جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لم يستقر الحج في ذمته ، لأن نفقة الرجوع لا بد منها في الشرائط ، ولكن أشكله في المدارك باحتمال بقاء المال لو سافر ، وبأن فوات الاستطاعة بعد الفراغ من أفعال الحج لم يؤثر في سقوطه قطعا ، وإلا لوجب اعادة الحج مع تلف المال في الرجوع أو حصول المرض الذي يشق معه السفر ، وهو معلوم البطلان ، قلت : قد يمنع معلومية بطلانه بناء على اعتبار الاستطاعة ذهابا وإيابا في الوجوب

والكافر يجب عليه الحج عندنا بل الإجماع بقسميه عليه ، لشمول خطاب أدلة الفروع له خلافا لأبي حنيفة ولكن لا يصح منه ذلك ما دام كافرا كسائر العبادات وان اعتقد وجوبه وفعله كما يفعله المسلم ، لكون الإسلام شرطا في الصحة ، وكذا لا يصح القضاء عنه لو مات ، لعدم كونه أهلا للإبراء من ذلك والإكرام ، وعموم الأدلة له ممنوع ، فيبقى أصل عدم مشروعية القضاء عنه سالما ، نعم لو أسلم وجب عليه الإتيان به إذا استمرت الاستطاعة ، وإلا لم يجب أيضا وان فرض مضي أعوام عليه مستطيعا في الكفر ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، لكن في المدارك يجب عليه ذلك في أظهر الوجهين ، ثم قال : واعتبر العلامة في التذكرة في وجوب الحج استمرار الاستطاعة إلى زمان الإسلام ، وهو غير واضح ، قلت : بل الوجوب غير واضح ، ضرورة كونه كالقضاء الذي يثبت عليه بفوات الفريضة ، فإنه بالإسلام أيضا يسقط عنه ، فكذلك وجوب الحج ، ومرجعه الى الخطاب به حال كفره على وجه يتحقق به العقاب لو مات عليه ، اما لو أسلم سقط عنه ، لما عرفته من جب الإسلام ما قبله فإنه قد كان في حال أعظم من ذلك ، فإذا غفره الله له غفر له ما دونه ، ومن ذلك يعلم انه لو فقد الاستطاعة قبل الإسلام أو بعده قبل وقته ومات قبل عودها لم يقض عنه ، ولو أحرم لم يعتد بإحرامه حال كفره ، كما لا يعتد بغيره من عباداته.

٣٠١

فلو أحرم ثم أسلم في الأثناء أعاد الإحرام من الميقات ، لفساد الأول ، ولو لم يتمكن من العود الى الميقات أحرم من موضعه ولعله الى ذلك يرجع ما عن الخلاف من ان عليه الرجوع الى الميقات والإحرام منه ، فان لم يفعل وأحرم من موضعه وحج تم حجه ، لا ان المراد عدم الوجوب ، أو تحقق الإثم خاصة بعدم العود اليه مع الإمكان ولو أحرم بالحج كافرا وأدرك الاختياري من الوقوف بالمشعر مسلما لم يجزه إلا ان يستأنف إحراما آخر ولو فيه كما في القواعد والمسالك مع فرض عدم التمكن وفي كشف اللثام ان قول المحقق وان ضاق الوقت أحرم ولو بعرفات كأنه اقتصارا على حال من يدرك جميع الأفعال ، وفي المسالك كان حق العبارة ولو بالمشعر ، لأنه أبعد ما يمكن فرض الإحرام منه ، فيحسن دخول « لو » عليه بخلاف عرفة ، وان كان الإحرام منها جائزا ، بل اولى به ، وفي المدارك هو جيد ان ثبت جواز استيناف الإحرام من المشعر ، لكنه غير واضح كما سيجي‌ء تحقيقه ، قلت : ستعرف وضوحه ان شاء الله.

ثم إن كان الحج إفرادا أو قرانا أتم حجه ثم اعتمر بعده ، وإن كان فرضه التمتع وقد قدم عمرته ففي الاجتزاء بها أو العدول إلى الافراد وجهان ، وفي المدارك وجزم الشارح بالثاني منهما هنا ، وقال : إن هذا من مواضع الضرورة المسوغة للعدول من التمتع إلى قسيميه ، قلت : لكن ظاهر النصوص الأول ، فالمتجه الجزم بالأول منهما كما عرفته في نظير المقام ، بل عرفت غير ذلك أيضا مما يأتي هنا ، فلاحظ وتأمل.

ولو حج المسلم ثم ارتد بعده ثم تاب لم يعد على الأصح للأصل بعد تحقق الامتثال ، وعدم وجوب حج الإسلام في العمر إلا مرة ، وقد حصلت ، خلافا للمحكي عن الشيخ بناء منه على أن الارتداد يكشف عن عدم‌

٣٠٢

الإسلام في السابق ، لأن الله لا يضل قوما بعد إذ هداهم ، وفيه أنه مخالف للوجدان ، ولظواهر الكتاب والسنة ، وآية الإحباط (١) انما تدل على عدم قبول عمل الكافر حال كفره لا ما عمله سابقا حال إسلامه ، ومع التسليم فهو مشروط بالموافاة على الكفر كما هو مقتضى الجمع بينها وبين الآية (٢) الأخرى الدالة على ذلك ، هذا كله مضافا إلى‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام في خبر زرارة (٣) : « من كان مؤمنا فحج ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب يحسب له كل عمل صالح عمله ولا يبطل منه شي‌ء » ونحوه غيره.

