض هؤلاء ويكون متصلا بهم يحج ويأخذ عن الجادة ولا يحرم هؤلاء من المسلخ ، فهل يجوز لهذا الرجل ان يؤخر إحرامه إلى ذات عرق فيؤخر إحرامه لما يخاف من الشهرة أم لا يجوز ان يحرم إلا من المسلخ؟ فكتب إليه في الجواب يحرم من ميقاته ثم يلبس الثياب ويلبي في نفسه ، فإذا بلغ إلى ميقاتهم أظهره » وفي كشف اللثام لا ريب انه أحوط.

قلت : لعل الوجه في الجمع بين النصوص المزبورة بعد تعارف إحرام العامة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المواقيت الحديث ١٠.

١٠٦

من ذات عرق ما عن ابن إدريس من انه وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل العراق العقيق ، فمن أي جهاته وبقاعه أحرم فيعقد الإحرام منها ، إلا ان له ثلاثة أوقات أولها المسلخ ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقية ، وأوسطها غمرة ، وهو يلي المسلخ في الفضل عند ارتفاع التقية ، وآخرها ذات عرق ، وهي أدونها في الفضل إلا عند التقية والشناعة والخوف ، فذات عرق هي أفضلها في هذا الحال وحينئذ فما في مكاتبة الحميري تعليم للجمع بين مراعاة الفضل والتقية ، على ان بعض النصوص المزبورة لا دلالة فيه على خروج ذات عرق من العقيق الذي قد عرفت إطلاق النصوص كونه ميقاتا لأهل العراق.

ثم لا يخفى عليك وجوب حصول العلم أو ما يقوم مقامه شرعا في معرفة الوقت الذي وقته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن ذكر غير واحد من الأصحاب هنا الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب ، ولعله لصحيح معاوية بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك ».‌

ولأهل المدينة مسجد الشجرة كما في النافع والقواعد ومحكي الجامع والمقنعة والناصريات وجمل العلم والعمل والكافي والإشارة ، وفيها انه ذو الحليفة بل عن الناصريات الإجماع على ذلك ، وعن المعتبر والمهذب وكتب الشيخ والصدوق والقاضي وسلار وابني إدريس وزهرة والتذكرة والمنتهى والتحرير ان ميقاتهم ذو الحليفة ، وانه مسجد الشجرة كما في حسن الحلبي (٢) السابق ، بل عن ابن زهرة منهم الإجماع على ذلك ، وفي‌ صحيح ابن رئاب (٣) المروي عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٧.

١٠٧

قرب الاسناد عنه عليه‌السلام : « وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهي الشجرة » وفي‌ خبر قرب الاسناد عن علي بن جعفر (١) عن أخيه عليه‌السلام المروي عنه أيضا « وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهي الشجرة » وفي‌ صحيح ابن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام « من أقام بالمدينة شهرا وهو يريد الحج ثم بدا له ان يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء » وفي‌ المروي (٣) عن العلل انه سئل الصادق عليه‌السلام « لأي علة أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الشجرة ولم يحرم من موضع دونه؟ فقال : إنه لما أسري به إلى السماء وصار بحذاء الشجرة نودي يا محمد فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لبيك ، قال : ألم أجدك يتيما فآويتك ولم أجدك ضالا فهديتك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك ، فلذلك أحرم من الشجرة دون المواضع كلها » بل عن شرح الإرشاد للفخر « ويقال لمسجد الشجرة ذو الحليفة وكان قبل الإسلام اجتمع فيه أناس وتحالفوا » ونحوه عن التنقيح ، ولعله يرجع إلى ما عرفت ما في اللمعة ومحكي الوسيلة من ان الميقات ذو الحليفة كما في جملة من النصوص بناء على ما عرفت انه مسجد الشجرة ، نعم في الدروس انه ذو الحليفة ، وأفضله مسجد الشجرة ، والأحوط الإحرام منه ، بل عن الكركي ان جواز الإحرام من الموضع المسمى بذي الحليفة وان كان خارجا من المسجد لا يكاد يدفع ، ولعله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٩ وفيه‌ « ولأهل المدينة ومن يليها من الشجرة. إلخ ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١٣ مع الاختلاف.

