جواهر الكلام - ج ١٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

السفر ، كقول الصادق عليه‌السلام (١) : « إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر » وقوله عليه‌السلام في صحيح ليث (٢) : « إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر » وكذا ما فرقناه بينهما في كثير السفر إذا أقام في بلده خمسة أيام بالتقصير في صلاة النهار دون الصوم وصلاة الليل ، ووافقهما عليه ابن البراج أيضا على ما قيل ، ولا ريب في ضعفه ، وأضعف من ذلك القول الذي أشار إليه المصنف وإن حكى ابن إدريس الإجماع عليه ، إلا أنا لم نتحققه ، بل المتحقق خلافه ، وهو قول الشيخ في النهاية والمبسوط بالفرق بينهما في صيد التجارة بالإتمام في الصلاة والقصر في الصوم ، إذ لا دليل عليه ، فضلا عن مخالفته للأدلة ، وخبر زرارة (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصيد اليوم واليومين والثلاثة أيقصر الصلاة؟ قال : لا إلا أن يشيع الرجل أخاه في الدين ، وان التصيد مسير باطل لا تقصر الصلاة فيه » صريح فيما لا يقوله الخصم من كون التصيد مسير باطل فلا ينبغي أن يفطر فيه أيضا ، ضرورة عدم كون الصيد للتجارة من ذلك ، وإلا لم يكن للإفطار فيه وجه ، وهو واضح ، كخبر عبيد ولده (٤) « سألته أيضا عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصر أو يتم؟ قال : يتم لأنه ليس بمصير حق » نعم في‌ مرسل عمران بن محمد بن عمران القمي (٥) عنه عليه‌السلام « قلت : الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين يتم أو يقصر؟ فقال : إن خرج لقوته وقوت عياله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٧ وهو خبر ابن بكير كما تقدم في كتاب الصلاة ج ١٤ ص ٢٥٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

١٤١

فليفطر ويقصر ، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة » وفي‌ خبر حماد بن عثمان (١) عنه عليه‌السلام في قول الله عز وجل (٢) ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) قال : « الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين ، وليس لهما أن يقصرا في الصلاة » وفيه أن المراد بالفضول في الأول صيد اللهو لا صيد التجارة الداخل في صيد القوت للعيال ، على أن ظاهره القصر فيهما معا لا خصوص الصوم وانه الذي لا تحل له الميتة صائد المعصية لا التجارة التي لو كانت منهما لم يكن وجه للفرق بين الصوم والصلاة ، ويمكن قراءة الأخير بكسر الصاد بمعنى الملوك الصيد المتكبرين ، والباغي منهم الخارج على الامام كما فسر به ، والعادي باللص في مرسل البزنطي (٣) وغيره ، لكن في‌ خبر حماد بن عثمان (٤) عنه عليه‌السلام « الباغي طالب الصيد والسارق ليس لهما أن يقصرا من الصلاة وليس لهما إذا اضطرا إلى الميتة أن يأكلاها ، ولا يحل لهما ما يحل للناس » وفي المحكي عن‌ معاني الأخبار وروي (٥) « ان العادي اللص ، والباغي الذي يبغي الصيد لا يجوز لهما التقصير في السفر ولا أكل الميتة في الاضطرار » إلا أنهما كما ترى ظاهران في صيد اللهو ، ولذلك لم يكن محلا للرخصة الشرعية التي منها الإفطار في السفر ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢ وفيه‌ « قال : الباغي الصيد والعادي السارق. إلخ ».

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٦٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٥ من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤ من كتاب الأطعمة والأشربة.

١٤٢

لا صيد التجارة الذي هو محل البحث ، كما هو واضح ، فبان لك من ذلك كله ضعف القول المزبور وغيره مما فرق فيه بين الصلاة والصوم ، مضافا إلى ما تقدم في كتاب الصلاة مما له نفع في هذه المسائل ، ولقد أطنب الفاضل في المختلف في الاستدلال على فساد القول المزبور ، لكنه بما لا ينطبق على أصول الإمامية وقواعدها ، ولا ينافي ثبوت الحكم للدليل لو كان ، فلاحظ وتأمل.

نعم ربما فرق بينهما في الأماكن الأربعة التي يخير فيها في الصلاة بين القصر والإتمام ، بل الإتمام أفضل ، بخلاف الصوم ، فان الظاهر عدم جوازه فيها ، وفي المسالك انه يمكن تكلف الغناء عن استثنائها من الكلية في المتن ونحوه بالتزام كون القصر فيها واجبا تخييريا بينه وبين التمام ، لأن الواجب وهو الصلاة لا تتأدى إلا بأحدهما ، فيكون واحد منهما موصوفا بالوجوب كالجهر والإخفات في بسملة القراءة الواجبة الإخفاتية ، وحينئذ ينطبق على الكلية المزبورة في المتن وغيره ، قلت : ويمكن أن يقال إن المراد منها كون السفر الموجب للإفطار موجبا للقصر وورود أحد الأماكن ليس من السفر في شي‌ء ، وأما الفرق بينهما في المسألة السابقة وهي فيما لو سافر بعد الزوال فقد يقال بعدم اندراجه في الكلية ، لأنه باعتبار كونه بعد الزوال كالذي قد فرغ منه ، فلا يؤثر السفر فيه ، كما يومي اليه حكم القادم من السفر ، فإنه قبل الزوال يصوم إذا لم يكن قد تناول شيئا ، بخلافه بعد الزوال ، بل وناسي النية ونحوه مما يشعر يكون الزوال المنتهى الخطاب بالصوم ، فلا يندرج حينئذ في الكلية ، أو يلتزم تخصيصها بذلك للأدلة السابقة والله أعلم.

