جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) فالتحقيق حينئذ اعتبار الايمان في النائب والمنوب عنه ، والله العالم.

ومما يتفرع أيضا على اعتبار كمال العقل أنه لا تصح نيابة المجنون مطبقا أو أدوارا حال دوره لانغمار عقله بالمرض المانع عن القصد المعتبر ، فلا يكون فعله صحيحا وكذا الصبي غير المميز وإن حج به الولي وهل تصح نيابة المميز؟ قيل : لا تصح لاتصافه بما يوجب رفع القلم فلا وثوق بفعله وقوله ، إذ ذلك لا ينافي مشروعية أصل النيابة ، بل لأن عبادته تمرينية فلا تقع لنفسه فضلا عن غيره ، أو للشك في تناول دليل النيابة له وإن قلنا بشرعية عبادته وقيل : نعم تصح لأنه قادر على الاستقلال بالحج ندبا بناء على شرعية عباداته ، ولا شك في شمول دليل النيابة له ، وحيث كان المختار عندنا صحة عمله لكن على وجه التمرين لا على كيفية أمر المكلف بالنافلة مثلا ـ لاختصاص ما عدا ذلك بالمكلفين ، لأن الحكم الشرعي خطاب الله المتعلق بأفعالهم من غير فرق بين خطاب الوجوب والحرمة والندب والكراهة ، بل لا يبعد إلحاق خطاب الإباحة بها ، وان عدم مؤاخذة الصبي لارتفاع القلم عنه كالمجنون ، لا لأنه مخاطب بالخطاب الإباحي ، نعم لما أمر الولي بأمره بالعبادة وكان الظاهر من هذا الأمر إرادة التمرين كان هو أيضا مأمورا بما أمر به الولي من التمرين بناء على ان الأمر بالأمر أمر لكن على جهة ذلك الأمر ، فيكون عمله على جهة التمرين مشروعا ـ كان المتجه عدم صحة نيابته عن الغير ، ضرورة اختصاص جهة التمرين به وان استحق هو عليه الثواب من هذه الجهة ، بل يجوز إهداؤه إلى الغير بإذن الولي أو مطلقا كما هو الأقوى ، لاختصاص دليل الحجر في غير ذلك ، لكن لا يقع منه بعنوان النيابة عن الغير المخاطب بالفعل لنفسه وجوبا أو ندبا ، وأوضح من ذلك لو قيل بأن التمرين فيه نحو تمرين الحيوانات على بعض الأعمال ، فإنه‌

٣٦١

لا مشروعية لفعله من حيث نفسه أصلا ، وانما يستحب للولي تمرينه وامره بذلك بل ربما قيل بعدمها مطلقا بناء على الشرعية التي هي على نحو شرعية الندب للمكلف باعتبار الشك في تناول إطلاقات النيابة لمثله ، فيبقى حينئذ على مقتضى أصل عدم الجواز الموافق لقوله تعالى ( لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) وإن كان هو كما ترى لوضوح منع الشك ، فتأمل جيدا.

ولا بد في الأفعال المفتقرة إلى النية من نية النيابة وتعيين المنوب عنه بلا خلاف أجده فيه ، لاشتراك الفعل بين وجوه لا يتشخص لأحدها إلا بالنية ، كما أنه لا يتشخص لأحدهم مع تعددهم إلا بتعيينه ، أما مع اتحاده فيكفي قصد النيابة عنه ، والمراد ( بـ ) تعيينه القصد بما يشخصه في نفس الأمر من اسم أو غيره ولو بقصد من له في ذمته مع فرض اتحاده.

ثم لا يخفى عليك أن نية الإحرام والطواف عن فلان مثلا هي نية النيابة عنه ، وكذا الإحرام بحج فلان مثلا ، وعلى كل حال فالواجب قصد ذلك ، وما في‌ صحيح ابن مسلم (١) « ما يجب على الذي يحج عن الرجل قال : يسميه في المواطن والمواقف » محمول عليه أو على إرادة الاستحباب من الوجوب فيه ، لعدم وجوب ذلك اتفاقا ، ول‌ صحيح البزنطي (٢) « ان رجلا سأل الكاظم عليه‌السلام عن الرجل يحج عن الرجل يسميه باسمه فقال : إن الله لا تخفى عليه خافية » وخبر المثنى ابن عبد السلام (٣) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يحج عن الإنسان يذكره في جميع المواطن كلها فقال : إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، الله يعلم أنه قد حج عنه ، ولكن يذكره عند الأضحية إذا ذبحها » نعم الظاهر رجحان ذلك كما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النيابة في الحج الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النيابة في الحج الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النيابة في الحج الحديث ٤.

٣٦٢

سيصرح به المصنف وغيره خصوصا في الأضحية ، لحسن ابن معاوية (١) قيل للصادق عليه‌السلام : « أرأيت الذي يقضي عن أبيه أو أمه أو أخيه أو غيرهم أيتكلم بشي‌ء؟ قال : نعم يقول عند إحرامه : اللهم ما أصابني من نصب أو شعث أو شدة فآجر فلانا فيه وآجرني في قضائي عنه » وسأله الحلبي أيضا (٢) عن مثل ذلك فقال : « نعم يقول بعد ما يحرم : اللهم ما أصابني في سفري هذا من تعب أو بلاء أو شعث فآجر فلانا فيه وآجرني في قضائي عنه » وقد سمعت صحيح ابن مسلم (٣) السابق ، والمناقشة في عبارة المتن بإغناء قصد تعيين المنوب عن النيابة باردة ، إذ يكفي عدم إغناء النيابة عنه.

