جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وضربت له قبة من شعر وشمر المئزر وطوى فراشه » بل‌ قوله عليه‌السلام في خبر داود ابن سرحان (١) : « لا اعتكاف إلا في العشر الأواخر من شهر رمضان » على ما رواه في التهذيب ، وفي الكافي « إلا في العشرين » أظهر منهما ، والأمر في ذلك سهل.

وكيف كان فـ ( لا يصح إلا من مكلف مسلم ) لما قدمناه سابقا من اشتراط الايمان في صحة العبادة فضلا عن الإسلام ، لاعتبار نية القربة فيها المعلوم عدم قابلية غير المؤمن ـ الذي لا يقربه من ربه شي‌ء بعد فقد الايمان ـ لها على أنك قد عرفت كون الاعتكاف اللبث المنافي لوجوب خروج الكافر من المسجد بل الظاهر اعتبار ذلك ابتداء واستدامة لما عرفت ، فلو ارتد في الأثناء بطل اعتكافه وإن رجع كالصوم ، بل أولى هنا للنهي حينئذ عن اللبث في المسجد ، خلافا للمحكي عن المبسوط فلا يبطل وفاقا للشافعي ، وأما التكليف فلا ريب في اعتباره من حيث العقل ، لمعلومية عدم وقوعها من فاقده حتى السكران ولو بالأثناء أما من حيث البلوغ ففيه البحث السابق في عبادة الصبي بالنسبة إلى الشرعية والتمرينية ، فمن الغريب جزم المصنف هنا بعدم الصحة مع حكمه بها سابقا ، في الصوم اللهم إلا أن يريد بالتكليف ما لا يشمله اتكالا على ما ذكره سابقا ، أو يريد نفي الصحة الشرعية هنا وإثبات الصحة التمرينية هناك كما اختاره في المسالك وأومأ إليه في التذكرة ، قال : « ويصح اعتكاف الصبي المميز كما يصح صومه ، وهل هو مشروع أو تأديب إشكال » أو غير ذلك.

وكيف كان فـ ( شرائطه ستة ) :

الأول النية المعلوم اعتبارها في جميع العبادات التي منها الاعتكاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٥.

١٦١

بلا خلاف ، لأصالتها في كل مأمور به ، والبحث في حقيقتها واعتبار الوجه وغير ذلك من مباحثها قد تقدم سابقا وقد ذكرنا هناك أنه انما يجب في نحوه نية القربة خاصة ، وحينئذ فلا إشكال هنا من سائر الوجوه كما اعترف به ثاني الشهيدين في المحكي من فوائده على القواعد ، قال : « ولو لم يعتبر الوجه كما هو الوجه استرحنا من الإشكالات ، وكان معنى وجوب الثالث على القول به ترتب الثواب على فعله والعقاب على تركه بخلاف غيره » وهو كما ترى في غاية الجودة ، إلا أن ظاهره اختصاص ذلك في القول بعدم اعتبار الوجه ، أما عليه فلا ، وهو ظاهر عبارة المتن ، ولذا قال المصنف بناء على ما اختاره من اعتبار نية الوجه : ثم إن كان منذورا مثلا نواه واجبا ، وإن كان مندوبا نوى الندب ، فان مضى له يومان وجب الثالث على الأظهر وجدد نية الوجوب ضرورة ظهوره في وجوب التجديد ، لكن في المدارك بناء على اعتبار الوجه إن كان منذورا نوى الوجوب ، وإن كان مندوبا وقلنا إن المندوب لا يجب بالدخول فيه ولو مضى اليومان نوى الندب ، وإن قلنا إنه يجب بالشروع أو بمضي اليومين نواه على هذا الوجه ، بمعنى أن يكون الجزء الأول منه أو اليومان الأولان على وجه الندب والباقي على وجه الوجوب ، ولا يتوجه عليه ما ذكره الشارح من تقدم النية على محلها ، لأن محلها أول الفعل ، غاية الأمر ان يقع على وجهين مختلفين ، فيجب بنيتهما كذلك ، ولو اقتصر على نية اليومين الأولين ندبا ثم جدد نية الثالث على وجه الوجوب كما هو ظاهر عبارة المصنف كان جيدا ، ولا يرد عليه ما ذكره بعضهم من أن الثلاثة أقل ما يتحقق به هذه العبادة ، وهي متصلة شرعا ، ومن شأن العبادة المتصلة أن لا يفرق النية على أجزائها بل يقع بنية واحدة ، لأنا نقول إنه لا دليل على امتناع التفريق ، بل قد اعترف الأصحاب بجوازه في الوضوء ونحوه فليكن هنا كذلك ، وأما ما قيل ـ من أن الاعتكاف لما كان الأصل فيه الندب ،

