جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كونه واجبا ماليا ، فإنه عبارة عن أداء المناسك ، وليس بذل المال داخلا في ماهيته ولا من ضرورياته ، وتوقفه في بعض الصور كتوقف الصلاة عليه على بعض الوجوه ، كما إذا احتاج إلى شراء الماء أو استيجار المكان والساتر مع القطع بعدم وجوب قضائها من التركة.

وذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب قضاء الحج المنذور من الثلث ، ومستنده غير واضح ، وبالجملة النذر انما تعلق بفعل الحج مباشرة ، وإيجاب قضائه من الأصل أو الثلث يتوقف على الدليل ، وتبعه على ذلك أيضا في كشف اللثام ، فإنه ـ بعد أن حكى قضاءه من الأصل عن الفاضلين وظاهر الشيخين ، لأنه دين كحجة الإسلام ـ قال : وعليه منع ظاهر ، ثم حكى عن أبي علي والشيخ في النهاية والتهذيب والمبسوط وابني سعيد في المعتبر والجامع الإخراج من الثلث للأصل وكونه كالمتبرع به وصحيح ضريس (١) سأل أبا جعفر عليه‌السلام « عن رجل عليه حجة الإسلام ، ونذر نذرا في شكر ليحجن رجلا إلى مكة فمات الذي نذر قبل أن يحج حجة الإسلام ومن قبل أن يفي بنذره مات قال : إن ترك مالا يحج عنه حجة الإسلام من جميع المال ، وأخرج من ثلثه ما يحج به رجلا لنذره وقد وفي بالنذر ، وإن لم يترك مالا إلا بقدر ما يحج به حجة الإسلام حج عنه بما ترك ، ويحج عنه وليه حجة النذر ، انما هو مثل دين عليه » وصحيح ابن أبي يعفور (٢) سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل نذر لله إن عافى الله ابنه من وجعه ليحجنه إلى بيت الله الحرام فعافى الله الابن ومات الأب فقال : الحجة على الأب يؤديها عنه بعض ولده ، قلت : هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه فقال : هي واجبة على الأب من ثلثه ، أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه » فإن إحجاج‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

٣٤١

الغير ليس الا بذل المال لحجة ، فهو دين مالي محض بلا شبهة ، فإذا لم يجب إلا من الثلث فحج نفسه أولى ، قلت : قد يقال بعد الاتفاق ظاهرا على القضاء عنه أن الخطاب بالحج من الخطابات الدينية على معنى ثبوته في الذمة على نحو ثبوت الدين فيها لا أنه مثل خطاب السيد لعبده يراد منه شغل الذمة بإيجاده في الخارج وإن لم يثبت في الذمة ثبوت دين ، ومن هنا وجب في حج الإسلام إخراج قيمة العمل من أصل التركة ، وبهذا المعنى كان واجبا ماليا لا من حيث احتياجه إلى المقدمات المالية التي لم تخرج من أصل التركة ما لم يوص بها على الأصح ، بل لعل خطاب النذر الذي هو نحو الخطاب بالإجارة أولى من الخطاب الأصلي بذلك ، على أن متعلق النذر الحج على حسب مشروعيته ، وقد عرفت أنها على الوجه المزبور ، بل‌ قوله عليه‌السلام : « انما هو مثل دين عليه » رمز إلى ما ذكرنا ، بل إيجاب المال في نذر الإحجاج في الصحيحين السابقين من ذلك أيضا ، وكذا‌ الصحيح (١) عن مسمع بن عبد الملك « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كانت لي جارية حبلى فنذرت لله تعالى إن هي ولدت غلاما أن أحجه أو أحج عنه فقال : إن رجلا نذر لله في ابن له إن هو أدرك أن يحجه أو يحج عنه فمات الأب وأدرك الغلام بعد فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عن ذلك فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحج عنه مما ترك أبوه ».

وبذلك اتجه ما سمعته من الأصحاب من وجوب أصل القضاء وكونه من أصل المال ، لأنه واجب ديني بالمعنى الذي عرفت ، ومن هنا حمل في محكي المختلف الصحيحين السابقين على النذر في مرض الموت ، لمخالفتهما للضوابط ، ضرورة عدم الوجه لخروجه من الثلث بعد كونه واجبا ماليا ، بل ومع فرض كونه واجبا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من كتاب النذر والعهد ـ الحديث ١.

٣٤٢

بدنيا انما يجب من الثلث مع الوصية به لا بمجرد النذر ، ودعوى سقوط وجوب النذر بالموت مما اتفق النص (١) والفتوى على بطلانها ، وعن منتقى الجمان حملهما على الندب المؤكد الذي قد يطلق عليه لفظ الوجوب ، ولعله لعدم ظهورهما في الموت بعد التمكن من النذر الذي هو مفروض المسألة ، بل لعل الأول منهما ظاهر في خلافه ، فلا بأس بحملهما حينئذ على ضرب من الندب بعد ما عرفت من التحقيق الذي لا محيص عنه ، ومنه يعلم ما في الحدائق من الاطناب المشتمل على كمال الاضطراب ، ولا ينافي ذلك اعتبار تعذر المباشرة في جواز الاستنابة بعد دلالة الدليل عليه ، كما لا ينافيه عموم ما دل (٢) على منع التصرف فيما عدا الثلث من مال الميت بعد ما عرفت من كونه من قسم الدين وشبهه ، ولا إطلاق ما دل على الإخراج من الثلث فيما عدا حجة الإسلام ، كصحيح معاوية بن عمار (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل مات وأوصى ان يحج عنه قال : إن كان صرورة حج عنه من وسط المال ، وإن كان غير صرورة فمن الثلث » وحسنه (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « في رجل توفي وأوصى ان يحج عنه قال : إن كان صرورة فمن جميع المال ، إنه بمنزلة الدين الواجب ، وإن كان قد حج فمن ثلثه » بعد انصراف غير المفروض منه ، كاختصاص حجة الإسلام بالقضاء من صلب المال في‌ قول الصادق عليه‌السلام في الصحيح (٥) : « يقضى عن الرجل حجة الإسلام من جميع ماله ».

