جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

جواز الخروج لها ، ولا داعي إلى تخصيصها بالغير ، بل ظاهر المحكي عن ثاني المحققين عدم الفرق بينهما ، ولذا احتمل في عبارة المتن إرادة مطلقها ، قال : فيدخل فيه حاجة نفسه وحاجة غيره من المؤمنين ، لاستثناء ذلك ، بل كما انه لا حاجة إلى إرادة خصوص الغائط والبول منها ، وإن جنح إليه في المدارك حتى أنه توقف في جواز الخروج لقضاء حاجة الغير مستدلا عليه بخبر ميمون بن مهران (١) ثم قال : لكنه قاصر من حيث السند ، فلا يصلح لتخصيص الأخبار المتضمنة لإطلاق المنع من الخروج ، وفيه ما لا يخفى ، بل يمكن دعوى الإجماع على خلافه.

ولو أمكن الغسل في المسجد على وجه لا يتعدى إليه النجاسة ففي المدارك قد أطلق جماعة المنع من ذلك ، لما فيه من الامتهان المنافي للاحترام ، ويحتمل الجواز كما في الوضوء والغسل المندوب ، وفيه انه مستلزم للبث المحرم ، وبه يفرق بينه وبين الوضوء والغسل المندوب ، على أنه قد ورد النهي عن الوضوء في المسجد من البول والغائط.

ومنها شهادة الجنائز للحمل والصلاة عليها ودفنها ، وفي محكي المنتهى قال علماؤنا : يجوز أن يخرج لتشييع الجنازة وعيادة المريض ، وقد سمعت ما في صحيح الحلبي (٢) وصحيح ابن سنان (٣) من غير فرق بين تعين ذلك عليه وعدمه ، لإطلاق النص ، لكن في التذكرة اعتبار الأول ، وفيه ما لا يخفى.

ومنها عود المريض بلا خلاف أجده ، بل في التذكرة أنه قول علمائنا أجمع ، وهو الحجة ، مضافا إلى صحيح الحلبي (٤) وإمكان اندراجه في الحاجة ، وإلى ما دل (٥) على استحبابه في نفسه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الاحتضار من كتاب الطهارة.

١٨١

ومنها تشييع المؤمن كما ذكره الفاضل وغيره إلا اني لم أعثر على نص فيه بالخصوص.

وكذا قوله وإقامة الشهادة إلا أنهما مندرجان في الحاجة التي قد عرفت إطلاقها ، وتقييدها بعدم البد منها يمكن إرادة التي لا يمكن الجمع بينها وبين الاعتكاف ، وتفوت بعدم الخروج إليها ، أو إرادة ما يشمل ذلك ونحوه ، على أن إقامة الشهادة مع تعينها حاجة لا بد منها ، بل وتحملها مع التعين كذلك أيضا ، مضافا إلى كون التعارض بين ما دل على عدم خروج المعتكف وبين ما دل على وجوب إقامتها تعارض العموم من وجه ، والترجيح للثاني من وجوه ، بل لعله كذلك مع عدم التعين ، خلافا للفاضل في بعض كتبه ، خصوصا مع ملاحظة ما ورد في الجنازة وعود المريض من الرخصة ، ولعل هذا هو الوجه في كثير مما ذكره الأصحاب في المقام وعدم النص بالخصوص عليه ، وكأنهم فهموا المثال مما ذكر فيها ، فلذا لم يقتصروا عليه ، وأكثرهم توسعة شيخنا في بغيته ، قال : « ويجوز الخروج للضرورية الشرعية والعقلية والعادية وللأكل والشرب والغسل والإقامة للشهادة والتحمل ولمقدماتها مع التوقف عليها ، ورد الضال وإعانة المظلوم وإنقاذ المحترم وعيادة المريض وتشييع المؤمن الحي وجنازة الميت وصلاتها وحضور دفنها وسننه واستقبال المؤمن وغسل النجاسات والقذارات والاستحمام لشديد الحاجة ولصلاة الجمعة والعيدين بناء على جواز صومه للقائل في أشهر الحرم ، بل لمطلق الصلاة في مكة ، وخوف ضيق وقتها ، وقضاء حاجة المؤمن وإعانة بعض خصوصا المعتكفين على مطالبه ، والخروج معه دفعا لخوف أو ردا لماله الضائع ، والشارد والمسروق ، أو قياما بحقه ، وانتظاره لدفع خوفه ، وفعل ما فيه غضاضة في المسجد ، وإخراج الريح خارج المسجد ـ إلى ان قال ـ : وما تعلق بمصالح نفسه من الإتيان بماء أو حطب أو علفا لدابته أو نحو ذلك لا بأس به ، ولا يلزم‌

