جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فيه خلافا بينهم ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل في كشف اللثام الاتفاق عليه ، وكذا لو تمكن من المشي وجب عليه وإن تضرر بالركوب ما لم يشق عليه مشقة لا تتحمل دون المشقة اليسيرة التي لا ينفك عنها السفر غالبا ، والدواء في حق غير المتضرر مع الحاجة إليه كالزاد ، والطبيب المحتاج الى استصحابه كالخادم ، وليس الأعمى من المريض عرفا ، فيجب عليه الحج عندنا ، لعموم الأدلة حتى نصوص الصحة التي لا ريب في تناولها له وللأعرج والأصم والأخرس ونحوهم ، خلافا لأبي حنيفة فلم يوجبه على الأعمى ، نعم لو افتقر إلى قائد وتعذر لفقده أو فقد مئونته سقط ، وكذلك السفيه سفها موجبا للحجر عليه ليس مريضا ، فيجب عليه الحج وإن وجب على الولي إرسال حافظ معه عن التبذير إلا أن يأمنه عليه إلى الإياب أو لا يجد حافظا متبرعا ، ويعلم أن أجرته ومئونته تزيد على ما يبذره ، والنفقة الزائدة للسفر إلى الإياب في مال المبذر ، وأجرة الحافظ جزء من الاستطاعة إن لم يجد متبرعا ، كما هو واضح.

ولو منعه عدو عن المسير أو كان معضوبا لضعف أو زمانة لا يستمسك على الراحلة أو عدم المرافق مع اضطراره اليه سقط الفرض بلا خلاف ولا إشكال فيه في الجملة ، ولو عجز عن الاستمساك على القتب مثلا وأمكنه الاستمساك في المحمل وتمكن منه وجب ، كما هو واضح ، ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وانما الكلام الآن في أنه هل تجب الاستنابة مع عروض المانع من مرض أو ضعف وهرم وعدو قبل الاستقرار قيل والقائل الإسكافي والشيخ وأبو الصلاح وابن البراج والحسن في ظاهره والفاضل في التحرير نعم ومال إليه في المنتهى ، بل لعله ظاهر قول المصنف هنا وهو المروي مشيرا بذلك إلى‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح‌

٢٨١

الحلبي أو حسنه (١) : « وإن كان مؤسرا حال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله تعالى فيه فان عليه أن يحج عنه من ماله صرورة لا مال له » وإلى مضمر ابن حمزة (٢) الذي هو نحو ذلك ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (٣) : « لو أن رجلا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج فليجهز رجلا من ماله ثم ليبعثه مكانه » وصحيح ابن سنان (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر شيخا كبيرا لم يحج قط ولم يطق الحج لكبره أن يجهز رجلا يحج عنه » وهو الحجة بعد الإجماع المحكي في الخلاف عليه ، مضافا إلى معلومية قبوله للنيابة ، فتجوز حينئذ ، وإذا جازت وجبت هنا للدخول في الاستطاعة الموجبة للحج ، إذ ليس في الآية إلا أن على المستطيع الحج ، وهو أعم من الحج بنفسه وغيره.

إلا ان الأخير كما ترى ، والإجماع المحكي موهون بمصير ابني إدريس وسعيد والمفيد في ظاهره والفاضل في القواعد والمختلف وغيرهم إلى خلافه ، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله وقيل : لا يجب ، والنصوص المزبورة محمولة على من استقر في ذمته الحج ثم عرض المانع الذي لم يرج زواله ، فإن الاستنابة حينئذ واجبة قولا واحدا كما في الروضة وعن المسالك ، أو على الندب بقرينة‌ خبر عبد الله ابن ميمون القداح (٥) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام قال لرجل كبير لم يحج قط : إن شئت فجهز رجلا ثم ابعثه يحج عنك » وخبر أبي سلمة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٧ مضمر ابن أبي حمزة كما يأتي الإشارة إليه في ص ٢٨٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٨ عن أبي جعفر عن أبيه عليهما‌السلام وهو سهو فان الموجود في الكافي ج ٤ ص ٢٧٢ كالجواهر.

٢٨٢

عن أبي حفص (١) عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام « ان رجلا أتى عليا عليه‌السلام ولم يحج قط فقال : إني كنت كثير المال قد فطرت في الحج حتى كبر سني قال : فتستطيع الحج قال : لا ، فقال علي عليه‌السلام : إن شئت فجهز رجلا ثم ابعثه يحج عنك » ولا ينافي ذلك ما فيه من لفظ التفريط المقتضي بظاهره الاستقرار ، لوجوب حمله على إرادة التفريط من حيث القدرة المالية على معنى الاستطاعة بها منذ سنين مع ترك الحج بنفسي وبغيري ، ضرورة عدم انطباق الجواب الظاهر في التخيير إلا على ذلك ، ودعوى إرادة الوجوب من هذا التخيير مع أنها تقتضي إخراج الخبر المزبور حينئذ عما نحن فيه كما ترى ، فما في الحدائق من تعارف التعبير عن الوجوب بذلك حتى استدل بهذا الخبر وسابقه على الوجوب لا يصغى اليه وفي محكي المقنعة عن‌ الفضل بن عباس (٢) قال : « أتت امرأة من خثعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إن أبي أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يلبث على دابة فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فحجي عن أبيك » ضرورة منافاة أمر الغير كالتخيير الوجوب ، على أن المروي في كشف اللثام أن متن الأخير بعد قوله : « دابة » « فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال : نعم ، فقالت : هل ينفعني ذلك؟ قال : نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته عنه نفعه » وهو مع ذلك غير ظاهر في حياة الوالد ، على أن الصحيحين (٣) الأولين قد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣ عن سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله عليه‌السلام ان رجلا. إلخ. وما في الجواهر والوسائل كلاهما سهو فان في التهذيب عن سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام ان رجلا. إلخ.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢ و ٥.

٢٨٣

اشتملا على منع المرض الذي هو أعم من مرجو الزوال وعدمه ، بل لعل الظاهر منه الأول ، وقد صرح غير واحد بأن الوجوب على تقدير القول به انما هو فيما لم يرج زواله ، أما ما يرجى زواله فلا تجب الاستنابة فيه ، بل عن المنتهى الإجماع عليه ، وربما يشهد له التتبع ، بل في المدارك « لو حصل له اليأس بعد الاستنابة وجب عليه الإعادة ، لأن ما فعله أولا لم يكن واجبا فلا يجزي عن الواجب ، ولو اتفق موته قبل حصول اليأس لم يجب القضاء عنه ، لعدم حصول شرطه الذي هو استقرار الحج أو اليأس من البرء » وهذا جميعه صريح في عدم الوجوب قبله.

نعم قد يظهر من الدروس الوجوب مطلقا ، فإنه قال : « الأقرب ان وجوب الاستنابة فوري إن يئس من البرء ، وإلا استحب الفور » واختاره في الحدائق تمسكا بظاهر الأخبار المزبورة التي كما لم يفرق فيها بين المأيوس منه وغيره في الوجوب وعدمه لم يفرق فيها بينهما في الفورية وعدمها ، على ان سيد المدارك قد جزم بظهورها في المأيوس ، وقال : إنه لو وجبت الاستنابة مع المرض مطلقا لم يتحقق اعتبار التمكن من المسير في حق أحد من المكلفين ، إلا أن يقال باعتبار ذلك في الوجوب البدني خاصة ، وإن كان هو كما ترى ، ومن ذلك يظهر لك قوة القول بالندب ، بل الصحيح (١) الأول الذي هو العمدة لهم ظاهر فيه ، لمعلومية الإحجاج في مثل هذا الشخص بدل تركه الحج لا أنه نائب عنه ، مضافا إلى ما عدم وجوب استنابة الصرورة الذي لا مال له ، بل الذي يقوى كون المراد الإحجاج في مثل هذا الشخص بدل تركه الحج لا أنه نائب عنه ، مضافا إلى ما عن غير واحد منهم كالشيخين والحلبي والقاضي وابن سعيد والفاضل في التحرير وأبي علي في ظاهره على ما قيل ـ بل عن ظاهر التذكرة أنه لا خلاف فيه بين علمائنا ـ من التصريح بالوجوب عليه بعد ذلك مع بقاء الاستطاعة لو بري‌ء من غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢.

٢٨٤

فرق بين أن يكون الحج عنه مع رجاء الزوال وعدمه ، وما ذاك إلا للأمر الأول الذي لم يقم مقامه الأمر الثاني ، لعدم وجوبه ، وإلا لاقتضى الاجزاء كما هو مقرر في الأصول ، إلا أن يكون هناك دليل على خلافه ، فيرجع البحث حينئذ إلى أن الحج يجب بالبدن والمال ، فان تعذر الأول وجب في المال خاصة ، فإن تمكن منه بعد ذلك ببدنه وجب ، لعدم إسقاط الواجب في المال الواجب في البدن لكن لم نعرف ما يدل على ذلك ، بل هي دعوى مجردة عن الدليل ، بل الدليل يقضي بخلافها ، وجميع ذلك شاهد عند التأمل على الندب الذي قد اعترفوا به في غير المأيوس ، وأنكر الدليل عليه في الحدائق ، وقال : « ليس إلا هذه النصوص الظاهرة في الوجوب مطلقا » قلت : يمكن أن يكون دليله ما دل (١) على استحباب النيابة في الحج للصحيح والمريض وغيرهما ، ولا إشكال من هذه الجهة بناء على ما قلناه من الاستحباب مطلقا ، فيكون متأكدا في خصوص موضوع المسألة.

لكن ومع ذلك كله فالاحتياط لا ينبغي تركه ، وعليه لو لم يجد الممنوع مالا لم يجب عليه الاستنابة قطعا ، ولو بذل له لم يجب عليه قبوله ، للأصل السالم عن المعارض بعد حرمة القياس على الصحيح ، وكذا لو وجد المال ولم يجد من يستأجره ، فإنه يسقط فرضه إلى العام المقبل ، ولو وجد من يستأجره بأكثر من أجرة المثل وجب مع المكنة على الأقوى ، ولا يلحق بحج الإسلام في وجوب النيابة حج النذر والإفساد ، للأصل السالم عن المعارض ، خلافا للدروس فجعلهما كحج الإسلام في ذلك ، بل أقوى ، وهو مشكل ، وعليه فلو اجتمع على الممنوع حجتان جاز له استنابة اثنين في عام واحد ، لعدم الترتيب بينهما كما في قضاء الصوم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النيابة في الحج.

٢٨٥

ولو زال عذر الممنوع قبل التلبس بالإحرام انفسخت النيابة فيما قطع به الأصحاب على ما في المدارك ، ولو كان بعد الإحرام احتمل الإتمام والتحلل ، وعلى الأول فإن استمر الشفاء حج ثانيا ، وإن عاد المرض قبل التمكن فيحتمل الاجزاء ، بل في المدارك أنه الأقرب ، هذا.