ثم إنه لو مات وكان عليه حجة الإسلام والنذر فان اتسع المال لاخراجهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب وجوب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ و ١١ ـ من كتاب الوصايا.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٣.

٣٤٣

فلا إشكال فيه ، ولو لم يتسع إلا لأحدهما فبناء على القول بخروج المنذورة من الثلث يتجه تقديم حجة الإسلام وإن تأخر سببها ، فإنها كالدين ، فلا تعارضها المنذورة المفروض كونها كالوصية ، نعم على المختار يتجه التقسيط بناء على تساويهما في الخروج من الأصل ، لأنهما معا حقان ماليان ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر خلافا لبعض فأوجب تقديم حجة الإسلام ، لأن وجوبها ثابت بأصل الشرع ، ولأنه كان تجب المبادرة فيها فيجب الابتداء بإخراجها قضاء ، وهما كما ترى ، نحو الاستدلال من بعضهم على ذلك بصحيح ضريس (١) الذي فيه إخراج المنذور من الثلث ، وهو غير المفروض ، لكن ذلك كله إذا فرض قيام القسط بكل منهما ، وإلا فالظاهر التخيير مع احتمال تقديم ما تقدم سببه ، هذا ، ولا يخفى عليك كون الأمر بقضاء الولي عنه في صحيح ضريس للندب ، كما يدل عليه الصحيح الآخر (٢) فما عن ابن الجنيد من الوجوب واضح الضعف.

وكيف كان فـ ( لا يقضى عنه ) إذا مات قبل التمكن منه بلا خلاف أجده فيه ، للأصل السالم عن معارضة خطاب النذر الذي انكشف عدم تعلقه بعدم التمكن منه ، نعم في كشف اللثام بعد شرح ما في القواعد من نحو المتن قال : ويشكل الفرق بينه وبين الصوم المنذور إذا عجز عنه مع حكمه بقضائه في الأيمان ، وإن فرق بوجود النص على قضائه إذا اتفق عيدا لزمه القول بقضائه حينئذ ، مع أنه يقوى عدمه ، وهو ليس إشكالا لأصل الحكم.

هذا كله مع الإطلاق في النذر فان عين الوقت ( فـ ) ان أخل به مع القدرة قضى عنه وجب عليه الكفارة والقضاء بلا خلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

٣٤٤

أجده فيه ، بل هو مقطوع به في كلام الأصحاب كما اعترف به في المدارك لما سمعت فان مات ولم يقضه قضي عنه من الأصل على الأصح لما عرفت وإن منعه عنه عارض كمرض أو عدو حتى مات لم يجب قضاؤه عنه إجماعا في المدارك ، كما انه لم يجب عليه القضاء بعد الوقت للأصل السالم عن المعارض ، لكن عن الفاضل في الأيمان أنه قطع بسقوط القضاء إذا صد ، واستشكله إذا تعذر بمرض ، وهو كما ترى ، وفي المدارك بعد حكاية الإجماع المزبور قال : « ولا يخفى أن طرو المانع من فعل المنذور في وقته لا يقتضي بطلانه ، لوقوعه صحيحا ابتداء وإن سقط الواجب بالعجز عنه ، وهذا بخلاف نذر غير المقدور ابتداء كالطيران ونحوه ، فان النذر يقع فاسدا من أصله ، كما هو واضح » قلت : لا فرق بينهما إلا بالعلم بفساد الثاني ابتداء بخلاف الأول ، فإنه بعد ذلك يعلم ، نعم لا مانع من مجي‌ء الدليل بقضائه في بعض الأفراد لوقوع صورة صيغة النذر ، والله العالم.

ولو نذر الحج أو أفسد حجه وهو معضوب حال النذر والإفساد قيل والقائل الشيخ وأتباعه فيما حكي عنهم يجب أن يستنيب ، وهو حسن في الثاني بناء على أن الثانية حجة الإسلام التي قد عرفت سابقا استنابة المعضوب فيها ، لأن الحج واجب بدني ومالي ، فإذا تعذر الأول تعين الثاني ، وأما في النذر فقد يشكل بسقوط الواجب بالعجز عنه ، واختصاص الروايات (١) المتضمنة لوجوب الاستنابة بحج الإسلام ، وبأن النذر إذا وقع حال العضب فان كان مقيدا بوقت معين واستمر المانع إلى ذلك الوقت بطل النذر ، وإن كان مطلقا توقع المكنة ، ومع اليأس يبطل ، ولا تجب الاستنابة في الصورتين ، نعم لو لاحظ في نذره الاستنابة وجب قولا واحدا ، ولو حصل العضب بعد النذر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج.