١٨٢

الاستيجار والاستعانة وإن كان واجدا ومطاعا ، ويشكل في واجد المملوك والأجير ، ومن الحاجة امتثال أمر المالك والوالدين والخادم لمخدومه والمتعلم لمعلمه والمنعم لصاحب نعمته ، ومعرفة الوقت والتأذين وجهاد العدو ومصاحبة المحرم الامرأة الجميلة أو الخادم المشخص أو الجليلة والقوي للشيخ الضعيف والمريض للاعتماد عليه ، ومن الحوائج طلب الاحتياط في غسل أو إزالة نجاسة ونحوها ما لم يدخل في الوسواس ، فان دخل فسد الاعتكاف ، ومنها ما لو احتاج إلى مسألة والمجتهد خارج المسجد ، أو احتاج الى قرآن وكتاب دعاء أو شي‌ء مما تتوقف عليه العبادة ، ولو أضربه الشعر ولم يسعه الحلق في المسجد خرج له ، ومثله طلي النورة والحجامة والفصادة ونحوها من الأعذار ، ومظنة تمام الاعتكاف فتبين خلافه بعد خروجه أو نية فراغه » بل في المختلف عن المبسوط يجوز للمعتكف صعود المنارة والأذان فيها سواء كان داخل المسجد أو خارجه ، لأنه من القربات ، وإذا خرج الى دار الوالي وقال : حي على الصلاة أيها الأمير بطل اعتكافه ، وفيه أيضا عن الخلاف يجوز للمعتكف ان يخرج فيؤذن في منارة خارج الجامع وان كان بينه وبين الجامع فضاء ولا يكون في الرحبة ، لما روي من الحث على الأذان ولم يفصلوا ، واستشكله بأنه مستحب يمكنه فعله في المسجد فيكون الخروج له لا لضرورة ، فلا يجوز ، على أنه معارض بالحث على الأمر بالصلاة ، فكما يبطل الخروج له فكذا هو ، ونحوه عن التذكرة والمنتهى ، نعم زاد فيهما « اما لو فرض أن يكون هو المؤذن وقد اعتاد الناس صلاته ويبلغ من الاستماع ما لا يبلغ لو أذن في المسجد لم أستبعد قول الشيخ » الى غير ذلك من كلماتهم المتفقة على الزيادة على المنصوص في الجملة ، وكان مبناه فهم المثالية مما في النصوص ، لكن ينبغي الاقتصار حينئذ على ما علم فيه المماثلة أو ظن ظنا معتبرا شرعا ، أو مبناه في جملة منه تعميم لفظ الحاجة له ، لأنها أعم مما تتعلق بالنفس أو‌

١٨٣

الغير إلا انه مع عدم شموله لجميع ما ذكر لعدم صدق الحاجة أو الشك قد عرفت تقييدها في النصوص بعدم البد منها الذي يجب حمل المطلق عليه ، ولا أقل من الشك في جملة من الأمور أنها ، من الحوائج التي لا بد منها أو أن مبناه ما أشرنا إليه من كون التعارض في أكثرها أو جميعها من وجه ، والترجيح لها بفتوى جماعة من الأصحاب بل جميعهم في الجملة ، وبأنه كالواجبات في هذا التعارض ، فكما يخرج لما يطرأ من الواجبات مع أن التعارض بينها من وجه أيضا فكذا هذه المندوبات ، وباشتمال النصوص على بعضها المحتمل أو المظنون أو المعلوم فيه المثالية ، وبأن ظاهر استدلال الحسن بن علي عليهما‌السلام ترجيح كل ما كان من هذا القبيل على الاعتكاف ، أو غير ذلك.

إلا أنه لا يخفى عليك بعد ذلك كله رجحان الاحتياط الذي هو ساحل بحر الهلكة في كل ما هو غير منصوص ولم يعلم إلحاقه به ، كما انه لا يخفى عليك تقييد ذلك كله بما إذا لم يستلزم محو صورة الاعتكاف ، وإلا بطل على كل حال ، ولذا وجب خروج المرأة من المسجد لو حاضت في أثناء الاعتكاف ، والمريض الذي لا يسعه اللبث ، وكذا غيرهما من ذوي الأعذار التي ينمحي صورة الاعتكاف معها ، ويجب عليهم حينئذ استئناف الاعتكاف مع وجوبه ، وإلا فلا وعليه ينزل إطلاق بعض الأصحاب وجوب العود الى الاعتكاف ، كإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن الحجاج (١) : « إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة فإنه يأتي بيته ثم يعيد إذا بري‌ء ويصوم » وقوله عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٢) : « في المعتكفة إذا طمثت قال : ترجع الى بيتها ، فإذا طهرت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٣.

١٨٤

رجعت فقضت ما عليها » جمعا بين ذلك وبين ما دل على عدم وجوب الاعتكاف بمجرد الشروع ، وانه انما يجب بالنذر أو مضي يومين كما ستعرف تفصيل الكلام فيه.

وعلى كل حال فظاهر الخبرين استئناف الاعتكاف ، لكن في المنتهى تردد فيه من ذلك ومن حيث حصول العارض المقتضي للضرورة ، فكان كالخروج للحاجة ، بل قال : الأقرب عدم الاستئناف ، وفيه ما لا يخفى بعد فرض محو الصورة حتى في المقيس عليه ، فلا ريب حينئذ في وجوب الاستئناف ، ثم إن كان الاعتكاف واجبا ولم يمض ثلاثة وجب القضاء من أصله ، وإلا فالمتروك خاصة ، نعم لو كان المتروك ثالث المندوب مثلا وجب قضاؤه بإضافة يومين اليه ، لما عرفت من أن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة.

وكيف كان فـ ( إذا خرج ) المعتكف لشي‌ء من ذلك لم يجز له الجلوس تحت ظلال بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، كما أن صحيح الحلبي (١) وخبري داود بن سرحان (٢) دالة عليه ، بل لا تقييد في الأول وأحد الأخيرين بكونه تحت الظلال ، ولذا أطلق النهي عنه بعضهم ، لكن في الحدائق أنهما مقيدان بالخبر الأخير لداود ، ومن هنا خص الشيخان والفاضلان والمرتضى وسلار وأبو الصلاح وابن إدريس وغيرهم تحريمه بذلك ، لكن قد يناقش بأن التقييد مبني على حجية مفهوم المكان ، ويمكن منعها وأنها كمفهوم اللقب ، وقال جماعة منهم الشيخ والمصنف والفاضل وغيرهم ولا المشي تحت الظلال بل عن المرتضى « ليس للمعتكف إذا خرج عن المسجد أن يستظل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١ و ٣.