١٦٢

والوجوب لا يتعلق به إلا لأمر عارض جاز أن ينوي فيه أجمع ما هو مقتضى الأصل ، وهو الندب ـ فضعيف جدا ، إذ لا معنى لإيقاع الفعل الواجب على وجه الندب ، كما هو واضح. قلت : بل هو قوي جدا ، ضرورة كون اعتكاف الثلاثة عبادة واحدة ، ولا توصف قبل الوقوع إلا بالندب ، فهو حينئذ وجهها ، والوجوب الحاصل بعد مضي اليومين أو بالشروع انما هو من أحكام تلك العبادة المندوبة لا من وجوه أمرها ، ضرورة كونه بأمر آخر غير الأمر بأصل الاعتكاف لا يعتبر في صحته أصل النية فضلا عن نية الوجه ، ومن هنا لو أتم المكلف الفعل بالاستدامة على مقتضى الأمر الأول غير عالم بالأمر الثاني صح فعله قطعا ، ومن ذلك وجوب إتمام النافلة بعد الشروع فيها بناء على حرمة القطع ، ولو سلم فالمتجه التجديد كما ذكره المصنف ، إذ لا معنى لقصد امتثاله قبل تحقق الخطاب به ضرورة عدم الوجوب إلا بعد مضي اليومين ، كما أن المتجه على التجديد وقوع النية عند الغروب من اليوم الثاني على وجه لا تنافي المقارنة عرفا من غير اعتبار التقدم اليسير والتأخر ، لكن في الروضة ظاهر الأصحاب أن النية للفعل المستغرق للزمان المعين كالوقوف بعرفة يكون بعد تحققه لا قبله ، وربما نوقش بخلو جزء من الزمان حينئذ من النية ، فالأولى تقدمها بما لا ينافي المقارنة عرفا مع فرض تعذر المقارنة حقيقة ، وفيه أنه مناف لاعتبار المقارنة المستفادة من الأدلة ، ودعوى صدق تحققها عرفا في نحو ما نحن فيه بذلك لا تختص بالتقدم ، ومن هنا كان التحقيق ما قدمناه ، ولعل ذلك كله بناء على أن النية الاخطار ، أما على الداعي فالأمر سهل بل يمكن استمراره على وجه تحصل به المقارنة حقيقة ، لكن في رسالة شيخنا انه يكفي التبييت هنا على الأقوى ، وهو مشكل ، كما أن ما فيها من أنه يجوز نيته عن الميت والأموات دون الأحياء لا يخلو من إشكال أيضا ، بل الأقوى جوازه ، ولا يقدح ما فيه من النيابة في الصوم التبعي كالصلاة للطواف ونحوها‌

١٦٣

نعم ما فيها ـ من أنه لا يجوز العدول بالنية عن اعتكاف إلى غيره مع اختلافهما في الوجوب والندب واتحادهما ، ولا عن نيابة ميت إلى غيره إلا إذا نوى واجبا فبان عدم وجوبه ، فإن الأقوى جواز العدول إلى الندب ، ولا يخلو من إشكال ـ جيد جدا ، والله أعلم ، ولا يخفى عليك جريان هذا البحث في نية أصل الاعتكاف أيضا ، بل في كل عبادة مستغرقة للزمان.

الشرط الثاني الصوم ، فلا يصح بدونه بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لقول الصادق عليه‌السلام في حسن الحلبي (١) وغيره : « لا اعتكاف إلا بصوم » وهو المراد من الوجوب في‌ قول علي بن الحسين عليهما‌السلام في خبر الزهري (٢) : « وصوم الاعتكاف واجب » بل النصوص (٣) بذلك في غاية الاستفاضة إن لم تكن متواترة ، فلا حاجة إلى الاستدلال عليه مضافا إلى ذلك بما في التذكرة من أن الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فلم يمكن بمجرده قربة كالوقوف بعرفة ، فاحتاج إلى اشتراط الصوم ، لأنه بمجرده لا يكون عبادة ، إذ هو كما ترى ، نعم الظاهر أن شرطية الصوم له كشرطية الطهارة للصلاة لا يعتبر فيه الوقوع له ، بل يكفي في صحة الاعتكاف وقوعه معه وإن لم يكن له سواء كان الصوم واجبا أو ندبا رمضان كان أو غيره بلا خلاف أجده فيه ، بل عن المعتبر أن عليه فتوى علمائنا ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك في الجملة وقوعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رمضان (٤) لكن في التذكرة بعد أن ذكر نحو ذلك قال : ولو نذر اعتكاف ثلاثة أيام مثلا وجب عليه الصوم بالنذر ، لأن ما لا يتم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الاعتكاف.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الاعتكاف.

١٦٤

الواجب إلا به يكون واجبا ، وأشكل إطلاقه في المدارك بأن النذر المطلق يصح إيقاعه في صوم شهر رمضان أو واجب غيره ، فلا يكون نذر الاعتكاف مقتضيا لوجوب الصوم ، كما أن من نذر الصلاة فاتفق كونه متطهرا في الوقت الذي تعلق به النذر لم يفتقر إلى طهارة مستأنفة ، نعم لو كان الوقت معينا ولم يكن صومه واجبا اتجه وجوب صومه للنذر أيضا ، فلو نذر المعتكف صياما وصام تلك الأيام عن النذر أجزأ ، وفيه أن المراد بقرينة كلامه سابقا ولاحقا الوجوب ولو تخييرا أو عند توقف الواجب عليه ، ولذا قال بعد ذلك : « لو نذر اعتكافا وأطلق فاعتكف في أيام أراد صومها استحبابا جاز » وهو كالصريح فيما قلناه ، لكن جزم في المسالك بالمنع من جعل صوم الاعتكاف المنذور مندوبا ، للتنافي بين وجوب المضي على الاعتكاف الواجب وجواز قطع الصوم المندوب ، وفي المدارك هو جيد إن ثبت وجوب المضي في المطلق الاعتكاف الواجب وإن كان مطلقا ، لكنه غير واضح كما ستقف عليه ، أما بدون ذلك فيتجه جواز إيقاع المنذور المطلق في الصوم المستحب ، أما المعين فلا ريب في امتناع وقوعه كذلك ، لما ذكره من التنافي بين وجوب المضي فيه وجواز قطع الصوم ، وفيه انه لا منافاة بين الاستحباب الذاتي والوجوب الغيري ، فيتجه حينئذ وقوع المعين فيه فضلا عن المطلق بعد اختلاف الجهة كالفريضة في المسجد ونحوها ، وهو واضح.