والأمر سهل بعد وضوح الحكم كوضوح الحكم في المسألة الرابعة التي هي أن الذين يلزمهم إتمام الصلاة سفرا يلزمهم الصوم ، وهم الذين سفرهم أكثر من حضرهم ما لم يحصل لأحدهم إقامة عشرة أيام في بلده أو غيره بلا خلاف‌

١٤٣

أجده في شي‌ء من ذلك ، ولا إشكال كما عرفته في كتاب الصلاة ولكن في المتن هنا قيل : يلزمهم الإتمام مطلقا عدا المكاري ولم نظفر بقائله كما اعترف به في المدارك ، وعن بعض شراح النافع ولعل المصنف سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف.

والخامسة أيضا ، وهي لا يفطر المسافر حتى يتوارى عنه جدران بلده أو يخفى عليه أذانه بعد الإحاطة بما قدمناه في كتاب الصلاة فيها وفي غيرها من الفروع المتعلقة في المقام فلو أفطر قبل ذلك كان عليه مع القضاء الكفارة بلا خلاف ولا إشكال ، وانما الكلام في ظهور سقوطها لو استمر على السفر حتى خفي عليه ذلك ، وقد قدمنا تحقيق الحال فيها وفي نظائرها ، والله أعلم.

المسألة السادسة الهم والشيخ والمرأة الكبيرة وذو العطاش بضم العين ، وهو داء لا يروى صاحبه ذكر أو أنثى يفطرون في رمضان بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه من غير فرق بين عجزهم عنه وبين كونه شاقا عليهم مشقة لا تتحمل ، نعم يتصدقون عن كل يوم بمد من طعام وفاقا للصدوقين وبني أبي عقيل والجنيد والبراج وسعيد والشيخ والفاضل وغيرهم على ما حكي عن بعضهم ، لصحيح ابن مسلم (١) « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمد من طعام ، ولا قضاء عليهما ، فان لم يقدرا فلا شي‌ء عليهما » ونحوه‌ صحيحه الآخر (٢) عنه عليه‌السلام أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٢ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

١٤٤

إلا انه قال : « ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمدين من طعام » وجمع بينهما الشيخ في محكي التهذيب والنهاية والمبسوط بالفداء بمدين ، فان لم يقدرا فبمد ولا شاهد له ، وأولى منه ما في الاستبصار من الجمع بالندب ، لأصالة البراءة من الزائد ، ولأنه مقتضى التخيير بين الأقل والأكثر الذي هو مقتضى الأمر بهما في الخبرين ، مضافا إلى قصور الخبر المزبور عن تقييد غيره مما تضمن المد من الصحيح الأول والصحيح الآخر (١) أيضا في قول الله عز وجل (٢) ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) قال : « الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش » بناء على أن طعام المسكين » مد ، وخبر عبد الملك بن عتبة الهاشمي (٣) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة التي تضعف عن الصوم في شهر رمضان فقال : تصدق في كل يوم بمد من حنطة » وصحيح عبد الله بن سنان (٤) أو حسنه « سألته عن رجل كبير ضعف عن صوم شهر رمضان قال : يتصدق كل يوم بما يجزي من طعام مسكين » ومرسل ابن بكير (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) قال : « الذين يطيقون الصوم فأصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد » وخبر أبي بصير (٦) المروي عن تفسير العياشي سألته عن قول الله عز وجل : ( وَعَلَى الَّذِينَ ) إلى آخره ، قال : « هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض » وخبر رفاعة المروي (٧) عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الآية أيضا ، قال : « المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير » وصحيح الحلبي (٨) عن أبي عبد الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٣.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٨٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٧.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٩.