١٨٥

بسقف حتى يعود اليه » ثم استدل عليه بالإجماع وطريقة الاحتياط ، ولعله الحجة مضافا إلى ما دل (١) عليه في المحرم بناء على أصالة مساواته له في ذلك حتى يعلم الخلاف ، وإلى احتمال إلغاء خصوصية الجلوس ، وكون المانع منه تحت الظلال ، فلا فرق بينه وبين المشي والوقوف ، وفي الوسائل أنه قد تقدم ما يدل على عدم جواز الجلوس والمرور تحت الظل للمعتكف ، وإلى قاعدة الشك في الشرط بناء عليها ، وإلى غير ذلك ، هذا كله مع الاختيار ، أما مع الاضطرار فلا بأس كما صرح به غير واحد ، ولعله لإطلاق ما دل على الجواز المقتصر في تقييده بما هو المنساق من حال الاختيار.

وكذا لا يجوز للمعتكف الصلاة خارج المسجد الذي اعتكف فيه مع عدم الضرورة ، لإطلاق الأدلة السابقة إلا بمكة ، فإنه يصلي المعتكف بمسجدها أين شاء من بيوتها بلا خلاف أجده فيه ، لقول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٢) : « المعتكف بمكة يصلي في أي بيوتها شاء ، سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها » وفي‌ صحيح منصور بن حازم (٣) « المعتكف بمكة يصلي في أي بيوتها شاء ، والمعتكف بغيرها لا يصلي إلا في المسجد الذي سماه » وقال ابن سنان (٤) أيضا : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : المعتكف بمكة يصلي في أي بيوتها شاء ، سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها ـ إلى أن قال ـ : ولا يصلي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلا بمكة ، فإنه يعتكف بمكة حيث شاء ، لأنها كلها حرم الله » قال الشيخ : انما يريد بقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب تروك الإحرام ـ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٣.

١٨٦

« يصلي » صلاة الاعتكاف ، كما يقضي به سياق الكلام والنصوص السابقة.

ولو خرج أي المعتكف من المسجد ساهيا لم يبطل اعتكافه بلا خلاف للأصل وحديث رفع القلم ، وانصراف ما دل على الشرطية إلى غيره ولو لاشتماله على النهي المتوجه إلى غيره ، نعم ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يطل حتى انمحت الصورة كما اعترف به غير واحد ، ضرورة رجوعه حينئذ إلى انتفاء الحقيقة الذي لا فرق فيه بين العمد والسهو والاضطرار وغيره ، هذا. وقد زاد بعض مشايخنا شرطا آخر للاعتكاف ، وهو إباحة اللبث ، فلو وجب عليه الخروج لجنابة أو لعارض يخافه على نفسه أو عرضه أو غيره مما يوجب الخروج فمكث فسد اعتكافه ، ثم قال بعد ذلك : « كل من حرم عليه اللبث لخوف على نفسه أو عرضه أو أمر يلزمه حفظه فلبث بطل اعتكافه ، وهو كذلك ، وكأن الأصحاب تركوا التعرض له لوضوحه ، ولأنه المنشأ لما ذكروه من الشرط الخامس الذي هو إذن من له ولاية كالزوج والسيد ، ضرورة كون ذلك لحرمة اللبث عليهم من دون الاذن ، فيعم حينئذ كل من حرم عليه اللبث ، على أن من الواضحات عدم اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد ، نعم ينبغي أن يخص ذلك بما إذا كان محرما في نفسه لا من حيث الضدية لأداء دين ونحوه ، فإنه الأقوى حينئذ الصحة لما حققناه في محله من أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص ـ ثم قال ـ : ولو غصب مكانا من المسجد أو جلس على فراش مغصوب فالأقوى البطلان ، وأما اللباس والمحمول فلا يبعث على الفساد على الأقوى ، ولو وضع في المسجد تراب أو فراش مغصوب ولا يمكن نقله فلا مانع من الكون عليه ، ولو جلس في المغصوب أو عليه مجبورا أو جاهلا بالغصب فليس عليه شي‌ء ـ وكأنه أراد بغصب المكان دفع من سبق اليه قهرا أو نحو ذلك كما يومي اليه قوله متصلا بذلك ـ : ومن سبق إلى مكان فهو أحق به حتى يفارقه أو يطيل المكث غير مشغول حتى يخل بعبادة‌

١٨٧

المتعبدين ، ولو فارقه وله فراش أو شي‌ء يعتد به بقي اختصاصه إن كان خروجه لغرض صحيح لا يقتضي البطء المفرط ، ووضع الخيط والعود والخرقة كلا وضع وأما ما يسجد عليه والمسبحة فمما يلحظ في الوضع ، وحد الانتظار إلى أن يحصل خلل في نظم الصلاة ونحوها كلزوم الفرج في الجماعة بعد قول : « قد قامت الصلاة » والسابق للحجرة أولى بها في السكنى ، ولكن ليس له منع الشريك ما لم يحصل ضرر بخلاف المدرسة ، وتجري الوكالة في الاختصاص حيث يجلس الوكيل في مكان الموكل ومالها أعمال خاصة من بقاع المسجد يقدم مريد الأعمال على غيره » انتهى لكن أكثره لا يخلو من نظر حتى الفرق بين اللباس والمحمول وغيرهما في الأول فضلا عما في الأخير من تقدم مريد الأعمال ، وعن دعوى جريان حكم الغصب على كل من نافى أولوية السبق ، وعن الفرق بين المسبحة وغيرها ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