وعلى كل حال فقد ظهر لك أن الاعتكاف لا يصح إلا في زمان يصح فيه الصوم ممن يصح منه الصوم فان اعتكف في العيدين مثلا لم يصح ، وكذا لو اعتكفت الحائض والنفساء بل والمسافر بناء على عدم مشروعية الصوم منه ، لكن في المختلف عن ابن بابويه والشيخ وابن إدريس استحباب الاعتكاف في السفر محتجين عليه بأنه عبادة مطلوبة للشارع لا يشترط فيها الحضر ، فجاز‌

١٦٥

صومها في السفر ، وفيه أنه يكفي في اشتراط الحضر فيه اشتراطه في شرطه ، وهو الصوم ، فلا وجه للاستدلال بإطلاق مشروعيته على جواز الصوم له سفرا ، ضرورة أنه لا يتوقف أحد في اعتبار استفادة ذلك من نحو‌ قوله عليه‌السلام : « لا اعتكاف إلا بصوم » وقوله عليه‌السلام (١) : « ليس من البر الصيام في السفر » الذي هو بمعنى قوله : « لا صيام إلا في الحضر » واحتمال العكس بأن يقال لا اعتكاف إلا بصيام ، والاعتكاف للإطلاق مشروع سفرا وحضرا فالصوم له كذلك كما ترى ، ولا أقل من أن يكون ذلك من التعارض من وجه ، ولا ريب في كون الترجيح لما ذكرنا لوجوه ، والله أعلم.

الشرط الثالث العدد لا يصح الاعتكاف إلا ثلاثة أيام بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وقال الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٢) وموثق عمر بن يزيد (٣) : « لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام » كقوله عليه‌السلام في خبر داود بن سرحان (٤) : « الاعتكاف ثلاثة أيام يعني السنة » وأبو جعفر عليه‌السلام في خبر أبي عبيدة (٥) : « من اعتكف ثلاثة أيام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء زاد ثلاثة أيام أخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يتم ثلاثة أيام » إلى غير ذلك ، وحينئذ فمن نذر مثلا اعتكافا مطلقا وجب عليه أن يأتي بثلاثة لأنها أقل ما يتحقق به المطلق المزبور ، وله أن يأتي بالأزيد ، وليس من الأقل المتحقق في ضمن الأكثر الذي لا يتصور امتثاله بالزائد عليه بعد حصوله بالأقل ، ضرورة عدم الامتثال في الفرض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٣.

١٦٦

بالأقل الذي صار بعد فرض قصد المكلف بالزائد جزءا كاليوم من الثلاثة ، ولا ينافيه وجوب القضاء له خاصة لو أفسده ، بل قد يحتمل عدم اعتبار القصد أخيرا له بعد القصد الأول ، لعدم الدليل على مشروعيته كذلك وكذا إذا وجب عليه قضاء يوم من اعتكاف اعتكف ثلاثة بضم يومين ندبا له ليصح له قضاء ذلك اليوم وإن كان هو مخيرا في جعله أولا أو أخيرا أو وسطا على إشكال في الأخير والوسط دون الأول ، لكن ستعرف دفعه.

والمراد باليوم لغة وعرفا من طلوع الفجر إلى غروب الحمرة المشرقية ، فلا تدخل الليلة الأولى في الثلاثة فضلا عن الأخيرة كما بيناه غير مرة ، وربما يشهد له في الجملة قوله تعالى (١) ( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً ) فالنية حينئذ عنده لا عندها ، وإن كان الأحوط الجمع بينهما ، خلافا للمحكي عن الفاضل وإن كنا لم نتحققه ، ولثاني الشهيدين فأدخلا الليلة الأولى فيها ، وجعلاها محل النية قياسا على الليلتين في الأثناء ، وفيه أن دخولهما لا لكونهما من مسمى اليوم ، بل لظهور النص والفتوى في استمرار حكم الاعتكاف ، وانه لا انقطاع فيه ، ولذلك دخلا ، فهو قياس مع الفارق ، ومن ذلك يعلم أن الاعتكاف بدونهن يبطل ، فلو نذره كذلك كان باطلا ، خلافا لما ستعرفه من الشيخ ، وأضعف منه القول بدخول الليلة الرابعة التي يشهد اللغة والعرف بخلافها ، بل خبر عمر بن يزيد (٢) المتقدم في كتاب الصوم صريح في نسبة هذا القول للمغيرية وأنهم كذبوا فيه ، نعم له إدخالها في الاعتكاف ، لأنه لأحد لأكثره ، أما بعضها‌

__________________

(١) سورة الحاقة ـ الآية ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٧ إلا أنه لم يتقدم ذكره.

١٦٧

أو بعض اليوم ففي بغية شيخنا الميل فيه إلى العدم ، وعليه إبداء الفرق ، وهل يجزي التلفيق في صدق الثلاثة؟ وجهان بل قولان ، أقواهما نعم كما في غير المقام وفاقا للفاضل في المختلف للصدق عرفا ، وخلافا للمحكي عن المبسوط وغيره ، ولو نذر اعتكاف شهر معين أو غير معين دخل فيه الليلة الأولى ، لأنها من مسماه ، ويجزيه ما بين الهلالين ، تم أو نقص ويقوى الاجتزاء بالعدد أيضا إن شاء ، لصدق الامتثال بكل منهما عرفا ، كما انه يجزيه التتابع والتفريق ثلاثة في الشهر المطلق والأيام للصدق كما في الصوم ، إلا أنه لا يخلو من نظر لما تقدم في نذر الصوم ، بل صرح شيخنا في بغيته بوجوب التتابع في نذر الشهر ، إلا أن ظاهرهم في المقام عدمه ، بل في المختلف أن له التفريق يوما فيوما على ان يضم لكل يوم من النذر يومين ندبا ، قال : لا يقال : لا يصح الصوم تطوعا ممن عليه صوم واجب لأنا نقول : نمنع أولا ذلك على ما اختاره المرتضى ، سلمنا لكن نذر الاعتكاف لا يستلزم نذر الصوم ، فجاز ان يعتكف في نهار رمضان فينوي أول نهار من اعتكاف المنذور وباقية ندبا أو بالعكس ، اما لو كان نذره اعتكاف شهر معين وجب مراعاة التوالي ، لتوقف الصدق عليه ، فلو أفطر يوما منه بعد مضي ثلاثة مثلا أثم وأتم ما بقي وقضى ما فات كما ستعرفه عند تعرض المصنف له.