وتصح نيابة المملوك باذن مولاه بلا خلاف بل ولا إشكال ، لعموم الأدلة وإطلاقها ، وما عن بعض الجمهور من المنع لعدم إسقاطه فرض الحج عن نفسه فضلا عن غيره واضح الفساد.

ولا تصح نيابة من وجب عليه الحج واستقر بتقصيره بعدم فعله عام الاستطاعة الذي قد عرفت وجوب فعل الحج عليه مع تمكنه ولو مشيا ، ومن هنا لا تصح نيابته لما عرفته سابقا مفصلا إلا مع العجز عن الحج ولو مشيا فإنه يسقط عنه حينئذ ، وتصح نيابته ، حتى لو اتفق حصول التمكن له في الأثناء لم تنفسخ الإجارة ، كما لا تنفسخ بتجدد الاستطاعة لحج الإسلام ، بل لا يجب إلا مع بقائها إلى العام القابل ، كما هو واضح.

وكذا لا يصح حجه تطوعا لما عرفته وحينئذ فـ ( لو تطوع ) يقع باطلا ، ولكن قيل والقائل الشيخ في محكي مبسوطة يقع عن حجة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النيابة في الحج الحديث ٣ حسن معاوية بن عمار.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النيابة في الحج الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النيابة في الحج الحديث ١.

٣٦٣

الإسلام قهرا وهو تحكم واضح بعد عدم دليل عليه صالح للخروج به عن مقتضى القواعد ولو حج عن غيره لم يجز عن أحدهما لما عرفت.

ولمن حج واجبا فضلا عن غيره أن يعتمر عن غيره إذا لم تجب عليه العمرة ، وكذا لمن اعتمر واجبا أن يحج عن غيره إذا لم يجب عليه الحج للعمومات السالمة عن المعارض ، وتلبسه بأحد النسكين لا يمنع نيابته في النسك الآخر المفروض عدم خطابه به ، إذ قد عرفت أنه لا تجوز نيابة من كان مكلفا به فورا متمكنا منه ، للاتفاق عليه ظاهرا ، وللنص الذي سمعت الكلام فيه ، كما هو واضح ، والله العالم.

وكيف كان فقد ظهر لك من ذلك كله انه لا إشكال في انه يصح نيابة من لم يستكمل الشرائط أي شرائط وجوب الحج وإن كان صرورة لإطلاق الأدلة ، وخصوص جملة من النصوص (١) من غير فرق في ذلك بين الرجل والمرأة على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة فيجوز أن تحج المرأة عن الرجل وعن المرأة وبالعكس لإطلاق دليل النيابة وخصوص الامرأة ، قال الصادق عليه‌السلام في صحيح رفاعة (٢) : « المرأة تحج عن أخيها وأختها ، وقال : تحج عن أبيها » وسأله معاوية بن عمار (٣) أيضا « عن الرجل يحج عن المرأة والمرأة تحج عن الرجل فقال : لا بأس » إلى غير ذلك ، خلافا لما عن النهاية والتهذيب والمبسوط والمهذب من عدم جواز حج المرأة الصرورة عن غيرها ، والاستبصار من عدم جوازه عن الرجال ، ولعل الأول لخبر سلمان بن جعفر (٤)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب النيابة في الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٣ عن سليمان بن جعفر كما في الاستبصار ج ٢ ص ٣٢٣ الرقم ١١٤٤.

٣٦٤

« سألت الرضا عليه‌السلام عن امرأة صرورة حجت عن امرأة صرورة قال : لا ينبغي » بناء على إرادة الحرمة منه كما في الحدائق ، والثاني لخبر شحام (١) عن الصادق عليه‌السلام « سمعته يقول : يحج الرجل الصرورة عن الرجل الصرورة ، ولا تحج المرأة الصرورة عن الرجل الصرورة » وخبر مصادف (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام أتحج المرأة عن الرجل؟ قال : نعم إذا كانت فقيهة مسلمة وكانت قد حجت ، رب امرأة خير من رجل » وموثق عبيد بن زرارة (٣) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل الصرورة يوصي أن يحج عنه هل تجزي عنه امرأة؟ قال : لا ، كيف تجزي امرأة وشهادته شهادتان ، قال : إنما ينبغي أن تحج المرأة عن المرأة ، والرجل عن الرجل ، وقال : لا بأس أن يحج الرجل عن المرأة » وفيه منع إرادة الحرمة من « لا ينبغي » خصوصا في المقام الذي قد عرفت قوة دليله من النصوص المنجبرة بالعمل على وجه يقصر غيرها عن معارضتها سندا ودلالة ، فالمتجه حينئذ حمله على الكراهة لمكان كونها صرورة.

بل لعل نيابة الرجل الصرورة لا تخلو منها وإن كانت الامرأة أشد ، لمكاتبة بكر بن صالح (٤) إلى أبي جعفر عليه‌السلام « ان ابني معي وقد أمرته أن يحج عن أمي أيجزي عنها حجة الإسلام؟ فقال : لا ، وكان ابنه صرورة وكانت امه صرورة » ومكاتبة إبراهيم بن عقبة (٥) اليه عليه‌السلام يسأله « عن رجل صرورة لم يحج قط حج عن صرورة لم يحج قط يجزي كل واحد منهما تلك الحجة عن حجة الإسلام أولا؟ بين لي ذلك يا سيدي إن شاء الله ، فكتب لا يجزي ذلك » بل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٣.