١٤٥

عليه‌السلام سألته « عن رجل كبير يضعف عن صوم شهر رمضان فقال : يتصدق بما يجزي عنه من طعام مسكين لكل يوم مد » وخبر الكرخي (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيخ لا يستطيع القيام إلى الخلاء لضعفه ولا يمكنه الركوع والسجود فقال : ليؤم برأسه ـ إلى ان قال ـ : قلت : فالصيام قال : إذا كان في ذلك الحد فقد وضع الله عنه ، فان كانت له مقدرة فصدقة مد من طعام بدل كل يوم أحب إلى ، وإن لم يكن له يسار فلا شي‌ء عليه » وخبر أبي بصير (٢) المروي عن نوادر ابن عيسى ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أيما رجل كبر لا يستطيع الصيام أو مرض من رمضان إلى رمضان ثم صح فإنما عليه لكل يوم أفطر فيه فدية طعام ، وهو مد لكل مسكين » وخبر الآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « قلت له : الشيخ الكبير لا يقدر أن يصوم فقال : يصوم عنه بعض ولده ، قلت : فان لم يكن له ولد ، قال : فأدنى قرابته ، قلت : فان لم يكن له قرابة ، قال : يتصدق بمد في كل يوم ، فان لم يكن عنده شي‌ء فليس عليه » وخبر داود بن فرقد عن أبيه (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « فيمن ترك الصيام قال : إن كان من مرض فإذا بري‌ء فليقضه ، وإن كان من كبر أو عطش فبدل كل يوم مد » وهي ـ مع اشتمالها جميعا على المد ـ دالة على أصل الحكم ، وما في الأخير منها ـ من صيام الولد أو غيره من ذوي القرابة عن الشيخ ـ لم أجد عاملا بما يظهر منه من وجوب ذلك في زمن حياته ، نعم حمله الشيخ كالشهيد في الدروس على الندب ، ولا بأس به وإن كان مستغربا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الصوم المندوب ـ الحديث ١ وفيه « فيمن ترك صوم ثلاثة أيام في كل شهر. إلخ ».

١٤٦

ثم على كل حال إن أمكن القضاء بعد ذلك وجب كما نص عليه الفاضل وغيره‌ لعموم « من فاتته » ولأن بعض أفراد ذي العطاش أو جميعها من المرض الواجب قضاء ما فات به في الآية والرواية ، لكن قد يشكل ذلك فيما لو صام عنه ولده أو ذو قرابته بناء على مشروعيته ، فتأمل وإلا سقط ولا ينافي ذلك نفيه في صحيح ابن مسلم (١) السابق بعد انصرافه حتى في ذي العطاش الذي هو كانقلاب المزاج لحرارة في الكبد أو غيره إلى الغالب من عدم التمكن من القضاء ، اللهم إلا ان يقال إن نفيه ظاهر في حال التمكن منه لا عدمه ، وفيه أنه يمكن ان يكون المراد منه بيان أن حالهما عدم القضاء كالأداء أو بيان عدم القضاء عنهما لو ماتا أو نحو ذلك ، فتأمل ، بل الظاهر وجوب الفدية أيضا مع ذلك كما نص عليه في الدروس ، لإطلاق ما دل عليهما ، وليس ذلك جمعا بين العوضين ، إذ يمكن بل لعله الظاهر كون الفدية كفارة عن صورة تعمد إفطار اليوم لا قضائه ، فلا ينافيه حينئذ غلبة عدم التمكن من القضاء حتى ينزل إطلاقها عليه ، مع أنه لا دليل عليه ولا داعي إليه ، فتأمل ، اللهم إلا أن يقال إن لفظ الاجزاء في صحيح الحلبي (٢) وحسن ابن سنان (٣) ظاهر في إرادة الاجزاء عن الصوم وكونه بدلا عنه ، وفيه ان مقتضاه الاكتفاء بالصدقة وسقوط القضاء لا العكس الذي هو محل البحث ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فقد بان لك الدليل على أصل الحكم وفروعه ولكن ومع ذلك قيل والقائل المفيد وعلم الهدى وسلار وابنا زهرة وإدريس والفاضل في المختلف إن عجز الشيخ والشيخة سقط التكفير كما يسقط الصوم ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٥.

١٤٧

وإن أطاقاه بمشقة كفرا بل حكى الثاني والرابع منهم الإجماع عليه للأصل ، ومناسبة الفدية لكون المفدي مقدورا عليه في الجملة ، وصحيح ابن مسلم (١) المتقدم في تفسير الآية الظاهر في كون الشيخ الكبير وذوي العطاش يطيقان الصوم ومن المعلوم أن منهما من لا يطيقه ، فلا بد من حمله على تخصيص الفدية بمن أطاقه منهما دون من لا يطيقه ، وظهور جملة مما دل عليها في المطيق كالمتضمن لفظ « يضعف » و « لا حرج » ونحوهما ، إلا أن الجميع كما ترى ، ضرورة انقطاع الأصل ببعض ما عرفت فضلا عن جميعه ، ومنع المناسبة المزبورة أو عدم صلاحيتها دليلا ، ومعارضة صحيح ابن مسلم بغيره من الأخبار الواردة في تفسير الآية التي ادعى بعضهم أنها منسوخة ، فتخرج حينئذ عما نحن فيه ، وعدم انحصار الدليل في الخبر الظاهر في ذلك بعد تسليم ظهوره ، وأما الإجماع المحكي فهو موهون بما عرفت ، ومن الغريب الاستدلال بقوله عليه‌السلام : « فان لم يقدرا » في صحيح ابن مسلم (٢) وقوله عليه‌السلام : « فان كانت له قدرة » في خبر الكرخي (٣) بتخيل كون المراد القدرة على الصوم ، وهو كما ترى ، إذ لا ريب في ظهورهما أو صراحتهما خصوصا خبر الكرخي في إرادة القدرة على الصدقة ، كما هو واضح.