وقد ظهر لك مما قدمناه أنه إن أحج نائبا عنه واستمر المانع فلا قضاء عنه بعد موته قطعا وإن زال المانع وتمكن وجب عليه ببدنه عندهم كما عرفت ، لإطلاق ما دل على وجوبه وحينئذ فـ ( لو مات بعد الاستقرار ولم يؤد قضي عنه ) كغيره ممن هو كذلك ، لكن قد عرفت الإشكال في الوجوب عليه بناء على وجوب النيابة ، ومن هنا حكى في المدارك عن بعض الأصحاب احتمال عدم الوجوب كما لو لم يبرأ ، للأصل ، ولأنه أدى حج الإسلام بأمر الشارع ، فلم يلزمه حج ثاني كما لو حج بنفسه ، بل في المدارك ان هذا الاحتمال غير بعيد ، إلا ان الأول أقرب ، وتبعه عليه في الحدائق وقد عرفت ان التحقيق استحباب النيابة ، فيتجه حينئذ الوجوب عليه بعد زوال المانع وبقاء الاستطاعة ، والله العالم.

ولو كان لا يستمسك خلقة قيل سقط الفرض عن نفسه وعن ماله وقيل : يلزمه الاستنابة واختاره في المدارك والحدائق والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، أما على المختار من الندب في العارضي فضلا عنه فواضح ، وأما على الوجوب فيه فالمتجه الاقتصار على المنساق من النصوص المزبورة المخالفة للأصل ، بل صحيح ابن مسلم (١) منها كالصريح في ذلك ، وخبر ابن عباس (٢) ظاهر في عدم الاستقرار ، بل وعدم الوجوب ، بل غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

٢٨٦

ظاهر في حياة الوالد كما عرفت ، ودعوى ظهور صحيح الحلبي (١) وخبر ابن أبي حمزة (٢) في العموم وكذا صحيح ابن سنان (٣) ممنوعة ، كدعوى ان القول بعدم الوجوب فيه إحداث قول ثالث ، على ان التحقيق عدم البأس في إحداثه إذا لم ينعقد إجماع على خلافه كما حرر في محله ، فلا ريب في أن الأشبه الأقوى ما ذكره المصنف وإن كان الأحوط الثاني.

ولو احتاج في سفره إلى حركة عنيفة للالتحاق بالحج لضيق الوقت مثلا أو الفرار من العدو فضعف عنها لمرض أو خلقة أو شقت عليه مشقة لا تتحمل سقط عنه الوجوب في عامه ، وتوقع المكنة في المستقبل فان حصلت وهو مستطيع حج ولو مات قبل التمكن والحال هذه لم يقض عنه والظاهر وجوب الاستنابة عند القائل بها مع انحصار الطريق بحركة عنيفة لا يستطيعها خلقة أو لعارض أيس من برئه ، لشمول الأدلة السابقة له.

وعلى كل حال فلو تكلف هذا وشبهه الحج لم يجز عن حجة الإسلام على الظاهر من إطلاق الأصحاب ذلك ، وكذا المريض والممنوع بالعدو ، لعدم تحقق الاستطاعة التي هي شرط الوجوب ، فكان كما لو تكلفه الفقير ، وبه صرح الفاضل في المحكي من تذكرته وغيره ، لكن في الدروس ـ بعد أن ذكر الشرائط وإطلاق الأصحاب عدم الاجزاء لو حج فاقدها ـ قال : « وعندي لو تكلف المريض المعضوب والممنوع بالعدو ويضيق الوقت أجزأ ، لأن ذلك من باب تحصيل الشرط ، فإنه لا يجب ، ولو حصله وجب وأجزأ ، نعم لو أدى ذلك إلى إضرار بالنفس يحرم إنزاله وقارن بعض المناسك احتمل عدم الاجزاء » وفي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٦.

٢٨٧

كشف اللثام كما في الدروس ، وكأنه يشير بذلك إلى أن هذه الشروط تنقسم إلى ما ليس فيه اختيار للعبد كالبلوغ والعقل والحرية ، وهذه لا يمكن تحصيلها ولا يتصور إجزاء الحج بدونها ، وإلى ما ليس كذلك كالشرائط الباقية ، وهي خمسة ، وقد تقدم أن الزاد والراحلة منها لا يجب تحصيله ، ولو حصله وجب الحج وأجزأ ، ولا يكفي التسكع عنه ، لعدم حصول شرط الوجوب ، وفي حكم الزاد والراحلة مئونة عياله ، وأما الثلاثة الباقية وهي الصحة من المرض وتخلية السرب من العدو والتمكن من المسير ويعبر عن الثلاثة بإمكان المسير فإطلاق الأصحاب عدم الاجزاء لمن حج غير مستكمل للشرائط يدخل فيه الشرط المزبور ، لكن فيه نظر أو منع إذا كان لا يؤدي إلى ارتكاب منهي عنه مضاد للمأمور به ، فإنه حينئذ يكون في معنى الزاد والراحلة يتوقف الوجوب عليهما ، ولا يجب تحصيلهما ، ولو حصلهما وجب الحج ، واليه أشار بقوله : « لأنه من باب تحصيل الشرط » أي ليس عدم هذه الثلاثة مانعا من صحة الحج إذا تكلفها ، فيحمل كلام الأصحاب على أحد أمرين ، إما على انه لا يجب تحصيل هذه الشرائط ، وإما على ما يؤدي تحصيلها إلى ارتكاب منهي عنه مضاد للمأمور به ، واليه أشار بقوله : « وقارن بعض المناسك » كما لو كان في أثناء الإحرام تحمل المرض أو دافع العدو مع غلبة العطب فان ذلك يرجع إلى قاعدة اجتماع الأمر والنهي ، أما مع عدم هذين الأمرين فالاجزاء متحقق مع تكلف تلك المشاق التي لا يجب تكلفها ، بل ظاهر قوله : « احتمل عدم الاجزاء » احتمال الإجزاء أيضا ، ولعله لأن النهي هنا عن وصف خارج عن المنسك ، فلم يتحد متعلق الأمر والنهي ، بل ربما قيل : إن في ذلك قوة ، ولذلك جعل عدم الاجزاء احتمالا وإن اختاره في كشف اللثام ، وجعل الاجزاء احتمالا ضعيفا ، وفي المدارك بعد أن حكى عن الدروس ما سمعت قال :

