جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أداه بلفظ النهي ونحوه ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، ومن هنا كان مختار الإسكافي والشيخ في الخلاف البطلان بهما ، بل هو مختاره أيضا ، بل في محكي المنتهى مع زيادة الجماع في غير الفرجين أنزل أو لم ينزل ، بل عن الإسكافي زيادة اتباع النظر للنظر بشهوة من محرم ، وربما كان ظاهر تحريم الاستمتاع بالنساء في الدروس ، ضرورة كونه أعم من المباشرة ، لكنه لا يخلو من بحث ، لكون المنهي عنه في الآية المباشرة ، اللهم إلا أن يراد منها ما يعم ذلك ، وله وجه ينبغي عدم ترك الاحتياط له.

والظاهر أن حكم المرأة في ذلك حكم الرجل ، فيبطل اعتكافها بمسها وتقبيلها بشهوة وجماعها ، لأصالة الاشتراك ولبعض النصوص (١) في الجماع ، وللاتفاق ظاهرا على ذلك ، بل الظاهر عدم الفرق في الجماع بين المرأة والذكر بل وغيرهما كالدابة ، بل يمكن تعميم اللمس والتقبيل بشهوة لذلك أيضا ، وبالجملة كل جماع وكل لمس وتقبيل ونحوهما بشهوة ولذة من الرجل والمرأة وغيرهما محرم ومبطل ، لكنه يصعب إقامة الدليل عليه ، إذ ليس هو إلا التنبيه بما دل على النهي عن ذلك في النساء اليه ، وهو مشكل جدا خصوصا بالنسبة إلى بعض الأفراد وإن كان هو الموافق للاحتياط ، نعم قد صرح في المنتهى بأن الجماع فضلا عن غيره انما يبطل مع العمد دون السهو ، وإن كان للنظر فيه مجال إن لم ينعقد إجماع عليه ، أما اللمس ونحوه بغير شهوة فلا بأس به ، للأصل السالم عن المعارض ، بل في المنتهى لا نعرف فيه خلافا ، وفيه أيضا انه ثبت (٢) ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يلامس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٦.

(٢) لم نجد ما يدل على لمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض نسائه في الاعتكاف وانما ورد مباشرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعضهن وهو صائم كما رواه البخاري في صحيحه ـ كتاب الصوم باب المباشرة والقبلة للصائم ـ ومسلم في صحيحه أيضا ـ كتاب الصوم باب القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته ـ.

٢٠١

بعض نسائه في الاعتكاف.

وكذا يحرم عليه شم الطيب على الأظهر الأشهر بل المشهور ، لصحيح أبي عبيدة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « المعتكف لا يشم الطيب ولا يتلذذ بالريحان ولا يماري ولا يشتري ولا يبيع » بل مقتضاه حرمة التلذذ بالريحان أيضا كما نسب في المدارك حرمة شمه إلى الأكثر أيضا ، فما عن مبسوط الشيخ من عدم حرمة شم الطيب واضح الضعف ، بل هو اختار خلافه في المحكي من جمله ونهايته وخلافه ، بل وعن الأخير دعوى الإجماع عليه ، ولعله كذلك خصوصا بين المتأخرين ، لكن ينبغي أن يعلم أن المنساق إلى الذهن من شم الطيب التلذذ به ففاقد حاسة الشم خارج ، بل قد يومي إلى ذلك في الجملة‌ قوله عليه‌السلام في الصحيح : « ولا يتلذذ ».

واما استدعاء المني فقد ذكر المصنف حرمته في الاعتكاف تبعا للشيخ ، لكن لم نقف على نصف فيه بالخصوص كما اعترف به في المدارك وغيرها ، نعم علله فيها بأولويته من اللمس والتقبيل في منافاة الاعتكاف إلا انه كما ترى.

ويحرم عليه أيضا البيع والشراء بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وهو الحجة ، مضافا إلى صحيح أبي عبيدة السابق ، بل في المنتهى كلما يقتضي الاشتغال في الأمور الدنيوية من أصناف المعاش فينبغي القول بالمنع منه عملا بمفهوم النهي عن البيع والشراء ، ثم حكى عن المرتضى المنع عن التجارة والبيع والشراء ، وقال : التجارة أعم ، بل قال : الوجه تحريم الصنائع المشغلة عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

٢٠٢

العبادة كالخياطة وشبهها إلا ما لا بد منه ، بل عن ابن إدريس التعدي إلى كل مباح لا يحتاج اليه ، وإن كان لا يخفى عليك ما فيه بل وما في سابقه حتى إلحاق الصلح والإجارة ونحوهما بذلك ، وإن كان وجه القياس فيها واضحا ، إلا أنه محرم عندنا على كل حال ، فالاقتصار عليهما حينئذ هو الوجه ، بل الظاهر استثناء ما تمس الحاجة إليه مما يضطر اليه من مأكوله ومشروبه ونحوهما ، وإن كان مما ينبغي تقييد ذلك بما إذا تعذر التوكيل والنقل بغير البيع ، لعدم الضرورة حينئذ ، وإلى ذلك أومأ الشهيد في الجملة حيث قيده بما إذا تعذر المعاطاة ، لكنه مبني على أنها ليست بيعا ، وهو خلاف التحقيق ، والأمر سهل ، وعلى كل حال ففي بطلان البيع وصحته لو وقع وجهان بل قولان كالبيع وقت النداء ، أقواهما الصحة لعدم انصراف الذهن إلى إرادة الفساد من النهي عنه في أمثال ذلك ، والله أعلم.