فروع يمكن استفادة حكمها مما تقدم‌ الأول إذا نذر اعتكاف شهر معين ولم يشترط التتابع فاعتكف بعضه وأخل بالباقي صح ما فعل إذا كان ثلاثة فصاعدا وقضى ما أهمل ، ولو تلفظ فيه بالتتابع استأنف كما عرفته في شرح قول المصنف : « ولو نذر اعتكاف أيام معينة » إلى آخره ، وفي المدارك بناء على ما سلف له هناك ، بل الأصح عدم بطلان ما فعل إذا كان ثلاثة فصاعدا مع التلفظ بالتتابع وبدونه ، إذ المفروض تعيين الزمان ، وقد عرفت أن التلفظ بالتتابع لا يفيد مع تعيين الزمان إلا مجرد التأكيد لإفادة تعيين التتابع المعنوي وقد بينا ذلك فيما سبق ، قلت : قد عرفت ما فيه أيضا سابقا من وضوح الفرق.

الثاني إذا نذر اعتكاف شهر معين ولم يعلم به حتى خرج كالمحبوس والناسي قضاه بلا خلاف ، بل في المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب ، لكن ربما استشكل بعدم ما يدل على قضائه ، ويدفع ـ مضافا إلى احتمال تناول‌

١٨٨

« من فاتته » له ، وإلى أنه مشتمل على الصوم الذي قد ثبت القضاء للواجب منه ـ بأنه قد ثبت القضاء في الحائض والمريض وغيرهما مما قد اشتملت عليه النصوص والفتاوى مع عدم القول بالفصل ، نعم عن الشهيد أنه لو غمت عليه الشهور توخى وإلا تخير كما في الصوم ، وأشكله بعضهم بأنه لا دليل عليه هنا ، والقياس محرم ، وقد يدفع بأن مبناه في الصوم على القاعدة التي لا تفاوت فيها بين المقامين ، وهي أصالة بقاء التكليف ، وقبح تكليف ما لا يطاق ، فليس حينئذ إلا التوخي ، ومع عدمه فالتخيير ، لأنهما أقرب طرق الامتثال ، على أنه شهر معين قد وجب صومه ولو للاعتكاف ، ولا خصوصية لشهر رمضان ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

الثالث إذا نذر اعتكاف أربعة أيام فأخل بيوم قضاه لكن يفتقر إلى أن يضم اليه آخرين ليصح الإتيان به والمراد بالقضاء الإتيان به ليتناول المنذور المطلق والمعين ، ضرورة عدم اختصاص الحكم بالقضاء ، بل هو لكل من وجب عليه اعتكاف يوم كما أشار إليه المصنف فيما سبق وفيما يأتي ، والظاهر التخيير بين التقديم والتأخير والتوسيط ، لكن عن جماعة من المتأخرين أن الزائد على الواجب إن تأخر عن الواجب لم يقع واجبا ، وإن تقدم جاز أن ينوي به الوجوب من باب مقدمة الواجب ، والندب لعدم تعين الزمان له ، وفي المدارك وربما يشكل بما إذا كان الواجب يوما واحدا ، فان اعتكاف اليومين بنية الندب يوجب الثالث فلا يكون مجزيا عما في ذمته ، وبأن الاعتكاف يتضمن الصوم ، وهو لا يقع مندوبا ممن في ذمته واجب ، ويدفع بأن غاية ما يستفاد من الأدلة الشرعية أن من اعتكف يومين يتعين عليه اعتكاف الثالث ، وهو لا ينافي وجوبه من جهة أخرى ، وعن الثاني بأن الممتنع انما هو وقوع النافلة ممن في ذمته قضاء رمضان لا مطلق الواجب كما بيناه فيما سبق ، قلت : ولو أراد زوال الإشكال الأول من أصله نوى بالأول الندب وجعل ما في ذمته وسطا على انهما هما واجبان من باب المقدمة ،

١٨٩

فلا إشكال حينئذ من هذه الجهة ، وكيف كان فلو كان المنذور خمسة في المدارك وجب أن يضم اليه سادسا سواء أفرد اليومين أو ضمهما إلى الثلاثة ، لما بيناه فيما سبق من أن الأظهر وجوب كل ثالث قلت : ستعرف تحقيق الحال فيه.

الرابع إذا نذر اعتكاف يوم لا أزيد لم ينعقد قطعا ، لما عرفت من أن أقل الاعتكاف ثلاثة ، فلا يكون مشروعا ولو نذره لا بهذا القيد أو نذر اعتكاف ثاني قدوم زيد مثلا صح ويضيف اليه آخرين كما هو واضح.

هذا كله في حقيقته وشرائطه ، وأما الكلام في أقسامه فإنه ينقسم إلى واجب وندب ضرورة كونه عبادة ، وهي منحصرة فيهما فالواجب ما وجب بنذر وشبهه من العهد واليمين والإجارة وأمر السيد ونحوها والمندوب ما تبرع به عن نفسه أو عن غيره فالأول يجب بالشروع بلا خلاف أجده إذا كان معينا ، بل هو واجب قبله ، اما غيره فهو وإن كان مشهورا فيه كما قيل إلا انه يصعب إقامة الدليل عليه كغيره من الاعتكاف الواجب توسعا ، ومن هنا قال في المدارك : إنه لو قيل بمساواته للمندوب في عدم وجوب المضي فيه قبل اليومين لم يكن بعيدا ، وهو كذلك ، والنهي عن إبطال العمل بعد تسليم إرادة الابطال منه بغير الارتداد ونحوه خاص في الصلاة كما يشهد له الاستقراء وغيره ، فالوجوب حينئذ بالشروع لا يخلو من نظر ، اللهم إلا أن يكون مستنده ما تسمعه من دليل الوجوب بالشروع في المندوب الذي هو أضعف من الواجب بمراتب ، فتأمل. والثاني مع عدم الشرط لا يجب المضي فيه حتى يمضي يومان كاملان إجماعا عن القائلين بهذا القول فيجب الثالث وفاقا للإسكافي وابن البراج والشيخ في النهاية وجمع من المتأخرين ومتأخريهم ،