ولو لم يكن مستطيعا حال إسلامه فصار كذلك في حال ردته ولو عن فطرة بأن استصحبه غيره وحمله إلى مكة والمواقف وجب عليه الحج لاجتماع شرائطه وصح منه حج إسلام إذا تاب ولو كان عن فطرة بناء على قبولها منه ، سواء استمرت استطاعته إلى ما بعد التوبة أو لا ، إجراء له مجرى المسلم في ذلك لتشرفه بالإسلام أولا ، ومعرفة أحكامه التي منها الحج ، وخبر الجب (٤) انما هو في غيره ، بل في القواعد « أنه لو مات أي المرتد بعد الاستطاعة أخرج من صلب تركته ما يحج به عنه وإن لم يتب على إشكال » لكن فيه ما عرفت من عدم براءة ذمته من ذلك ، وعدم تأهله للإكرام ، ودعوى شمول أدلة القضاء له وكون الحج كالدين يمكن منعها أيضا ، فلعل الأقوى عدم‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٧.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢١٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٢ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٤٩.

٣٠٣

القضاء عنه ، بل يقوى ذلك أيضا فيما لو كان مستطيعا قبل الارتداد ثم أهمل ثم ارتد ومات عليه ، فتأمل.

ولو أحرم مسلما ثم ارتد ثم تاب لم يبطل إحرامه على الأصح لما عرفته في الحج من الأصل وغيره بعد عدم دخول الزمان في مفهومه كالصوم كي يتجه بطلانه بمضي جزء منه ولو يسيرا ، وعدم ثبوت اشتراط الاتصال فيه كالصلاة كي يتجه بطلانه حينئذ بحصول المنافي للارتباط ، بل هو أشبه شي‌ء بالوضوء والغسل ونحوهما مما لا تبطل الردة ما وقع من أجزائهما إذا حصلت في أثنائهما ، فإذا عاد إسلامه بنى حينئذ ما لم يحصل مبطل خارجي كالجفاف ونحوه كما تقدم تحقيق ذلك في محله ، خلافا للمحكي عن الشيخ هنا أيضا ، وقد عرفت ما فيه ، بل ألزم هو نفسه هنا بأن المتجه على ذلك عدم لزوم قضاء ما فاته من الصلاة والصوم مثلا حال الارتداد لو تاب ، لكونه حينئذ من الكافر الأصلي ، فلا قضاء عليه ، لجب الإسلام ما قبله.

هذا كله في الكافر والمرتد وأما المخالف إذا استبصر فالمشهور أنه لا يعيد ما فعله من الحج على وفق مذهبه ، للمعتبرة (١) المستفيضة التي قد ذكرنا شطرا منها في قضاء الصلاة ؛ وشطرا آخر في الزكاة التي يجب حمل ما ظاهره الوجوب منها على الندب ، لضعفها عن المعارضة من وجوه ، وحينئذ فما عن ابني الجنيد والبراج من وجوب الإعادة عليه واضح الضعف ، نعم في المتن والقواعد والدروس ومحكي المعتبر والمنتهى والتحرير إلا أن يخل بركن منه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب مقدمة العبادات والباب ٣ من أبواب المستحقين للزكاة والباب ٢٣ من أبواب وجوب الحج.

٣٠٤

بل في المدارك نسبته إلى الشيخ وأكثر الأصحاب ، وهو متجه إذا كان المراد عندهم ، ضرورة عدم الإتيان بالحج الذي هو شرط في سقوط الإعادة ، فإن المنساق من النصوص المسقطة لذلك إذا كان قد جاء بالحج على وفق ما عندهم ، وأما إذا كان المراد عندنا كما صرح به في الكتب السابقة فمشكل جدا كما اعترف به غير واحد من متأخري المتأخرين ، خصوصا بعد عدم كون الحكم في الصلاة كذلك ، والفرق بينهما في غاية الإشكال ، مضافا إلى مخالفة ما هنا لإطلاق النصوص الذي به قد خرجنا عن قاعدة الإعادة وإن كان الفعل فاسدا كما تقدم ذلك في قضاء الصلاة.

لكن قد يقال هنا إن المراد بتقييد الركن عندنا الصحة لو أخل بما هو ركن عندهم لا عندنا كالحلق ، لا أن المراد وجوب الإعادة بالإخلال بركن عندنا وإن لم يكن ركنا عندهم ، إذ الظاهر ركنية كل ما كان ركنا عندنا عندهم كما اعترف به في الذكرى ، فلا يمكن حينئذ فرض ذلك ، وحينئذ يكون المراد تكثير ما يحكم بصحته من فعلهم لا تقليله كي يتجه عليه الإشكال بأن إطلاق النصوص يقتضي الصحة وإن أخل بالركن عندنا ، كما أنه يكون حينئذ لا فرق بينه وبين الصلاة ، فإن الظاهر سقوط القضاء إذا جاء بها تاركا فيها لما يفسد تركه عندهم ولا يفسد عندنا إذا فرض وقوعها منه على وجه لا ينافي التقرب وان فقدت النية المفسد تركها عند الجميع ، فيرتفع الإشكال حينئذ من أصله.

ولعل الذي دعاهم إلى هذا التقييد هنا دون الصلاة هو ما عرفته من أن كل ركن عندنا ركن عندهم ولا عكس ، بخلاف الصلاة فإن وجوه المخالفة بيننا في التروك والأفعال متكثرة ، وقد أرادوا بذلك بيان سقوط الإعادة هنا عنه إذا كان قد جاء بالفعل وقد ترك ما هو ركن عندهم لا عندنا ، والفرض انه استبصر ، لا أن المراد ثبوت الإعادة عليه بتركه ما هو ركن عندنا وليس ركنا عندهم كي‌

٣٠٥

يتجه عليه الإشكال بأن إطلاق النصوص يقتضي الصحة في هذا الفرد ، فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع.