وكذا يحرم المماراة بلا خلاف أجده ، للصحيح المزبور (١) وفي المسالك المراد بها هنا المجادلة على أمر دنيوي أو ديني لمجرد إثبات الغلبة والفضيلة ، كما يتفق لكثير من المتسمين بالعلم ، وهذا النوع محرم في غير الاعتكاف وقد ورد التأكيد في تحريمه في النصوص (٢) وإدخاله في محرمات الاعتكاف إما بسبب عموم مفهومه ، أو لزيادة تحريمه في هذه العبادة كما ورد (٣) تحريم الكذب على الله ورسوله في الصيام ، وعلى القول بفساد الاعتكاف بكل ما حرم فيه تتضح فائدته ، ولو كان الغرض من الجدال في المسألة العلمية مجرد إظهار الحق ورد الخصم عن الخطأ كان من أفضل الطاعات ، فالمائز بين ما يحرم منه وما يجب ويحرم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

(٢) البحار ـ ج ١ الباب ١٧ من كتاب العلم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

٢٠٣

ويستحب النية ، فليتحرز المكلف من تحويل الشي‌ء من الوجوب إلى جعله من أكبر القبائح ، وهو جيد ، والكلام في إبطاله على حسب ما عرفت ، وعن الشيخ هنا أنه والسباب لا يفسد الاعتكاف ، لأنه لا يفسد الصوم ، وهو كما ترى ، وعن المنتهى والدروس زيادة تحريم الكلام الفحش في الاعتكاف ولم نقف له على دليل ، بل قيل والقائل الشيخ في المحكي من جمله وابنا حمزة والبراج : يحرم عليه ما يحرم على المحرم وفي محكي المبسوط‌ روي (١) « انه يجتنب ما يجتنب » ولم يثبت فالأصول حينئذ بحالها ، بل في التذكرة بعد أن حكى ذلك عن بعض علمائنا قال : وليس المراد بذلك العموم ، ( فـ ) ـانه لا يحرم عليه لبس المخيط ولا إزالة الشعر ولا أكل الصيد ولا عقد النكاح فلا خلاف حينئذ ، ولعله إلى ذلك أومأ المصنف بقوله : « ولم يثبت » أي لم يثبت القول بذلك لأحد ، وعلى كل حال فلا ريب في ضعفه إن كان ، بل لعل المعهود من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وغيرهم خلافه.

وكذا المعهود منها أنه يجوز له النظر في معاشه والخوض في المباح المحتاج اليه وغيره ، وما سمعته من ابن إدريس قد عرفت فساده ، وانه لا دليل عليه ، كدعوى أن الاعتكاف اللبث للعبادة ، فلا يجوز فيه غيرها ، إذ قد عرفت أن المراد من هذه العبارة كون الاعتكاف اللبث الذي هو عبادة لإخراج اللبث الذي لم يكن كذلك ، على أنه لو سلم إرادة العبادة الخارجة عنه فأقصى ما يمكن أن يسلم العبادة في الجملة ، لا انه لا يقع في زمن الاعتكاف إلا العبادة ، كما هو واضح.

وكيف كان فـ ( كلما ذكرناه من المحرمات عليه نهارا يحرم عليه‌

__________________

(١) المبسوط ـ كتاب الاعتكاف « فصل فيما يمنع الاعتكاف منه وما لا يمنع ».

٢٠٤

ليلا ) لكونه معتكفا فيهما ، فتشمله الأدلة في الحالين عدا الإفطار لأن الصوم محله النهار ومن مات قبل انقضاء اعتكافه الواجب عليه بالشروع على القول به أو بمضي اليومين أو بنذر أو عهد أو نحو ذلك قيل : يجب على الولي القيام به ، وقيل : يستأجر من يقوم به ، والأول أشبه عند المصنف والفاضل ، والأصل في ذلك ما في المبسوط على ما حكاه عنه في المختلف ، قال : من مات قبل انقضاء مدة اعتكافه في أصحابنا من يقول يقضي عنه وليه ، أو يخرج من ماله من ينوب عنه قدر كفايته ، لعموم ما‌ روي (١) « ان من مات وعليه صوم واجب وجب على وليه أن يقضي عنه ، أو يتصدق عنه » قال في المختلف : وهذا يشعر بعدم وجوب قضائه عليه ، عملا بالأصل الدال على البراءة ، وبأن إيجاب الصوم لا يستلزم إيجاب الاعتكاف ، وحجة الآخرين أنه قد ورد ورودا مشهورا وجوب القضاء عن الميت ، ولا يمكن الإتيان بمثل هذا الصوم إلا على هيئته ، وهو هيئة الاعتكاف ، فكان الاعتكاف واجبا ، وهذا كما ترى لا دلالة فيه ، على أن القول المزبور مختار الشيخ ، وفي المدارك في شرح عبارة المتن « هذان القولان حكاهما الشيخ في المبسوط واستدل لهما بما روي » إلى آخره ، وقال في المعتبر وما ذكره رحمه‌الله انما يدل على وجوب قضاء الصوم ، أما الاعتكاف فلا ، وهو جيد ، وفي المسالك « أطلق الشيخ وجوب قضاء الولي ذلك ، لعموم ما روي » إلى آخره. ويجب تقييده بما إذا كان قد استقر في ذمته قبل ذلك أو تمكن من قضائه فلم يفعل كما هو المعتبر في الصوم ، وإلا لم يتجه الوجوب على الولي ، إذ ليس للاعتكاف نص على الخصوص إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا تنطبق على ما وصل إلينا من عبارة الشيخ التي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان.