وكذا تعرف الحكم في من ابتدأ اعتكافا مندوبا وأن مختار المصنف وجماعة بل هو المشهور أنه كان بالخيار في المضي فيه وفي الرجوع ، فان اعتكف يومين وجب الثالث ، وكذا لو اعتكف ثلاثة ثم اعتكف يومين بعدها وجب السادس وقد عرفت الحال فيما لو دخل في الاعتكاف قبل العيد بيوم أو يومين أي أنه لم يصح لما تقدم من أنه لا اعتكاف إلا بصوم ، وهو محرم في العيد أما لو دخل في اعتكاف خامسة العيد مثلا أو نذره ففي صحة ما عدا العيد وبطلانه‌

١٦٨

وجهان ، هذا وقد عرفت الحال فيما لو نذر اعتكاف ثلاثة أيام من دون لياليها وأنه غير جائز لكن قيل والقائل الشيخ في المحكي عن خلافه : يصح ذلك ، قال : « إذا قال : لله علي ان أعتكف ثلاثة أيام لزمه ذلك ، فان قال : متتابعا لزمه بينها ليلتان ، وإن لم يشترط المتابعة جاز أن يعتكف نهار ثلاثة أيام بلا لياليهن » وقال في هذا الكتاب أيضا قبل ذلك : « لا يكون الاعتكاف بأقل من ثلاثة أيام وليلتين » وقال في المحكي عن مبسوطة : « إن نذر أياما بعينها لم يدخل فيها لياليها إلا أن يقول العشر الأواخر وما يجري مجراه ، فيلزمه حينئذ الليالي ، لأن الاسم يقع عليه » ثم قال في موضع آخر منه : « وإذا نذر اعتكاف ثلاثة أيام وجب عليه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من أول يوم إلى بعد الغروب من ذلك اليوم ، وكذلك اليوم الثاني والثالث ، هذا إذا أطلقه ، وإن شرط التتابع لزمه الثلاثة الأيام بينها ليلتان ».

وقيل والقائل المشهور بل لا أجد فيه خلافا إلا ممن عرفت لا يصح لأنه بخروجه عن قيد الاعتكاف في الليل يبطل اعتكاف ذلك اليوم لكونه حينئذ اعتكافا أقل من ثلاثة أيام ، قيل : وإلى ذلك يرجع ما في المختلف من الاستدلال على المطلوب بأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام ، ومفهوم ذلك دخول الليالي ، لكن قد يناقش بأنه لا يتم في الزائد على الثلاثة ، فالأولى حمل كلامه على إرادة فهم الاتصال على وجه يدخل فيه الليالي المتوسطة من أمثال هذا التركيب في إقامة العشر والثلاثة الحيض وغيرهما ، كما أن الأولى الاستدلال عليه أيضا بما يأتي من النصوص (١) الدالة على وجوب الكفارة على من جامع ليلا وهو معتكف ، ضرورة عدم الداعي إلى حملها على اشتراط التتابع ، كل ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب الاعتكاف.

١٦٩

مضافا إلى إمكان دعوى الإجماع على المطلوب ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( لا يجب التوالي فيما نذره من الزيادة على الثلاثة بل ) له ذلك والتفريق ، لصدق الامتثال بكل منهما ؛ وإن كان في التفريق لا بد أن يعتكف ثلاثة ثلاثة فما زاد لما عرفت من أن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة ، بل قد سمعت ما في المختلف من التفريق يوما يوما ، وإن كان هو خروج عن محل البحث ، ضرورة إرادة التفريق في المنذور نفسه من غير ضم غيره معه ، ومثله يأتي في نذر الثلاثة كما صرح به شيخنا في بغية الطالب ، لعدم تصور الفرق بينها وبين العشرة في ذلك ، هذا.

ولا يخفى عليك أنه لا يجب عليه التوالي إلا إذا نذر مثلا على وجه يظهر منه كما إذا اشترط التتابع لفظا بأن قال عشرة أيام متتابعة أو معنى كما لو نذر شهر رجب أو العشرة الأخيرة منه أو من شهر رمضان مثلا ونحو ذلك مما يتوقف صدق الاسم عليه ، فإنه حينئذ يجب مراعاته ، فلو أخل به لعذر احتمل البناء لما تقدم في الصوم ، واحتمل العدم اقتصارا على المتيقن ، وإن كان عمدا استأنف على الأقوى ، مع احتمال البناء كما تعرف الحال فيه إن شاء الله عند تعرض المصنف له ، والله أعلم.