١٩٠

للأصل وصحيح محمد بن مسلم (١) « إذا اعتكف يوما ولم يكن اشترط فله أن يخرج ويفسخ اعتكافه ، فإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى يمضي ثلاثة أيام » وصحيح أبي عبيدة (٢) عن الباقر عليه‌السلام « من اعتكف في ثلاثة أيام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء ازداد أياما أخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يستكمل ثلاثة أيام » بل قد يظهر من الأخير وجوب كل ثالث بعد اليومين ، فيجب السادس لمن اعتكف خمسة ، والتاسع لمن اعتكف ثمانية ، وهكذا ، والمناقشة في سندهما بعلي بن الحسن بن فضال يدفعها أنهما في طريق الكافي في أعلى مراتب الصحة ، على أنه هو قد ذكر في الخلاصة « وأنا أعتمد على رواية علي بن الحسن بن فضال وإن كان مذهبه فاسدا » فحكى عن النجاشي والكشي والشيخ وغيرهم توثيقه وقربه من الإمامية ، فلا وجه حينئذ لحملهما على شدة الاستحباب بعد جمعهما لشرائط الحجية وعدم المعارض لهما سوى الأصل الذي يقطعه أقل من ذلك.

وحينئذ فما قيل من أنه لا يجب الثالث أيضا كما هو خيرة المرتضى وابن إدريس والفاضلين في المعتبر والمنتهى والمختلف والتذكرة والقواعد واضح الضعف ، بل القول بالوجوب بمجرد الشروع كما عن المبسوط وأبي الصلاح أقرب منه ، لإمكان الاستدلال له ـ مضافا إلى النهي عن إبطال العمل ؛ وإلى أنه كتعين الكلي بالفرد ـ بالنصوص (٣) الدالة على وجوب الكفارة على المعتكف إذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف.

١٩١

أبطل اعتكافه بالجماع ، وبخبري محمد بن مسلم (١) وأبي بصير (٢) المتقدمين سابقا الدالين على وجوب إعادة المريض والحائض الاعتكاف بعد البرء والطهارة ، وإن أجيب عن الأولى بأنها مطلقة لا عموم فيها ، وتصدق بالجزء والكل ، فيكفي في العمل بها تحققها في بعض الصور ، فلا يكون حجة في الوجوب ، على أنه لو سلمنا عمومها لم يلزم من ذلك الوجوب ، لاختصاصها بجماع المعتكف كما ستقف عليه ، ولا امتناع في وجوب الكفارة بذلك في الاعتكاف المستحب ، وبنحو ذلك عن الثانية ، وإن كان قد يناقش أولا بأن الإطلاق حجة كالعموم ، وبأن الكفارة على ما عهد من الشرع انما تجب في مقام الوجوب المستلزم مخالفته للعقوبة ، فتكون الكفارة لدفع تلك العقوبة ، وهذا لا يعقل في المستحب الذي لا يترتب فيه على تركه عقوبة ، وانما غاية ذلك عدم الثواب عليه ، وكيف يمكن القول بوجوب الكفارة في الاعتكاف المستحب.

ولكن مع ذلك كله فلا ريب في أن الأول أظهر لصراحة الصحيحين (٣) السابقين الحاكمين على غيرهما ، وإن كان الأخير أحوط ، بل لا يخلو من قوة ، والله أعلم.

هذا كله مع عدم الشرط في الاعتكاف والنذر وأما لو شرط في حال نذره الرجوع إذا شاء وقلنا بصحة هذا الشرط فيه كان له ذلك في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١ وهو صحيح عبد الرحمن بن الحجاج كما تقدم في ص ١٨٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١ و ٣.

١٩٢

أي وقت شاء عملا بقولهم عليهم‌السلام (١) : « المؤمنون عند شروطهم » ولا قضاء للأصل السالم عن المعارض من غير فرق بين المعين وغيره ، وبين منذور التتابع وغيره ولو لم يشترط بل كان مطلقا وجب استئناف ما نذره إذا قطعه وكان مشروط التتابع أو لم يمض منه ثلاثة أيام على التفصيل الذي عرفته سابقا ، انما الكلام في صحة الشرط المزبور ، ولعله موقوف على صحته في الاعتكاف ، وربما يدل عليها فيه ـ مضافا إلى‌ عموم « المؤمنون عند شروطهم » إلى آخره ونحوه ـ قول أبي جعفر عليه‌السلام (٢) : « إذا اعتكف يوما ولم يكن اشترط فله ان يخرج ويفسخ الاعتكاف ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ اعتكافه حتى يمضي ثلاثة أيام » ضرورة ظهوره في أن له الفسخ مع الشرط بعد اليومين أيضا ، وقال أبو ولاد في الصحيح (٣) : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة كان زوجها غائبا فقدم وهي معتكفة بإذن زوجها فخرجت حين بلغها قدومه من المسجد إلى بيتها فتهيأت لزوجها حتى واقعها فقال : إن كانت خرجت من المسجد قبل ان تمضي ثلاثة أيام ولم يكن اشترطت في اعتكافها فان عليها ما على المظاهر » وهو ظاهر أيضا في عدم الكفارة عليها مع الشرط ، لكن يظهر من الحدائق تبعا للمدارك التوقف في صحة هذا الشرط في عقد النذر ، لأن نصوص المقام انما دلت عليه في الاعتكاف دون النذر ، وفيه ان جوازه في الاعتكاف يقضي بجوازه في النذر ، ضرورة كون مورد النذر حينئذ هذا القسم من الاعتكاف ، فيشمله أدلة النذر ، فالبحث إن كان حينئذ فهو في جوازه في الاعتكاف‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الخيار ـ الحديث ٧ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٦.