٣٦٥

خبر بشير النبال (١) أوضح من ذلك دلالة على إرادة رجحان نيابة الرجل عليها قال : « سألته ان والدتي توفت ولم تحج فقال : يحج عنها رجل أو امرأة ، قال : أيهما أحب إليك؟ قال : رجل أحب إلى » بل قد يستفاد من التأمل في جميع النصوص صريحها وظاهرها وإشعارها كموثق عبيد بن زرارة وغيره أن للراجحية والمرجوحية جهتين : التساوي في الذكورة والأنوثة والصرورة وغير الصرورة ، والنهاية في المرجوحية نيابة المرأة الصرورة عن الرجل الصرورة ، لاجتماع الجهتين فيها ، وكذا نيابة الرجل الصرورة عن المرأة الصرورة إلا انها أقل باعتبار خفة صرورة الرجل بالنسبة إلى صرورة المرأة ، وأما نيابة الرجل الصرورة عن الرجل ففيه جهة الصرورية فقط كالامرأة الصرورة عن الامرأة الصرورة ، وكذا غير الصرورة مع المخالفة ليس فيه إلا جهة المخالفة ، والجامع للجهتين كالرجل غير الصرورة عن الرجل والامرأة غير الصرورة عن الامرأة فيه الفضل ، وخال عن جهة المرجوحية ، نعم هذا كله من حيث نفس الذكورة والأنوثة ، وإلا فقد تحصل بعض المرجحات في خصوص بعض أفراد أحدهما على بعض افراد الآخر كما أشار إليه بقوله عليه‌السلام : « رب امرأة خير من رجل » بل ربما ظهر من‌ قوله عليه‌السلام في خبر بشير : « رجل أحب إلى » ان الرجل غالبا خير من المرأة عليه‌السلام حتى مع فرض تساويهما في الأداء أو كون المرأة خيرا منه ، وإلا لنافى ما سمعته في موثق عبيد ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فـ ( من استؤجر ) مثلا ومات في الطريق فإن أحرم ودخل الحرم فقد أجزأت عمن حج عنه بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٨.

٣٦٦

بقسميه عليه ، لما سمعته سابقا من الخبرين (١) الذين وإن (٢) كان موردهما الحج عن نفسه إلا ان الظاهر ولو بمعونة فهم الأصحاب كون ذلك كيفية خاصة في الحج نفسه سواء كان عن نفسه أو عن الغير ، وسواء كان واجبا بالنذر أو غيره ، فالمناقشة في ذلك من بعض متأخري المتأخرين في غير محلها لما عرفت ، خصوصا بعد ان كان فعل النائب فعل المنوب عنه ، والفرض أجزاؤه في الثاني فيجزي في الأول ، مضافا إلى‌ موثق إسحاق بن عمار (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن الرجل يموت فيوصي بحجة فيعطى رجل دراهم يحج بها عنه فيموت قبل ان يحج قال : إن مات في الطريق أو بمكة قبل ان يقضي مناسكه فإنه يجزي عن الأول » المحمول ولو بقرينة ما عرفت على إرادة ما بعد الإحرام ودخول الحرم ، وعدم العمل بما دل عليه مما هو أزيد من ذلك للمعارض الذي هو أقوى منه لا يقدح في العمل به فيما نحن فيه.

ومنه يعلم وجه الاستدلال بغيره من النصوص (٤) مما هو نحوه في الدلالة حتى‌ مرسل المفيد (٥) في المقنعة « من خرج حاجا فمات في الطريق فإنه إن كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة ، فان مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحج وليقض عنه وليه » فلا إشكال في المسألة من هذه الجهة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١ و ٢.

(٢) العبارة غير مستقيمة فلا بد من إسقاط « الذين » أو إسقاط « وان » حتى تكون صحيحة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١ رواه مضمرا كما في الكافي ج ٤ ص ٣٠٦ والتهذيب ج ٥ ص ٤١٧ الرقم ١٤٥٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

٣٦٧

كما انه لا إشكال في عدم استحقاق المستأجر رد ما قابل المتخلف من الأجرة بعد الإجماع المحكي من جماعة على ذلك ونفي الخلاف من آخر ، بل نسبه بعضهم إلى دلالة النصوص أيضا ، مع إمكان القول بأن عقد الإجارة انما يقتضي تأدية الحج من الأجير على حسب تكليفه من نسيان وسهو وإجزاء وغير ذلك ، فيكون ما وقع منه في الفرض من أفراد العمل المستأجر عليه حقيقة ، نحو المستأجر على صلاة مثلا فنسي فيها ما لا يبطلها ، فإنه لا إشكال في استحقاق الأجير تمام الأجرة ضرورة كون محل البحث حال الإطلاق المجرد عن التصريح بالتوزيع مع اتفاق النقصان وعن عدمه لو اتفق عدمه ، والظاهر ما ذكرناه في هذا الحال وإن كان الحاضر في ذهن الأجير والمستأجر الإتيان بكمال الأفعال ، لكن لا على وجه تقسيط الأجرة ، بل كان لأنه أول الأفراد في الاجزاء ، فالمناقشة حينئذ من بعض متأخري المتأخرين في عدم استحقاق المستأجر رد ما قابل المتخلف بأنه وإن حصل المبرئ للذمة لكنه ليس تمام ما استؤجر عليه ـ فيستحق حينئذ رد المقابل للمتخلف وإن حصل المبرئ للذمة الذي ليس هو تمام المستأجر عليه ـ في غير محلها ، خصوصا مع ملاحظة ما حكي من الإجماعات المعتضدة بعدم الخلاف وغيره.

نعم لو مات قبل ذلك لم يجز ما وقع منه قبل الإحرام قطعا بل إجماعا بقسميه وإن ورد جملة من النصوص (١) بأنه يعطى المنوب حجة النائب إن كان قد حج سابقا ، وإلا كتبه الله له حجة مع فرض عدم مال للنائب يستأجر به عما في ذمته ، لكن المراد منها ـ بعد حملها على تقصير النائب في الأداء وإتلاف الأجرة في غير الحج أو نحو ذلك ـ بيان وصول عوض للمنوب بدل دراهمه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب النيابة في الحج.