بل قد ينقدح منه قوة القول بصحة عبادة المستبصر التي قد جاء بها قبل استبصاره على وفق ما عند الشيعة إذا فرض كونها على وجه لا ينافي التقرب ، بل يدعى القطع ، ضرورة أولويته من سقوط القضاء والإعادة عنه بالفعل المخالف لهم الذي هو فاسد في الواقع ، والتردد الذي وقع من بعضهم انما هو في عبادة المخالف الباقي على خلافه إذا جاء بها على وفق ما عند أهل الحق وفرض كونها على وجه لا ينافي النية منه من كونه مكلفا بالفروع وقد جاء بتكليفه فيتحقق امتثاله ومن كون الايمان شرطا فيعتبر في الصحة وقوع ذلك الفعل به لا له أم زمانه (١) فلا تجزيه الإصابة الاتفاقية ، وإلا لاستحق الثواب الأخروي على فعله بمقتضى الوعد المعلوم حرمانه منه بالضرورة من المذهب ، فتأمل جيدا.

ثم إن هذا السقوط عنه لانكشاف صحة فعله بالايمان المتأخر أو أنه تفضل من الله تعالى ، قد أطنب في الحدائق تبعا للمدارك في ترجيح الثاني مستدلين عليه بما دل (٢) على بطلان عبادة المخالف ، وانها هي الهباء المنثور ، والرماد الذي اشتدت به الريح ، والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، وغير ذلك مما ورد فيهم ، وفيه ان القائل بالأول لا يلتزم صحة عباداتهم مع بقائهم على خلافهم إلى الموت ، بل المراد صحة خصوص من تعقبه الايمان منهم ، فيكون الشرط في الصحة حينئذ حصوله مقارنا أو متأخرا ، ولما كان علم الله تعالى بما يكون كعلمه بما كان‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولعل الصواب « وقوع ذلك الفعل بدلالة إمام زمانه ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١ والمستدرك ـ الباب ـ ٢٧ منها ـ الحديث ٦١ و ٦٤ وتفسير البرهان ـ سورة النور الآية ٣٩.

٣٠٦

وقد علم تعقبه للايمان فهو صحيح من أول وقوعه وإن كنا نحن لم نعلم به لجهلنا بحصول الشرط ، ويؤيد ذلك ما في نصوص المقام (١) من أنه إذا استبصر يؤجر على عمله الذي عمله حال خلافه ، فإن الأجر عليه يقتضي صحته ، ولا استبعاد في الحكم بصحته في هذا الحال وإن كان هو على خلاف ما عليه أهل الحق ، كالفعل الموافق للتقية ، وهو قوي جدا ، بل هو المحكي عن الفاضل في المختلف وخيرة الفاضل الطباطبائي.

كما أنه يقوى بملاحظة النصوص واشتمالها على الناصب والحرورية ونحوهم من الفرق المحكوم بكفرها لغلوها أو لكونها من الخوارج عدم الفرق في الحكم المزبور بين جميع فرق المسلمين وإن كان بعضهم كافرا بل وإن كان مرتدا عن فطرة ، فما عن العلامة من قصر الحكم على من لم يكن كافرا منهم في غير محله ، لا لشمول المخالف لهم نصا وفتوى ، فإنه قد يقال بكون المنساق منه من حيثية الخلاف لا إذا انضمت اليه حيثية الكفر ، بل لما سمعته من النصوص السابقة.

نعم ينبغي قصر الحكم على خصوص هذه الفرق ، فلا يلحق بهم المحق الجاهل إذا وقع حجه مثلا على وفق أهل الخلاف ثم بان له بعد ذلك الواقع ، وإن تردد فيه في الدروس ظنا منه أن ذلك أولى من صحة عبادة المخالف المخالفة للواقع مع مخالفة اعتقاد الفاعل ، لكنه كما ترى قياس لا نقول به ، ضرورة عدم وصول العقل إلى هذه الأولوية ، وليس في النصوص إشارة إلى علة يمكن جريانها في الفرض كما هو واضح ، فيتجه حينئذ بقاؤها على مقتضى القواعد ، ودعوى اقتضائها الصحة لقاعدة الاجزاء قد فرغنا من بيان فسادها في الأصول.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب مقدمة العبادات والباب ٣ من أبواب المستحقين للزكاة والباب ٢٣ من أبواب وجوب الحج.

٣٠٧

وكيف كان فـ ( هل الرجوع إلى كفاية ) للمعيشة من صناعة أو مال أو حرفة أو ضيعة أو نحو ذلك شرط في وجوب الحج؟ قيل والقائل الشيخان والحلبيان وابنا حمزة وسعيد وجماعة نعم يشترط ، بل عن الخلاف والغنية الإجماع عليه ( لـ ) لأصل والحرج ورواية أبي الربيع‌ الشامي (١) « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ ) ـ الآية ـ فقال : ما يقول الناس؟ قال : فقيل : الزاد والراحلة ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن هذا فقال : هلك الناس إذا لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم إياه لقد هلكوا ، فقيل له : فما السبيل؟ قال : فقال : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقى بعضا يقوت به عياله ، أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها إلا على من يملك مائتي درهم » وعن بعض النسخ « ينطلق اليه » كما عن المقنعة روايته « هلك الناس إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما أو مقدار ذلك مما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحج بذلك ثم يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذا ، فقيل له : فما السبيل عندك؟ فقال : السعة في المال ، وهو أن يكون معه ما يحج ببعضه ويبقى بعض يقوت به نفسه وعياله » وخبر الأعمش (٢) عن الصادق عليه‌السلام أيضا في تفسير السبيل « هو الزاد والراحلة مع صحة البدن ، وأن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله وما يرجع اليه من حجه » وغيرهما من بعض (٣) الأخبار المرسلة.