٣٤٥

والتمكن من الفعل ففي المدارك قد قطع الشارح وغيره بوجوب الاستنابة ، ونحن نطالبهم بدليله ، وللإشكال المزبور فسر الأصبهاني في كشفه عبارة القواعد التي هي كعبارة المتن بما سمعته من الشارع ، قال : والسبب في ذلك ان عبارة المبسوط ليست نصا ولا ظاهرة في الوجوب على من نذر معضوبا ، لأنها كذا « المعضوب إذا وجبت عليه حجة بالنذر أو بإفساد وجب عليه أن يحج عن نفسه رجلا ، فإذا فعل فقد أجزأه » وعلى هذا فلا إشكال أصلا ، وما في المدارك من المطالبة بدليله يدفعها ما سمعته سابقا من كون الحج واجبا ماليا بالمعنى المذكور إلا ان الانصاف ظهور عبارة المبسوط في النذر معضوبا ، ولعل وجهه فحوى ثبوتها في حجة الإسلام كذلك بتقريب أن مشروعيته على الوجه المزبور ، فنذره ملزم به على حسبما هو مشروع ، بل قد يقال بانصراف النذر شرعا إلى الاستنابة وإن لم يقصدها ، لأصالة الصحة ، وإطلاق ما دل على وجوب الوفاء بالنذر ، فلا يحكم ببطلانه حينئذ إلا إذا قصد المباشرة فعلا ، والفرض اليأس منها ، ولو تكلف المعضوب للسير لحجة الإسلام فشرع فهل ينويها وتجزيه إن أتمها ، ويستقر إذا أفسد؟ احتمال قوي ، لأنها انما سقطت عنه نظرا له ورخصة ، فإذا تكلفها كانت أولى بالإجزاء من فعل النائب ، ويحتمل العدم ، لأن فرضه الاستنابة ، فحجه كحج غير المستطيع ، والله العالم.

المسألة الثانية إذا نذر الحج فان نوى حجة الإسلام وكانت واجبة عليه وقلنا بانعقاده لأن أسباب الشرع معرفات ، وتظهر الثمرة في الكفارة وغيرها تداخلا أي لم يجب به غيرها قطعا ، بل في كشف اللثام اتفاقا ، وإن لم يكن حين النذر مستطيعا توقعها ، فان كان موقتا وقد أتى وقته ولم يستطع حتى انقضى انحل وإن نوى غيرها لم يتداخلا قطعا واتفاقا في كشف اللثام أيضا نعم لو كان مستطيعا لها ونذر غيرها في عامه لغى إلا أن يقصد الفعل إن زالت‌

٣٤٦

الاستطاعة فزالت ، بل في المدارك احتمال الصحة لو خلي عن القصد حملا للنذر على الوجه الصحيح ، أما لو أطلق في نذره أو قيده في سنة غير سنة الاستطاعة صح وقدم حجة الإسلام ، ولو كان نذره حال عدم الاستطاعة وجب الإتيان بالنذر مع القدرة وإن لم تحصل الاستطاعة الشرعية كما في غيره من الواجبات ، إذ هي شروط في وجوب حج الإسلام للدليل دون غيره ، لكن في الدروس والظاهر أن استطاعة النذر شرعية لا عقلية ، فلو نذر الحج ثم استطاع صرف ذلك الى النذر ، فان أهمل واستمرت الاستطاعة إلى العام القابل وجبت حجة الإسلام أيضا ، وظاهر الأصحاب تقديم حجة الإسلام مطلقا ، وصرف الاستطاعة بعد النذر إليها إلا أن يتعين سنة للنذر ، فيصرف الاستطاعة فيها إلى حج النذر وأشكله في المدارك بأن الاستطاعة بهذا المعنى انما ثبت اعتبارها في حج الإسلام وغيره من الواجبات مراعى فيه التمكن من الفعل خاصة ، وبأن النذر المطلق موسع وحجة الإسلام مضيقة ، والمضيق مقدم على الموسع ، وحينئذ فلو اتفق حصول الاستطاعة قبل الإتيان بالحج المنذور قدمت حجة الإسلام إن كان النذر مطلقا أو مقيدا بما يزيد عن تلك السنة أو بمغايرها ، لأن وجوبها على الفور بخلاف المنذورة على هذا الوجه ، وإلا قدم النذر لعدم تحقق الاستطاعة في تلك السنة ، لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي ، وحينئذ فيراعى في وجوب حج الإسلام بقاء الاستطاعة إلى السنة الثانية ، وقد يقال إن مراد الشهيد بقرينة تفريعه عدم وجوب حجة الإسلام بحصول الاستطاعة في عام النذر المطلق ، إلا أن تبقى إلى السنة الثانية ، لصيرورة الحج بالنذر وإن كان مطلقا كالدين ، فيعتبر في وجوب حجة الإسلام حينئذ وفاؤه ، وليس المراد منه عدم وجوب الحج بالنذر إلا بملك الزاد والراحلة نحو حج الإسلام ، ضرورة أنه لا دليل عليه ، ومن المستبعد جزم الشهيد به.