٢٠٥

سمعتها حتى عبارة الدروس فإنه قال : ولو مات قبل القضاء بعد التمكن وجب على الولي قضاؤه عند الشيخ ، والرواية لا دلالة فيها إلا على قضاء الصوم ، وجوز الفاضل الاستنابة فيه للولي.

وكيف كان فلا إشكال في عدم وجوب قضاء ما فاته من الاعتكاف المتلبس به على الولي ، إذ لا يزيد على الصوم ، انما الكلام فيما سمعته من عنوان الدروس والحق عدم وجوبه أيضا ، للأصل السالم عن المعارض بعد ما عرفت سابقا من أن وجوب الاعتكاف لا يقضي بوجوب الصوم ، بل أقصاه أنه لا يصح بدونه وفرق واضح بين المقامين ، ضرورة الاكتفاء بوقوعه في شهر رمضان ونحوه من الصوم الواجب بغير الاعتكاف ، نعم قد يتم فيما لو نذر الصوم معتكفا ففاته بعد أن تمكن من قضائه ، فإنه قد يتجه الوجوب حينئذ على الولي ويتبعه الاعتكاف من باب المقدمة ، فيجري فيه حينئذ ما سمعته سابقا في كتاب الصوم من جواز الاستنابة ، ووجوبه على الأولياء المتعددين ، وكون المنكسر كفرض الكفاية ، وغير ذلك من الأحكام السابقة ، ومن ذلك ظهر أن الأشبه عدم الوجوب لا ما اختاره المصنف وغيره.

ثم إن الظاهر عدم الفورية في قضاء الاعتكاف حيث يقضى ، لعدم اقتضاء الأمر إياها ، فما عن المبسوط والمعتبر من وجوبه على الفور واضح الضعف ، وفي الدروس بعد أن حكى ذلك عنهما « والظاهر أنه من فروع الفورية في الأمر المطلق لا من خصوصيات الاعتكاف » قلت : قد حققنا عدم اقتضاء الأمر المطلق الفور في محله ، هذا ، وقد تقدم سابقا ما يعلم منه الوجه فيما ذكره في الدروس هنا من أنه لو بقي من الاعتكاف أي الواجب أقل من ثلاثة أو نذر الأقل أكمله ثلاثة ووجب الجميع ، ولو عين ثلاثة فجاء الثالث العيد بطل من أصله ، ويجي‌ء على القول بقضاء صومه وجوب ثلاثة غيرها ، ولو فرق الاعتكاف المنذور في أثناء‌

٢٠٦

اعتكاف آخر بحيث لا يحصل الخروج عن مسمى الاعتكاف قيل صح ، أما توزيع الساعات فلا ، بل وما في المنتهى من أنه إن أغمي على المعتكف أياما ثم أفاق لم يلزمه قضاؤه ، لأنه لا دليل عليه ، والوجه وجوب القضاء إن كان واجبا غير معين بزمان ، إذا عرفت هذا فإذا فسد الاعتكاف وجب قضاؤه إن كان واجبا ، وإن كان ندبا استحب قضاؤه ، وعلى قول الشيخ يجب قضاؤه مطلقا ، لأنه يجب بالدخول فيه ، قال رحمه‌الله : « ومتى كان خروجه من الاعتكاف بعد الفجر كان دخوله في قضائه قبل الفجر ، ويصوم يومه ، ولا يعيد الاعتكاف ليله ، وإن كان خروجه ليلا كان قضاؤه من مثل ذلك الوقت إلى آخر مدة الاعتكاف المضروبة وإن كان خروج وقته من مدة الاعتكاف بما فسخه به ثم عاد اليه وقد بقيت مدة من التي عقدها تمم باقي المدة وزاد في آخرها مقدار ما فاته من الوقت » إذ لا يخفى عليك الحال في جميع ذلك بعد الإحاطة بما قدمناه سابقا في النذر المعين والمطلق وغيرهما ، والله أعلم.

القسم الثاني فيما يفسده ، وفيه مسائل : الأولى لا إشكال ولا خلاف في أن كل ما يفسد الصوم يفسد الاعتكاف لما تقدم من اشتراطه به ، والمشروط عدم عند عدم شرطه من غير فرق بين ما هو مفسد للاعتكاف في نفسه كالجماع وبين غيره كالأكل والشرب والاستمناء ونحوها من المفطرات ، ويفسده عندنا أيضا غير ذلك من باقي ما نهي عنه فيه ، لما عرفته مفصلا ، وربما ظهر من المتن اختصاص مفسدة في ذلك وفي الجماع ، ولكن التحقيق خلافه.