٢٨٨

« وفي الفرق نظر ، والمتجه أنه إن حصلت الاستطاعة الشرعية قبل التلبس بالإحرام ثبت الوجوب والاجزاء ، لما بيناه من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد وإن حصل التلبس قبل تحقق الاستطاعة انتفى الأمران معا ، سواء كان عدم تحقق الاستطاعة بعدم القدرة على تحصيل الزاد والراحلة ، أو بالمرض المقتضي لسقوط الحج ، أو لخوف الطريق ، أو غير ذلك ، لأن ما فعله لم يكن واجبا ، فلا يجزي عن الواجب ، كما لا يجزي فعل الواجب الموقت قبل دخول وقته » وفي الحدائق « أن مرجع ذلك إلى ما اختاره الشهيد ، لأنه متى كان الاعتبار بالاستطاعة من الميقات فلو تحمل المشقة وارتكب الخطر الذي لم يكلف به بل نهي عنه حتى وصل إلى الميقات وجب عليه الحج وأجزأ ، وهو خلاف كلام الأصحاب كما صرح به في التذكرة ، وهو ظاهر غيره ، لما صرحوا به في الزاد والراحلة ، وما ذكره من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد فإنما هو في صورة ما لو اتفق له الوصول إلى الميقات بأي نحو كان ، فإنه لا يشترط في حقه ملك الزاد والراحلة في بلده كما ذكره الأصحاب ، لا بمعنى أن من كان بعيدا لا يمكنه المسير إلا بهذه الشرائط المذكورة فإن استطاعته انما تحصل باعتبار الميقات ، فإنه باطل قطعا ، بل الاستطاعة في هذه الصورة مشروطة من البلد ، فان استطاع بحصول هذه الشروط الخمسة المعدودة وجب عليه الحج والمسير ، وإلا فلا ، نعم يحصل الشك هنا في أن المتكلف للحج بالمشقة الموضوعة عنه في عدم إمكان المسير هل هو من قبيل المتسكع الذي لم يملك زادا ولا راحلة فلا يجزي عنه كما هو المفهوم من كلام الأصحاب ، أو من قبيل تكلف تحصيل الزاد والراحلة وإن لم يجب عليه تحصيلهما ، فحجه يكون صحيحا مجزيا عن حجة الإسلام كما هو ظاهر شيخنا الشهيد؟ إشكال » قلت : الإشكال في محله ، ولا يقال إنه بذلك ينكشف كونه مستطيعا وإن لم يكن عالما بذلك ، لأنا نقول أولا لا يتم فيمن وقع فيما خاف منه من جرح أو‌

٢٨٩

نهب مال أو نيل عرض أو نحو ذلك ، وثانيا أنه ينكشف بذلك سلامته لا استطاعته ، وفرق واضح بين المقامين ، ضرورة توقف صدق الأولى على إحراز السلامة بالطريق المعتد به شرعا ، ولا يكفي فيها عرفا حصول السلامة في الواقع نعم قد يقال بحصول وصف الاستطاعة له لو تكلف المشاق المزبورة ثم ارتفع المانع على وجه كان يتمكن معه من المسير بعد ارتفاعه ، ولعله إلى ذلك لمح سيد المدارك فيما ذكره من التفصيل لا ما سمعته من المحدث البحراني الذي لا يرجع إلى حاصل عند التأمل ، والله العالم.

وكيف كان فلا ريب في أنه يسقط فرض الحج لعدم ما يضطر اليه من الآلات كالقرب وأوعية الزاد وغيرها مما يحتاج إليه ، ضرورة عدم صدق الاستطاعة بدونه ، كما انه لا ريب في وجوب شراء ذلك كله أو استيجاره بالعوض المقدور وإن زاد عن أجرة المثل على حسب ما عرفته سابقا ، ولو تعددت الطرق تخيير مع التساوي في الأمن وإدراك النسك واتساع النفقة ، وإلا تعين المختص بذلك ، وفي كشف اللثام إلا أن يختص الخوف بالمال ، وخصوصا غير المجحف ، وستعرف وجهه مما يأتي.

وعلى كل حال فـ ( لو كان له طريقان فمنع من أحدهما سلك الآخر سواء كان أبعد أو أقرب ) مع فرض سعة النفقة والوقت للأبعد ، أما لو قصرت أو قصر الوقت عنه سقط الحج إذا انحصر الطريق فيه ، كما هو واضح ، خلافا للشافعية فلم يوجبوا سلوك الأبعد مطلقا ، وهو واضح الفساد ، كوضوح فساد ما عن احمد من استقرار الوجوب على واجد الزاد والراحلة وإن لم يأمن بمعنى وجوب الحج عنه لو مات ، ووجوبه عليه متسكعا لو افتقر ثم أمن ، لا أنه يجب عليه الحج بنفسه وهو غير آمن ، إذ لا يخفى عليك ما فيه من المخالفة للكتاب والسنة والإجماع ، ضرورة توافقها جميعا على اعتبار تخلية السرب في الاستطاعة‌

٢٩٠

المعلوم اشتراط وجوب الحج بها ، فيسقط الحج حينئذ مع الخوف على النفس قتلا أو جرحا من عدو أو سبع أو غيرهما ، أو على البضع ، أو على المال جميعه أو ما يتضرر به ، للحرج وصدق عدم الاستطاعة وعدم تخلية السرب ، وظاهر الحدائق نفي الخلاف فيه ، بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، قال في الأول : « لا خلاف نصا وفتوى في أن أمن الطريق من الخوف على النفس والبضع والمال شرط في وجوب الحج » وقال في الثاني : « لو كان في الطريق عدو يخاف منه على ماله سقط فرض الحج عند علمائنا ، وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين : لأن بذل المال تحصيل لشرط الوجوب ، وهو غير واجب ، فلا يجب ما يتوقف عليه ، وفي الرواية الأخرى أنه لا يسقط فرض الحج عنه ، ويجب أن يستنيب ».