٣٤٧

وعلى كل حال فـ ( ان أطلق ) في النذر أى لم يعين حجة الإسلام ولا غيرها قيل والقائل الشيخ في محكي النهاية والاقتصاد والتهذيب : تداخلا وأجزأت حجة واحدة عنهما ، لصحيح رفاعة (١) سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام هل يجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : نعم » ونحوه صحيح ابن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ولعله لذلك كان المحكي عن النهاية أنه إن حج ونوى النذر أجزأ عن حجة الإسلام ، وان نوى حجة الإسلام لم يجز عن النذر مضافا الى ما قيل من أن العام لما كان عام حج الإسلام انصرفت النية اليه وان نوى النذر ، بخلاف حج النذر ، فلا دليل على انصراف نية غيره اليه إلا أن يتعين في عامه ، ولكن فيه ان الصحيحين انما يدلان على نذر المشي ، وهو لا يستلزم نذر حج فيمشي اليه للطواف والصلاة وغيرهما ، فكأنهما سألا أن هذا المشي إذا تعقبه حج الإسلام هل يجزي أم لا بد له من المشي ثانيا وظاهر أنه يجزى ، أو سألا أنه إذا نذر حجة الإسلام فينوي بحجه المنذور دون حجة الإسلام.

ومن هنا قيل والقائل المشهور لا تجزي إحداهما عن الأخرى بل عن الناصريات الإجماع عليه وهو الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها قاعدة تعدد المسبب بتعدد سببه المبني عليها كثير من مسائل الفقه في الكفارات وغيرها وإن قلنا ان أسباب الشرع معرفات ، ومن الغريب ما وقع من بعض متأخري المتأخرين حتى سيد المدارك من هدم هذه القاعدة ، ودعوى صدق الامتثال بواحد في جميع مواردها ، لكن يهون الخطب اختلال طريقتهم في كثير من المسائل ، والله العالم والهادي.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١.

٣٤٨

المسألة الثالثة إذا نذر الحج ماشيا وجب في الجملة بلا خلاف أجده فيه ، بل لعل الإجماع بقسميه عليه ، لعموم دليل وفاء النذر (١) وخصوص‌ صحيح رفاعة (٢) وغيره ، لكن في أيمان قواعد الفاضل « لو نذر الحج ماشيا وقلنا المشي أفضل انعقد الوصف ، وإلا فلا » وفي محكي إيضاح ولده « انعقد أصل النذر إجماعا ، وهل يلزم القيد مع القدرة؟ فيه قولان مبنيان على ان المشي أفضل من الركوب أو العكس » وفيه ان المنذور الحج على هذا الوجه ، ولا ريب في رجحانه وإن كان غيره أرجح منه ، وذلك كاف في انعقاده ، إذ لا يعتبر في المنذور كونه أفضل من جميع ما عداه ، فلا وجه حينئذ لدعوى عدم الانعقاد على هذا التقدير أيضا ، كما أن ما في كشف اللثام من حمله على حال أفضلية الركوب من المشي لبعض الأمور السابقة كذلك أيضا ، ضرورة عدم اقتضاء ذلك ذلك كما هو واضح ، خصوصا بعد ما عرفته من ان اقتران الركوب ببعض الأمور لا يصير سببا لعدم رجحان المشي أصلا ، بل أقصاه ترجيحه على المشي على نحو ترجيح قضاء حاجة المؤمن على النافلة أو بالعكس ، فهو من ترجيح المندوبات بعضها على بعض ، فلا إشكال في المسألة حينئذ ، وصحيح الحذاء (٣) سأل أبا جعفر عليه‌السلام « عن رجل نذر أن يمشي إلى مكة حافيا فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج حاجا فنظر إلى امرأة تمشي بين الإبل فقال : من هذه؟ فقالوا : أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى مكة حافية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عقبة انطلق إلى أختك فمرها فلتركب ، فان الله غني عن مشيها وحفاها » حكاية حال كما عن المعتبر والمنتهى ، ولعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم منها العجز ، كما لعله يومي اليه‌

__________________

(١) سورة الحج ـ الآية ٣٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

٣٤٩

مشيها بين الإبل ، ويفهم منه حينئذ جواب السائل بأنه قد لا يجب وفاء هذا النذر أو أن المراد عدم الانعقاد من حيث الحفاء الذي من الغالب عسره على وجه يسقط التكليف به ، خصوصا في بعض الأزمنة ، هذا.

والظاهر من اللفظ مع قطع النظر عن القرائن أن مبدأ وجوب المشي في نحو الفرض من حين الشروع في أفعال الحج ، ضرورة كونه حالا من فاعل « أحج » فيكون وصفا له ، وانما يصدق حقيقة بتلبسه به ، كما أن منتهاه آخر الأفعال ، وهو رمي الجمار ، قال الصادق عليه‌السلام في صحيح جميل (١) : « إذا حججت ماشيا ورميت الجمرة فقد انقطع المشي » وهو الذي حكاه عنه عليه‌السلام الرضا عليه‌السلام في صحيح إسماعيل بن همام (٢) « في الذي عليه المشي في الحج إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا وليس عليه شي‌ء » فما في المتن في النذور والدروس من أن آخره طواف النساء بل قيل إنه المشهور في غير محله ، كالقول بأن المبدأ من بلد النذر كما في الكتاب والقواعد في كتاب النذور ومحكي المبسوط والتحرير والإرشاد ، أو بلد الناذر لأن الحج هو القصد ، وقد أريد هنا القصد إلى بيت الله ، وابتداء قصده بالسفر اليه ، ولأنه السابق إلى الفهم عرفا من نحو قولهم : حج ماشيا ، بل بلد النذر هو بلد الالتزام فهو كبلد الاستطاعة ، بل قيل : إن بلد الناذر هو المتبادر ، إلا أن الجميع كما ترى ، وقيل : من أقرب البلدين إلى الميقات ، لأصل البراءة ، بل في كشف اللثام يمكن القول بأنه من أي بلد يقصد فيه السفر إلى الحج ، لتطابق العرف واللغة فيه بأنه حج ماشيا ، وذلك كله يقتضي عدم تنقيح العرف في الإطلاق ، فالمتجه بقاؤه على حقيقته إلا مع القرائن المقتضية لغيره من بلد النذر أو الناذر أو أقرب البلدين أو غير ذلك ، وعلى ذلك يحمل المفهوم من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