وعلى كل حال فمتى أفسده بأن أفطر في اليوم الأول أو الثاني لم تجب به كفارة إلا أن يكون واجبا معينا ، أما المطلق ففيه البحث السابق في أنه لا يجب إلا بمضي اليومين أو بالشروع ، فعلى الأول يكون كالمندوب ،

٢٠٧

وعلى الثاني كالمعين وإن أفطر في الثالث وجبت الكفارة على كل حال لوجوبه إلا أن يكون مشروطا على وجه يرتفع وجوبه ، فيكون كاليومين الأولين ومنهم وهو الشيخ ومن تبعه بل في المدارك نسبته إلى أكثر المتأخرين من خص الكفارة بالجماع حسب الذي لا أجد خلافا في ثبوتها به ، والنصوص (١) به مستفيضة ، وفيها الصحيح وغيره واقتصر في غيره من المفطرات على القضاء ، وهو الأشبه بأصول المذهب وقواعده ، ضرورة عدم الدليل على وجوبها بغيره عدا القياس عليه ، وهو محرم عندنا ، نعم قد يلحق به استدعاء المني بناء على فساد الاعتكاف به ، كما أنه قد يقال إن مقتضى ترك الاستفصال في النصوص وجوب الكفارة به مطلقا من غير فرق بين المندوب منه والواجب معينا ومطلقا في اليومين الأولين وفي غيرهما ، ولا ينافي ذلك الندبية والتوسعة في المطلق ، كما لا ينافيان حرمة وقوعه فيهما وإن جوزنا له الخروج ، وأنه يخرج به وبغيره ، لكن ليس له فعله ، وهو باق على الاعتكاف مستمر عليه فمتى فعل كذلك أثم وكفر ، اللهم إلا أن يقال إن تعليق الكفارة على عدم الاشتراط في صحيح أبي ولاد (٢) المتقدم يومي إلى عدم وجوبها مع عدم تعين الاعتكاف حتى في اليوم الثالث إذا فرض الاشتراط فيه على وجه يرفع وجوبه ، مضافا إلى أصل البراءة ونحوه ، وهو قوي جدا ؛ فيكون المدار حينئذ في وجوبها بالجماع وعدمه بتزلزل الاعتكاف وعدمه ، فتجب في الثاني دون الأول.

وعلى كل حال فيما ذكرنا يظهر لك الحال في جملة من عبارات الأصحاب ، منها عبارة الدروس « ويفسد الاعتكاف نهارا مفسد الصوم ومطلق الاستمتاع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٦.

٢٠٨

بالنساء ـ إلى أن قال ـ : ثم إن أفسده وكان معينا ولو بمضي يومين كفر إن كان بجماع أو إنزال وغيره من مفسدات الصوم » ونقل عن الشيخ أن ما عدا الجماع يوجب القضاء خاصة ، والظاهر أنه يراد به مع عدم التعيين ، فلو أفسده بالخروج أو باستمتاع لا يفسد الصوم أو سبب يوجب قضاء الصوم خاصة فكفارة خلف النذر أو العهد ، ومنها ما في المنتهى ، قال : « كل ما يفسد الصوم يفسد الاعتكاف وقد مضى ، وهل يجب فيه الكفارة؟ قال السيد المرتضى والمفيد : الكفارة بكل مفطر في رمضان ، ولا أعرف المستند ، والوجه عندي التفصيل ، فان كان الاعتكاف في شهر رمضان وجبت الكفارة بالأكل والشرب وغيرهما مما عددناه في شهر رمضان ، وإن كان في غيره فان كان منذورا معينا وجبت الكفارة أيضا ، لأنه بحكم رمضان ، أما لو كان الاعتكاف مندوبا أو واجبا غير متعين بزمان لم تجب الكفارة بغير الجماع مثل الأكل والشرب وغيرهما ، وهذا غير لائق من السيد ، لأنه لا يرى وجوب الاعتكاف بالدخول فيه مطلقا ، أما على قول الشيخ في المبسوط من وجوب المندوب في الاعتكاف بالشروع فيه فإنه يجب به الكفارة ، وكذا اليوم الثالث على قول الشيخين ، أما على قولنا وقول السيد المرتضى فلا تجب الكفارة ، لأن له الرجوع متى شاء ، فان تمسكوا بعموم الأحاديث الدالة على وجوب الكفارة قلنا إنما وردت في الجماع ، فحمل غيره عليه قياس محض ، وإن كان الصوم يفسد به ، ويفسد الاعتكاف بفساد الصوم ، لكن الكفارة لا تتبع هنا بجواز الرجوع » ونحوه عن التذكرة ، ولا يخفى عليك حقيقة الحال بعد الإحاطة بجميع ما ذكرناه.