ومن هنا قال المصنف والأول أظهر لكن ظاهره أن القول المزبور انما هو في الشيخين دون ذي العطاش ، وليس كذلك ، فان سلار على ما حكي عنه قد نفى الفدية عنه مع اليأس من برئه ، وعن ابن حمزة التوقف فيها وإن كانا محجوجين بما عرفت ، بل قطع المحقق الشيخ علي بعدم القضاء والفدية على المأيوس من برئه فاتفق أنه بري‌ء ، واختاره المقداد في التنقيح ، كما أن الفاضل في محكي التلخيص نفى الفدية عنه واقتصر على القضاء في المأيوس الذي بري‌ء ، وقطع في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١٠.

١٤٨

جملة من كتبه تبعا للمفيد وعلم الهدى وابن إدريس بعدم الفدية عليه إذا كان مرجو الزوال ، خلافا لما عن الشيخ وسلار وابني حمزة والبراج ، لأنه مريض ، فيجري عليه حكم غيره من المرضى ، ومال اليه بعض متأخري المتأخرين ، قال : لأن صحيحي ابن مسلم (١) باشتمالهما على نفي القضاء ظاهران في المأيوس من برئه ، وخبري ابن بكير (٢) وأبي بصير (٣) ضعيفان مع الإرسال والإضمار ، وخبر داود (٤) مع ضعفه ربما يظهر منه أيضا عدم التمكن من القضاء ، فيبقى حينئذ على حكم المرضى الذي هو القضاء خاصة مع البرء دون الفداء ، ومنه يعلم ما في كلام المحقق الشيخ علي ، فان العطاش مرض ، وقد دل النص والإجماع على أن المريض إذا بري‌ء وجب عليه القضاء من غير مدخلية لليأس وعدمه ، وخبرا محمد بن مسلم لا يصلحان لاستثنائه من الأمراض ، كما أن خبر داود لا يدل على خروجه عن إطلاق المرض ، وفي الروضة الأقوى أن حكمه كالشيخين يسقطان عنه مع العجز رأسا ، وانما تجب الفدية مع المشقة ، وفيه أن إطلاق النصوص المزبورة يدفع ذلك كله ، ضرورة اقتضائه وجوب الفدية عليه على كل حال ، وأما القضاء فإنه وإن نفي في صحيحي ابن مسلم إلا أنه محمول على ما إذا لم يتمكن رأسا ، فلا ينافي ما دل على وجوبه من‌ عموم « من فاتته » و ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ) (٥) ونحوه بناء على أن العطاش منه ، ولا بأس باختصاص هذا المرض من بين الأمراض بوجوب الفداء ، ولو قيل بعدم اندراجه في إطلاق المرض كما عساه يشعر به خبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الصوم المندوب ـ الحديث ١.

(٥) سورة البقرة ـ الآية ١٨٠.

١٤٩

داود لم يكن إشكال في الحكم أصلا ، إذ وجوب الفداء لهذه النصوص ، ووجوب القضاء‌ لعموم « من فاتته » الذي لا يحكم عليه ما في الصحيحين المتقدمين بعد أن عرفت الحال فيه ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك أن الحكم في المقام ونظائره من العزائم لا الرخص ، ضرورة كون المدرك فيه نفي الحرج ونحوه مما يقضي برفع التكليف ، مضافا إلى لفظ الوضع ونحوه في‌ خبر الكرخي ، فما عساه يظهر من قوله : « لا جناح » ونحوه من ارتفاع التعيين خاصة لا بد من إرجاعه إلى ما ذكرنا ، سيما مع عدم ظهور خلاف فيه من أحد من أصحابنا عدا ما عساه يظهر من المحدث البحراني ، فجعل المرتفع التعيين خاصة ، تمسكا بظاهر قوله تعالى (١) ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) إلى قوله ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) بعد كون المراد منه الشيخ وذا العطاش ، لكنه كما ترى ، إذ الآية ـ مع فرض كونها غير منسوخة بقوله (٢) ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقد عرفت ما ورد فيها من النصوص ، مضافا إلى ما رواه علي بن إبراهيم (٣) في المحكي من تفسيره بسنده إلى الصادق عليه‌السلام من تفسيرها بمن مرض في شهر رمضان فأفطر ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء رمضان فعليه أن يقضي ويتصدق لكل يوم بمد من طعام ـ يمكن حملها على استقلال قوله : ( وَأَنْ تَصُومُوا ) عن الأول ، لبيان كون الصوم خيرا من السفر المقتضي للإفطار ، أو أن المراد كونه خيرا في نفسه ، فلا ينافي وجوبه ، أو غير ذلك مما لا ينافي ما ذكرنا ، والله أعلم.