٣٥٠

سياق النصوص خصوصا ما تضمن منها القيام في المعبر من كون المشي في الطريق ضرورة كون المفروض فيها نذر المشي إلى بيت الله لا الحج ماشيا ، وبينهما فرق وتبادر بعض الأفراد إلى الذهن غير مجد إذا لم يكن على وجه ينتفي الظن بعدم إرادة الغير.

وكيف كان ففي المتن والقواعد وغيرهما أنه يقوم في مواضع العبور المضطر إليها كالسفينة ونحوها ، بل في الحدائق انه المشهور ، لخبر السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام « ان عليا عليه‌السلام سئل عن رجل نذر أن يمشي إلى البيت فمر في المعبر قال : فليقم في المعبر قائما حتى يجوز » ولأن المشي يتضمن القيام والحركة ، ولا يسقط الميسور منهما بالمعسور ، لكن في محكي المعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة وأيمان الكتاب والقواعد الاستحباب ، لضعف الخبر عن إثبات الوجوب دونه ، وانصراف نذر المشي إلى ما يمكن فيه ذلك دون ما لا يمكن ، فيبقى أصل البراءة ، ومنع دخول القيام في المشي ، لأنه السير راجلا ، بل الحركة أولى منه بالوجوب ، وعدمه فيها وانتفاء الفائدة مشترك بينهما ، وكونه تعظيما للمشاعر وطريقها خروج عما نحن فيه ، ولو اضطر إلى ركوب البحر من بلده إلى مكة سقط القيام قطعا للحرج ، والخروج عن لفظ النص والفتوى ، لكن في كشف اللثام أنه يمكن القول به إن أمكن الارساء عند الإعياء ، ونحوه ركوبه أو ركوب نهر أياما ، ولو تعارض العبور في سفينة وجسر تعين الثاني إذا لم يحصل مانع يسقط معه التكليف.

وعلى كل حال فان ركب ناذر المشي المتمكن منه جميع طريقه قضى مع فرض تعين السنة بالنذر ، بل يكفر عن النذر ، وإلا أعاد ، لعدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١.

٣٥١

صدق امتثاله ، بل في المدارك أنه يستفاد من ذلك فساد الحج ، لعدم وقوعه عن المنذور للمخالفة ولا غيره لعدم النية ، لكن في كشف اللثام أنه احتمل في المعتبر والمنتهى والتحرير والمختلف سقوط قضاء المعين ، لأن المشي ليس من أجزاء الحج ولا صفاته ولا شروطه ، وقد أتى به ، وانما عليه لإخلاله بالمشي الكفارة ، بل لعله الظاهر من أيمان القواعد والتحرير والإرشاد ، بل في الكشف هو قوي إلا ان يجعل المشي في عقد النذر شرطا ، كما فصل في المختلف بل قال أيضا : « إنه يجري ما ذكر في المطلق ، لأنه لما نوى بحجة المنذور وقع عنه ، وانما أخل بالمشي قبله وبين أفعاله ، فلم يبق محل للمشي المنذور ليقضي إلا ان يطوف أو يسعى راكبا ، فيمكن بطلانهما ، فيبطل الحج حينئذ إن تناول النذر المشي فيهما » ويقرب من ذلك ما في المدارك ، فإنه بعد ان حكى ما سمعته عن المعتبر قال : وهو انما يتوجه إذا كان المنذور الحج والمشي غير مقيد أحدهما بالآخر والمفهوم من نذر الحج ماشيا خلاف ذلك ، والتحقيق صحة الفعل مطلقا سواء كان المنذور الحج ماشيا أو المشي فيه ، وسواء كان معينا أو مطلقا ، ضرورة عدم صلاحية النذر لإثبات الشرطية التي هي حكم وضعي ، كعدم صلاحيته للتنويع ، وقصد الوفاء بالفعل عنه لا ينافي قصد القربة به ، وليس النذر إلا كالإجارة ، نعم تجب الكفارة في بعض الأفراد ، كما أنه يبقى المكلف به بالنذر في الذمة في بعض آخر وقد أوضحنا جميع أطراف المسألة في نذر الموالاة في الوضوء من كتاب الطهارة فلاحظ وتأمل.