١٠٨

لإطلاق أكثر النصوص.

ولكن فيه ما عرفت من ان مقتضى الجمع بينها تعين المسجد ، وحينئذ فلو كان المحرم جنبا أو حائضا فقد صرح جملة من الأصحاب بالإحرام به مجتازين فان تعذر الاجتياز أحرما من خارجه ، ولعله لأن ذلك ليس من افراد الضرورة التي يسوغ معها تأخير الإحرام إلى الجحفة ، لأنها المشقة لمرض أو ضعف كما ستعرف ، كما ان‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر يونس (١) : « ولا تدخل المسجد وتهل بالحج بغير صلاة » الوارد في كيفية إحرام الحائض يراد منه عدم اللبث به للإحرام.

نعم قد يقال بمشروعية التيمم حينئذ للجنب والحائض بعد انقطاع دمها وتعذر الغسل مع فرض تعين الإحرام منه ، لعموم ما دل على قيام الصعيد مقام الماء ، ولعل مراد القائل بالإحرام من خارج مع فرض تعذر أصل الدخول فيه لغير حدث الجنابة مثلا ، كما انه قد يقال بوجوب تأخير الإحرام مع فرض سعة الوقت إلى حين الطهارة ، تحصيلا للإحرام من ميقاته ، اللهم إلا ان يقال بعدم وجوب الإحرام من نفس المسجد ، وانما الواجب منه أو مما يحاذيه لا دونه ولا متجاوزا عنه كما ستسمع احتماله إن شاء الله.

وعلى كل حال فقد ظهر لك على المختار ان المدار البقعة الخاصة من ذي الحليفة ، أو هو ذو الحليفة ، وهي معلومة معروفة على وجه لا شك فيها الى زماننا هذا ، فان مسجد الشجرة معلوم عند المترددين ، فالاطناب في البحث حينئذ عن ذي الحليفة ـ وانه موضع على ستة أميال عن المدينة ، وهو ماء لبني جشم كما عن القاموس ، وعن تحرير الندوى ( النووي خ ل ) على نحو ستة أميال عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ٢.

١٠٩

المدينة ، وقيل سبعة وقيل أربعة ، ومن مكة نحو عشر مراحل ، ونحو منه عن تهذيبه ، وعن المصباح المنير هو ماء من مياه بني جشم ثم سمي به الموضع ، وهو ميقات أهل المدينة نحو مرحلة منها ، ويقال على ستة أميال ، ويقال على ثلاثة ، ويقال على خمسة ونصف ، وعن المبسوط والتذكرة انه مسجد الشجرة وانه على عشر مراحل من مكة ، وعن المدينة ميل ، ووجه بأنه ميل إلى منتهى العمارات في وادي العقيق التي ألحقت بالمدينة ، وفي‌ صحيح ابن سنان (١) عن الصادق عليه‌السلام « من اقام بالمدينة شهرا وهو يريد الحج ثم بدا له ان يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء » وعن‌ معاني الاخبار (٢) قال أبو جعفر عليه‌السلام لعبد الله بن عطاء : « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أهل المدينة ، ووقته من ذي الحليفة ، وإنما كان بينهما ستة أميال » وعن السمهودي في خلاصة الوفاء « قد اختبرت فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنان وثلاثون ذراعا ونصف ذراع » ـ لا فائدة فيه الآن لما عرفته من معلومية مسجد الشجرة الآن ، والله العالم.

وكيف كان فهذا ميقاتهم مع الاختيار وأما عند الضرورة التي هي المرض والضعف ف الجحفة كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد في جوازه معها خلافا ، وهي موضع على سبع مراحل من المدينة ، وثلاث عن مكة ، وبينها وبين البحر ستة أميال ، وقيل ميلان ، ولعله لاختلاف البحر باختلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٥.

١١٠

الأزمنة ، وقيل انها كانت قرية جامعة على اثنين وثلاثين ميلا من مكة ، وعن المصباح المنير منزل بين مكة والمدينة قريب من رابغ بين بدر وخليص.