٣٦٨

وان الله تعالى شأنه لا يضيع ماله إذا فرض وقوع ذلك ولم يعلم الولي بل استأجره واعتمد على أصالة عدم تقصير المسلم فيما يجب عليه ، لا ان المراد منها الإجزاء حقيقة بحيث لو علم الولي بذلك وأمكنه الاستيجار عنه ثانيا وثالثا لم يجب عليه فإنه من المقطوع ببطلانه ، ضرورة عدم فراغ المنوب عنه بمجرد الاستيجار ، بل لا بد من الفعل معه كما هو واضح ، فما وقع من بعض متأخري المتأخرين من العمل بهذه النصوص غير مستأهل للالتفات ، كغيره من مخالفاته الناشئة عن اختلال الطريقة ، نعوذ بالله منه.

ومن هنا قال المصنف : في الفرض عليه أن يعيد من الأجرة ما قابل المتخلف من الطريق ذاهبا وعائدا مع فرض اشتراط المباشرة في الحج كي يتجه انفساخ الإجارة حينئذ بموته ، فيحتاج إلى التقسيط المزبور وفاقا لجماعة من الأصحاب ، بل ينبغي القطع به مع فرض دخول قطع المسافة كذلك في العمل المستأجر عليه ، ضرورة اقتضاء قاعدة الإجارة ذلك على ما أوضحناه فيها ، لكن ينبغي حينئذ تعيين المسافة ، وإلا بطلت الإجارة للجهالة ، ضرورة شدة اختلافها فمع فرض ذكرها في عقد الإجارة كي يتجه التقسيط الذي لا وجه له مع فرض عدم ذكرها في العمل المستأجر عليه لا بد من تعينها ، وإلا كان فيه من الغرر ما لا يخفى ، ومن ذلك يعلم ما في إطلاقهم ، وهل يجزي غير المعين عنه مع رضاء المستأجر على وجه يلحقه التقسيط أيضا؟ وجهان.

وعلى كل حال فلا إشكال بل ينبغي القطع بعدم التوزيع مع التصريح بإرادة نفس العمل على وجه لا يستحق الأجير على مقدمات العمل شيئا إذا فرض صحة نحو ذلك ، وانما الإشكال فيما لو أطلق الإجارة على الحج فهل يدخل فيها قطع المسافة ذهابا وإيابا على وجه يقتضي التوزيع والتقسيط أو لا يدخل وانما يراد نفس العمل ، فلا تستحق المقدمات حينئذ شيئا ، نعم يختص التوزيع على فعل‌

٣٦٩

بعض العمل كما لو أحرم مثلا ومات قبل دخول الحرم؟ خيرة جماعة منهم الأول ، وآخرين الثاني ، والتحقيق أن المقدمات ملحوظة لكن في زيادة قيمة العمل نحو ملاحظة الأوصاف في المبيع ، لا على جهة التوزيع في الأجرة والثمن ، فإذا فرض وقوع بعض العمل لوحظت قيمة ذلك البعض على وجه يحتاج إلى تلك المقدمة ، فالتوزيع حينئذ بهذا المعنى في محله ، وأما لو فرض وقوع المقدمات خاصة فقد يتجه استحقاق أجرة المثل فيها ، لأصالة احترام عمل المسلم ، الذي لم يقصد التبرع به بل وقع مقدمة للوفاء بالعمل المستأجر عليه فلم يتيسر له ذلك بمانع قهري ، وعدم فائدة المستأجرة به ـ مع إمكان منعه بأن فائدته الاستيجار ثانيا من محل موته لا من البلد الذي تختلف الأجرة باختلافه ـ غير قادح في استحقاق الأجرة عليه نحو بعض العمل المستأجر عليه الذي لا استقلال له في نفسه كبعض الصلاة ونحوه نعم قد يحتمل في الفرض أن المستحق أكثر الأمرين من أجرة المثل وما يقتضيه التقسيط أو أقلهما ، ولكن الأقوى أجرة المثل ، لعدم صحة التقسيط من أصله بعد فرض عدم اندراجها في عقد الإجارة على وجه تقابل بالأجرة كما هو واضح ، ومن ذلك يعلم ما في كلام كل من الطرفين ، اللهم إلا ان يريدوا ما ذكرناه ، والله العالم.

هذا كله على المختار من عدم الاجزاء إذا مات قبل الإحرام أو بعده قبل دخول الحرام ومن الفقهاء كالشيخ رحمه‌الله من اجتزأ بالإحرام وإن لم يدخل الحرم ، بل ادعى انه منصوص عليه بين الأصحاب لا يختلفون فيه بل ربما استدل له بإطلاق خبر إسحاق (١) المتقدم المنزل على ذلك ، وإلا فهو شامل لمن مات قبل الإحرام ولم يقل به أحد ، فيجب حمله على ما ذكرنا لقاعدة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١.

٣٧٠

والاقتصار وبذلك كله بان لك أن الأول أظهر كما عرفت الكلام فيه مفصلا ، إذ المسألة من واد واحد على ما سمعت ، وأما إذا مات قبل الإحرام فقد عرفت أنه لا خلاف في عدم إجزائه ، بل الظاهر الإجماع عليه ، مضافا إلى الأصل ، خصوصا بعد أن كان كذلك في المنوب عنه الذي فعل النائب قائم مقامه وإلى عموم قول الصادق عليه‌السلام في مرسل المفيد (١) نعم في‌ المرسل (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل أعطى رجلا ما يحجه فحدث بالرجل حدث فقال : إن كان خرج فأصابه في بعض الطريق فقد أجزأت عن الأول ، وإلا فلا » والآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « في رجل أعطى رجلا مالا يحج به فمات قال : إن مات في منزله قبل أن يخرج فلا يجزي عنه ، وإن مات في الطريق فقد أجزأ » إلا أنهما مع إرسالهما لم أجد قائلا بهما ، بل يمكن تحصيل الإجماع على خلافهما ، فيجب طرحهما أو حملهما على ما عرفت ، واما احتمال اختصاص النائب بذلك فهو مقطوع بعدمه ، والله العالم.