قلت : قد عرفت ما في وجوب الاستنابة في المريض ونحوه ، فضلا عن ذلك ونظائره ممن لم يخل له السرب ، بل ربما ظهر من معقد ظاهر إجماع التذكرة ونفي الخلاف في الحدائق عدم الفرق في المال بين القليل والكثير والمضر وغيره وإن كان هو مشكلا مع القلة وعدم الضرر ، بل في كشف اللثام « لا أعرف للسقوط وجها وإن خاف على كل ما يملكه إذا لم نشترط الرجوع إلى كفاية ولم نبال بزيادة أثمان الزاد والآلات وأجرة الراحلة والخادم ونحوهما ولو أضعافا مضاعفة ـ بل قال ـ : وعلى اشتراط الرجوع إلى كفاية وعدم الزيادة على ثمن المثل وأجرة المثل أيضا نقول : إذا تحققت الاستطاعة المالية وأمن في المسير على النفس والعرض أمكن أن لا يسقط خوفه على جميع ما يملكه فضلا عن بعضه ، لدخوله بالاستطاعة في العمومات ، وخوف التلف غير التلف ، ولم أر من نص على اشتراط الأمن على المال قبل المصنف ، وغاية ما يلزمه أن يؤخذ ماله فيرجع » وفيه منع صدق اسم الاستطاعة في الفرض عرفا أو شرعا ، بل لعله في بعض أحوال الفرض يكون مخاطرا على النفس بالعارض لذهاب راحلته أو زاده أو نحو ذلك‌

٢٩١

مما يخشى مع فقده التلف ، نعم لو كان المال قليلا غير مضر وغير مجحف اتجه الوجوب حينئذ ، وكان ذلك كزيادة أثمان الآلات على الأقوى.

ومن ذلك يظهر لك الحال فيما لو كان في الطريق عدو لا يأخذ المال قهرا إلا أنه لا يندفع إلا بمال ضرورة أولوية عدم السقوط به من الأول ، لأن الدفع فيه بصورة الاختيار بخلافه ، لكن ينبغي تقييد المال بما عرفت ، فما قيل كما عن الشيخ وجماعة من أنه يسقط الحج حينئذ وإن قل المال واضح الضعف ، كاستدلاله بصدق عدم تخلية السرب ، وبأنه من تحصيل شرط الوجوب فلا يكون واجبا ، وبأنه إعانة على الظلم فلا يكون جائزا ، وبأنه كأخذ المال قهرا ، إذ لا يخفى عليك ما في الأخير بعد ما عرفت الحكم في المشبه به ، بل وما في سابقه ، ضرورة عدم كونه إعانة عرفا ، بل هو من باب تحمل الظلم لأداء الواجب ومصانعة الظالم لتحصيل الحق ، فهو من مقدمات الواجب المطلق كزيادة الأثمان ونحوها ، ومع فرض القدرة عليها على وجه لا ضرر فيه ولا قبح يجب ، ويكون مخلى السرب كما هو واضح.

ومن هنا قال المصنف ولو قيل : يجب التحمل مع المكنة كان حسنا نحو قوله في المعتبر : والأقرب إن كان المطلوب مجحفا لم يجب ، وإن كان يسيرا وجب بذله وكان كأثمان الآلات ، بل عن التحرير والمنتهى أنه استحسن نحوه ومما يؤيد ذلك كله استمرار الطريقة في هذه الأزمان على وجه لم يكن فيه شك بين الأعوام والعلماء على وجوب الحج ، وقلما ينفك الطريق فيها على نجد ونحوه عن ذلك ونحوه ، بل لا ينفك عن بذل المال المجحف المضر ، بل عن الأخذ قهرا إن لم يدفع بالاختيار ، اللهم إلا أن يكون وجهه التمكن من السير على طريق لم يكن فيه ذلك ، وحينئذ ينبغي اعتبار الاستطاعة على غير الطريق المزبور في كونه حج إسلام ، مع أن ظاهر السيرة التي ذكرناها احتساب الحج فيه حج إسلام مع‌

٢٩٢

الاستطاعة فيه خاصة ، كما هو واضح بأدنى ملاحظة ، والتحقيق ما ذكرناه من وجوب الدفع للمقدمة ما لم يعارضها ما يقتضي سقوطها من أدلة الحرج ونحوه ، كما أومأنا إليه سابقا في أثمان الآلات ، ومن ذلك يعرف الحال فيما في كشف اللثام من أن المناسب لعدم اشتراط الرجوع إلى كفاية عدم الفرق بين المجحف وغيره إلا الإجحاف الرافع للاستطاعة ، إذ لا يخفى عليك وجه الفرق بينهما كما أومأنا إليه سابقا ولاحقا ، هذا كله إذا كان قبل الإحرام ، وإلا كان من الصد الذي ستعرف البحث فيه إن شاء الله.