وعلى كل حال فهي كما في جملة من النصوص المهيعة وانما سميت الجحفة لإجحاف السيل بها وبأهلها ، وكيف كان فجواز الإحرام منها في الحال المزبور مع أنه لا خلاف فيه كما عرفت يدل عليه النصوص ، كخبر أبي بكر الحضرمي (١) عن الصادق عليه‌السلام « اني خرجت بأهلي ماشيا فلم أهل حتى أتيت الجحفة وقد كنت شاكيا ، فجعل أهل المدينة يسألون مني فيقولون لقيناه وغلية ثيابه وهم لا يعلمون وقد رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن كان مريضا أو ضعيفا ان يحرم من الجحفة » وخبر أبي بصير (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « قلت له : خصال عابها عليك أهل مكة قال : وما هي؟ قلت قالوا : أحرم من الجحفة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحرم من الشجرة ، فقال : الجحفة أحد الوقتين ، وأخذت بأدناهما وكنت عليلا » وصحيح الحلبي (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « من أين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال : من الجحفة ولا يجاوز الجحفة إلا محرما » بل قد يظهر من الخبرين المزبورين جوازه اختيارا كما عن ظاهر الجعفي وابن حمزة ، بل هو مقتضى إطلاق نفي البأس عن الإحرام منها في صحيح آخر (٤) وكونها ميقاتا لأهل المدينة في خبر آخر (٥) أيضا.

إلا ان الذي يقتضيه الجمع بين ذلك وبين ما يفهم منه الرخصة في خبر أبي بكر الحضرمي بل وقوله عليه‌السلام في خبر أبي بصير : « وكنت عليلا » المؤيدين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المواقيت الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المواقيت الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٥.

١١١

بفتوى المعظم هو اختصاص ذلك بالحال المزبور الموافق لقاعدة الاحتياط ، بل قد يقوى الظن بإرادة بيان أصل مشروعية الإحرام منها وانها أحد المواقيت في الجملة في النصوص المزبورة ، فلا معارضة حينئذ ، نعم قد يقال بالتخيير في الحال المزبور بين تأخير الإحرام إليها وبين الإحرام من المسجد مع فعل ما يضطر اليه والفداء عنه كما نص عليه في المسالك.

ثم لا يخفى عليك ان الاختصاص بالضرورة مع المرور على الميقات الأول وإلا فلو عدل عن طريقه ولو من المدينة في الابتداء جاز وأحرم منها اختيارا لأنها أحد الوقتين ، وما في‌ خبر إبراهيم بن عبد الحميد (١) سأل الكاظم عليه‌السلام « عن قوم قدموا المدينة فخاف أكثرهم البرد وكثرة الأيام وأرادوا ان يأخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها فقال : لا ـ وهو مغضب ـ من دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من المدينة » محمول على ضرب من الكراهة.

بل الظاهر جواز الإحرام منها أيضا لو أخر عنه بعد المرور عليه إلى ميقات آخر اختيارا وإن أثم بذلك ، للنهي عن مجاوزة الميقات بلا إحرام من غير علة ، وفاقا لصريح جماعة ، لصدق الإحرام من الميقات الذي هو وقت لكل من يمر عليه ، وإن كان آثما بعدم إحرامه أولا عند المرور على الأول ، الا أن ذلك لا يخرجه عن صدق اسم المرور على الثاني ، مضافا إلى إطلاق نفي البأس عن الإحرام منه ، وتقييد الحكم التكليفي لا يقتضي تقييد الحكم الوضعي المستفاد من ظاهر النصوص ، ومن هنا قال بعض الناس ، انه ينبغي القطع بذلك ، فما وقع من بعض المتأخرين من احتمال عدم المشروعية له بل ظاهر آخر الميل إلى العدم في غير محله.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

١١٢

ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة أيضا اختيارا ان لم يمروا بذي الحليفة بلا خلاف أجده فيه نصا وفتوى.

وكذا لأهل اليمن جبل أو واد يقال له يلملم وألملم ويرمرم ، وهو على مرحلتين من مكة.