ومنه يعلم أيضا انه يجب كفارة واحدة للاعتكاف إن جامع ليلا ، وكذا إن جامع نهارا في غير رمضان إذا لم يكن في إفطاره كفارة كقضاء رمضان ولو كان فيه أو في قضائه لزمه كفارتان لأصالة تعدد‌

٢٠٩

المسببات بتعدد الأسباب ، وكذا لو كان الصوم منذورا مثلا ، وإطلاق ما دل على وجوب الكفارتين من خبر عبد الأعلى (١) ومرسل الصدوق (٢) في المعتكف إذا جامع نهارا منزل على رمضان ونحوه مما يقتضي إفطاره كفارة أيضا ، كإطلاق بعض الأصحاب ، بل لعله الظاهر من‌ خبر عبد الأعلى ، قال فيه : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وطأ امرأته وهو معتكف في شهر رمضان قال : عليه الكفارة ، قال : قلت : فإن وطأها نهارا قال : عليه كفارتان » خصوصا بعد ملاحظة الإجماع على الظاهر على عدم اقتضاء الاعتكاف إلا كفارة واحدة من غير فرق بين الليل والنهار ، كما هو واضح ، وحينئذ فمدار تعدد الكفارة واتحاده تعدد السبب واتحاده ، فربما اجتمع خمس كفارات وربما اتحدت ، وهو على الضوابط غير محتاج إلى الدليل.

ثم إن الأقوى وفاقا للمشهور بل نسبه الفاضل إلى الأصحاب تارة وإلى فتوى علمائنا أخرى مشعرا بدعوى الإجماع عليه كون كفارة الاعتكاف مخيرة مثل كفارة شهر رمضان كما نص عليه في‌ موثق سماعة (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن معتكف واقع أهله قال : عليه ما على الذي أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا » ولا ينافي ذلك ما في صحيح زرارة (٤) وغيره من أن على المعتكف إذا جامع ما على المظاهر بعد وجوب حمله على إرادة التشبيه بوجوب أصل الكفارة أو على أفضلية مراعاة الترتيب ، بل هو مقتضى الجمع بين هذين الخبرين وما شابههما.

المسألة الثانية قد عرفت فيما تقدم أن الارتداد في أثناء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ١.

٢١٠

الاعتكاف موجب للخروج من المسجد وحينئذ يبطل به الاعتكاف الذي قد عرفت اشتراطه باللبث في المسجد ، مضافا إلى إبطاله استدامة النية هنا وقيل : لا يبطل ، وإن عاد إلى الإسلام بنى على اعتكافه والأول أشبه بل لا ريب في فساد الثاني كما قدمنا الكلام فيه مفصلا.

المسألة الثالثة قيل والقائل الإسكافي والمرتضى والشيخ وبنو حمزة والبراج وإدريس وغيرهم إذا أكره امرأته على الجماع وهما معتكفان نهارا في شهر رمضان لزمه أربع كفارات اثنتان عنه واثنتان عن زوجته ، بل في الدروس أنه المشهور لا نعلم فيه مخالفا سوى المعتبر ، بل في المختلف نفي ظهور الخلاف ، وفي المسالك أن العمل على ما ذكره الأصحاب متعين ، ونحوه عن المحقق الثاني وقيل ولم نعرف القائل قبله يلزمه كفارتان ، وهو الأشبه عند المصنف للأصل السالم عن المعارض ، وفيه أن المتجه على مختاره سابقا ثلاث ، لأنه صرح بالتحمل بالنسبة إلى الصوم ، وانما ناقش هنا في المعتبر في إلحاق الاعتكاف به ، لعدم الدليل عليه بعد حرمة القياس ، اللهم إلا أن يكون قد عدل هنا عن اختياره هناك ، فحكم بعدم التحمل مطلقا ، وحينئذ لم يكن عليه إلا كفارتان ، لكن لا يخفى عليك ما فيه بالنسبة إلى الصوم ، لما تقدم من الخبر (١) المعمول به بين الأصحاب ، بل قد يقوى ذلك في الاعتكاف بحمل ما فيه من الصوم على المثال للاعتكاف ، أو ان الكفارتين هنا للصوم أيضا وإن كان التعدد بسبب الاعتكاف ، إلا أن المتجه على ذلك عدم التحمل لو جامعها ليلا ، فالأول أولى ، وحينئذ فهو لا الثاني أشبه ، ضرورة صلاحية مثل هذا الاتفاق من الأصحاب للشهادة على إرادة ما يعم نحو المقام من الخبر المزبور ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ـ الحديث ١.

٢١١

المسألة الرابعة قال في التذكرة إذا طلقت المعتكفة رجعية خرجت إلى منزلها عند علمائنا أجمع ، وهو بعد شهادة التتبع له العمدة في هذا الحكم لا الآية (١) التي يمكن المناقشة في استفادة الحكم منها هنا إذا كان الاعتكاف واجبا معينا عليها ولم تكن قد اشترطت ، ولذا قال في المسالك بعد ذكر الحكم المزبور : « إن ذلك يتم مع كون الاعتكاف مندوبا أو واجبا غير معين أو مع اشتراط الحل عند العارض ، ولو كان معينا من غير شرط فالأقوى اعتدادها في المسجد ، فان دين الله أحق أن يقضى » وفي الدروس « ولو طلقت اعتدت في منزلها مع عدم تعيين الزمان ، وإلا ففي المسجد » وهو جيد لولا الإجماع المحكي المعتضد بكلمات المعظم ثم إذا خرجت من العدة قضت واجبا إن كان واجبا معينا بنذر ونحوه أو مضى يومان فتعين الثالث ، وإن كان واجبا مطلقا أتت به أداء ، ويمكن أن يراد من القضاء ما يشمله وإلا اعتكفت ندبا إن شائت ، وقد يظهر من المصنف مشروعية قضاء الاعتكاف المندوب وفيه بحث أو منع ، ولعله يريد أيضا من قضائه نحو ما ذكرنا ، والأمر سهل بعد وضوح المقصود.