ولو بذل له أي العدو باذل فارتفع منعه وجب عليه الحج بلا خلاف ولا إشكال لزوال المانع ، نعم لو قال الباذل له اقبل وادفع أنت للعدو لم يجب القبول للأصل والمنة ، ولأنه تكسب وتحصيل لشرط الوجوب ، وحمله على بذل الزاد والراحلة قياس ، فما عساه يظهر من الدروس ـ من التوقف فيه ، بل في المدارك لم يستبعد الوجوب لأن الشرط التمكن من الحج ، وهو حاصل بمجرد البذل ، ولشمول‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إن عرض عليه ما يحج به فاستحى فهو مستطيع » ـ ليس في محله كما لا يخفى ، فالمتجه حينئذ سقوط الحج إذا لم يكن عنده ما يريده العدو ، أو قلنا بعدم وجوب الدفع له وإن استطاعة ، ولو وجد مجيرا من العدو بأجرة وتمكن منها على وجه لا ضرر فيه ولا قبح وجب ، لما عرفته سابقا في المال المبذول للعدو ، ضرورة كونه أولى لأنها أجرة بإزاء عمل ، فهي كأجرة الخادم والجمال والراحلة ، فما في القواعد ـ من أن الأقرب هنا عدم الوجوب مع قوله هناك : « في السقوط نظر » ونحوه عن التذكرة ـ في غير محله.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب وجوب الحج.

٢٩٣

وعلى كل حال فـ ( طريق البحر كطريق البر ) في جميع ما ذكرناه وحينئذ فإن غلب ظن السلامة على وجه لم يكن خوف معتد به عند العقلاء وجب الحج وإلا سقط إذا انحصر الطريق فيه ، ولو أمكن الوصول بالبر والبحر فان تساويا في غلبة السلامة المعتد بها عند العقلاء كان مخيرا في سلوك أيهما شاء وان اختص أحدهما واستطاعة تعين ، ولو تساويا في رجحان العطب سقط الفرض كما هو واضح ، لكن في المدارك « مقتضى العبارة أن طريق البحر انما يجب سلوكه مع غلبة ظن السلامة ، فلا يجب مع اشتباه الحال ، ولم يعتبر الشارح ذلك بل اكتفى بعدم ترجيح العطب ، وهو حسن » قلت : بل عن الشارح أنه بعد أن اختار ذلك قال : « هذا هو الذي يقتضيه ظاهر النص وفتوى الأصحاب » وهو جيد إلا أن الفاضل في القواعد قال : « ولو افتقر أي في السير إلى القتال فالأقرب السقوط مع ظن السلامة » وفي محكي الإيضاح « أن المراد بالظن هنا العلم العادي الذي لا يعد العقلاء نقيضه من المخوفات ، كإمكان سقوط جدار سليم قعد تحته ، لأنه مع الظن بالمعنى المصطلح عليه يسقط إجماعا ، وبالسلامة هنا السلامة من القتل والجرح والمرض والشين ، لأنه مع ظن أحدها بالمعنى المصطلح عليه في لسان أهل الشرع والأصول يسقط بإجماع المسلمين » وقد يناقش في معقد إجماعه الأول المقتضي بظاهره السقوط مع عدم الظن بالمعنى المزبور بأنه لا وجه له إذا لم يصل الاحتمال إلى حد الخوف المعتد به عند العقلاء ، ضرورة تناول الإطلاقات والعمومات له ، كما انه قد يناقش فيما في القواعد من السقوط مع الافتقار إلى الفتال مع فرض ظن السلامة بالمعنى المزبور ضرورة صدق الاستطاعة معه ، ومنع عدم صدق تخلية السرب مع تضمن السير أمرا بمعروف ونهيا عن منكر وإقامة لركن من أركان الإسلام ، ولذا حكي عنه القطع بعدم السقوط في المنتهى والتحرير من غير فرق في ذلك بين كون العدو‌

٢٩٤

كافرا أو مسلما ، ودعوى عدم وجوب قتال الأول إلا للدفع أو الدعاء إلى الإسلام والثاني إلا للدفع أو النهي عن المنكر ، ولم يفعله ، وليس الفرض منه ، يدفعها بعد كون الوجوب هنا بالعارض أن ذلك من الدفاع أيضا ومن النهي عن المنكر وعلى كل حال فقد عرفت ان التحقيق كون المدار على الخوف المعتد به عند العقلاء ، هذا ، وفي المدارك انما يسقط الحج مع الخوف إذا حصل في ابتداء السير أو في أثنائه ، والرجوع ليس بمخوف ، أما لو تساويا مع المقام في الخوف احتمل ترجيح الذهاب لحصول المرجح فيه بالحج ، والسقوط كما لو حصل ابتداء لفقد الشرط ، ولعل الأول أقرب ، ونحوه في الدروس من غير ترجيح ، قلت : قد يرجح الثاني بصدق عدم تخلية السرب والخوف وعدم الاستطاعة ، واشتراك الرجوع والمقام معه في ذلك غير مناف ، كما انه لا ينافيه ارتفاع الإثم عنه في ذهابه لتساوي الأحوال بالنسبة إليه ، فإنه ليس المدار على سقوط الحج عنه بالخوف الذي يكون معه السير معصية ، بل يكفي فيه صدق عدم تخلية السرب والخوف وعدم الاستطاعة ، فجواز المسير حينئذ هنا لا يقتضي الوجوب ، فلا يكون حينئذ حج إسلام يجب عليه إنفاذه فتأمل جيدا.