ولأهل الطائف قرن المنازل بفتح القاف وسكون الراء المهملة ، خلافا للمحكي عن الجوهري ففتحها ، وزعم أن أويس القرني منسوب اليه ، وفي كشف اللثام اتفق العلماء على تغليطه فيهما ، وانما أويس من بني قرن بطن من مراد بخلاف ما نحن فيه ، فإنه جبل مشرف على عرفات على مرحلتين من مكة ويقال له قرن الثعالب وقرن بلا إضافة ، وعن بعض ان قرن الثعالب غيره ، وانه جبل مشرف على أسفل منى ، بينه وبين مسجدها ألف وخمسمائة ذراع ، والأمر في ذلك سهل بعد معلومية المكان المخصوص لدى المترددين ، وفي بعض رواياتنا (١) وروايات العامة (٢) انه وقت أيضا لأهل نجد ، إلا ان المعروف في نصوصنا (٣) ان وقتهم العقيق ، ويجوز ان يكون لنجد طريقان ، فلا تنافي حينئذ ، والأمر سهل.

وميقات من منزله أقرب من الميقات منزله بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه بل عن المنتهى انه قول أهل العلم كافة إلا مجاهدا ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك النصوص المستفيضة ، كصحيح معاوية بن عمار (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « من كان منزله دون الوقت إلى مكة فليحرم من منزله » وعن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٦.

(٢) سنن البيهقي ج ٥ ص ٢٦ إلى ٢٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

١١٣

التهذيب أنه في حديث آخر (١) « إذا كان منزله دون الميقات إلى مكة فليحرم من دويرة أهله » وبمعناه‌ صحيح مسمع (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا كان منزل الرجل دون ذات عرق إلى مكة فليحرم من منزله » بناء على أن لا ميقات دونها ، وكذا‌ صحيح عبد الله بن مسكان (٣) حدثني أبو سعيد قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن كان منزله دون الجحفة إلى مكة قال : يحرم منه » إلى غير ذلك من النصوص المتفقة في الدلالة على اعتبار القرب من مكة كما صرح به غير واحد من الأصحاب.

خلافا للمصنف عن موضع من المعتبر فاعتبر القرب إلى عرفات ، ولم نقف له على دليل ، وإن كان قد يؤيده الاعتبار فيما إذا كان الإحرام بالحج الذي لا يتوقف على الدخول إلى مكة ، بخلاف ما إذا كان للعمرة التي لا مدخلية لها بعرفات ، ولعله لذا قال في المسالك لولا النصوص أمكن اختصاص القرب في العمرة بمكة ، وفي الحج بعرفة ، إذ لا يجب المرور على مكة في إحرام الحج من المواقيت بل جزم أول الشهيدين في اللمعة باعتبار القرب إلى عرفات في حج الافراد لغير النائي ، فقال : « يحج من منزله ، لأنه أقرب إليها من الميقات مطلقا ، إذ أقرب المواقيت إلى مكة مرحلتان هي ثمانية وأربعون ميلا ، وهي منتهى مسافة حاضري مكة » وأشكله في الروضة بإمكان زيادة منزله بالنسبة إلى عرفات والمساواة ، فيتعين الميقات فيهما ، والجميع كما ترى ، إذ هو كالاجتهاد في مقابلة النص المصرح فيه باعتبار القرب إلى مكة.

نعم يبقى الكلام في أهل مكة من حيث عدم اندراجهم في اللفظ المزبور المقتضي للمغايرة ، لكن عن صريح ابني حمزة وسعيد وظاهر الأكثر الإحرام منها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٤.