١٩٣

وربما خص جوازه فيما لو كان الشرط عروض العارض لا مطلقا ، بل حكي ذلك عن جماعة من الأصحاب منهم الفاضل في التذكرة ، حيث قال : انما يصح اشتراط الرجوع مع العارض ، فلو شرط الجماع في اعتكافه أو الفرجة أو التنزه أو البيع والشراء للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يجز ، وعن ثاني الشهيدين القطع به ، نعم ينبغي أن يراد بالعارض ما هو أعم من العذر ، كما يدل عليه صحيحة أبي ولاد ، إذ حضور الزوج ليس من الأعذار المسوغة للخروج من الاعتكاف ، وانما هو من جملة العوارض ، فيختص الشرط حينئذ بعروض العارض لا مطلقا ، ويؤيده‌ قول الصادق عليه‌السلام في الموثق (١) : « إذا اعتكف العبد فليصم وقال : لا يكون اعتكاف أقل من ثلاثة أيام ، واشترط على ربك في اعتكافك كما تشترط عند إحرامك أن يحلك من اعتكافك عند عارض إن عرض لك من علة نزلت بك من أمر الله » وقوله عليه‌السلام في قوى أبي بصير (٢) : « لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام ، ومن اعتكف صام ، وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما اشترط المحرم ».

بل ربما قيل باختصاص الجواز في اشتراط العذر الذي يسوغ معه الفسخ بلا شرط ، للموثق الأول ، وان فائدة الشرط مجرد التعبد ، وإن كان قد يدفعه ظهور النص والفتوى بخلافه ، بل ظاهر الأكثر أو صريحه جواز الاشتراط مطلقا من غير تخصيص بالعارض كما اعترف به في الحدائق ، وليس في صحيح أبي ولاد‌

__________________

(١) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٩ وقطعة منه في الباب ٤ منه ـ الحديث ٥ وذيله في الباب ٩ منه ـ الحديث ٢.

(٢) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٢ ووسطه في الباب ٢ منه ـ الحديث ٧ وذيله في الباب ٩ منه ـ الحديث ١.

١٩٤

منافاة لذلك ، بل لا يخلو من تأييد ، كما انه ليس في الموثق والقوي ذلك أيضا ، ضرورة عدم ظهورهما في حصر الجواز بذلك ، فلا ينافي المطلق الدال على الجواز حينئذ مما عرفت.

نعم قد يخص الندب بالشرط على حسب شرط المحرم ، لأنه المأمور به في الخبرين المزبورين ، فالأقوى حينئذ جواز الشرط مطلقا ، كما ان الأقوى أن له الرجوع على حسب ما اشترط إن خاصا فخاصا ، وإن مطلقا فمطلقا ، ولا ينافي ذلك ما نفاه الفاضل من عدم جواز اشتراط الجماع ونحوه ، ضرورة كونه من اشتراط منافيات الاعتكاف الذي يبطل به أصل الاعتكاف نحو الشرط الفاسد من ( في ظ ) العقد على الأصح كما صرح به في الدروس مع قوله بجواز الشرط مطلقا وليس هو كاشتراط فسخه ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ولكن ينبغي أن يعلم أن تفصيل الحال على ما ذكرنا أن الشرط إن كان في النذر وقد اعتكف مشترطا كان له على مقتضى ما شرط من غير فرق بين المعين وغيره والمتتابع وغيره ، ولا قضاء عليه ولا إعادة كما سمعته من المصنف ، وإن كان الشرط في الاعتكاف دون النذر فلا أثر له مع فرض كونه معينا ، وانما حكمه كما إذا لم يشترط ، وإن كان غير معين اتجه حينئذ إجراء الشرط فيه على حسب جريانه في المندوب ، ويأتي بغير ذلك الفرد مع إبطاله ، ومرجع فائدة الشرط حينئذ إلى نفس الاعتكاف دون النذر ، فلا يلتزم بمضي اليومين كالشرط في الاعتكاف المندوب ، ولا ينافي ذلك قولهم هناك : إنه يجب الاعتكاف بمضي اليومين بعد أن عرفت تنزيله على غير المشروط فيه الرجوع.

وبذلك ظهر انه لا يجدي الاشتراط في الاعتكاف مع فرض الإطلاق في النذر كما صرح به شيخنا في رسالته وغيره ، ولو كان واجبا بنذر وشبهه فان أخذ الشرط حين إجراء الصيغة فلا قضاء ، وإلا لزم ، وفي محكي المنتهى‌

١٩٥

« الاشتراط انما يصح في عقد النذر ، أما إذا أطلقه من الاشتراط على ربه فلا يصح له الاشتراط عند إيقاع الاعتكاف » ونحوه عن المعتبر ، وفي الدروس « ولو شرط الرجوع متى شاء اتبع ولم يتقيد بالعارض ، ولو جعل الشرط في نذره أو عهده أو يمينه فكذلك ، ولو خلى النذر من الشرط فلا عبرة بالشرط عند الشروع في الاعتكاف » إلى غير ذلك من عباراتهم المطابقة لما ذكرنا وللقواعد المعلومة.