ومن حج ومات بعد الإحرام ودخول الحرم برئت ذمته بلا خلاف أجده فيه كما في المدارك والحدائق وغيرهما ، بل عن المنتهى الإجماع عليه ، لصحيح بريد العجلي (١) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل خرج حاجا ومعه جمل وله نفقة وزاد فمات في الطريق ، قال : إن كان صرورة ثم مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام ، وإن كان مات وهو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله وزاده ونفقته في حجة الإسلام ، وإن فضل من ذلك شي‌ء فهو للورثة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢.

٢٩٥

إن لم يكن عليه دين قلت : أرأيت إن كانت الحجة تطوعا ثم مات في الطريق قبل ان يحرم لمن يكون جمله ونفقته وما معه قال : يكون جميع ما معه وما ترك للورثة إلا ان يكون عليه دين فيقضي ، أو يكون قد أوصى بوصية فينفذ ذلك لمن اوصى له ، ويجعل ذلك من ثلثه » وصحيح ضريس (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « في رجل خرج حاجا حجة الإسلام فمات في الطريق فقال : إن مات في الحرم فقد أجزأت عن حجة الإسلام ، وإن كان مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الإسلام ».

وقيل والقائل الشيخ وابن إدريس في المحكي عنهما يجتزى بالإحرام ولا دليل له سوى ما قيل من انه يشعر به مفهوم‌ قوله عليه‌السلام في صحيح بريد : « وإن كان مات قبل أن يحرم » إلى آخره ، وهو ـ مع معارضته بمفهوم الجزء الأول من الخبر وهو‌ قوله : « إن كان صرورة ثم مات في الحرم » إلى آخره ـ معارض بما في‌ صحيح ضريس « وان كان مات قبل الحرم » بل وب‌ صحيح زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قلت : فان مات وهو محرم قبل ان ينتهي إلى مكة قال : يحج عنه إن كانت حجة الإسلام ويعتمر ، انما هو شي‌ء عليه » وبالمرسل (٣) عن المقنعة عن الصادق عليه‌السلام « إن خرج حاجا فان كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة ، وإن مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحج وليقض عنه وليه » فالمتجه الجمع بكفاية أحدهما في السقوط أو مشروعية القضاء ، وبه يتم المطلوب.

ومن هنا كان الأول أظهر اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٤.

٢٩٦

اليقين ، نعم مقتضاهما اعتبار الموت في الحرم ، لكن في المدارك والحدائق « إطلاق كلام المصنف وغيره يقتضي عدم الفرق في ذلك بين أن يموت في الحل أو الحرم محرما ومحلا ، كما لو مات بين الإحرامين » بل في الثاني « وبه قطع المتأخرون ، ولا بأس به » قلت : قد صرح بذلك في الدروس أيضا ، لكن لا يخفى عليك ما فيه من الاشكال بعد مخالفة الحكم للأصول التي يجب الاقتصار في الخروج عنها على المتيقن ، وهو الموت في الحرم ، اللهم إلا أن يكون إجماعا كما هو مقتضى نسبته في الحدائق إلى الأصحاب ، لكنه كما ترى ، ومن الغريب نسبته إلى إطلاق الأخبار فيها أيضا ، نعم الظاهر عدم الفرق بين حج الافراد والقران والتمتع ، وانه يجزي ذلك عن النسكين ، بل ظاهر المدارك والحدائق كون العمرة المفردة كذلك ، بل ذلك من معقد نسبته إلى إطلاق المصنف وغيره في الأول ، والأصحاب والأخبار في الثاني ، ولعله لصدق اسم الحج ، ولفحوى الاجتزاء به في عمرة التمتع.

ثم إن مقتضى الأمر بالقضاء فيهما كون موردهما من استقر في ذمته الوجوب ، فيستفاد منه حينئذ الاجزاء في غيره ممن هو في عام الاستطاعة بالأولى ومن هنا قال في المتن وإن كان قبل ذلك أي قبل الإحرام أو دخول الحرم قضيت عنه إن كانت مستقرة ، وسقطت إن لم تكن كذلك اللهم إلا ان يقال بوجوب القضاء عليه أيضا ، كما عن ظاهر المقنعة والنهاية والمبسوط ، فيتجه حينئذ شمولهما لهما ، لكن فيه منع واضح ، ضرورة انكشاف عدم الاستطاعة بذلك ، وربما قيل بحمل الأمر فيهما على الندب ، ولا بأس به ، إلا أنه يبقى الاجزاء عمن استقر عليه بلا دليل ، اللهم إلا أن يرشد اليه ما تسمعه إن شاء الله في حكم النائب من الاجتزاء بذلك فيه ، ولعل الأولى تعميم الصحيحين (١) لهما ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١ و ٢.

٢٩٧

واستعمال الأمر بالقضاء فيهما في القدر المشترك بين الندب والوجوب ، ومن ذلك يعلم حينئذ اتحاد من استقر عليه الوجوب مع غيره في الاجتزاء بذلك عن النسكين أي الحج والعمرة ، لظهور النصوص فيه ، لكن في كشف اللثام في النفس منه شي‌ء ، خصوصا في الافراد والقران ، لاحتمال الصحيحين غير المستقر عليه ، وغيرهما الاجتزاء عن النسك الذي أحرم به ، والتحقيق ما عرفت ، بل عن الشهيد القطع به فيه بل وفي النائب أيضا ، والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال نصا وفتوى في أنه يستقر الحج في الذمة إذا استكملت الشرائط فأهمل حتى فات ، فيحج في زمن حياته وإن ذهبت الشرائط التي لا ينتفي معها أصل القدرة ، ويقضى عنه بعد وفاته ، قال محمد بن مسلم (١) : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل مات ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص بها تقضى عنه قال : نعم » وسماعة بن مهران (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يموت ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص بها وهو موسر قال : يحج عنه من صلب ماله ، لا يجوز غير ذلك » إلى غير ذلك.