١١٤

بالحج ، لإطلاقهم الإحرام من المنزل لمن كان منزله دون الميقات أو وراءه ، بل في الرياض بعد نسبته إلى الشهرة حاكيا لها عن جماعة من الأصحاب قال : بل زاد بعضهم فنفى الخلاف فيه بينهم مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، كما حكاه في الذخيرة عن التذكرة ، قلت : ويؤيده‌ النبوي (١) « فمن كان دونهن فمهله من أهله » بل والمرسل (٢) « عن رجل منزله خلف الجحفة من أين يحرم؟ قال : من منزله » لكن قد سمعت سابقا في الصحيحين (٣) الواردين في المجاور أمره بالإحرام بالحج من الجعرانة ، وهو بإطلاقه شامل لمن انتقل فرضه إلى فرض أهل مكة أم لا ، ويمكن أن يقيد بالأخير ، أو يجعل ذلك من خصائص المجاور كما في الحدائق ، أو يحمل على الأفضل لبعد المسافة ، وحينئذ فالمراد بالإحرام من المنزل رخصة لا عزيمة ، ولذا كان المحكي عن الكافي والغنية والإصباح أن الأفضل لمن منزله أقرب الإحرام من الميقات ، وفي كشف اللثام وجهه ظاهر ، لبعد المسافة وطول الزمان.

وكل من حج على ميقات لزمه الإحرام منه وهو واضح خ ل ).

ولو حج على طريق لا يقضي إلى أحد المواقيت قيل والقائل جمع من الأصحاب كما في المدارك يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة لأصل البراءة من المسير إلى الميقات والإحرام من محاذاة الأبعد ، واختصاص نصوص المواقيت في غير أهلها بمن أتاها ، ول‌ صحيح ابن سنان (٤)

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٥ ص ٢٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أقسام الحج ـ الحديث ٥ والباب ١٠ منها ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٣.

١١٥

عن أبي عبد الله عليه‌السلام « من أقام بالمدينة وهو يريد الحج شهرا أو نحوه ثم بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة فإذا كان حذاء الشجرة مسيرة ستة أميال فليحرم منها » إلا أن الجميع كما ترى لا دلالة فيه على الإحرام من محاذاة الأقرب إلى مكة ولعله لذا فسر ثاني الشهيدين العبارة بغير ذلك ، قال في شرحها : « موضع الخلاف ما لو لم يحاذ ميقاتا فإنه يحرم عند محاذاته علما أو ظنا ، لصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام ، ومعنى غلبة الظن بمحاذاة أقرب المواقيت حينئذ بلوغ محل بينه وبين مكة بقدر ما بين مكة وأقرب المواقيت إليها ، وهو مرحلتان علما أو ظنا ، ووجه هذا القول أن هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلا محرما من أي جهة دخل ، وانما الاختلاف يقع فيما زاد عليها ، فهي قدر متفق عليه ، والوجه الآخر أنه يحرم من أدنى الحل عملا بأصل البراءة من الزائد ، والأول أقوى » وفي المدارك « وهذا المعنى بعيد من اللفظ ، فان الظاهر من اعتبار محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة أنه مع تعدد المواقيت التي يتحقق محاذاتها في الطريق يجب الإحرام من محاذاة أقربها إلى مكة دون الأبعد ، وما ذكره قدس‌سره خلاف معنى المحاذاة ، فتأمل ».

قلت : لكن إقامة الدليل عليه حينئذ في غاية الصعوبة ، إذ لم نعثر إلا على صحيح ابن سنان ، وهو يقتضي خلافه ، بل لم نتحقق القائل الذي حكاه حينئذ في ذلك ، إذ المحكي عن ابن إدريس أنه أطلق إذا حاذى أحد المواقيت أحرم من المحاذاة ، وابن سعيد أن من قطع بين الميقاتين أحرم بحذاء الميقات ، بل عن المبسوط التصريح باعتبار أقرب المواقيت اليه ، وهو خيرة الفاضل في المحكي من منتهاه ، بل قال : « والأولى أن يكون إحرامه بحذاء الأبعد من المواقيت من مكة ، فإن كان بين ميقاتين متساويين في القرب إليه أحرم من حذو أيهما شاء » وفي المدارك بعد أن حكى عن الفاضل ما سمعت قال : « وما ذكره المصنف أجود‌

١١٦

اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق » قلت : لا ريب أن مقتضى الصحيح وجوب الإحرام من محاذاة أول المواقيت ، بل لعل الظاهر منه بعد إلغاء خصوصية مسجد الشجرة خصوصا على ما رواه في كشف اللثام أن المحاذاة المزبورة لكل ميقات من المواقيت ، فيراد حينئذ بالميقات هو تحديد أول الإحرام من ذلك المكان أو ما يحاذيه لا خصوصيته.