فما في الحدائق ـ من أن محل هذا الاشتراط وقت الدخول في الاعتكاف ، ونيته أعم من أن يكون متبرعا به أو منذورا لأن ذلك مدلول نصوص المقام ، وليس في نصوص الباب تعرض للاعتكاف على وجه النذر فضلا عما يدل على إيقاع هذا الشرط فيه ، إلى ان قال : ولم أر من تنبه لذلك إلا السيد السند في المدارك حيث قال : لم أقف على رواية تدل على ما ذكروه من مشروعية اشتراط ذلك في عقد النذر ، وانما يستفاد من نصوص المقام أن محل ذلك نية الاعتكاف ، ولو قيل بجواز اشتراطه في نية الاعتكاف المنذور إذا كان مطلقا لم يكن بعيدا ، خصوصا على ما أشرنا إليه سابقا من مساواته المندوب في عدم وجوب المضي فيه إلا بمضي يومين ، ولو قلنا إن اشتراط الخروج انما يسوغ عند العارض وفسرناه بالضروري جاز اشتراطه في المنذور المعين أيضا ـ كما ترى واضح الفساد ، ضرورة أنه لا أثر لهذا الشرط في الاعتكاف المنذور مطلقا ، ونصوص المقام مساقة لبيان أصل حكم الاشتراط في الاعتكاف من غير مدخلية للنذر الذي هو يلزم ما شرع على حسب ما شرع ، فلا حاجة إلى دليل خاص يدل على المشروعية في النذر ، بل يكفي فيها ثبوته في الاعتكاف كما هو واضح.

نعم قد يقال بوجوب الاشتراط في الاعتكاف أيضا مع الاشتراط في عقد النذر الذي مرجعه الالتزام بالاعتكاف المشتمل على الشرط ، فلا يجري عليه حينئذ حكم الاعتكاف المشروط بدون ذكر الشرط فيه ، مع احتماله ، اكتفاء بالإتيان به‌

١٩٦

وفاء عن النذر المفروض ذكر الاشتراط فيه ، وإن كان الأول أحوط وأولى.

وكيف كان فقد عرفت الحكم في صور الاشتراط في النذر الأربعة ، كما أنك قد عرفت الحكم في الأربعة الفاقدة للشرط ، لأن مجموع الصور ثمانية ، إذ النذر إما أن يقع على معين أو لا ، وعلى التقديرين إما أن يشترط فيه التتابع أو لا ، وعلى الأربعة إما أن يشترط الرجوع متى شاء أو لا ، فالصور ثمانية قد علم حكمها مما قدمناه آنفا وسابقا ، لكن عن المسالك في حكم صور الشرط أن له الرجوع مع العارض ، ثم إن كان الزمان معينا لم يجب قضاء ما فات في زمن العارض سواء اشترط التتابع أم لا ، وإن كان مطلقا ولم يشترط التتابع ففي وجوب قضاء ما فات أو الجميع إن نقص ما فعله عن ثلاثة قولان ، أجودهما القضاء ، وفاقا للمصنف في المعتبر ، ولو شرط التتابع فالوجهان ، وكذلك اختاره في الروضة ، وفي الدروس « وإذا خرج للشرط في الاعتكاف المندوب فلا قضاء ؛ وإن كان في الواجب المعين فكذلك ، وإن كان غير معين ففي القضاء نظر » وقطع في المعتبر بوجوبه ، وقال ابن إدريس : « إذا اشترط التتابع ولم يعين الزمان وشرط على ربه فخرج فله البناء والإتمام دون الاستئناف ، وإن لم يشترط استأنف » ولعله أراد به أنه شرط على ربه في التتابع لا في أصل الاعتكاف ، وفي محكي المنتهى « الخامس لم يعين زمانا لكن شرط المتابعة واشترط على ربه فعند العارض يخرج ثم يأتي ما بقي عليه عند زواله إن كان قد اعتكف ثلاثة ، وإن كان أقل استأنف ـ إلى أن قال ـ : السابع لم يعين واشترط على ربه ولم يشترط التتابع ، فإنه يخرج مع العارض ثم يستأنف إن كان قد اعتكف أقل من ثلاثة أيام ، وإلا بنى إن كان الواجب أزيد وأتى بالباقي إن كان ثلاثة فما زاد ، وإلا فثلاثة » ومثله عن التذكرة إلى غير ذلك من عباراتهم المنافية لما ذكرناه من عدم وجوب القضاء والاستئناف في صورة الاشتراط.

١٩٧

اللهم إلا أن يكون وجه ذلك أن المفروض في هذه العبارات الخروج عند المعارض الذي هو أعم من العذر الشرعي المسوغ للخروج عن المسجد لا عن أصل الاعتكاف وإن خرج عنه في بعض الأحوال المقتضية له بطول المكث ونحوه مما يبطل به أصل الاعتكاف ، بخلاف العارض المشترط الخروج عنده هنا ، قال : « فان المراد به اشتراط الخروج عن الاعتكاف معه ، فلا ينافي بقاء وجوب الاعتكاف معه الذي هو مقتضى النذر في غير وقت العارض ، فيعتكف حينئذ ما بقي إن كان قد اعتكف ثلاثة فصاعدا ، أو يأتي بالجميع إن نقص اعتكافه عن ثلاثة كالمطلق الذي لم يشترط فيه » إلا أن الظاهر إتيان البحث السابق في مشروط التتابع ، وقد قلنا هناك بقوة وجوب مراعاته ، فيأتي حينئذ بعدد متتابع فيه ، كما أن المتجه حينئذ في المعين وجوب اعتكاف ما بقي منه بعد زوال العارض ، نعم يسقط قضاؤه مع فرض استيفائه ( استيعابه ظ ) مع احتمال وجوبه أيضا ، لأن الشرط انما سوغ الخروج عند العارض ، فهو حينئذ كالعذر الطاري المسوغ لقطع الاعتكاف الذي لا ينافي وجوب القضاء ، اللهم إلا أن يقال إن مقتضى اشتراطه في عقد النذر وجوب الاعتكاف المتزلزل عليه ، فمتى اختار الفسخ لم يكن خطاب عليه ، والفرض استيعاب العارض الوقت ، فتأمل جيدا فإن المسألة من المشكلات التي هي غير محررة في كلام الأصحاب.