المسألة الخامسة قد عرفت الحال فيما إذا باع أو اشترى وأن التحقيق أنه يبطل اعتكافه بذلك عملا بما يفهم من النهي عنه في مثله عرفا وقيل والقائل جماعة يأثم ولا يبطل لكون النهي عن خارج من العبادة وهو ضعيف كما عرفت ، والأول الأشبه‌ كما أنك قد عرفت الحال في المسألة السادسة أيضا ، وهي إذا اعتكف ثلاثة متفرقة على معنى اعتكاف النهار دون الليل قيل والقائل الشيخ يصح ، لأن التتابع لا يجب‌

__________________

(١) سورة الطلاق ـ الآية ١.

٢١٢

إلا بالاشتراط ، وقيل والقائل غيره لا يصح وهو الأصح وكذا عرفت الحال في التفريق بمعنى التلفيق من الأيام المنكسرة الذي أفتى العلامة في المختلف بصحته ، وقد ينساق من العبارة أن المراد بالتفريق اعتكاف الأيام المتفرقة

في ضمن الشهر مثلا على أن يكون يوم في أوله ، وآخر في وسطه ، وثالث

في آخره ولو بضم الليل معه ، وحاصله عدم اعتبار الاتصال في الأيام

وإن كان هو عبادة واحدة ، كالتفريق في أجزاء الغسل ، لكن

ذلك ليس خلافا محررا في كلام الأصحاب ، ولا عرفنا القائل

بصحته ، ضرورة انصراف الاتصال من الثلاثة التي هي

أقل الاعتكاف ، وعلى كل تقدير فلا يخفى عليك

التحقيق في الجميع ، والله هو العالم والمعين ،

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا

على تواتر آلائه ووفور نعمائه ،

وصلى الله على محمد

وآله الطاهرين.

٢١٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين الغر الميامين هداة الخلق وأعلام الحق.

( كتاب الحج‌ )

الذي هو من أعظم شعار الإسلام ، وأفضل ما يتقرب به الأنام إلى الملك العلام ، لما فيه من إذلال النفس وإتعاب البدن ، وهجران الأهل والتغرب عن الوطن ، ورفض العادات وترك اللذات والشهوات ، والمنافرات والمكروهات ، وإنفاق المال وشد الرحال ، وتحمل مشاق الحل والارتحال ومقاساة الأهوال ، والابتلاء بمعاشرة السفلة والأنذال ، فهو حينئذ رياضة نفسانية وطاعة مالية ، وعبادة بدنية ، قولية وفعلية ، ووجودية وعدمية ، وهذا الجمع من خواص الحج من العبادات التي ليس فيها أجمع من الصلاة ، وهي لم تجتمع فيها ما اجتمع في الحج من فنون الطاعات ، ومن هنا‌ ورد « أن الحج المبرور لا يعدله شي‌ء ولا جزاء له إلا الجنة » (١) و « أنه أفضل من عتق سبعين رقبة » (٢) بل‌ قال‌

__________________

(١) وهو مضمون ما رواه في الوسائل في الباب ٤١ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣ وما رواه في المستدرك في الباب ٢٤ منها ـ الحديث ٢٢ و ٢٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣.

٢١٤

أبو الحسن عليه‌السلام في خبر محمد بن مسلم (١) : « من قدم حاجا حتى إذا دخل مكة دخل متواضعا ، فإذا دخل المسجد قصر خطأه من مخافة الله عز وجل فطاف بالبيت طوافا وصلى ركعتين كتب الله له سبعين ألف حسنة ، وحط عنه سبعين ألف سيئة ورفع له سبعين ألف درجة ، وشفعه في سبعين ألف حاجة ، وحسب له عتق سبعين ألف رقبة ، قيمة كل رقبة عشرة آلاف درهم » وفي‌ خبر معاوية ابن عمار (٢) عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيه أعرابي فقال : يا رسول الله إني خرجت أريد الحج ففاتني وأنا رجل مميل فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج فالتفت اليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : انظر الى أبي قبيس ، فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت ما يبلغ الحاج ، ثم قال : إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك ، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه ، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه ، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه ، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه ، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه ، قال : فعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه ، ثم قال : أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر وتكتب له الحسنات إلا أن يأتي بكبيرة » و « الدرهم فيه أفضل من ألفي ألف درهم فيما سواه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ـ ١.

٢١٥

من سبيل الله تعالى » (١) وانه أفضل من الصيام والجهاد والرباط (٢) بل من كل شي‌ء إلا الصلاة ، وفي الحديث (٣) « اما انه ليس شي‌ء أفضل من الحج إلا الصلاة ، وفي الحج هنا صلاة ، وليس في الصلاة قبلكم حج » بل‌ فيه (٤) « انه أفضل من الصلاة والصيام لأن المصلي يشتغل عن أهله ساعة ، وان الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم ، وان الحاج ليشخص بدنه ويضحي نفسه وينفق ماله ويطيل الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه ولا في تجارة » وقد تطابق العقل والنقل (٥) على أن أفضل الأعمال أحمزها ، وان الأجر على قدر المشقة.