هذا كله إن ركب جميع طريقه وأما إن ركب بعضا فـ ( قيل ) والقائل الشيخان وجماعة يقضي ويمشي موضع ركوبه لأن الواجب عليه قطع المسافة ماشيا ، وقد حصل بالتلفيق ، فيخرج عن العهدة ، إذ هو انما نذر‌

٣٥٢

حجا يكون بعد المشي في جميع طريقه ، وقد حصل ، ولأنه أخل بالمنذور فيما ركب فيه فيقضيه وقيل والقائل ابن إدريس بل يقضي ماشيا لإخلاله بالصفة المشترطة ، وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده في الجملة ، لعدم الصدق بدون ذلك ، ضرورة كونه نذر المشي إلى الحج في جميع طريقه ، ولم يحصل في شي‌ء من الحجين ، لكن في المدارك « هو جيد إن وقع الركوب بعد التلبس بالحج ، إذ لا يصدق على من ركب في جزء من الطريق بعد التلبس بالحج انه حج ماشيا ، بخلاف ما إذا وقع الركوب قبل التلبس بالحج مع تعلق النذر بالمشي من البلد لأن الواجب قطع تلك المسافة في حال المشي وإن فعل في أوقات متعددة وهو يحصل بالتلفيق ، إلا أن يكون المقصود قطعها كذلك في عام الحج » وفيه ما لا يخفى ، كما انه لا يخفى عليك جريان ما تقدم من الكلام في صحة الحج وفساده هنا ، فان الجميع من واد واحد ، وعلى كل حال فما في‌ خبر إبراهيم بن عبد الحميد ابن عباد بن عبد الله البصري (١) سأل الكاظم عليه‌السلام « عن رجل جعل لله نذرا على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام فمشى نصف الطريق أو أقل أو أكثر قال : ينظر ما كان ينفق من ذلك الموضع فليتصدق به » لا بد من حمله على استحباب ذلك للعاجز.

وكيف كان فـ ( لو عجز ) أي الناذر للمشي سقط عنه إجماعا بقسميه ونصوصا (٢) ولعدم التكليف بما لا يطاق ، نعم قيل والقائل الشيخ وجماعة على ما حكي يركب ويسوق بدنة لصحيح الحلبي (٣) « قلت لأبي عبد الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من كتاب النذر والعهد ـ الحديث ٢ وفيه عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سأله عباد بن عبد الله البصري.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

٣٥٣

عليه‌السلام : رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله وعجز أن يمشي قال : فليركب وليسق بدنة ، فان ذلك يجزي إذا عرف أنه من الجهد » وصحيح ذريح المحاربي (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل حلف ليحجن ماشيا فعجز عن ذلك فلم يطقه قال : فليركب وليسق الهدي » ولما في محكي الخلاف من الاستدلال عليه بالاحتياط وإجماع الطائفة وأخبارهم ، لكن في كشف اللثام « أن كلامه يحتمل الوجوب على من ركب قادرا على المشي ثم عجز عن القضاء » وقيل والقائل المفيد وابن الجنيد ويحيى بن سعيد والشيخ في نذور الخلاف ، بل في كشف اللثام « أنه يحتمله كلام الشيخين والقاضي ونذر النهاية والمقنعة والمهذب » يركب ولا يجب عليه أن يسوق لانتفاء القدرة على المنذور ، فلا يستوجب جبرا ، ولذا تركه في‌ صحيح رفاعة بن موسى (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله قال : فليمش ، قلت : فإنه تعب فقال : إذا تعب ركب » وصحيح ابن مسلم (٣) سأل أحدهما عليهما‌السلام « عن رجل جعل عليه مشيا إلى بيت الله تعالى فلم يستطع قال : يحج راكبا » وكذا غيرهما ، بل في‌ خبر عنبسة (٤) التصريح بعدم وجوبه ، قال : « نذرت في ابن لي إن عافاه الله تعالى أن أحج ماشيا فمشيت حتى بلغت العقبة فاشتكيت فركبت ثم وجدت راحة فمشيت فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : أحب إن كنت موسرا أن تذبح بقرة ، فقلت : معي نفقة ولو شئت أن أذبح لفعلت وعلي دين فقال : إني أحب إن كنت موسرا أن تذبح بقرة ، فقلت : شي‌ء واجب أفعله فقال : لا ، من جعل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من كتاب النذر والعهد ـ الحديث ٥.

٣٥٤

لله عليه شيئا فبلغ جهده فليس عليه شي‌ء » ورواه ابن إدريس في المحكي من مستطرفات سرائره نحو ذلك وقيل والقائل ابن إدريس في أحد النقلين عنه : إن كان النذر مطلقا توقع المكنة من الصفة فان لم تحصل سقط وإن كان النذر معينا بوقت سقط فرضه من أصله لعجزه كما في غيره من النذور ، لكن المحكي من عبارة ابن إدريس خلاف ذلك ، قال : « ومن نذر أن يحج ماشيا ثم عجز عنه فليركب ولا كفارة عليه ، ولا يلزمه شي‌ء على الصحيح من المذهب ، وهو مذهب شيخنا المفيد في المقنعة » إلى آخره ، وقيل كما عن الفاضل في المختلف « إن كان النذر معينا ركب ولا شي‌ء عليه ، وإن كان مطلقا توقع المكنة » فتكون الأقوال حينئذ أربعة ، بل ما سمعته من المدارك يكون خامسا.