هذا والتحقيق أن المراد بالشيخ والشيخة من توقف بقاء صحة مزاجهما‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٨٠.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٨١.

(٣) تفسير علي بن إبراهيم ص ٥٦.

١٥٠

على تعدد الأكل والشرب في أزمنة متقاربة للاستبانة لا لمزيد الهضم ، ولا ريب في منافاته للصوم ، بل هما حينئذ كذي العطاش بعد عدم تمكنهما من الأكل دفعة ولو لضعف في الهاضمة ، ولا من عدم الأكل مطلقا ، وليس المراد من الشيخ الذي ذكره في القاموس من استبانت فيه السن ، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمرة أو إلى الثمانين المعلوم بلوغ أكثر الناس هذا السن مع وجوب الصوم عليهم ، بل المراد منه ما ذكرنا كما يعرف ذلك من كلام الأطباء ، وبه يعرف وجه حكمة الشرع في إفطارهما ، بل وإلحاق ذي العطاش بهما ، والله العالم.

المسألة السابعة لا خلاف في أن الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن يجوز لهما الإفطار في رمضان مع التضرر بالصوم ، لعموم أدلة نفي الحرج والضرار وإرادة الله تعالى اليسر وسهولة الملة ونحو ذلك ، وخصوص‌ صحيح ابن مسلم (١) « سمعت الباقر عليه‌السلام يقول : الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ، لأنهما لا يطيقان الصوم ، وعليهما أن يتصدق كل واحد منهما في كل يوم يفطران بمد من طعام ، وعليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد » وغيره مع الإجماع بقسميه ولكن من الصحيح المزبور ـ مع‌ عموم « من فاتته » وغيره مما قيل من أولويته من المرض وإن كان فيه ما فيه ـ يستفاد أنهما تقضيان وجوبا ، مضافا إلى‌ مكاتبة ابن مهزيار (٢) المروية عن المستطرفات ، قال : « كتبت إليه أسأله يعني علي بن محمد عليه‌السلام ان امرأة ترضع ولدها وغير ولدها في شهر رمضان فيشتد عليها الصيام وهي ترضع حتى غشي عليها ولا تقدر على الصيام ترضع وتفطر وتقضي صيامها إذا أمكنها أو تدع الرضاع وتصوم ، فان كانت ممن لا يمكنها اتخاذ من يرضع ولدها فكيف تصنع؟ فكتب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٣.

١٥١

إن كان يمكنها اتخاذ ظئر استرضعت لولدها وأتمت صيامها ، وإن كان ذلك لا يمكنها أفطرت وأرضعت ولدها وقضت صيامها متى ما أمكنها » المنجبرة بعمل المعظم ، بل في الروضة القطع به.

فما عن علي بن بابويه وسلار ـ من عدم وجوب القضاء ، بل لعله الظاهر من عدم تعرض الصدوق وعلم الهدى له أيضا ـ لا وجه له ، بل يجب مع القضاء الصدقة عن كل يوم بمد من طعام إذا كان الخوف على الولد بلا خلاف أجده فيه ، للصحيح المتقدم ، اما إذا كان الخوف على النفس خاصة فمن ظاهر الأكثر كما في شرح الأصبهاني ، والمشهور كما في المسالك وغيرها عدم وجوب الفدية حينئذ ، بل في الدروس ما يقضي بكونه ظاهر الأصحاب ، قال : لو خافت المرأة على نفسها دون ولدها ففي وجوب الفدية وجهان ، والرواية مطلقة ، ولكن الأصحاب قيدوا بالولد ، وإن كان قد يناقش فيه بأن المحكي عنه التصريح بذلك فخر الإسلام في شرحي الإرشاد والقواعد وبعض من تأخر عنه ، مع ان المحكي عن الصدوقين وابن حمزة والفاضلين في المعتبر والتذكرة والمنتهى والتحرير القطع بتساوي الخوفين في وجوب الفدية ، كما في ان المصنف هنا وفي النافع وعن الشيخ في الخلاف والفاضل في الإرشاد والتلخيص والتبصرة ذكروا الإطلاق الشامل لهما ، ولعله لا يخلو من قوة ، لإطلاق الصحيح المزبور ، بل قد يشعر قوله فيه : « لا يطيقان » بكون الخوف على النفس ، ودعوى انسياق الخوف عن الولد من قلة اللبن ممنوعة ، لإمكان كون ذلك داعيا لشدة ضعفها ، مع انها لا تتم في الحامل ومكاتبة ابن مهزيار لا دلالة فيها على نفي الفداء مع كون الخوف على النفس خاصة على وجه يصلح لتقييد الإطلاق المزبور ، وإن ظنه بعض متأخري المتأخرين ، وعدم الفداء في الذي يخشى على نفسه المرض أو زيادته المندرج فيه ما نحن فيه‌