وقيل والقائل المرتضى وابن إدريس وابنا أبي عقيل والجنيد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٥.

٣٠٨

والمتأخرون لا يشترط ، بل نسبه غير واحد إلى الأكثر ، بل الشهرة عملا بعموم الآية والنصوص لصدق اسمهما بدونه لغة وعرفا وهو الأولى وبذلك ينقطع الأصل ، كما أن من الواضح عدم الحرج خصوصا بعد ملاحظة ما ضمنه الله من الرزق ، ومنع الإجماع سيما مع ملاحظة ذهاب من عرفت إلى خلافه ، وعدم دلالة الخبر بعد الطعن في سنده ، بل لعله على عكس ذلك أدل حتى على زيادة المقنعة ، ودعوى ظهور إرادة ذلك من قوت نفسه باعتبار معلومية إرادة ما بعد رجوعه ـ كقوله عليه‌السلام : « يرجع فيسأل الناس بكفه » أو دعوى إرادة ما يستمر تحصيل القوت منه لا مقدار ذهابه وإيابه ، بل لعله المراد من كل رواية اشتملت على اعتبار ذلك ، أو دعوى ظهور‌ قوله عليه‌السلام : « أليس قد فرض الله » إلى آخره ، في اعتبار بقاء شي‌ء زائد على ما يكفيه للحج ذهابا وإيابا ، وليس هو إلا ما عند الخصم للإجماع على عدم غيره ـ كما ترى ، إذ لا دلالة في الأول والأخير على اعتبار ما ذكروه من مقدار الكفاية الظاهر بعد عدم التقييد بسنة أو بما دونها في إرادة الدوام والاستمرار عادة بأن تكون له صنعة أو عقار يكفيه نماؤه أو نحو ذلك مما يتخذه الإنسان معاشا ، ومن المعلوم عدم استفادة ذلك من الخبر المزبور ، وتتميمه بالإجماع كما هو مقتضى الدعوى الثالثة ليس بأولى من طرحه ، لاشتماله على ما لا يقول به الجميع ، ضرورة أن تحميله إرادة مقدار الكفاية بالمعنى المزبور مما فيه مما يكاد يقطع بعدمه ، فلا يصلح حينئذ لتقرير الاستدلال به ، فتأمل.

وما عن بعض المراسيل (١) من التنصيص على ذلك لا جابر له ، كما أنه لا ظهور في خبر المقام في إرادة الاستمرار مما فيه من اعتبار التقوت وإن كان‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٥.

٣٠٩

هو محتملا ، لكن لا يخفى عليك أن مجرد الاحتمال لا يكفي في الاستدلال ، خصوصا في مثل المقام المخالف لإطلاق الكتاب والسنة ، على أنه من المستبعد جدا عدم وجوب الحج على من يملك جملة وافرة من أعيان الدراهم التي لا يزيد نماؤها على مقدار كفايته ، وإن كان لو أراد صرفها عينها تقوم به وبحجه سنين وكذا من عنده عقار كذلك ، كما أنه من المستبعد عدم ذكر ذلك في المستثنيات السابقة التي لا ينكر ظهور كلامهم في ذلك المقام في الاقتصار على مستثنيات الدين على إشكال في بعضها ، بل من المستبعد أيضا اشتراط الغنى في وجوب الحج الذي هو مقتضى هذا الشرط ، بل فيه زيادة على الغنى ، مع أن مقتضى النصوص أعم من ذلك ، فرب فقير لا يملك قوت سنته يجب عليه الحج ، لاستطاعته ، ورب غني يملكها لا يجب عليه ؛ لعدم استطاعته له إلا بإنفاق ما يجب عليه مما عرفت استثناءه ، ولعل هذا هو المراد بخبر أبي الربيع على معنى عدم كفاية نفس الغنى في الوجوب ، بل لا بد من اعتبار ما يزيد على ذلك ، ضرورة تحققه بملك قوت السنة فعلا أو قوة ، ومثل ذلك قد لا يكفي في وجوب الحج ، كما هو واضح.

وكيف كان فلا خلاف كما لا إشكال نصا وفتوى في أنه لو اجتمعت الشرائط فحج متسكعا أو حج ماشيا أو حج في نفقة غيره أجزأه عن الفرض بل الإجماع بقسميه عليه ، ضرورة صدق الامتثال ، وعدم وجوب صرف المال إلا للتوقف عليه ، وبذلك يفرق بينه وبين من حج متسكعا قبل حصول الشرائط ، لعدم الأمر حينئذ ، فلا امتثال ، بل هو كالصلاة قبل وقتها.