وكيف كان فقد عرفت ان المروي في الصحيحين الأول ولكن الذي يقوى أن السياق فيهما ندب لما عرفته من خبر عنبسة وغيره ، وما في المدارك ـ من عدم التنافي بين ما دل على الوجوب وبين صحيح رفاعة وابن مسلم ، لأن عدم الذكر أعم من ذلك ، وأما خبر عنبسة فهو ضعيف السند ، لأن راويه واقفي ـ في غير محله ، إذ عدم الذكر في مقام البيان لا ينكر ظهوره في عدم الوجوب ، وخبر عنبسة من قسم الموثق الذي هو حجة عندنا ، وكذا ما فيها أيضا من أن « المعتمد ما ذهب اليه ابن إدريس إن كان العجز قبل التلبس بالإحرام ، وإن كان بعده اتجه القول بوجوب إكماله وسياق البدنة وسقوط الفرض بذلك عملا بظاهر النصوص المتقدمة ، والتفاتا إلى إطلاق الأمر بوجوب إكمال الحج والعمرة مع التلبس بهما ، واستلزام إعادتهما هنا المشقة الشديدة » ضرورة عدم هذا التفصيل في النصوص ، بل يمكن القطع بعدمه فيها ، والأمر بإتمام الحج والعمرة أعم من الاجتزاء به عن النذر ، ولذا لم يجزيا عن حج‌

٣٥٥

الإسلام لو فساد وإن وجب إتمامهما أيضا كما هو واضح ، فلا ريب في أن الأقوى الثاني ، عملا بالنصوص المستفيضة من غير فرق بين النذر المطلق والمعين ، وبين من عرف من نفسه العجز عن المشي قبل الشروع وبين من عرض له ذلك في الأثناء وبين العجز المأيوس من ارتفاعه وغيره حتى لو علم التمكن في عام آخر في وجه ، وخروج جملة من ذلك عن القواعد غير قادح بعد صلاحية المعتبرة لذلك سندا ودلالة وعملا ، فيكون حاصلها أن ذلك كيفية حاصلة للحج المنذور ، بل قد يلحق به غيره من زيارة أحد المشاهد ونحوها ، نعم قد يقال بوجوب مقدار ما يستطيعه من المشي كما يومي اليه صحيح رفاعة (١) وغيره ، بل في‌ خبر سماعة وحفص (٢) المروي عن نوادر ابن عيسى « سألنا أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله حاجا قال : فليمش ، فإذا تعب فليركب » ومرسل حريز (٣) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام « إذا حلف الرجل أن لا يركب أو نذر أن لا يركب فإذا بلغ مجهوده ركب ».

( القول ) الثالث ( في النيابة ) في الحج‌

ولا خلاف بين المسلمين في أصل مشروعيتها ، بل لعله من ضروريات الدين ، نعم لها شرائط منها ما يتعلق بـ ( النائب ) وعن بعض النسخ « النيابة » ولعلها ألصق بتمام التفريع في العبارة ، والأمر سهل ، وعلى كل حال فهي ثلاثة : الإسلام وكمال العقل وأن لا يكون عليه حج واجب ، فلا تصح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١٢.

٣٥٦

نيابة الكافر إجماعا بقسميه ، لعدم صحة عمله ، ولعجز بعض أفراده عن نية القربة واختصاص أجره في الآخرة بالخزي والعقاب دون الأجر والثواب اللازمين لصحة العمل ، بل الظاهر مساواة المخالف بل غير الإمامي للكافر في ذلك ، فلا تصح نيابته أيضا ، لعدم صحة عمله ، وعدم وجوب إعادته عليه لو استبصر تفضل كالكافر لو أسلم ، نحو التفصيل علينا بإجراء جملة من أحكام المسلمين عليه في الدنيا لا لأن عمله صحيح ، ولو سلم فغاية ذلك الصحة بشرط موافاة الايمان ، والبحث في عدم صحة نيابته من حيث كونه مخالفا ، على أنه قد تمنع الصحة في نحو ذلك حتى لو استبصر ، لظهور النصوص (١) التي خرجنا بها عن القواعد في غيره.

وكذا لا تجوز نيابة المسلم عن الكافر لما عرفت من عدم انتفاعه بذلك ، واختصاص جزائه في الآخرة بالخزي والعقاب ، والنهي عن الاستغفار (٢) له والموادة (٣) لمن حاد الله تعالى ، واحتمال انتفاعه بالتخفيف عنه ونحوه يدفعه لزوم الثواب الذي هو دخول الجنة ونحوه لصحة العمل ولو من حيث الوعد بذلك لا التخفيف ونحوه ، مع إمكان منع قابليته له أيضا في عالم الآخرة ، كما يومي اليه نصوص (٤) تعجيل جزاء بعض أعماله في الدنيا التي هي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب مقدمة العبادات والباب ٣ من أبواب المستحقين للزكاة والباب ٢٣ من أبواب وجوب الحج.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ٨١ و ٨٥.

(٣) سورة المجادلة ـ الآية ٢٢.

(٤) البحار ـ ج ٦٧ ص ٢٣٣ و ٢٤٢ ـ الباب ـ ١٢ ـ الحديث ٤٨ و ٧٧ الطبع الحديث.

٣٥٧

جنته كالانظار لإبليس ونحوه ، وما في بعض النصوص (١) ـ من انتفاع الميت بما يفعل عنه من الخير حتى أنه يكون مسخوطا فيغفر له ، أو يكون مضيقا عليه فيوسع عليه ـ في غيره من المؤمنين ، نعم في بعضها (٢) أنه إن كان ناصبا نفعه ذلك بالتخفيف عنه إلا أنه مع اشتماله على الناصب معارض بغيره مما دل كتابا (٣) وسنة (٤) على عدم نفعه أي المخالف ، وأنه ما له في الآخرة من نصيب ، وأنه يجعل الله أعماله هباء منثورا ، وأنهم أشد من الكفار نارا ، وكذا احتمال كون الحج عنه مع فرض استطاعته له وتقصيره فيه من الواجبات المالية ـ لأنه كالدين ، فيتعلق بماله بعد موته ، ويؤدى عنه وإن لم ينتفع به كالزكاة والخمس ، فينوي القربة مباشر الفعل من حيث مباشرته نحو ما سمعته في الزكاة ـ مدفوع بمنع كون الحج كذلك وإن ورد فيه انه كالدين ، وقلنا بخروجه من أصل المال ، لكنه في سياق غير ذلك.