١٥٢

للأصل ، لا لأن ذلك يقتضي عدم الفداء ، ضرورة انه إنما يقتضي الإفطار خاصة فلا بأس حينئذ بالفرق بين أفراده في وجوب الفدية مع القضاء وعدمه ، وليس فيه تخلف المعلول عن العلة ، كما هو واضح ، إذ لا مانع من عدم وجوب الفداء في ذلك ـ بخلاف ما نحن فيه ـ عقلا ولا شرعا ، ودعوى ان عدمه في الأقوى يقتضي عدم وجوبه في الأدنى الذي هو محل البحث واضحة المنع ، ضرورة عدم مجال للعقل في إدراك ذلك هنا بحيث يصلح لرفع اليد عن ظاهر الدليل الشرعي ، كدعوى أن الظهور يرفعه إعراض المشهور عنه ، لما عرفت من عدم تحقق الشهرة بل لعل المتحقق خلافها ، على أنها بنفسها هنا لا تصلح لذلك ، فلا ريب حينئذ في أن الأقوى والأحوط وجوب الفداء مطلقا.

نعم قد يقال باختصاصه فيما إذا كان الخوف على النفس أو الولد للجوع أو العطش أو نحو هما ، لا لغير ذلك كمرض الولد وإشرافه على المرض المحوج إلى شرب دواء ونحوه ، فإنه وإن وجب الإفطار والقضاء حينئذ ، لكن لا فدية للأصل مع عدم شمول الخبر له ، لكنه مع ذلك لا يخلو من نظر في الجملة.

ولا فرق في المرتضع بين كونه ولدا من النسب والرضاع ، ولا في المرضعة بين المستأجرة والمتبرعة ، لكن في الروضة لو قام غيرها مقامها متبرعا أو أخذ مثلها أو أنقص امتنع الإفطار ، وقد تبع في ذلك الدروس قال : لا فرق بين المستأجرة والمتبرعة إلا أن يقوم غيرها مقامها ، ثم قال : لو قام غير الأم مقامها روعي صلاح الطفل ، فان تم بالأجنبية فالأقرب عدم جواز الإفطار ، هذا مع التبرع أو لتساوي الأجرتين ، ولو طلبت الأجنبية زيادة لم يجب تسليمة إليها وجاز الإفطار ، وهل يجب هذا الإفطار عليها؟ الظاهر نعم مع ظن الضرر بتركه ، وانه لا يدفعه إلا ارتضاعها ، ومبنى ذلك كله وجوب المقدمة التي لا تقتضي ضررا أو قبحا والمكاتبة المزبورة ، بل جزم في الحدائق بوجوب الاستيجار وإن زادت‌

١٥٣

الأجرة على المثل مع الإمكان لإطلاق المكاتبة ، ولقائل أن يقول بعدم وجوب الاستيجار مطلقا ، بل عدم وجوب إجابة المتبرع ، تمسكا بإطلاق الصحيح (١) المزبور الذي تقصر المكاتبة المزبورة عن تقييده سندا وغيره ، خصوصا مع اعتضاده بإطلاق الفتوى ، ولا استبعاد في الرخصة شرعا لخصوص المرتضعة كائنة ما كانت في ذلك ، بل ربما يؤيده تصريح هؤلاء بعدم الفرق بين الأم والمتبرعة ، مع أن مقتضى ذلك عدم جواز التبرع لها مع اقتضائه الإفطار حتى الأم إذا كان للولد أب.

وعلى كل حال فالفدية من مالهما وإن كان لهما زوج وكان الولد له ، لأنها بدل إفطارهما وإن كان بسبب الولد ، ولأن لذلك هو مقتضى قوله عليه‌السلام : « عليهما » في النص كما هو واضح ، هذا ، وقد ذكرنا سابقا أن هذا الإفطار الذي منشأه الضرر ونحوه عزيمة لا رخصة كما صرح به في الروضة تبعا لما سمعت التصريح به في الدروس.

المسألة الثامنة من نام في رمضان واستمر نومه فان كان نوى الصوم فلا قضاء عليه ، وإن لم ينو فعليه القضاء ، والمجنون والمغمى عليه لا يجب على أحدهما القضاء سواء عرض ذلك أياما أو بعض يوم ، وسواء سبقت منهما نية أو لم تسبق وسواء عولج بما يفطر أو لم يعالج على الأشبه كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا.

المسألة التاسعة قد قطع الأصحاب كما في المدارك بأن من يسوغ له الإفطار كالمريض والمسافر وغيرهما في شهر رمضان يكره له التملي من الطعام والشراب بل في المسالك نفي الخلاف عنه في غير ذي العطاش احتراما لشهر رمضان ، واقتصارا في الرخصة على مقدار الضرورة ، قال ابن سنان (٢) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٥.