بل يستحب إدمان الحج والإكثار منه واحتجاج العيال ولو بالاستدانة أو تقليل النفقة كما دلت عليه المعتبرة المستفيضة (٦) وليس ذلك إلا لعظم هذه العبادة ، ويكفي لفاعلها انه يكون كيوم ولدته امه في عدم الذنب.

نعم ينبغي المحافظة على صحة هذه العبادة المعظمة أولا بتصحيح النية ، لأن الحج موضوع على الإعلان ، ومعدود في هذه الأعصار من أسباب الرفعة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٣ و ١٣.

(٢) وهو مضمون ما رواه في الوسائل في الباب ـ ٤١ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٧ والباب ٣٨ منها الحديث ٥ والباب ٤٤ والباب ٤١ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ٥.

(٥) نهاية ابن الأثير في مادة « حمز » وفي الكافي ـ ج ٤ ص ١٩٩ في خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل ».

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ و ٤٦ و ٥ و ٥٣ ـ من أبواب وجوب الحج.

٢١٦

والافتخار والأبهة والاعتبار ، بل هو مما يتوصل به إلى التجارة والانتشار ومشاهدة البلدان والأمصار ، والاطلاع على أحوال الأماكن والديار ، فيخشى عليه من تطرق هذه الدواعي الفاسدة المبطلة للعمل في بعض الأحوال ، ولا خلاص من ذلك إلا بالإخلاص ، ولا إخلاص إلا بالخلوص من شوائب العجب والرياء ، والتجرد عن حب المدح والثناء ، وتطهير العبادات الدينية عن التلويث بالمقاصد الدنيوية ، ولا يكون ذلك إلا بإخراج حب الدنيا من القلب ، وقصر حبه على حب الله تعالى ، ويكون ذلك هو الداعي إلى العمل ، وهو ملاك الأمر ومدار الفضل ، والطريق العلمي إليه واضح مكشوف ، ولكن عند العمل تسكب العبرات وتكثر العثرات ، ولاستدامة الفكر في أحوال الدنيا ومآلها ومزاولة علم الأخلاق الذي هو طب النفس وعلاجها نفع بين في ذلك وتأثير ظاهر ، والله الموفق.

كما انه ينبغي التفقه في الحج ، فإنه كثير الأجزاء جم المطالب وافر المقاصد وهو مع ذلك غير مأنوس وغير متكرر ، وأكثر الناس يأتونه على ضجر وملالة سفر ، وضيق وقت واشتغال قلب ، مع ان الناس لا يحسنون العبادات المتكررة اليومية مثل الطهارة والصلاة مع الفهم لها ومداومتهم عليها وكثرة العارفين بها ، حتى ان الرجل منهم يمضي عليه الخمسون سنة وأكثر ولا يحسن الوضوء فضلا عن الصلاة ، فكيف بالحج الذي هو عبادة غريبة غير مألوفة ، لا عهد للمكلف بها مع كثرة مسائلها وتشعب أحكامها وأطولها ذيلا ، وخصوصا مع انضمام الطهارة والصلاة إليها ، لشرطية الأولى وجزئية الثانية ، فإن الخطب بذلك يعظم ، قال زرارة (١) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلني الله فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاما فتفتيني؟ فقال : يا زرارة بيت يحج قبل آدم بألفي عام تريد أن تفتي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١٢.

٢١٧

مسائله في أربعين عاما » إلا أنه يلوح من الخبر المزبور عدم اعتبار استقصاء مسائله ، بل هو غير مقدور ، ولكن لا بد من معرفة فروض المناسك.

وعلى كل حال فللحج أسرار وفوائد لا يمكن إحصاؤها وإن خفيت على الملحدين كابن أبي العوجاء وأشباهه ، لأن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه ، وصار الشيطان وليه وربه ، يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره إذ من الواضح أن الله تعالى سن الحج ووضعه على عباده إظهارا لجلالة وكبريائه وعلو شأنه وعظم سلطانه ، وإعلانا لرق الناس وعبوديتهم وذلهم واستكانتهم ، وقد عاملهم في ذلك معاملة السلاطين لرعاياهم ، والملاك لمماليكهم ، يستذلونهم بالوقوف على باب بعد باب ، واللبث في حجاب بعد حجاب ، لا يؤذن لهم بالدخول حتى تقبل هداياهم ، ولا تقبل منهم الهدايا حتى يطول حجابهم ، وان الله تعالى قد شرف البيت الحرام وأضافه إلى نفسه ، واصطفاه لقدسه ، وجعله قياما للعباد ومقصدا يؤم من جميع البلاد ، وجعل ما حوله حرما ، وجعل الحرم أمنا ، وجعل فيه ميدانا ومجالا ، وجعل له في الحل شبها ومثالا فوضعه على مثال حضرة الملوك والسلاطين ، ثم أذن في الناس بالحج ليأتوه رجالا وركبانا من كل فج ، وأمرهم بالإحرام وتغيير الهيئة واللباس شعثا غبرا متواضعين مستكينين رافعين أصواتهم بالتلبية وإجابة الدعوة ، حتى إذا أتوه كذلك حجبهم عن الدخول ، وأوقفهم في حجبه يدعونه ويتضرعون اليه حتى إذا طال تضرعهم واستكانتهم ورجموا شياطينهم بجمارهم وخلعوا طاعة الشيطان من رقابهم أذن لهم بتقريب قربانهم وقضاء تفثهم ليطهروا من الذنوب التي كانت هي الحجاب بينهم وبينه ، وليزوروا البيت على طهارة منهم ، ثم يعيدهم فيه بما يظهر معه كمال الرق وكنه العبودية ، فجعلهم تارة يطوفون بيته ويتعلقون بأستاره ، ويلوذون بأركانه ، وأخرى يسعون بين يديه مشيا وعدوا ليتبين لهم عز الربوبية وذل العبودية ،