ويجب أن يأتي بما شرط عليه من تمتع أو قران أو إفراد لقاعدة‌ « المؤمنون » (٤) وللأمر بالوفاء بالعقد (٥) فلا يجزي حينئذ غير المعين عنه وإن كان أفضل ، وفي‌ الحسن المضمر (٦) « في رجل أعطى رجلا دراهم يحج بها حجة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٤.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الخيار ـ الحديث ٧ من كتاب التجارة.

(٥) سورة المائدة ـ الآية ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٢ وفيه عن الحسن بن محبوب عن علي عليه‌السلام إلا ان الشيخ ( قده ) قال بعد ذكره الخبر في التهذيب ج ٥ ص ٤١٦ الرقم ١٤٤٧ انه حديث موقوف غير مسند إلى احد من الأئمة عليهم‌السلام.

٣٧١

مفردة قال : ليس له ان يتمتع بالعمرة إلى الحج ، لا يخالف صاحب الدراهم » ولكن روي عن أبي بصير (١) عن أحدهما عليهما‌السلام أنه إذا أمر أن يحج مفردا أو قارنا فحج متمتعا جاز لعدوله إلى الأفضل‌ قال : « في رجل أعطى رجلا دراهم يحج عنه حجة مفردة أيجوز له ان يتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال : نعم ، انما خالف إلى الفضل » وعن الشيخ وجماعة الفتوى بمضمونها ، نعم مقتضى التعليل الواقع فيها اختصاص الحكم بما إذا كان المستأجر مخيرا بين الأنواع كالمتطوع وذي المنزلين المتساويين في الإقامة بمكة وناء وناذر الحج مطلقا ، لأن التمتع لا يجزي مع تعين الافراد فضلا عن ان يكون أفضل منه.

ولكن قال المصنف هذا يصح إذا كان الحج مندوبا أو قصد المستأجر الإتيان بالأفضل لا مع تعلق الغرض بالقران أو الافراد وفي محكي المعتبر والمنتهى الاقتصار على المندوب ، وفي محكي المنتهى والتحرير ذلك أيضا مع العلم بقصد المستنيب الأفضل ، ولذا قال في المدارك لم يستجود ما ذكره المصنف ، قال : لأن مقتضاه ان كلا من نذر الحج أو قصد المستأجر الإتيان بالأفضل مصحح للحكم المذكور ، ولا بد من اعتبارهما معا ، ومع ذلك فتخصيص الحج بكونه مندوبا لا يظهر له وجه ، فان ما ذكرناه من افراد الواجب مساو للندب في هذا المعنى وفي القواعد وشرحها للاصبهاني ولو عدل النائب إلى التمتع عن قسميه وعلم انه تعلق الغرض أي غرض المستنيب بالأفضل بأن يكون مندوبا أو منذورا مطلقا أو كان المنوب ذا منزلين متساويين فيتخير أي علم ان الأفضل مطلوب له أيضا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١.

٣٧٢

وبالجملة التخيير أجزأ وفاقا للمعظم ، إذ ما على المحسنين من سبيل ، ولخبر أبي بصير (١) السابق ، خلافا لظاهر الجامع والنافع والتلخيص وعلي بن رئاب قصرا على النوع المأذون ، والجواب ان غيره في حكم المأذون ، لفرض العلم بقصد التخيير وان ذكر ما ذكر انما هو للرخصة في الأدنى ، وإلا يعلم تعلق غرض بالأفضل فلا يجزي وفاقا للمعتبر والتحرير ، لأنه غير ما استنيب فيه حقيقة وحكما ، خلافا لظاهر أبي علي والشيخ والقاضي فأطلقوا جواز العدول إلى الأفضل ويمكن إرادتهم التفصيل ، ويؤيده ان غيره انما يكون أفضل إذا جاز فعله للمنوب والنائب ، إلى غير ذلك من كلماتهم المتفقة على جواز العدول مع فرض التخيير وقصد المنوب الأفضل ، لكن قد يناقش بما ظاهرهم الاتفاق عليه من كون المتمتع والقران والافراد أنواعا للحج مختلفة ، وانه يجب في الإجارة تعيين أحدهما ، لاختلافها في الكيفية والأحكام ، وإلا لزم الغرر كما اعترف به في المدارك في صدر البحث ، وحينئذ فالتخيير للمنوب عنه لكونه مندوبا أو لغير ذلك مع العلم بإرادة المستأجر الأفضل لا يجدي بعد تعيين الفرد بالإجارة ، ودعوى أنه ذكر للرخصة في الأدنى لا يقتضي صحة الإجارة مع إرادة التخيير فيها ، للغرر والإبهام نعم لو قلنا بعد تعيين الفرد بالعقد باجزاء غيره عنه مع رضاء المستأجر نحو الوفاء بغير الجنس أمكن الاجزاء حينئذ لذلك ، لا لأنه مقتضى عقد الإجارة ، بل نحوه يجري في العدول إلى غير الأفضل عنه أيضا ، وبذلك يظهر لك النظر في جميع تلك الكلمات التي مبناها العلم بإرادة التخيير في العمل المستأجر عليه كما لا يخفى على من لاحظها ، وحملها على ذلك يأباه ظاهر بعضها وصريح آخر ، وعلى تقديره فمرحبا بالوفاق ، نعم يمكن حمل خبر أبي بصير عليه حتى ما فيه من التعليل بناء على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١.