انما الكلام فيما به يتحقق الاستقرار ، فالمشهور نقلا وتحصيلا تحققه بمضي زمان يتمكن فيه الإتيان بجميع أفعال الحج مختارا مستجمعا للشرائط على حسب ما مر في استقرار وجوب الصلاة من غير فرق بين الأركان وغيرها ، ضرورة اشتراط صحة التكليف بسعة الوقت لتمام ما كلف به ، وإلا كان تكليفا بما لا يطاق ، ولا بد من ملاحظة حال الاختيار في ذلك ، فلا يجزي مضي وقت يسع فعل المضطر في استقرار الوجوب على المختار ، فما عن العلامة من احتمال الاجتزاء فيه بمضي زمان يتمكن فيه من الإحرام ودخول الحرم في غير محله ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٤.

٢٩٨

بل وكذا ما عن الشهيد من احتمال الاجتزاء بمضي زمان تتأدى به الأركان خاصة وهو مضي جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان والسعي وان حكي عن المهذب اختياره ، ضرورة اختصاص ما دل على الاجتزاء بذلك ونحوه بمن تلبس بالفعل وصارت حاله هكذا ، لا أن ذلك يكفي في تقدير تحقق الخطاب ابتداء ، وقد تقدم في مباحث الطهارة والصلاة تمام التحقيق في نظير المسألة من الفرق بين ابتداء الخطاب وغيره ، والفرق بين أول الوقت وآخره ، واستقرار الخطاب لمن أدرك ركعة من آخره في ابتداء التكليف وعدمه ، فلاحظ وتأمل.

ومنه يعلم ما في المدارك ، فإنه بعد ان ذكر خلو ما وقف عليه من الأخبار عن لفظ الاستقرار فضلا عما يتحقق به قال : « وانما اعتبر الأصحاب ذلك بناء على ان وجوب القضاء تابع لوجوب الأداء ، وانما يتحقق وجوبه بمضي زمان يمكن فيه الحج مستجمعا للشرائط ، ويشكل بما بيناه مرارا من ان وجوب القضاء ليس تابعا لوجوب الأداء ، وبأن المستفاد من كثير من الأخبار ترتيب القضاء على عدم الإتيان بالأداء مع توجه الخطاب به ظاهرا كما في صحيحي بريد وضريس المتقدمين » إذ لا يخفى عليك ما فيه من عدم بناء ذلك على ذلك ، بل للقاعدة العقلية والنقلية ، وهي عدم صحة التكليف بفعل يقصر الوقت عن أدائه ، وأما تبعية القضاء للأداء فالتحقيق فيها ان القضاء محتاج إلى أمر جديد ، ولا يكفي في وجوبه خطاب الأداء كما هو محرر في محله ، إلا ان الأصل في موضوع القضاء تدارك ما فات على المكلف بعد ان تحقق سبب وجوبه عليه ، كما أومى إليه في‌ موثق أبي بصير (١) المتقدم في كتاب الصوم ، قال : « سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان فماتت في شوال فأوصتني أن أقضي عنها قال : هل برئت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ١٢.

٢٩٩

من مرضها؟ قلت : لا ، ماتت فيه ، قال : لا يقضى عنها فان الله لم يجعله عليها ، قلت : فإني أشتهي ان أقضي عنها وقد أوصتني بذلك فقال : كيف تقضي شيئا لم يجعله الله عليها ».

وخروج قضاء الحائض الصوم ونحوها عن ذلك بدليل خاص لا ينافي القاعدة المقتضية سقوط القضاء هنا عمن مات قبل الإحرام أو قبل دخول الحرم في عام الاستطاعة ، ضرورة انكشاف عدم الوجوب عليه ، فلا قضاء ، واحتمال القول به هنا للخبرين السابقين ممكن لولا اعراض المعظم عنهما بالنسبة الى ذلك وحملهما على الندب ، بل لم يحك العمل بمضمونهما إلا عن ظاهر نادر ممن عرفت ، بل قيل : إنهما فيمن استقر الحج في ذمته كما دل عليه الحكم بالاجزاء عن حجة الإسلام ان مات في الحرم ، وبقضاء الولي عنه ان مات دون الحرم ، ومن هنا قطع الأصحاب على ما اعترف به في المدارك بأن من حصل له الشرائط وتخلف عن الرفقة ثم مات قبل حج الناس لا يجب القضاء عنه ، لتبين عدم استقرار الحج في ذمته بظهور عدم الاستطاعة ، لكن في الحدائق « هذا موضع شك ، حيث ان ترك الحج لم يقع بعذر شرعي ، فيمكن ان يكون بتعمد التأخير مع وجوب ذلك عليه يستقر الحج في ذمته وان لم يمض الزمان الذي يقع فيه المناسك ، كما لو أفطر عمدا في شهر رمضان ثم سافر لإسقاط الكفارة ورفع الإثم ، فإنه لا يوجب رفع الإثم ولا سقوط الكفارة » قلت : لا يخفى عليك ما فيه من كون الأمر ظاهريا ، لمعلومية انتفاء الأمر في الواقع بانتفاء شرطه ، والإثم انما هو للإقدام على المخالفة ، واما القضاء والكفارة المترتبان على مخالفة الأمر في الواقع فلا ريب في ان المتجه سقوطهما من هذه الجهة ، نعم لو جاء دليل بالخصوص عليهما أو على أحدهما اتجه الحكم بوجوبهما كما هو واضح ، ولمراعاة القاعدة المزبورة جزم الفاضل في المحكي من تذكرته بأن من تلف ماله قبل عود الحاج وقبل مضي إمكان عودهم‌

٣٠٠