وكيف كان فقد عرفت أن المختار أن للمعتكف الاشتراط المزبور من غير فرق بين تعليقه على العارض وغيره ، وإن لم يعلقه ( إلا ظ ) على المشيئة ، وهو حينئذ كاشتراط الخيار في العقد ، ولذا عامله هذه المعاملة شيخنا في رسالته ، فقال : يستحب أن يشترط الفسخ متى أراده أو إذا حصل صاد أو مانع ، ولو اشترط أمرا مخصوصا وإن لم يكن مانعا أو مانعا لذلك أو في يوم مخصوص أو وقت مخصوص من ليل أو نهار عمل عليه ، ويندفع عنه حينئذ قضاء الوجوب‌

١٩٨

ووجوب الإتمام ولو كان واجبا بنذر ونحوه ، فإن أخذ الشرط حين إجراء الصيغة فلا قضاء ، وإلا لزم ، ويعتبر المقارنة في الشرط لعقد النية ، فلا أثر للمتقدم والمتأخر المنفصل ، وفي اعتباره قبل الدخول في الثالث وجه ، والأقوى خلافه ، ولو شرط ثم أسقط حكم شرطه فكمن لم يشترط ، ولا فرق في المعارض بين الإلهي وغيره إلى غير ذلك من الأحكام التي تعرف جريانها هنا بأدنى ملاحظة لأحكام اشتراط الخيار في العقد ، كما انه يعلم أيضا بأدنى نظر انه لا يجوز التعليق في الاعتكاف ، فمتى علقه بطل إلا إذا كان شرطا مؤكدا ، كقوله : إن كان راجحا أو كان المحل مسجدا ونحو ذلك على حسب ما قيل أو احتمل في العقد أيضا ، فتأمل جيدا.

نعم الظاهر انه لا يصح له اشتراط الفسخ في اعتكافه لاعتكاف عبده أو ولده أو اعتكاف آخر له كما صرح به شيخنا أيضا في رسالته ، وإن كان ربما يحتمل بناء على جواز مثله في الخيار المشترك معه في أن مدركه‌ عموم « المؤمنون عند شروطهم » الذي هو المنشأ في كثير من الأحكام السابقة وغيرها ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فلا فرق في جواز الرجوع مع الشرط بين اليوم الثالث وغيره لما عرفته من إطلاق النص والفتوى ، خلافا للمحكي عن الشيخ فلم يجوز الرجوع مع الشرط في اليوم الثالث ، لأنه واجب من قبل الله ، فلا يفيد الشرط جواز الرجوع فيه ، ولا ريب في ضعفه ، للإطلاق السابق الذي لا ينافيه كون الوجوب من قبل الله بعد أن كان الرجوع به من الله أيضا ، كما هو واضح.

وأما أحكامه فقسمان : الأول انما يحرم على المعتكف ستة : النساء لمسا بشهوة وتقبيلا كذلك وجماعا في الفرجين إجماعا بقسميه في الأخير‌

١٩٩

وكتابا (١) وسنة (٢) مستفيضة أو متواترة على المشهور في الأولين ، بل لا أجد فيه خلافا سوى ما عساه تشعر به عبارة التهذيب فإنه ـ بعد أن‌ روى (٣) عن الصادق عليه‌السلام في الحسن « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر وشمر المئزر وطوى فراشه فقال بعضهم : واعتزل النساء فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أما اعتزال النساء فلا » ـ قال : فإنه أراد بذلك مخالطتهن ومجالستهن ومحادثتهن دون الجماع ، والذي يحرم على المعتكف من ذلك الجماع دون غيره ، مع احتمال إرادته الحصر الإضافي ، فلا يشمل اللمس والتقبيل بشهوة ، ولعله لذا نسبه في المدارك إلى قطع الأصحاب الذي بملاحظته يقوى إرادة ما يعم ذلك من المباشرة في الآية ، كما أنه يقوى حينئذ إرادة الإبطال أيضا من النهي فيها لا التحريم خاصة ، وإن اختاره الفاضل في المختلف وغيره ، لأنه هو معنى النهي ، ولا تنافي بين التحريم والصحة هنا ، لكن فيه أنه وإن لم يكن منافاة عقلا ضرورة كون النهي عن أمر خارج في العبادة لكن الفهم العرفي كاف في ذلك ، كالنهي عن التكفير في الصلاة ونحوها على أن تأديتهما مع الجماع الذي لا إشكال في البطلان به بعبارة واحدة أمارة أخرى على أن الجميع من سنخ واحد ، كما أن حكمهم بالبطلان به ـ وليس في الآية ولا في السنة تصريح به ، بل أقصاهما النهي والكفارة ، وهما أعم من البطلان ـ لا وجه له إلا الفهم العرفي المشترك بين الجميع الحاصل بملاحظة أن الشارع في أمثال ذلك معظم نظره بيان الصحة والفساد ، بل قد لا يكون مقصوده إلا ذلك وإن‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٨٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الاعتكاف.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٢.

٢٠٠