٣٧٣

إرادة استفادة العلم برضا المستأجر بذلك باعتبار كون المعدول إليه أفضل ، بل يمكن فرضه لا على طريق الفحوى بل بالقرائن حال الإجارة على رضاه بوقوع الأفضل عوضا عن المستأجر عليه ، وكيف كان فمع عدم الاذن بذلك ولو فحوى بناء على الاجتزاء بها لو عدل لم يستحق عوضا ، لكونه متبرعا حينئذ وإن وقع عن الميت باعتبار نية النائب ، وما عن التحرير والمنتهى من الإشكال في ذلك في غير محله ، وإن وجه بأنه أتى بالعمرة والحج وقد استنيب فيهما ، وانما زادهما كمالا وفضلا ، إلا أنه كما ترى ، والله العالم.

ولو شرط الحج على طريق معين لم يجز العدول إن تعلق بذلك غرض وفاقا للمشهور ، لعموم ( أَوْفُوا )‌ و « المؤمنون » وقيل والقائل الشيخ في محكي المبسوط يجوز العدول مطلقا لصحيح حريز (١) سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل أعطى رجلا حجة يحج عنه من الكوفة فحج عنه من البصرة فقال : لا بأس ، إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه » ولعله لذا أطلق في محكي التهذيب الاجزاء إذا استؤجر للحج من بلد فحج من آخر ، وفي محكي النهاية والمهذب والسرائر جواز العدول من طريق استؤجر ليحج منه ، وعن الجامع نفي البأس عنه ، إلا أن الجميع كما ترى ، ولا ظهور في الصحيح المزبور في جواز المخالفة حتى مع الغرض ، وانما دل على صحة الحج وان هذه المخالفة لا تفسده ، وهو المراد بنفي البأس ، وذلك غير محل البحث ، بل في كشف اللثام ظاهره عدم تعلق الغرض بالطريق ، وفي محكي التذكرة الأقرب أن الرواية إنما تضمنت مساواة الطريقين إذا كان الإحرام من ميقات واحد ، أما مع اختلاف الميقاتين فالأقرب المنع ، لاختلافهما قربا وبعدا واختلاف الأغراض ، وتفاوت الأجر بسبب تفاوتهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١.

٣٧٤

بل في المدارك وكشف اللثام احتمال أن الكوفة صفة لرجل لا صلة ليحج ، بل لعل المتجه للعموم المذكور عدم جواز العدول إلا مع العلم بانتفاء الغرض ، بل في المدارك الأولى وجوب الوفاء بالشرط مطلقا ، وإن كان قد يناقش بأن المراد بعدم الغرض الكناية عن عدم إرادة الإلزام بما ذكر من الشرط ، وانما المراد هو أو غيره ، فهو كالإجارة المطلقة التي لم يذكر فيها اشتراط طريق ، ولا ريب في تخيير الأجير حينئذ.

كما أنه لا إشكال بل ولا خلاف في صحة الحج من حيث أنه حج لو خالف وحج على غير الطريق المشترط وإن استلزم الإحرام من غير ميقاته ، بل حتى لو كان ابتداء الطريق المشترط من ميقات مخصوص ، انما الكلام في صحته من حيث الإجارة ، وقد قطع المصنف وغيره على ما اعترف به في المدارك بصحته كذلك ، لأنه بعض العمل المستأجر عليه وقد امتثل بفعله ، ولكن أشكله فيها بأن المستأجر عليه الحج المخصوص ، وهو الواقع عقيب قطع المسافة المعينة ولم يحصل الإتيان به نعم لو تعلق الاستئجار بمجموع الأمرين من غير ارتباط لأحدهما بالآخر اتجه ما ذكروه ، وفي محكي التذكرة الأقرب فساد المسمى والرجوع إلى أجرة المثل ، ولم نجده لغيره بل ظاهر الجميع وصريح البعض تقسيط الأجرة ورد ما قابل الطريق أو بعضه منها ، وربما احتمل رد التفاوت بين الطريقين إن كان ما سلكه أسهل ، وإلا لم يرد شيئا ، لكنه واضح الضعف ، وإن جزم به أيضا في محكي التذكرة إذا لم يتعلق غرض بالطريق ، إلا أنك قد عرفت استحقاق الأجرة كاملة مع عدم تعلق الغرض على الوجه الذي ذكرناه.

والتحقيق أنه إن أريد بالشرطية في كلامهم الجزئية على معنى أنه ذكر الطريق على وجه الجزئية لما وقع عليه عقد الإجارة اتجه التقسيط ، ضرورة كونه كتبعض الصفقة في المبيع حينئذ ، بل لا يبعد تسلط المستأجر على الخيار ، فله‌