٢١٨

وليعرفوا أنفسهم ويضعوا الكبر من رؤوسهم ، ويجعل نير الخضوع في أعناقهم ويستشعروا شعار المذلة ، وينزعوا ملابس الفخر والعزة ، وهذا من أعظم فوائد الحج ، مضافا إلى ما فيه من التذكر بالإحرام والوقوف في المشاعر العظام لأحوال المحشر وأهوال يوم القيامة ، إذ الحج هو المحشر الأصغر ، وإحرام الناس وتلبيتهم وحشرهم إلى المواقف ووقوفهم بها ولهين متضرعين راجين إلى الفلاح أو الخيبة والشقاء أشبه شي‌ء بخروج الناس من أجداثهم وتوشحهم بأكفانهم واستغاثتهم من ذنوبهم وحشرهم إلى صعيد واحد إما إلى نعيم أو عذاب أليم ، بل حركات الحاج في طوافهم وسعيهم ورجوعهم ودعوتهم يشبه أطوار الخائف الوجل المضطرب المدهوش الطالب ملجأ ومفزعا نحو أهل المحشر في أحوالهم وأطوارهم ، وإلى ما فيه من اختبار العباد وطاعتهم وانقيادهم إلى أوامره ونواهيه ، كما شرحه أمير المؤمنين عليه‌السلام في المروي (١) عنه في نهج البلاغة.

وكيف كان فـ ( هو يعتمد على ثلاثة أركان ) :

الركن (الأول في المقدمات )

( وهي أربع ) :

( المقدمة الأولى )

الحج بفتح الحاء المهملة وقد تكسر وإن كان في اللغة هو القصد أو كثرته إلى من يراد تعظيمه ، والكف والقدوم والغلبة بالحجة وكثرة الاختلاف والتردد فقد صار في الشرع على وجه الحقيقة بناء على ثبوتها فيه أو المجاز فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب وجوب الحج ـ الحديث ١١ و ٢١.

٢١٩

والحقيقة عند المتشرعة اسما لمجموع المناسك المؤداة في المشاعر المخصوصة أو لقصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة عنده ، أو مع زيادة متعلقة بزمان مخصوص ، وفي الدروس يلزم على الأول النقل ، وعلى الثاني التخصيص ، وهو خير من النقل ، وفي المسالك الإيراد على طرده بالعمرة وبكل عبادة مقيدة بمكان مخصوص ، وعلى عكسه بأن الآتي بالبعض التارك للبعض الذي لا مدخل له في البطلان يصدق عليه اسم الحاج ، فلا يكون الحج اسما للمجموع ، كما أن المصنف أورد على الثاني بأنه يخرج عنه الوقوف بعرفة والمشعر ، لأنهما ليسا عند البيت الحرام مع كونهما ركعتين من الحج إجماعا ، إلى غير ذلك مما لا فائدة معتد بها لطول البحث فيها بعد ما ذكرناه غير مرة من أن الغرض من أمثال هذه التعاريف الكشف في الجملة ، فهي أشبه شي‌ء بالتعاريف اللغوية ، وحينئذ فالأمر فيها سهل.

وعلى كل حال فـ ( هو فرض على كل من اجتمعت فيه الشرائط الآتية من الرجال والنساء والخناثي ) كتابا (١) وسنة (٢) وإجماعا من المسلمين بل ضرورة من الدين يدخل من أنكره في سبيل الكافرين ، بل لعل تأكد وجوبه كذلك فضلا عن أصل الوجوب ، كما هو واضح ولذا سمى الله تعالى تركه كفرا في كتابه العزيز (٣) نعم لا يجب بأصل الشرع إلا مرة واحدة إجماعا بقسميه من المسلمين فضلا عن المؤمنين ، مضافا إلى الأصل ، واقتضاء إطلاق الأمر في الكتاب والسنة ذلك كما حقق في محله ، وإلى غير ذلك من النصوص (٤) الكثيرة جدا الدالة صريحا وظاهرا على اختلاف دلالتها ، وستسمع‌

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ٩١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب وجوب الحج.

(٣) سورة آل عمران ـ الآية ٩٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب وجوب الحج.

٢٢٠