وعلى كل حال فـ ( من وجب عليه الحج ) أو ندب فالمشي للحج خضوعا وخشوعا وطلبا للأحمز من حيث كونه مشيا أفضل له من الركوب من حيث كونه ركوبا ، وفاقا للمشهور بين الأصحاب ، لقول الصادق عليه‌السلام في‌

٣١٠

خبر ابن سنان (١) وغيره : « ما عبد الله بشي‌ء أشد من المشي ولا أفضل » والمراد إلى بيته ، لقوله عليه‌السلام في مرسل أبي الربيع (٢) المروي عن كتاب ثواب الأعمال : « ما عبد الله بشي‌ء مثل الصمت والمشي إلى بيته » ومرسل الفقيه (٣) « روي انه ما تقرب العبد إلى الله عز وجل بشي‌ء أحب إليه من المشي إلى بيته الحرام على القدمين » وقد‌ سئل أبو عبد الله عليه‌السلام (٤) « عن فضل المشي فقال : إن الحسن بن علي عليهما‌السلام قاسم ربه ثلاث مرات حتى نعلا ونعلا وثوبا وثوبا ودينارا ودينارا ، وحج عشرين حجة ماشيا » وقال أيضا في خبر أسامة (٥) : « خرج الحسن بن علي عليهما‌السلام إلى مكة ماشيا فورمت قدماه ، فقال له بعض مواليه : لو ركبت لسكن عنك هذا الألم ، فقال : كلا » الحديث. وفي‌ خبر أبي المنكدر (٦) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال ابن عباس : ما ندمت على شي‌ء صنعته ندمي على أن لم أحج ماشيا ، لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من حج بيت الله ماشيا كتب الله له ستة آلاف حسنة من حسنات الحرم ، قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال : حسنة بألف ألف حسنة ، وقال : فضل المشاة في الحج كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم ، وكان علي بن الحسين عليهما‌السلام يمشي إلى الحج ودابته تقاد وراءه ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٦ مرسل الربيع بن محمد المسلمي.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٨ وهو عن أبي أسامة كما في أصول الكافي ج ١ ص ٤٦٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٩ مع الاختلاف فيه.

٣١١

أما المشي لا لذلك بل ليكون أقل لنفقته فلا ريب في ان الركوب أفضل منه مع يساره ، لقول أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر أبي بصير (١) : وقد سئل عن المشي أفضل أو الركوب : « إن كان الرجل موسرا فيمشي ليكون أقل لنفقته فالركوب أفضل » ولعله دفعا للشح وصرفا للمال في طريق الحج وعدم الثواب في المشي في الفرض أصلا ، كما انه قد يقترن الركوب بما يترجح به على المشي كالقوة على العبادة والعجلة إليها ، أو دفع النقص عنه بتخيل الشح والقلة من الأعداء والحساد ونحو ذلك ، كما أومأ إليه‌ خبر هشام بن سالم (٢) قال : « دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام أنا وعنبسة بن مصعب وبضعة عشر رجلا من أصحابنا فقلت : جعلني الله فداك أيما أفضل المشي أو الركوب؟ فقال : ما عبد الله بشي‌ء أفضل من المشي ، فقلنا : أيما أفضل يركب إلى مكة فيعجل فيقيم بها إلى ان يقدم الماشي أو يمشي؟ فقال : الركوب أفضل » وخبر عبد الله بن بكير (٣) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا نريد الخروج إلى مكة مشاة فقال : لا تمشوا واركبوا ، فقلت : أصلحك الله بلغنا ان الحسن بن علي عليهما‌السلام حج عشرين حجة ماشيا ، فقال : إن الحسن بن علي عليهما‌السلام كان يمشي وتساق معه محامله ورجاله » وخبر سيف التمار (٤) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا كنا نحج مشاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١٠.

(٢) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢ وذيله في الباب ٣٣ منها ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٥ مع الاختلاف في اللفظ ، ورواه في التهذيب ج ٥ ص ٤٧٨ الرقم ١٦٩٠ بعين ما ذكر في الجواهر.

٣١٢

فبلغنا عنك شي‌ء فما ترى؟ فقال : إن الناس يحجون مشاة ويركبون ، قلت : فليس عن هذا أسألك فقال : فعن أي شي‌ء سألت؟ قلت : أيهما أحب إليك ان نصنع؟ قال : تركبون أحب إلى ، فان ذلك أقوى لكم في الدعاء والعبادة ».

وإلى هذا الأخير أومأ المصنف بقوله إذا لم يضعفه أي المشي ومع الضعف الركوب أفضل نحو ما سمعته في صوم عرفة ، ولا يتوهم من ذلك أفضلية الركوب من حيث كونه ركوبا ، وذلك حكمة له ، بل المراد ضم مرجح له ، بل لعل ما ورد في جملة من النصوص (١) من أفضليته على المشي معللة له بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ركب محمول على ذلك ، بمعنى أن من ركب ملاحظا للتأسي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد يترجح ركوبه على مشيه ، وبذلك يتضح لك عدم التعارض بين النصوص ، وأنه لا حاجة إلى ما أطنبوا به من تعدد صور الجمع ، حتى ذهب إلى كل بعض ، ضرورة معلومية رجحان المشي من حيث كونه مشيا ، بل لعله ضروري ، وأن المراد بما دل على رجحان الركوب عليه من النصوص انما هو من حيث اقتران بعض المرجحات به ، فهو من باب دوران المستحبات وترجيح بعضها على بعض ، لا أن الركوب من حيث كونه ركوبا أفضل من المشي من حيث كونه مشيا ، فان ذلك مقطوع بفساده ، بل لا ينبغي للفقيه احتماله ، ومثله الكلام في المشي إلى المشاهد ، خصوصا ( مشهد ظ ) سيدي ومولاي أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام ، والله العالم.

مسائل أربع : الأولى إذا استقر الحج في ذمته ثم لم يفعله ـ والمراد به ما يعم النسكين وأحدهما ، فقد تستقر العمرة وحدها ، وقد يستقر الحج وحده وقد يستقران ـ فعله متى تمكن منه على الفور ولو متسكعا بلا خلاف أجده فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١ و ٢ و ٤ و ٨.