الشرط الرابع المكان ، فلا يصح الاعتكاف إلا في مسجد إجماعا بقسميه ونصوصا (١). مستفيضة أو متواترة ، إنما الكلام في تعيينه ، فعن ابن أبي عقيل أنه كل مسجد ، قال : « الاعتكاف عند آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون إلا في المساجد ، وأفضله المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسجد الكوفة ، وسائر الأمصار مساجد الجماعات » وعن جماعة أنه لا يكون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف.

١٧٠

إلا في جامع وهو ظاهر في المصنف بل والمفيد وإن عبر بالمسجد الأعظم إلا أن الظاهر إرادة الجامع منه في مقابلة مسجد السوق والقبيلة ونحوهما من المساجد التي لم يجتمع فيها المعظم من أهل البلد ، ولا أعدت لذلك ، ولو فرض تعدد الجامع في البلد الواحد جاز في كل واحد منها ، وليس له التشريك بينها في الاعتكاف الواحد مع عدم الاتصال ، أما معه بالباب مثلا ففي بغية الأستاذ لا تبعد الصحة ، وفيه أن ذلك غير مجد بعد فرض ظهور الأدلة في اعتبار الوحدة المفروض عدم تحققها بذلك في المفروض ، وقال في محكي المنتهى : « لو فصل الجامع الذي يجوز الاعتكاف فيه بحاجز جاز أن يعتكف بكل منهما ، لأنه بعضه ، وليس له أن يخرج عن أحدهما إلا لضرورة أو حاجة من حر أو برد أو غير ذلك ، أما لو كان أحد الموضعين ملاصقا للآخر بحيث لا يحتاج إلى المشي في غيرهما جاز أن يخرج من أحدهما إلى الآخر » قلت : المدار على صدق الوحدة عرفا كما لا يخفى ، ولو تعذر المكث في محل النية فالأقوى البطلان مع احتمال الاكتفاء بجامع آخر.

وقيل والقائل الأكثر كما في الدروس لا يصح إلا في المساجد الأربعة : مسجد مكة ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسجد الجامع بالكوفة ومسجد البصرة بل في محكي المنتهى أنه المشهور ، بل عن المرتضى والشيخ وابن زهرة والطبرسي الإجماع عليه وقائل وهو علي بن بابويه جعل موضعه أي الأخير مسجد المدائن الذي روي (١) ان الحسن عليه‌السلام صلى فيه ، وفيه أن المتجه حينئذ ضمه مع الأربعة كما عن المقنع لا إبداله وذلك لأن ضابطه عندهم كل مسجد جمع فيه نبي أو وصي نبي جماعة ومن المعلوم أن الأربعة قد تحقق فيها ذلك ، والخامس على فرض صحة الرواية المزبورة يلحق بها‌

__________________

(١) مرآة العقول ج ٣ ص ٢٤٦.

١٧١

وكذا مسجد براثا ، بل منهم كالشيخ في المبسوط والمرتضى في الانتصار على ما قيل من قال باعتبار كون الجماعة في جمعة ولم يتحقق ذلك في غير الأربعة ، بل لعل المتحقق خلافه ، وربما قيل : إن هذا فائدة الخلاف في اعتبار الجماعة والجمعة.

وعلى كل حال فالأقوى الثاني ، لقول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) : « لا اعتكاف إلا بصوم في مسجد الجامع » وقوله عليه‌السلام في خبر ابن سنان (٢) : « لا يصلح العكوف في غيرها يعني مكة إلا ان يكون مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في مسجد من مساجد الجماعة » وقوله عن أبيه عليهما‌السلام في خبر علي ابن غراب (٣) : « المعتكف يعتكف في المسجد الجامع » ومثله خبر علي بن عمران (٤) وفي‌ خبر أبي الصباح (٥) عنه عليه‌السلام أيضا « انه سئل عن الاعتكاف في رمضان في العشر الأواخر قال : إن عليا عليه‌السلام كان يقول : لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام أو في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في مسجد جماعة » وفي‌ حسن الحلبي أو صحيحه (٦) انه سئل أيضا « عن الاعتكاف فقال : لا يصلح الاعتكاف إلا في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مسجد الكوفة أو مسجد جماعة ، وتصوم ما دمت معتكفا » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر داود بن سرحان (٧) : « لا أرى الاعتكاف إلا في مسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في مسجد جامع » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر يحيى بن العلاء الرازي (٨) : « لا يكون اعتكاف إلا في مسجد جماعة » بل لعله يرجع إلى ذلك‌ المرسل (٩) عن المقنع أنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٧.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١٠.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٦.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٢.

١٧٢

روي « لا اعتكاف إلا في مسجد يصلي فيه الجمعة بإمام وخطبة » والمرسل (١) عن ابن الجنيد انه « روى ابن سعيد يعني الحسين عن أبي عبد الله عليه‌السلام جواز الاعتكاف في كل مسجد صلى فيه إمام عدل صلاة الجمعة جماعة ، وفي المسجد الذي تصلى فيه الجمعة بإمام وخطبة » ضرورة كونه هو الجامع غالبا ، كمعلومية كونه المراد من مسجد الجماعة ، إذ لم يقل أحد باعتبارها في الاعتكاف ، وهي جميعا كما ترى متفقة على خلاف المحكي عن ابن أبي عقيل ، وأما‌ موثق عمر بن يزيد (٢) الذي هو دليل المشهور « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة قد صلى فيه إمام عدل صلاة جماعة ، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكة » فيمكن إرادة الأعم من المعصوم من الامام العدل فيه ، بل لعله على التوصيف ظاهر في غيره ، وكان وجه اعتبار صلاة العدل فيه جماعة ان السائل سأل عن مساجد بغداد ، وهي ليست مساجد أهل الحق ، إلا انه يجري عليها الحكم إذا اتخذها أهل الحق لصلاتهم وجوامع لهم ، فيكون المراد انه لا عبرة بمسجد الجماعة لهم إذا لم يصل فيها إمام عدل جماعة على وجه يكون جامعا لهم ولغيرهم ، للشك في الاكتفاء بغير ذلك وإن سمي جامعا باعتبار اتخاذ غير أهل الحق كذلك ، وعلى كل حال فهو مع اتحاده وكونه من قسم الموثق واحتماله ما عرفت قاصر عن معارضته لما تقدم ، سيما بعد اعتضاده بظاهر الآية (٣) بناء على دلالتها على مشروعيته بكل مسجد ، ودعوى المرتضى والشيخ وغيرهما الإجماع لم نتحققها ، بل لعل المتحقق خلافه ، فلا ريب في ان الأقوى ما قلناه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٨.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ١٨٣.