ومن هنا اتجه للأصحاب إطلاقهم عدم إيجابهم المرور به وإن كان متمكنا من ذلك ، إذ لو كان هو شرطا في صحة الإحرام وجب المرور به تحصيلا للإحرام الصحيح ، وبذلك ظهر لك أنه لا وجه للمناقشة في الحكم المزبور في المدارك وأتباعها ، حتى قال : المسألة قوية الاشكال ، والاحتياط للدين يقتضي المرور على الميقات والإحرام منه تبعا للمنقول ، وتخلصا من الخلاف ، بل قيل خصوصا وقال الكليني بعد أن روى الصحيح المزبور : وفي رواية (١) « يحرم من الشجرة ثم يأخذ أي طريق كان » قلت : لكنها رواية مرسلة فلا تعارض الصحيح الموافق لظاهر الأصحاب ، إذ لم أجد من أفتى بظاهرها ، ونسبة الحكم إلى القيل يمكن أن يكون لاعتبار أقرب المواقيت إلى مكة أو لغير ذلك ، لا لاعتبار وجوب المرور بالميقات ، ورواه في كشف اللثام « ثم بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال ، فيكون بحذاء الشجرة من البيداء » نعم قد يقال إن المتجه اعتبار العلم بالمحاذاة ، لكن صرحوا بكفاية الظن ، ولعله للحرج والأصل وانسياق إرادة الظن في أمثال ذلك بل لا يبعد الاجتزاء به لو تبين فساد ظنه لقاعدة الإجزاء ، نعم لو تبين فساد ظنه بتقدم الإحرام على محل المحاذاة وكان لم يتجاوزه أعاد حينئذ ، لكن أطلق في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢.

١١٧

الدروس والمسالك الإعادة لو ظهر التقدم ، وعدمها لو ظهر التأخر ، وهو مشكل إن لم ينزل على ما ذكرناه ، لإطلاق قاعدة الاجزاء.

ولو لم يعرف حذو الميقات لا علما ولا ظنا فعن المنتهى والتحرير احتاط وأحرم من بعد بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما ، وأشكل بأنه كما يمتنع تأخير الإحرام عن الميقات كذا يمتنع تقديمه عليه ، وتجديد الإحرام في كل مكان يحتمل فيه المحاذاة مشكل ، لأنه تكليف شاق لا يمكن إيجابه بغير دليل ويدفع بأن ذلك لا ينافي كونه طريق احتياط عليه ، بل قد لا ينافيه على الوجوب أيضا بناء على أن النية هي الداعي ، إذ لا مشقة في استمرارها في أماكن الاحتمال فتأمل جيدا.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرناه يستفاد سقوط فرض ما ذكر من انه لو سلك طريقا لم يكن فيه محاذاة لميقات من المواقيت ، وإن كان قد عرفت ان فيه الاحتمالين بل القولين : الإحرام من مقدار أقرب المواقيت أو من ادنى الحل ، ضرورة انه بناء على اعتبار الجهة المزبورة لا يخلو طريق منها بالنسبة إلى محاذاة ميقات منها ، لأنها محيطة بالحرم.

ولعله على ذلك ينزل ما عن ابن إدريس من ان ميقات أهل مصر ومن صعد البحر جدة ، بناء على انها تحاذي أحدها لا انها ميقات بخصوصها ، وإن كان المصنف قد أشار إلى خلافه بقوله وكذا من حج في البحر في اعتبار المحاذاة المزبورة وكل من حج أو اعتمر على ميقات لزمه الإحرام منه بلا خلاف أجده فيه نصا وفتوى وحينئذ ف الحج قرانا أو إفرادا والعمرة تمتعا وإفرادا يتساويان في ذلك أي في الإحرام من هذه المواقيت لمن قدم مكة حاجا أو معتمرا ، وقد عرفت ان مكة ميقات حج التمتع لساكنيها وغيرهم ، بل هي ميقات لحج ساكنيها تمتعا كان أو غيره ، بل قد عرفت ان ميقات الإحرام‌