٣١٣

ولا إشكال ، بل الإجماع بقسميه عليه ، والنصوص دالة عليه ، بل لعله المراد من‌ خبر أبي بصير (١) الذي سأل الصادق عليه‌السلام فيه عن قول الله عز وجل ( وَلِلّهِ ) ـ إلى آخره ـ فقال : يخرج ويمشي إن لم يكن عنده مال ، قال : لا يقدر على المشي قال : يمشي ويركب ، قال : لا يقدر على ذلك يعني المشي قال : يخدم القوم ويخرج معهم » فان لم يفعل حتى مات ولو لعدم تمكنه قضي عنه أي فعل عنه من أصل تركته كسائر الديون لا من الثلث بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه أيضا ، خلافا لأبي حنيفة ومالك والشعبي والنخعي ، قال الصادق عليه‌السلام في حسن الحلبي (٢) : « يقضى عن الرجل حجة الإسلام من جميع ماله » وسئل عليه‌السلام أيضا في خبر سماعة (٣) « عن الرجل يموت ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص أيضا وهو موسر قال : يحج عنه من صلب ماله لا يجوز غير ذلك » فان كان عليه دين ولو خمس أو زكاة مثلا ووقت التركة بالجميع فلا إشكال وإن ضاقت أي التركة قسمت على الدين ، وأجرة المثل بالحصص كما تقسم في الديون ، لاشتراك الجميع في الثبوت وفي التعلق بالمال ، لاتفاق النص والفتوى على كونه دينا أو بمنزلته ، فما عن الشافعي ـ من تقديم الحج في قول ، بل عن الجواهر احتماله ، وفي آخر تقديم الدين ـ في غير محله وإن مال إلى الأول في الحدائق‌ للحسن عن معاوية بن عمار (٤) « قلت له : رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام وترك ثلاثمائة درهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ من كتاب الزكاة.

٣١٤

وأوصى بحجة الإسلام وأن يقضى عنه دين الزكاة قال : يحج عنه من أقرب ما يكون ويرد الباقي في الزكاة » قال : ومثلها ما رواه‌ الشيخ في التهذيب (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا « في رجل مات وترك ثلاثمائة درهم وعليه من الزكاة سبعمائة درهم فأوصى أن يحج عنه قال : يحج عنه من أقرب المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة » وفيه ـ بعد إعراض الأصحاب عنهما وقصور سند الثاني منهما واختصاصهما بالزكاة ـ أنه يمكن كون ما ذكره فيهما مقتضى التوزيع أيضا ، فلا إشكال حينئذ.

ولو كان قد استقر عليه كل من النسكين ووسع النصيب خصوص أحدهما صرف فيه ، وإن وسع كل منهما تخير للتساوي في الاستقرار ، ويحتمل تقديم الحج لكونه أهم في نظر الشارع ، وتقديمه ممن عليه الافراد والقران خاصة ، وتقديم العمرة ممن عليه التمتع خاصة ، والتخيير ممن عليه أحد الأنواع مخيرا ، وقد يحتمل سقوطهما عمن عليه التمتع لدخول العمرة في حجه ، وإن لم يف النصيب بشي‌ء من النسكين صرف في الدين لا فيما بقي به من الأفعال من طواف ووقوف لعدم التعبد بشي‌ء منها وحدها عدا الطواف ، واحتمال إثبات مشروعية ذلك بقاعدة الميسور و « ما لا يدرك » قد بينا فساده في محله ، على أن الظاهر قصر الاستدلال بها على ما يعضدها فيه كلام الأصحاب ، لقصور سندها وعدم ثبوت كونها قاعدة ، وكلام الأصحاب على الظاهر بخلافها هنا ، بل لعل ظاهره كون الطواف أيضا كذلك ، لإطلاقهم رجوع النصيب ميراثا بمجرد قصوره عن الحج أو العمرة ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فقد ظهر لك ان تعلق الحج بالتركة على نحو تعلق الدين بها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من كتاب الوصايا ـ الحديث ١.

٣١٥

الذي تعرف البحث فيه إن شاء الله في محله على تقديري الاستيعاب وعدمه ، كما انه يأتي أيضا إن شاء الله كيفية تعلق حق الوارث بالتركة ، وانه مخالف لقواعد الشركة فيما لو أقر الوارث بوارث آخر ، فان النص والفتوى كما تسمعه إن شاء الله في كتاب الإقرار وغيره متطابقان على دفع الفاضل مما في يده إن كان لمن أقر له ، لا انه يشاركه فيما في يده وإن كان مساويا له في الإرث ، كما إذا أقر بأخ له وأنكره الآخر وكان الإرث لهما فإنه يدفع له ثلث ما في يده ، وهو تكملة حصة المقر له الباقية عند المنكر ، اما إذا لم يكن له في يده شي‌ء كما لو أقر الأخ لأم بأخ لأب فلا شي‌ء له ، وكذا لو أقر لأخ آخر من الأم فإن لهما الثلث ، وليس في يد المقر إلا السدس ، وهو نصيبه مع فرض الموافقة ، فليس في يده أزيد من نصيبه كي يدفعه إلى من أقر له ، ولا ريب في مخالفة ذلك لقواعد الشركة التي مقتضاها التساوي في الحاصل والتالف لهما وعليهما ، كما لو أقر أحد الشريكين في دار مثلا لآخر بالشركة معهما على السوية وأنكر الآخر وقاسم المقر بالنصف كان النصف بينهما بالسوية ، تنزيلا للإقرار على الإشاعة ، بخلافه في الإقرار بالوارث ، وقد تجشمنا وجها للفرق بينهما في غير المقام ، إلا ان الانصاف كون الفارق النص والفتوى.