١٧٣

ويلحق بالمساجد حيطانها التي من جانبها وآبارها التي فيها وسطوحها ومنائرها ومنابرها ومحاريبها وسراديبها ، كبيت الطشت في الكوفة ونحو ذلك مما هو مبني على الدخول ما لم يعلم الخروج ، بلا خلاف سنائدها ونحوها مما هو مبني على الخروج ما لم يعلم دخولها ، والإضافات إلى الجوامع حكمها حكمها مع اتخاذها اتخاذها ، وقبر مسلم بن عقيل عليه‌السلام وهاني ونحوهما ليس من المسجد على الظاهر ، وما في الدروس من تحقق الخروج عن المسجد بالصعود على السطح لعدم دخوله في مسماه واضح الضعف ، نعم لو فرض قصد المعتكف الاعتكاف في الأسفل دونه جاء فيه البحث السابق الذي قد ذكرنا فيه عدم الدليل على وجوب اعتبار ذلك ولو قصده ، ولعله لذا قطع في محكي المنتهى بعدم الفرق بين السطوح وغيرها من غير نقل خلاف فيه ، بل حكاه عن الفقهاء الأربعة ، واستحسنه في المدارك ، وهو كذلك ، ولو اعتكف فبان عدم المسجدية أو الجامعية بطل اعتكافه ، ولا يصلحه لحوقهما.

ولو تعذر إتمام اللبث في المكان الذي اعتكف فيه لخروجه عن قابلية اللبث فيه بأحد الأسباب احتمل الاكتفاء باللبث في غيره ، بل ربما قيل به ، وهو مشكل ولو زال المانع احتمل البناء ، والأقوى الاستئناف مع فرض الوجوب.

وتعلم الجامعية بالبينة والشياع وحكم الحاكم ونحو ذلك ، بل يمكن الاكتفاء بخبر العدل.

وكيف كان فـ ( يستوي في ذلك الرجل والمرأة ) بلا خلاف أجده بيننا ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه كما ادعاه في الحدائق ، لأصالة الاشتراك ، وظاهر بعض النصوص (١) في وجه ، من غير فرق بين المكان الذي أعدته للصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١ و ٢.

١٧٤

في بيتها وغيره عندنا ، نعم خالف بعض العامة في ذلك فجوز لها الاعتكاف في مسجد بيتها ، ولعله لذلك نبه المصنف على التسوية المزبورة.

والحضرات المشرفة وإن كانت أفضل من الجوامع لا تلحق بها هنا ، وكذا رواقها وإن كان متخذا للعبادة لا لاحكام البناء ، وجميع بقاع جامع الاعتكاف على حد سواء للمعتكف ، بل لا يبعد عدم اعتبار خصوص بعضها وإن خصصه المعتكف ، نعم قد يقال باعتباره لو خصصه الولي كحاكم الشرع على إشكال فيه ينشأ من عموم ولايته على هذا النحو ، والله أعلم.

الشرط الخامس إذن من له ولاية على المنع من الاعتكاف كالمولى لعبده مدبرا كان أو أم ولد أو غيرهما والزوج لزوجته بلا خلاف أجده فيه معللين له بملكية السيد والزوج منافعهما ، فلا يجوز صرفهما لها بغير الاذن ، بل في الدروس إضافة الولد والأجير والضيف لهم ، ولم نعثر هنا على دليل بالخصوص نعم قد تقدم في الصوم المندوب ما له مدخلية في المقام مع فرض الاعتكاف فيه ، وإن كان هو أخص من المقام ، ضرورة أعمية الاعتكاف من ذلك حتى في الصوم المندوب الذي يفرض حصول الاذن فيه ، فليس للمسألة مدرك على الظاهر سوى الملكية المزبورة على الوجه المزبور التي يمكن تسليمها في العبد وفي الأجير دون الزوجة ودون الولد ، ولذا لم يعتبر اذنه بعض مشايخنا ، لكن اعتبر عدم منعه ، وكذا الوالدة ، وفيه أيضا بحث ، وأما الضيف فليس مبنى المنع فيه إلا حيثية الصوم قطعا ، فينبغي أن يدور الاعتكاف مدارها ، وبالجملة قد تقدم في الصوم ما له نفع في المقام ، ومنه يعلم الحال في الاعتكاف الواجب المعين والمطلق ، واعتبار الاذن فيه وعدمها.

وعلى كل حال فـ ( إذا أذن من له ولاية كان له المنع قبل الشروع ) للأصل السالم عن المعارض وبعده ما لم يمض يومان بناء على وجوبه حينئذ‌

١٧٥

أو يكون واجبا بنذر وشبهه وقلنا بوجوب إتمامه بالشروع ، لعدم طاعة المخلوق في معصية الخالق ، ولو قلنا بوجوب الاعتكاف بالشروع مطلقا لم يكن له الرجوع معه ، ولعله لهذا أطلق الشيخ في المحكي عن مبسوطة وخلافه عدم جواز الرجوع مع الاذن ، وإلا كان واضح الفساد.