١٥٤

« سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه جارية له أفله أن يصيب منها بالنهار؟ فقال : سبحان الله أما يعرف هذا حرمة شهر رمضان ، ان له في الليل سبحا طويلا ، قلت : أليس له أن يأكل ويشرب ويقصر؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى قد رخص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة وتخفيفا لموضع التعب والنصب ووعثاء السفر ، ولم يرخص له في مجامعته النساء في السفر بالنهار في شهر رمضان ، وأوجب عليه قضاء الصوم ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره ، ثم قال : والسنة لا تقاس ، واني إذا سافرت في شهر رمضان ما آكل إلا القوت ولا أشرب كل الري » خلافا للمحكي عن أبي الصلاح من عدم الجواز ولغيره في خصوص ذي العطاش ، لخبر عجلان (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يصيبه العطش حتى يخاف على نفسه قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ، ولا يشرب حتى يروى » المحمول على الكراهة عند الأكثر لإطلاق الرخصة في الإفطار ، وليس هو بحكم الصائم كي يقتصر على مقدار الضرورة التي هي بحكم الإيجار الذي من الواضح الفرق بينه وبين المقام المتحقق فيه الاختيار ، فلا فرق حينئذ في الحكم المزبور بين أفراد من يسوغ له الإفطار.

وكذا لا فرق بين الجماع وبين الأكل والشرب في الجواز ؛ قال عمر بن يزيد (٢) في الصحيح : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يسافر في شهر رمضان إله أن يصيب من النساء؟ قال : نعم » وقال عبد الملك (٣) في الصحيح أيضا : « سألت أبا الحسن يعني موسى عليه‌السلام عن الرجل يجامع أهله في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١ وهو خبر عمار.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٣.

١٥٥

السفر وهو في شهر رمضان قال : لا بأس به » ونحوه خبر سهل بن زياد (١) عن أبيه ، وخبر أبي العباس (٢) وخبر داود بن الحصين (٣) وخبر علي بن الحكم (٤) وصحيح محمد بن مسلم (٥) وغيرها من النصوص التي لا ينبغي التأمل في حمل ما ظاهره المعارضة لها ـ كالخبر السابق (٦) وصحيح محمد بن مسلم (٧) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا سافر الرجل في شهر رمضان فلا يقرب النساء بالنهار في شهر رمضان فان ذلك محرم عليه » ـ على الكراهة باعتبار منافاته لحرمة شهر رمضان كما أومأ إليه‌ خبر ابن سنان (٨) أيضا ، قال : « سألته عن رجل أتى جاريته في شهر رمضان بالنهار في السفر فقال : ما عرف هذا حق شهر رمضان ان له في الليل سبحا طويلا ».

وحينئذ فما قيل والقائل الشيخ إنه يحرم للمسافر أن يجامع نهارا إلا عند الحاجة ، وعن أبي الصلاح انه لا يجوز لمن يسوغ له الإفطار الجماع مختارا ما لم يخف فسادا في الدين واضح الضعف ولا سيما مع أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، كوضوح الضعف فيما حكي عن أبي الصلاح أيضا من انه إذا دخل الشهر على حاضر لم يحل له السفر مختارا لظاهر قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقوله تعالى ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) ول‌ خبر أبي بصير (٩) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخروج في شهر رمضان قال : لا إلا فيما أخبرك به خروج إلى مكة أو غزوة في سبيل الله أو مال تخاف هلاكه أو أخ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٢ عن محمد بن سهل عن أبيه.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٩.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١٠.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٥.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٦.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٣.

١٥٦

تريد وداعه » ولإطلاق ما دل على وجوبه ، إلا أن الجميع كما ترى قاصر عن معارضة الأصل ، وظاهر قوله تعالى (١) ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) وقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عمار بن مروان (٢) : « من سافر قصر وأفطر » وصحيح محمد بن مسلم (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام « سئل عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيام فقال : لا بأس بأن يسافر ويفطر ولا يصوم » ونحوه خبر أبان بن عثمان (٤) عن الصادق عليه‌السلام ، وفي‌ الصحيح عن الوشاء عن حماد بن عثمان (٥) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل من أصحابي جاءني خبره من الأعراض ( الأعوص خ ل ) وذلك في شهر رمضان أتلقاه وأفطر؟ قال : نعم ، قلت : أتلقاه وأفطر أو أقيم وأصوم؟ قال : تلقاه وأفطر » والمرسل (٦) عن الصادق عليه‌السلام أيضا « سئل عن الرجل يخرج ليشيع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة فقال : إن كان في شهر رمضان فليفطر ، قال : أيهما أفضل يصوم أو يشيعه قال : يشيعه ، إن الله عز وجل وضع الصوم عنه إذا شيعه » وفحوى ما دل (٧) على استحباب زيارة الحسين عليه‌السلام في شهر رمضان المتوقف امتثاله للنائي على السفر ، وغير ذلك مما يظهر منه أن السفر كالموانع الاضطرارية ، وان الصوم لا يجب إلا على الحاضر ، وانه لا يجب عليه ان يحضر حتى يكون مكلفا ، بل هو باق على إباحة السفر له ، بل لعل ذلك كذلك في كل صوم قد تعين كقضاء شهر رمضان عند مجي‌ء الأشهر الأخر ، وصوم الكفارة لو تعين ، وصوم النذر ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٨١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب المزار من كتاب الحج.