٣٧٥

الفسخ حينئذ ودفع أجرة المثل عما وقع منه ، وإن كان المراد الجزئية من العمل المستأجر عليه على وجه التشخيص به فقد يتخيل في بادئ النظر عدم استحقاق شي‌ء كما سمعته من سيد المدارك ، لعدم الإتيان بالعمل المستأجر عليه ، فهو متبرع به حينئذ ، لكن الأصح خلافه ، ضرورة صدق كونه بعض العمل المستأجر عليه وليس هو صنفا آخر ، وليس الاستئجار على خياطة تمام الثوب فخاط بعضه مثلا بأولى منه بذلك ، بناء على عدم الفرق بين التخلف لعذر وغيره في ذلك وان اختلفا في الإثم وعدمه ، لأصالة احترام عمل المسلم ، بل لو شرط عليه عدم استحقاق أجرة مع عدم الإتيان به على الوجه المخصوص أشكل صحة الإجارة ، لأن تشخيص العمل على وجه لا يصدق عليه أنه بعض العمل المستأجر عليه لا يتبع شرط المستأجر ، وانما هي تابعة لمشخصاته الخارجية ، والفرض صدق الإتيان ببعض العمل المستأجر عليه وإن خالف التشخيص الذي صدر من المستأجر ، فيرجع الشرط المزبور حينئذ إلى استئجار على عمل بلا أجرة ، اللهم إلا أن يفرض الشرط على وجه يقتضي إسقاطه لما استحقه بعقد الإجارة من التقسيط ، وهو غير ما نحن فيه ، وإن أريد بشرطية الطريق في كلامهم معنى الشرطية التي هي في العقود التزام بأمر خارجي عما قوبل بالعوض في العقد فلا محيص عن القول باقتضاء التخلف الخيار في الفسخ ودفع أجرة المثل ، وعدمه ودفع الأجرة تماما نحو الشرط في البيع وغيره من عقود المعاوضة ، إذ ليس للشرط قسط من الثمن على وجه التوزيع ، ودعوى أن نحو هذا الشرط في خصوص الإجارة كذلك لا دليل عليها ، وانما أوجبنا أجرة المثل في الفرض مع الفسخ لوصول العمل إلى المستأجر مع عدم صدق التبرع به ، فيبقى على مقتضى أصالة احترام عمل المسلم الذي كان مقابلا بمقتضى عقد الإجارة بشي‌ء من الأجرة ، فمع الفسخ يرجع إلى قيمته.

٣٧٦

وبذلك كله ظهر لك المراد مما في جملة من عبارات الأصحاب والنظر في جملة أخرى ، وخصوصا ما أطنب به الأصبهاني في شرحه من كثرة التشقيقات والاحتمالات الظاهرة في صدورها منه قبل أن يعض على العلم بضرس قاطع ، ومن ذلك ما ذكره في صورة إرادة الشرطية المقابلة للجزئية ـ وكون المراد بالطريق ما قبل الميقات لا منه ـ من أنه « إن نوى الشرطية بمعنى عدم استحقاق الأجرة على تقدير المخالفة لم يستحق الأجير حينئذ شيئا اتحد الميقات أو لا ، تعلق غرض بالطريق أم لا ، وإلا فإن تعلق غرض بالطريق فاما أن يتحقق الغرض أو أفضل منه مع المخالفة ـ كأن يكون الغرض التأدي إلى ميقات مخصوص فخالف الطريق وسار إلى ذلك الميقات أو أفضل منه أو مساوية ـ فيجزيه ما فعله ويستحق به الأجرة كاملة ، وإما أن يفوت الغرض ففيه الأوجه التي عرفتها : فساد المسمى واستحقاق أجرة المثل ـ وعدم الفساد مع رد التفاوت أو لا معه ، ووجه رابع هو عدم استحقاق شي‌ء لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، وخامس وهو التفصيل بأنه إن كان الغرض شيئا متعلقا بما استؤجر له كالميقات والاحتياط للوجوب من باب المقدمة لم يستحق شيئا ، أو استحق أجرة المثل ، أو المسمى مع الرد ، وإلا كالمرور على أخ أو ضيعة استحق المسمى كاملا ، وإن لم يتعلق به غرض استحق المسمى كاملا أو مع الرد » إذ هو جميعه كما ترى ، وقس على هذا ما تركناه من كلامه ، فإنه أيضا كذلك ، ومن الغريب عدم فرقه بين الشروط في عقود المعاملة والشروط الشرعية لمشروط التي يجري فيها قاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، والتحقيق ما عرفت ، ولا ينافيه ما في كلام الأصحاب هنا من رد التفاوت بعد أن حملنا كلامهم على إرادة الجزئية من الشرطية لا معناها الذي ذكرناه ، وهو متجه على قواعد الإجارة.

وإذا استؤجر لمباشرة حجة في سنة معينة لم يجز أن يؤجر‌

٣٧٧

نفسه لمباشرة أخرى في تلك السنة قطعا ، لعدم القدرة على التسليم ، فتبطل الثانية حينئذ ، ولو فرض اقترانهما بطلتا معا ، بل قد يقال يكون الحكم كذلك مع عدم اعتبار المباشرة ، فإنه وإن تمكن من الإتيان بهما بالاستنابة لكن يعتبر في الإجارة تمكن الأجير من العمل بنفسه ، فلا يجوز إجارة الأعمى على قراءة القرآن على إرادة الاستنابة ، ففي الفرض لا يجوز الإجارة الثانية للحج في تلك السنة وإن كان المراد بها أو بالأولى أو بهما ما يعم الاستنابة ، ولكن قد ذكرنا في كتاب الإجارة احتمال الصحة ، ولو كانت الإجارة الأولى مطلقة فعن الشيخ إطلاق عدم جواز الإجارة لأخرى حتى يأتي بالأولى ، وقال المصنف والفاضل في محكي المنتهى يمكن أن يقال بالجواز إن كان لسنة غير الأولى بل عن المعتبر الجزم به ، وهو كذلك ، لإطلاق الأدلة السالمة عن المعارض ، بل في المدارك يحتمل قويا جواز الاستئجار للسنة الأولى إذا كانت الإجارة الأولى موسعة ، إما مع تنصيص الموجر على ذلك أو القول بعدم اقتضاء الإطلاق التعجيل قال : ونقل عن شيخنا الشهيد في بعض تحقيقاته أنه حكم باقتضاء الإطلاق في كل الإجارات التعجيل ، فيجب المبادرة بالعمل بحسب الإمكان ، ومستنده غير واضح ، وهو كذلك أيضا بناء على الأصح من عدم اقتضاء الأمر الفور ، والفرض عدم ظهور في الإجارة بكون قصد المستأجر ذلك ، بل إن لم يكن إجماع فهو في الحج كذلك وإن صرح باقتضاء الإطلاق التعجيل فيه جماعة ، اللهم إلا أن يفرض اقتضاء التعارف فيه ذلك ، ثم على تقدير التعجيل المزبور فالظاهر صحة الإجارة الثانية المطلقة مع فرض علم المستأجر الثاني بالإجارة الأولى ، ضرورة كون المراد به التعجيل بحسب الإمكان ، أما مع عدم علمه فالظاهر أن له الخيار مع احتمال البطلان وعن المنتهى القطع بالجواز مع إطلاق الاجارتين ، وفي كشف اللثام وكأنه لدلالة سبق الأولى على تأخير الثانية.