بل لا تجوز نيابته عن المسلم المخالف الذي هو كافر في الآخرة فيجري فيه نحو ما سمعته من غير فرق فيه بين الناصب منه وغيره ، بل والمستضعف منهم وغيره والأب وغيره ، خلافا للمحكي عن الجامع والمعتبر والمنتهى والمختلف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الاحتضار من كتاب الطهارة والباب ١٢ من أبواب قضاء الصلوات من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٨ من كتاب الصلاة.

(٣) سورة الشورى ـ الآية ١٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات والمستدرك الباب ٢٧ منها ـ الحديث ٦١ و ٦٤.

٣٥٨

والدروس فجوزوها عن غير الناصب مطلقا لكفره وإسلام غيره وصحة عباداته ، ولذا لا يعيدها لو استبصر ، وللشيخ فلم يجوزها مطلقا إلا أن يكون أب النائب كالفاضلين هنا والقواعد ، لصحيح وهب بن عبد ربه أو حسنه (١) سأل الصادق عليه‌السلام « أيحج الرجل عن الناصب؟ فقال : لا ، قال : فان كان أبي قال : إن كان أباك فنعم » وربما ألحق به الجد للأب وإن علا دونه للأم ، وللشهيد في المحكي من حواشي القواعد فجوزها للمستضعف ، لكونه كالمعذور ، وفي الأول ما عرفت ، والثاني مع معارضته بالإجماع المحكي عن ابني إدريس والبراج قاصر عن مقاومة ما دل على المنع ، وأنه في الآخرة أعظم من الكفار الذين لا يجوز لهم الاستغفار ولو كانوا آباء ، كما يومي اليه اعتذاره (٢) تعالى عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه كان ( عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ ) ، وأنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، بل نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) عن الاستغفار للمنافقين الذين لا ريب في اندراج المخالفين فيهم حتى قال الله تعالى (٤) ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) بل ما ورد (٥) في كيفية الصلاة على المنافق كاف في إثبات حاله في ذلك العالم ، مضافا إلى قطع علقة الأبوة والنبوة بين المسلم وغيره ، كما يومي اليه قوله تعالى (٦) ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) هذا.

وفي كشف اللثام أنه يمكن أن يكون الفرق بين الأب وغيره تعلق الحج‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ١.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ١١٥.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٨٥.

(٤) سورة التوبة ـ الآية ٨١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الصلاة الجنازة ـ الحديث ١ و ٩ والباب ٥ منها ـ الحديث ١ و ٥ و ١٨ و ٢٥ من كتاب الطهارة.

(٦) سورة هود عليه‌السلام ـ الآية ٤٨.

٣٥٩

بالمال ، فيجب على الولي الإخراج عنه أو الحج عنه بنفسه ، ولفظ الخبر لا يأبى الشمول لهما ، وبالجملة فليس لأثابه المنوب عنه ، ويمكن أن يكون سببا لخفة عقابه وانما خص الأب به مراعاة لحقه ، وعن‌ إسحاق بن عمار (١) أنه سأل الكاظم عليه‌السلام « عن الرجل يحج فيجعل حجته أو عمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب ببلدة أخرى فينقص ذلك من أجره ، قال : لا ، هي له ولصاحبه ، وله أجر سوى ذلك بما وصل ، قال : وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال : نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له ، أو يكون مضيقا عليه فيوسع عليه ، قال : فيعلم هو في مكانه إن عمل ذلك لحقه قال : نعم ، قال : وإن كان ناصبا ينفعه ذلك قال : نعم يخفف عنه » وفيه أن الحج وإن كان له شبه بالماليات في الإخراج من الأصل ونحوه كالزكاة والخمس لكن من المعلوم ان دينيته لله وحده لا شريك له ، فلا يمكن قضاؤه عنه إلا مع صلاحية أدائه عنه ، بخلاف حق الزكاة والخمس فإن الدينية فيه لله وللناس ، فإذا أدى من ماله حصل ردا لمظلمة إلى أهلها ، وبقي العقاب عليه بالنسبة إلى حق الله ، فلا ريب في عدم خروج الحج الواجب من أصل المال في الكافر والمخالف ، لعدم انتفاعه به ، واحتمال وجوبه لأن يحج به الناس عقوبة وإن لم يكن عنه لا دليل عليه ، بل لعل ظاهر الأدلة خلافه ، حتى ما دل على خروج الحج من المال ، ضرورة ظهورها فيمن يحج عنه بعد موته ، كما هو واضح ، وتخفيف العقاب بفعل الخير عن الميت لم يثبت في غير المؤمن ، والخبر المزبور قاصر عن معارضة ما دل من الكتاب والسنة على خلاف ذلك ، فيبقى حينئذ جميع ما شك فيه على الأصل الذي هو مقتضى قوله تعالى (٢) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النيابة في الحج ـ الحديث ٥.

(٢) سورة النجم ـ الآية ٤٠.

٣٦٠