فرعان بل فروع : الأول المملوك المبعض إذا هاياه مولاه جاز له الاعتكاف في أيامه التي تسع أقل الاعتكاف وإن لم يأذن له مولاه لعدم السلطان له فيها ، نعم قيده بعضهم بما إذا لم يضعفه في نوبة السيد ، وزاد آخر ولم يكن الاعتكاف في صوم مندوب إن منعنا المبعض من الصوم بغير إذن المولى وهو جيد في الأخير ، أما الأول فيمكن المناقشة فيه بإطلاق ما دل على أن له الانتفاع في أيامه ، ولذا لم يعتبر في نوبة السيد التقييد بما إذا لم يضعفه في نوبته ، فتأمل جيدا.

الثاني إذا أعتق العبد في أثناء الاعتكاف الذي لم يؤذن فيه لم يلزمه المضي فيه إلا أن يكون شرع باذن المولى وحصل سبب الوجوب ، خلافا للمحكي عن الشيخ فأوجب الإتمام عليه فيه وإن لم يكن أصله مأذونا فيه ، وهو غريب.

الثالث المكاتب الذي لم يتحرر منه شي‌ء حكمه حكم القن في عدم جواز الاعتكاف بغير الإذن ، للأصل وغيره ، نعم لو كان اعتكافه اكتسابا اتجه عدم اعتبار الإذن حينئذ ، لأنه مقتضى الكتابة ، فما عن الشافعي من عدم اعتبارها مطلقا واضح الضعف ، كإطلاق المحكي عن الشيخ من اعتبارها ، والمتجه ما ذكرناه.

الشرط السادس استدامة اللبث بنفسه قائما أو جالسا أو مضطجعا أو راكبا مستقرا أو مضطربا في المسجد بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع‌

١٧٦

بقسميه عليه ، بل في المدارك وغيرها نسبته إلى العلماء كافة ، لأنه معنى الاعتكاف ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر داود بن سرحان (١) في حديث : « ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد الجامع إلا لحاجة لا بد منها ، ثم لا يجلس حتى يرجع ، والمرأة مثل ذلك » وزاد في‌ صحيح الحلبي (٢) « ولا يخرج في شي‌ء إلا لجنازة أو يعود مريضا ، ولا يجلس حتى يرجع » وقال له عليه‌السلام أيضا داود بن سرحان (٣) في خبره الآخر : « كنت بالمدينة في شهر رمضان فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني أريد أن أعتكف فما ذا أقول؟ وماذا أفرض على نفسي؟ فقال : لا تخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها ، ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك » وقال أيضا في خبر ابن سنان (٤) : « لا يخرج المعتكف من المسجد إلا في حاجة » وفي صحيحه (٥) أيضا « ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا إلى الجمعة أو جنازة أو غائط » بل‌ خبر ميمون بن مهران (٦) ظاهر في معلومية منافاة الاعتكاف للخروج في ذلك الزمان ، قال : « كنت جالسا عند الحسن بن علي عليهما‌السلام فأتاه رجل فقال له : يا بن رسول الله إن فلانا له علي مال ويريد أن يحبسني فقال : والله ما عندي مال فأقضي عنك ، فقال : فكلمه ، فلبس عليه‌السلام لعله فقلت له : يا بن رسول الله أنسيت اعتكافك؟ فقال له : لم أنس ولكني سمعت أبي يحدث عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنما عبد الله عز وجل تسعة آلاف سنة صائما نهاره قائما ليله » إلى غير ذلك من النصوص المعتضدة بما سمعت.

وحينئذ فلو خرج لغير الأسباب المبيحة بطل اعتكافه ضرورة ظهور‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الاعتكاف ـ الحديث ٤.

١٧٧

جميع ما عرفت في الشرطية التي ينعدم بانعدامها المشروط ، بل جزم المصنف هنا ومحكي المعتبر بأنه لا فرق في ذلك بين أن يكون طوعا خرج أو كرها مستدلا عليه في الأخير بأن الاعتكاف لبث في المسجد ، فيكون الخروج منافيا له لكن قد يناقش بظهور الأدلة في كون المنافي له شرعا الأول ، خصوصا بملاحظة ما دل على الرخصة في الخروج فيه للحاجة ونحوها مما هو أسهل من الإكراه بمراتب ولذا قال الفاضل في تذكرته : « انما يبطل بالخروج اختيارا ، وأما إذا خرج كرها فلا إلا مع طول الزمان بحيث يخرج عن كونه معتكفا » ونفى عنه البأس في المدارك للأصل وحديث رفع القلم ، وعدم توجه النهي إلى هذا الفعل ، وفي المختلف قال الشيخ في المبسوط : « لو أخرجه السلطان ظلما لم يفسد اعتكافه ، وانما يقضي ما يفوته ، وإن أخرجه لإقامة حد أو استيفاء دين يقدر على قضائه بطل ، لأنه أحوج إليه ، فكان مختارا في خروجه » وقال في موضع آخر : « كل من خرج من الاعتكاف لعذر أو غير عذر وجب عليه قضائه ، ومتى خرج قبل أن يمضي ثلاثة استأنف ، وهذا هو الأقرب إن طال الزمان ، أما مع عدمه فلا ، لنا أن الاعتكاف هو اللبث ، ولا يتحقق ماهيته مع الخروج ، احتج بأنه عذر فلا ينافي الاعتكاف كاليسير ، والجواب أن اليسير لا عبرة به إذا كان لعذر بخلاف المتطاول » قلت : لا صراحة في كلام الشيخ في المتطاول الماحي للصورة التي لا تفاوت فيه بين العذر وغيره ، فيرجع إلى ما ذكرنا ، كالمحكي عن المنتهى ، وكذا ينساق من الأدلة أن المنافي الخروج بجملته لا بعضو من أعضائه ، وبه قطع المصنف والفاضل في محكي المعتبر والمنتهى من غير نقل خلاف مستدلا عليه في الأخير بما رواه‌ الجمهور (١) عن عائشة « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه‌

__________________

(١) سنن أبي داود ج ١ ص ٥٧٤ « باب المعتكف يدخل بيته لحاجته » الحديث ١.