٣٧٨

وعلى كل حال فالتعجيل على القول به ليس توقيتا ، وحينئذ فإن أهمل لم تنفسخ الإجارة وإن أثم بالتأخير ، ويستحق الأجرة التامة ، لكن في الدروس « ولو أطلق اقتضى التعجيل ، فلو خالف الأجير فلا أجرة له » وضعفه واضح ، بل هو مناف لقوله فيها متصلا بذلك : « ولو أهمل لعذر فلكل منهما الفسخ في المطلقة في وجه قوي ، ولو كان لا لعذر تخير المستأجر خاصة » وإن كان هو أيضا لا دليل عليه بحيث يعارض أصالة لزوم العقد ، اللهم إلا أن يكون بنى ذلك على فهم اشتراط التعجيل ، فيثبت الخيار حينئذ لفوات الشرط وإن كان مضمرا وإن كان هو كما ترى.

نعم تنفسخ الإجارة بفوات الزمان الذي عين للحج فيها سواء كان بتفريط أو لا ، خلافا لأحد وجهي الشافعية بناء على كونه كتأخير الدين عن محله ، وله وجه مع فرض كون التعيين المزبور بعنوان الشرطية ، ولكن يثبت الخيار حينئذ ، ولو قدمه عن السنة المعينة فعن التذكرة الأقرب الجواز ، لأنه زاد خيرا ، وهو المحكي عن الشافعي ، وفي المدارك في الصحة وجهان ، أقربهما ذلك مع العلم بانتفاء الغرض في التعيين ، وفيه أنه يرجع إلى عدم إرادة التعيين من الذكر في العقد ، وحينئذ لا إشكال في الاجزاء ، انما الكلام فيما اعتبر فيه التعيين ، ولا ريب في عدم الاجتزاء به عن الإجارة إلا إذا كان بعنوان الشرطية لا التشخيص للعمل ، والله العالم.

ولو أحصر أو صد الأجير على الذهاب إلى الحج وفعله في سنة معينة قبل الإحرام ودخول الحرم استعيد من الأجرة بنسبة المتخلف بلا إشكال بل ولا خلاف إذا لم يضمن الحج من قابل ، لانفساخ العقد ، واحترام ما وقع من العمل وما بقي ، فيستحق كل منهما ما يخصه من المسمى كما في غير المقام مما استؤجر عليه من الأعمال ، بل لو ضمن أي الأجير الحج في‌

٣٧٩

المستقبل لم يلزم المستأجر إجابته للأصل وغيره ، خلافا لما قيل من أنه يلزم إجابته ، لوضوح ضعفه وإن نسب إلى ظاهر المقنعة والنهاية والمهذب ، بل ربما قيل انه ظاهر المبسوط والسرائر وغيرها ، ولذا حمله غير واحد على إرادة ما إذا رضي المستأجر بضمان الأجير بمعنى استئجاره ثانيا بالمتخلف من الأجرة ولو معاطاة ، فإنه حينئذ لا إشكال فيه ، كما لا إشكال في استحقاق الحج عليه سنة أخرى لو فرض إطلاق الإجارة ، ضرورة عدم انفساخها بتعذر أحد أفرادها ، بل الظاهر عدم الخيار لأحدهما في ذلك ، للأصل وغيره ، خلافا لما عن الشهيد من أنه يملكانه في وجه قوي ، إلا أنه كما ترى.

أما لو صد بعد الإحرام ودخول الحرم أو بعد الإحرام فإنه وإن كان الحكم فيه كالأول أيضا من انفساخ الإجارة والرجوع بما قابل المتخلف في المختار إلا أن فيه خلافا ، فإن المحكي عن الخلاف ان الإحصار بعد الإحرام كالموت بعده في خروج الأجير عن العهدة ، وعدم وجوب رد شي‌ء عليه ، وإن كان لا يخفى ضعفه ، لعدم الدليل ، والاتفاق على عدم الاجزاء إذا حج عن نفسه فكيف أجزأ عن غيره ، واختصاص نص الاجزاء (١) بالموت ، فحمله عليه قياس ، لكنه ( ره ) نظمه مع الموت في سلك ، واستدل عليه بإجماع الفرقة مع أن الحكم فيما نحن فيه منصوص لهم لا يختلفون فيه ، ومن هنا قال في كشف اللثام : « ظني أن ذكر الإحصار من سهو قلمه الشريف أو قلم غيره ، وعلى كل حال فيمكن أن يكون تقييد المصنف بذلك إشارة إلى هذا الخلاف لا لاختياره الاجزاء كما ظن ، ولعل هذا أولى مما عن المسالك من أنه يمكن أن يكون فائدة التقييد بقبلية الإحرام ودخول الحرم الاحتراز عما لو كان بعدهما ، فإنه لا يتحقق استعادة الأجرة مطلقا ، بل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النيابة في الحج.

٣٨٠