ونحو ذلك في مخالفة القواعد إقرار الوارث بالدين وإنكار شركائه ، فإنه لا يمضي إلا على مقدار حصته وإن استوعبها ، كما لو ترك الميت ابنين وبنتا وألفا مثلا وأقر أحد الولدين بألف دينا فإنه يدفع جميع ما في يده من الألف وهو أربعمائة للمقر له ، لأنه لا إرث له باعترافه ، اما إذا أقر بخمسمائة فإنه يدفع مما في يده مائتين ، لأنه الذي تعلق بنصيبه من الدين الذي هو موزع على ما في يده ويد أخيه وأخته بلا خلاف محقق معتد به أجده في شي‌ء من ذلك عندنا نصا وفتوى ، نعم يحكى عن الشافعي وجوب دفع جميع ما في يده في الدين ، لأنه‌

٣١٦

لا إرث إلا بعده ، ولا ريب في بطلانه ، ومثل ذلك يأتي في الحج الذي قد عرفت كونه من الدين أيضا.

لكن ذلك كله في إقرار الوارث بوارث أو دين ، أما إذا أقر الديان لآخر بدين وإرثا كان أو غيره وفرض استيعابه للتركة على تقدير موافقة الشريك وكذا لو أقر بحج أيضا فالذي تقتضيه قاعدة تنزيل الإقرار على الإشاعة قسمة الحاصل في يد المقر من دينه على حسب دينهما معا ، وربما يشهد له ما رواه‌ الصدوق في الفقيه عن محمد بن أبي عمير متصلا بالحكم بن عتيبة (١) قال : « كنا على باب أبي جعفر عليه‌السلام ونحن جماعة ننتظر أن يخرج إذ جاءت امرأة فقالت : أيكم أبو جعفر؟ فقال لها القوم : ما تريدين منه؟ فقالت : أسأله عن مسألة ، فقالوا لها : هذا فقيه أهل العراق فاسأليه ، فقالت : إن زوجي مات وترك ألف درهم وكان لي عليه من صداقي خمسمائة درهم ، فأخذت صداقي وأخذت ميراثي ثم جاء رجل فادعى عليه ألف درهم فشهدت له ، قال الحكم : فبينما أنا أحسب إذ خرج أبو جعفر عليه‌السلام فقال : ما هذا الذي أراك تحرك به أصابعك يا حكم؟ فقلت : إن هذه المرأة ذكرت أن زوجها مات وترك ألف درهم وأن لها عليه من صداقها خمسمائة درهم وأخذت ميراثها ثم جاء رجل فادعى عليه ألف درهم فشهدت له ، قال الحكم : فو الله ما أتممت الكلام حتى قال : أقرت بثلثي ما في يدها ولا ميراث لها قال الحكم : فما رأيت والله أفهم من أبي جعفر عليه‌السلام قط » قال ابن أبي عمير : وتفسير ذلك انه لا ميراث لها حتى تقضي الدين ، وانما ترك ألف درهم وعليه من الدين ألف وخمسمائة درهم لها وللرجل ، فلها ثلث الألف ، لأن لها خمسمائة درهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من كتاب الوصايا ـ الحديث ٨ مع الاختلاف في الألفاظ ورواه في الفقيه ج ٤ ص ١٦٦ الرقم ٥٧٩ بعين ما ذكر في الجواهر.

٣١٧

وللرجل ألف درهم ، فله ثلثاها ، وهو صريح فيما ذكرناه مما هو موافق للقاعدة المزبورة التي مقتضاها أن تركة الميت نحو مال المفلس في كونها أسوة الغرماء ، وكذا رواه الشيخ في بعض نسخ التهذيب ، بل مقتضى ذلك عدم الفرق بين كون الدين مستوعبا أم لا ، وإن كان له الرجوع فيما قبضته حينئذ إرثا على مقدار ما يخصه من الدين ، بخلاف ما قبضته من الدين ، فإنه يقسم بين المقر والمقر له على حسب دينهما ، لكن رواه في الكافي في كتاب الوصايا وكتاب المواريث « أقرت بثلث ما في يدها » حاكيا في الأول منهما ما سمعته من تفسير ابن أبي عمير وفي الثاني منهما أيضا عن الفضل بن شاذان (١) ما نصه « وتفسير ذلك ان الذي على الزوج صار ألفا وخمسمائة درهم ، للرجل ألف ، ولها خمسمائة ، وهو ثلث الدين وانما جاز إقرارها في حصتها ، فلها مما ترك الميت الثلث ، وللرجل الثلثان ، فصار لها مما في يدها الثلث ، ويرد الثلثان على الرجل ، والدين استغرق المال كله ، فلم يبق شي‌ء يكون لها من ذلك الميراث ، ولا يجوز إقرارها في حق غيرها » وهما كما ترى لا يتمان خصوصا الثاني منهما إلا على كون الرواية ثلثي ما في يدها لا ثلث ، ومن هنا قال في الدروس ـ بعد أن روى الخبر المزبور كما سمعته من الصدوق قدس‌سره ثم حكى عن الكليني ما سمعته من الفضل : ـ قلت : « هذا مبني على أن الإقرار يبنى على الإشاعة وان إقراره لا ينفذ في حق الغير ، والثاني لا نزاع فيه ، واما الأول فظاهر الأصحاب أن الإقرار انما يمضى على قدر ما زاد عن حق المقر بزعمه ، كما لو أقر بمن هو مساو له ، فإنه يعطيه ما فضل عن نصيبه ولا يقاسمه فحينئذ يكون قد أقرت بثلث ما في يدها ، أعني خمسمائة ، لأن لها بزعمها وزعمه ثلث الألف الذي هو ثلثا خمسمائة ، فيستقر ملكها عليه ، ويفضل معها ثلث خمسمائة‌

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٦٨ الطبع الحديث.