١٧٨

فأرجله » وهو مع عدم كونه من طرقنا لا ظهور فيه بخروج رأسه من المسجد ، والتحقيق أن المدار على صدق اللبث فيه ، فما عن المسالك من منافاة خروج الجزء له كالكل كما ترى ، نعم ليس له أن ينوي الاعتكاف ببعض بدنه ، ومن الاضطرار الكون في الخارج لغبار ونحوه ، والجهل بالحكم ليس عذرا بخلاف الموضوع.

وكيف كان فان لم تمض ثلاثة أيام التي هي أقل الاعتكاف قبل خروجه الاختياري بطل الاعتكاف من أصله وإن مضت فهي صحيحة إلى حين خروجه ، ولو كان قد نذر اعتكاف أيام معينة كالعشر الأواخر من شهر رمضان ونحوها ثم خرج قبل إكمالها بطل الجميع إن شرط التتابع ويستأنفها بأن يقضيها متتابعة في وجه ، لعدم الإتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب شرعا ولو بسبب النذر الذي لم يخرج عن عهدته بذلك كما عن المبسوط والدروس ، لكن في المختلف « ولقائل أن يقول : لا يجب الاستيناف وإن وجب عليه التمام متتابعا وكفارة خلف النذر ، لأن الأيام التي اعتكفها متتابعة وقعد على الوجه المأمور به ، فيخرج بها عن العهدة ، ولا يجب عليه استينافها ، لأن غيرها لم يتناوله النذر ، بخلاف ما إذا أطلق النذر وشرط التتابع فإنه هنا يجب الاستيناف ، لأنه أخل بصيغة النذر ، فوجب عليه استئنافه من رأس ، بخلاف صورة النزاع ، والفرق بينهما بتعين الزمان هناك وإطلاقه هنا لكل صوم متتابع ، فأي زمان كان الإطلاق يصح أن يجعله المنذور ، وأما مع التعيين فلا يمكنه البدلية » ووافقه ثاني الشهيدين في المحكي عن مسالكه ، وفيه أن التتابع في البعض غير كاف في الامتثال بعد أن فرض اعتباره في الجميع في صيغة واحدة ، وعدم إمكان استئنافها نفسها باعتبار تعيينها لا ينافي وجوب القضاء ، كما إذا لم يأت بها أجمع ، وكما إذا نذر صوم يوم بعينه ، فالمتجه حينئذ ما ذكره المصنف ، نعم ظاهره اعتبار اشتراط التتابع لفظا ، وعدم الاكتفاء عن ذلك بتعين الأيام الذي يلزمه التتابع كما هو صريح‌

١٧٩

الدروس ، وهو كذلك ، ضرورة كون التتابع فيه كالتتابع في صوم شهر رمضان لا يفسد ما سبق ، ولا ينافي ما يأتي ، وانما يجب قضاؤه نفسه ، هذا.

وقد ظهر لك من النصوص السابقة مضافا إلى الإجماع بقسميه أنه يجوز له الخروج في الجملة للأمور الضرورية شرعا أو عقلا أو عادة كقضاء الحاجة من بول أو غائط ، نعم عن الأصحاب أنهم أوجبوا تحري أقرب الطرق إلى موضع قضاء الحاجة ، ونحوه يجري في غيره ، وفي محكي المنتهى « لو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها إلا أن يجد بها غضاضة بأن يكون من أهل الاحتشام ، فيجد المشقة بدخولها لأجل الناس ، فيعدل عنها حينئذ إلى منزله وإن كان أبعد » بل قال : « ولو بذل له صديق منزله وهو قريب من المسجد لقضاء حاجة لم يلزمه الإجابة ، لما فيه من المشقة بالاحتشام ، بل يمضي إلى منزله » وربما ظهر من جماعة الميل اليه ، واستشكله في الحدائق بأنه تقييد لإطلاق النص بغير دليل ، وما ذكره من التعليل لا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية مشيرا بذلك إلى الغضاضة ونحوها كما صرح به بعد ذلك ، وفيه أن مرجع هذا التعليل ونحوه إلى ما علم من نفي الحرج في الدين وسهولة الملة وسماحتها ونحو ذلك ، ولا فرق بين البعيد والقريب ما لم يخرج عن مسمى الاعتكاف.

ومنها أيضا الاغتسال من الجنابة والاستحاضة ونحوهما مما هو فيها واجب ، نعم في الحدائق « لا يجوز الخروج للغسل المندوب » واستحسنه في المدارك بعد أن حكاه عن التذكرة ، وقد يناقش بعموم ما دل على الحث عليه في الجمعة (١) ونحوها ، وإن كان بينهما تعارض العموم من وجه ، لكن قد يؤيد ذلك بما دل على الخروج للحاجة المتعلقة به وبغيره ، ضرورة إطلاق الأدلة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الأغسال المسنونة من كتاب الطهارة.

١٨٠