١١٨

لمن كان منزله أقرب من الميقات منزله سواء كان بعمرة تمتع أو إفراد أو حج. لإطلاق الأدلة ، نعم قد ذكر غير واحد من الأصحاب اعتبار الخروج إلى أدنى الحل في العمرة المفردة للقارن والمفرد بعد الحج ، بل في كشف اللثام لا نعلم في ذلك خلافا ، بل حكي عن المنتهى نفي الخلاف في ذلك أيضا ، ولكن يستحب ان يكون من الجعرانة أو من الحديبية أو من التنعيم منه ، للنصوص (١) السابقة وعن التذكرة ينبغي الإحرام من الجعرانة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) اعتمر منها ، فمن فاتته فمن التنعيم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر عائشة (٣) بالإحرام منه ، فمن فاته فمن الحديبية ، والأمر سهل وإن كان استفادة الترتيب المزبور من النصوص لا تخلو من إشكال.

وعلى كل حال لا يجب من واحد منها بلا خلاف أجده ولا من احد المواقيت كما عساه يتوهم من محكي المراسم وإن كان الظاهر الجواز ، بل لعله أفضل لطول المسافة والزمان ، وحينئذ فأدنى الحل رخصة لا عزيمة ، نعم لا يجوز الإحرام بها من مكة أو الحرم ، بل لو لا الإجماع ظاهرا على اختصاص العمرة المزبورة بذلك لأمكن القول باعتبار ذلك في كل عمرة ، لإطلاق بعض النصوص (٤) وتجرد الصبيان من فخ وهو بئر معروف على فرسخ من مكة ، وما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أقسام الحج ـ الحديث ٢ والباب ٢١ منها ـ الحديث ٢ والباب ٢٢ من أبواب المواقيت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب العمرة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أقسام الحج ـ الحديث ٣ وسنن النسائي ج ٥ ص ١٧٨ وسنن البيهقي ج ٥ ص ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أقسام الحج ـ الحديث ٩.

١١٩

عن القاموس من انه موضع بمكة دفن فيه ابن عمر يمكن إرجاعه إلى ذلك ، نحو ما عن النهاية الأثيرية من انه موضع عند مكة ، وعن السرائر انه موضع على رأس فرسخ من مكة قتل فيه الحسين بن علي بن أمير المؤمنين عليه‌السلام يعني الحسين بن علي ابن الحسن بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وعلى كل حال فدليله‌ صحيح ابن الحر (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصبيان من اين نجردهم؟ فقال كان أبي يجردهم من فخ » ونحوه صحيح علي بن جعفر (٢) عن أخيه موسى عليه‌السلام ، انما الكلام في ان ذلك كناية عن جواز إحرامهم منه كما صرح به بعضهم ، بل ربما نسب إلى الأكثر ، بل في الرياض يظهر من آخر عدم الخلاف فيه ، أو ان إحرامهم من الميقات ، ولكن رخص لهم في لبس المخيط إلى فخ ، فيجردون منه كما عن السرائر والمقداد والكركي قولان ، أقواهما الثاني ، لعموم نصوص المواقيت والنهي عن تأخير الإحرام عنها ، وعبادة الصبي شرعية أو تمرينية إذا جاء بها على نحو ما يجي‌ء به المكلف ، وليس في الخبرين إلا التجريد الذي لا ينافي ذلك ، على ان فخ انما هو على طريق المدينة ، أما لو كان غيره فلا رخصة لهم في تجاوز الميقات بلا إحرام الذي صرح في النص (٣) بأن الإحرام من غيره كالصلاة أربعا في السفر ، واحتمال حمل ادنى الحل من سائر الطرق على فخ الذي هو أدناه في طريقها بل قيل انه يعطيه كلام التذكرة واضح الضعف ، وتخصيص أدلة لزوم الكفارة على الولي بما دل على الرخصة في اللبس إلى فخ متحقق على القولين ، إذ لا كلام ولا خلاف في جواز‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٣.

١٢٠