٣١٨

وإذا كانت أخذت شيئا بالإرث فهو بأسره مردود على المقر له ، لأنه بزعمها ملك له ، والذي في التهذيب نقلا عن الفضل « لقد أقرت بثلث ما في يدها » رأيته بخط مصنفه ، وكذا في الاستبصار ، وهذا موافق لما قلناه ، وذكره‌ الشيخ قدس‌سره بسند آخر عن غير الفضل وعن غير الحكم متصلا بالفضل بن يسار (١) عنه عليه‌السلام « أقرت بذهاب ثلث مالها ، ولا ميراث لها ، تأخذ المرأة ثلثي خمسمائة ، وترد عليه ما بقي » قلت : هو كذلك فيما حضرني من نسخ التهذيب المعتبرة وإن كان كتب في الهامش نسخة الثلث التي ينفيها خبر الفضل بن يسار المصرح بما سمعت مع زيادة ، لأن إقرارها على نفسها بمنزلة البينة ، لكن قد يقال إن هذا الخبر غير نقي السند بمحمد بن مروان ، والأول مع كون الراوي الحكم الذي هو من العامة في التهذيب عن السعدي عنه ، وفي الفقيه زكريا ابن يحيى السعدي ، وفي الكافي زكريا بن يحيى الشعيري ، مضافا إلى ما سمعته من اختلاف متنه في الثلث والثلثين ، وما ذكره الفضل وابن أبي عمير في تفسيره ولا جابر إلا ما سمعته من النسبة إلى ظاهر الأصحاب التي لم نتحققها ، إذ لم أعثر على من تعرض لمفروض المسألة ولا الخبر المزبور عداه قدس‌سره ، نعم هو كذلك في الإقرار بوارث أو دين كما سمعت تفصيل الكلام فيه ، ودعوى اتحاد الفرض مع ذلك واضحة المنع ، فالمتجه حينئذ مراعاة قاعدة تنزيل الإقرار على الإشاعة نحو ما سمعته في إقرار أحد الشريكين ، ضرورة اتحاد كيفية تعلق دين كل منهما بالتركة ، كما ان الزعم من كل منهما متحد في استحقاق الثلث والثلثين من الألف في مفروض الخبر ، ولكن مع ذلك كله لا ينبغي ترك الاحتياط ، والله تعالى العالم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من كتاب الوصايا ـ الحديث ٩ عن الفضيل ابن يسار كما في التهذيب ج ٩ ص ١٦٩ الرقم ٦٩١.

٣١٩

المسألة الثانية يقضى الحج من أقرب الأماكن عند الأكثر ، بل المشهور بل عن الغنية الإجماع عليه ، والمراد به كما في المدارك « أقرب المواقيت إلى مكة إن أمكن الاستيجار منه ، وإلا فمن غيره مراعيا الأقرب فالأقرب ، فإن تعذر الاستيجار من احد المواقيت وجب الاستيجار من أقرب ما يمكن الحج منه إلى الميقات » وفي القواعد « من أقرب الأماكن إلى الميقات » ومزجها في كشف اللثام قال : « وانما يجب أي الحج عنه من أقرب الأماكن إلى مكة من بلده إلى الميقات فإن أمكن من الميقات لم يجب إلا منه ، وإلا فمن الأقرب إليه فالأقرب ، ولا يجب من بلد موته أو بلد استقراره عليه » قلت : الظاهر اتحاد المراد ، وهو الحج عنه من أقرب الأماكن إلى مبدإ نسك الحج ، فلو فرض عدم التمكن من ذلك إلا من بلده وجب ، ولا يشكل ذلك بمنافاته لحق الوارث بعد إيجاب الشارع الحج من جميع ماله ، وقد فرض توقفه على ذلك فيجب ، بل الظاهر تقديمه على ما لو تمكن من الحج عنه من أدنى الحل أو من مكة مثلا أو نحو ذلك من مواقيت الاضطرار بمعنى دوران الأمر بين الحج عنه من بلده وبين مواقيت الاضطرار ، فإنه يقدم الأول ، كما هو واضح ، بل الظاهر مراعاة مزاحمته للدين على هذا الوجه أيضا ، إذ الاضطرار بالنسبة إلى الميت قصور ماله ، والفرض سعته ، وتكون حينئذ الأجرة خارجة من الأصل على جميع الأقوال ، وإلى هذا أومأ في المدارك بقوله : « فلو اوصى بالحج من البلد فان قلنا بوجوبه كذلك من دون وصية كانت أجرة المثل لذلك خارجة من الأصل ، وإن قلنا الواجب الحج من الميقات ، كان ما زاد على أجرة ذلك محسوبا من الثلث إن أمكن الاستيجار من الميقات ، وإلا وجب الإخراج من حيث يمكن ، وكانت أجرة الجميع من الأصل كما هو واضح » فان المراد بقوله : « وإلا » إلى آخره ما أشرنا إليه ، فمن الغريب إنكاره عليه في‌

٣٢٠