١٥٧

ولا تجب له الإقامة ، فيكون الحاصل من مجموع الأدلة وجوب الصوم على من كان حاضرا وعدمه على المسافر إلا ما خرج بالدليل.

نعم يستفاد من صحيح الحلبي (١) وخبر أبي بصير (٢) أفضلية الإقامة في شهر رمضان ، قال في الأول : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يدخل في شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا ثم يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان أن يسافر فسكت ، فسألته غير مرة فقال : يقيم أفضل إلا أن يكون له حاجة لا بد من الخروج فيها ، أو يتخوف على ماله » وقال في الثاني أيضا : « جعلت فداك يدخل علي شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نية في زيارة قبر أبي عبد الله عليه‌السلام فأزوره وأفطر ذاهبا وجائيا أو أقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين فقال : أقم حتى تفطر ، قلت له : جعلت فداك فهو أفضل قال : نعم ، أما تقرأ في كتاب الله فمن شهد منكم الشهر فليصمه » بل في المختلف أن المشهور كراهة السفر إلى أن يمضي ثلاثة وعشرون يوما منه فتزول الكراهة ولعله لمرسل ابن أسباط (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا دخل شهر رمضان فلله فيه شرط ، قال الله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج أو في عمرة أو مال يخاف تلفه أو أخ يخاف هلاكه ، وليس له أن يخرج في إتلاف مال غيره ، فإذا مضت ليلة ثلاثة وعشرين فليخرج حيث شاء » وقد بان لك الحال من ذلك كله ، وأن المراد من الآية وجوب صوم الشهر جميعه على من شهده أي كان حاضرا ، وأن المراد الكراهة من النهي في خبر أبي بصير القاصر سندا ودلالة ، وإطلاق ما دل على وجوبه يقيد بما إذا لم يكن مسافرا كما عرفت ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٦.

١٥٨

( كتاب الاعتكاف )

( و) يقع ( الكلام في ماهيته وأقسامه وأحكامه‌ )

أما الأول فـ ( الاعتكاف ) لغة هو الاحتباس ، ومنه اللبث الطويل الذي هو أحد أفراد لزوم الشي‌ء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره ، قال الله تعالى (١) ( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) أي لازمون لها وحابسون أنفسكم عليها ، نحو قوله (٢) ( يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) وشرعا على وجه النقل أو المجاز الشرعي هو اللبث المتطاول للعبادة وفي المنتهى « لبث مخصوص للعبادة » وفي الدروس « لبث في مسجد جامع مشروط بالصوم ابتداء » إلى غير ذلك من تعريفاتهم التي لا فائدة مهمة في استقصائها والمناقشة في طردها وعكسها وذكر الشروط ونحوها فيها بعد معلومية كون المراد منها الكشف في الجملة الحاصل بذلك ونحوه ، كغيره من الموضوعات الشرعية والمتشرعية التي تعرضوا لها ، مع احتمال ملاحظة من ذكر الشروط كونه اسما للصحيح لا الأعم منه والفاسد ، كما أن المراد من قوله : « للعبادة » كون اللبث على وجه التعبد به‌

__________________

(١) سورة الأنبياء ـ الآية ٥٣.

(٢) سورة الأعراف ـ الآية ١٣٤.

١٥٩

نفسه ، فلا يتوهم شموله اللبث لعبادة خارجية كقراءة قرآن ونحوها ، بل لا يتوهم أن المعتبر في الاعتكاف قصد كون اللبث لعبادة خارجة عنه بحيث لا يجزي الاقتصار على قصد التعبد به خاصة ، ضرورة ظهور النصوص والفتاوى في مشروعيته لنفسه من غير اعتبار ضم قصد عبادة أخرى معه ، ففي‌ خبر السكوني (١) بإسناده إلى الصادق عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « اعتكاف عشر في شهر رمضان يعدل حجتين وعمرتين » لكن ظاهر ما يأتي من التذكرة اعتبار ذلك ، بل جزم به شيخنا الأكبر في رسالته وكشفه.

وعلى كل حال فالإجماع من المسلمين بقسميه على مشروعيته على وجه الندب وربما كان في قوله تعالى (٢) ( طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ ) دلالة عليه ، كقوله (٣) ( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وأما النصوص (٤) الدالة على مشروعية ولو بتضمنها فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي متواترة ، نعم في المنتهى ان أفضل أوقاته العشر الأواخر من شهر رمضان مستدلا برواية السكوني المتقدمة وهو كما ترى ، ولعل‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي العباس (٥) : « اعتكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رمضان في العشر الأولى ، ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى ، ثم اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر ، ثم لم يزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتكف في العشر الأواخر » أظهر دلالة ، كقوله عليه‌السلام في خبر الحلبي (٦) في حديث : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٣.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١١٩.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ١٨٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الاعتكاف.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الاعتكاف الحديث ١.

١٦٠