جواهر الكلام - ج ١٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كل وجه سوى ما عددناه كان أولى بالحق » وفهم ابن إدريس منها حرمة صوم التطوع ، ولعل ذلك هو الظاهر من أولها ، بل يمكن إرادة الحرمة من الكراهة في آخرها ، إلا ان قوله : « فمن أخذ » إلى آخره ينافي ذلك ، بل هو نص في الجواز ، بل يؤيده ما حكي عنه قبل ذلك من جواز صوم الواجب عدا شهر رمضان في السفر فضلا عن المندوب ، وقد عرفت تحقيق الحال في ذلك ، وأما سلار فالمحكي عنه أنه بعد ما عد صوم الواجب في السفر من المحرمات وصوم النافلة فيه من المكروهات قال : « ولا يصوم المسافر تطوعا ولا فرضا إلا صوم الثلاثة الأيام لدم المتعة ، وصوم النذر إذا علقه بوقت حضر وسفر ، وصوم الثلاثة أيام للحاجة أربعاء وخميس وجمعة ، وقد روي جواز صوم التطوع في السفر » قيل : لعله أراد بنفي الصيام في السفر ما يعم التحريم والكراهة ، وبالجواز انتفاء الكراهة ، وهو كما ترى ، وقال ابن حمزة : « وأما صيام النفل فضربان : مستحب وجائز ، فالأول صيام ثلاثة أيام عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصلاة الحاجة ، والثاني ما سوى ذلك ، وروي كراهية الصوم في السفر ، والأول أثبت » قيل : وهو يعطي جواز المندوب غير الثلاثة بالمعنى الأخص المرادف للمباح ، وفيه ان الصوم الشرعي لا يكون إلا عبادة ، والعبادة لا تقع إلا راجحة ، فيمكن ان يكون المراد بالاستحباب المتأكد منه ، وبالجواز غير المتأكد ، والأمر سهل بعد أن عرفت حقيقة الحال.

هذا كله في الصوم في السفر الموجب للتقصير ، أما المنقطع فلا إشكال في صحة الصوم فيه وحينئذ فـ يصح ممن له حكم المقيم في وطنه كناوي الإقامة عشرا والمتردد ثلاثين يوما والعاصي بسفره وكثير السفر وغيرهم مما تقدم تفصيله في الصلاة بلا خلاف أجده فيه ، قال الصادق عليه‌السلام (١) : « هما ـ يعني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٧.

٣٤١

التقصير والإفطار ـ واحد ، إذا قصرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت » كما هو واضح ، هذا.

وقد تقدم الكلام في انه لا يصح صوم شهر رمضان ولا غيره من الصوم الواجب من الجنب إذا ترك الغسل عامدا مع القدرة حتى يطلع الفجر وأما لو استيقظ بعد طلوع الفجر جنبا فالمعروف بين الأصحاب أنه لم ينعقد صومه قضاء عن شهر رمضان لصحيح عبد الله بن سنان (١) « كتب أبي إلى ابى عبد الله عليه‌السلام وكان يقضي شهر رمضان وقال : إني أصبحت بالغسل فأصابتني جنابة فلم اغتسل حتى طلع الفجر فأجابه لا تصم هذا اليوم وصم غدا » وما رواه هو أيضا‌ عنه عليه‌السلام في الصحيح (٢) انه سأله « عن الرجل يقضي شهر رمضان فيجنب من أول الليل ولا يغتسل حتى يجي‌ء آخر الليل وهو يرى أن الفجر قد طلع قال : لا يصوم ذلك اليوم ويصوم غيره » وفي المدارك ان إطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في ذلك بين من أصبح في النومة الأولى أو الثانية ، ولا في القضاء بين الموسع والمضيق ، وفيه منع إطلاق في النص يقتضي الأخير ، خصوصا بعد قوله عليه‌السلام : « وصم غدا » بل قد يمنع شمول إطلاق الفتوى لذلك ، نعم هما مطلقان بالنسبة إلى الأول ، ومن هنا استدل في المسالك على أصل الحكم مضافا إلى إطلاق الخبر بأن القضاء موسع ، ومقتضاه ان المقتضي لعدم الانعقاد كونه موسعا ، ثم قال : نعم لو تضيق برمضان أمكن جواز القضاء للثاني ، كما ينعقد مع ذلك كل صوم معين ، وفي المدارك انه يحتمل مساواته لصوم رمضان ، فيصح إذا أصبح في النومة الأولى خاصة ، وفيه أنه لا دليل على المساواة المزبورة على وجه يخرج عن القياس المحرم ، فلا يبعد الحكم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ١.

٣٤٢

بصحته مطلقا تمسكا بالإطلاق المقتصر على تقييده بالإصباح عمدا ، بخلاف الفرض الذي هو بحكم الجنابة في النهار نسيانا ونحوه ، بل إن لم ينعقد إجماع على البطلان في الموسع أمكن ذلك فيه أيضا ، ويحمل الصحيح المزبور على الإصباح عمدا ، بل قد يدعى ظهوره في ذلك ، ومن هنا حكي عن الذخيرة الاعتراف بعدم وضوح الدلالة على البطلان وعدم الانعقاد ، ولو سلم فينبغي قصر الحكم عليه خاصة. لكن في المسالك ان في حكم القضاء النذر المطلق والكفارة قبل التلبس بها ، بل في ظاهر حاشية الكركي على الكتاب نسبة إلحاق ذلك والندب إلى الشيخ والأصحاب ، وان عليه الفتوى ، ولعل الوجه فيه ان مبنى البطلان في القضاء التوسعة المشتركة بين الجميع ، لكن قد يمنع ذلك ، ومن هنا قال في المدارك انه يمكن المناقشة في إلحاق النذر المطلق وصوم الكفارة بالقضاء ، لعدم وضوح مستنده ، قلت : ويؤيده إطلاق الأصحاب في أول الكتاب ان المفطر تعمد البقاء على الجنابة الظاهر في عدم الفطر بغيره ، وفي عدم الفرق بين صوم شهر رمضان وغيره وفي المسالك أيضا انه لو كان ذلك في أثناء الكفارة حيث يشترط التتابع أو في أثناء صوم يشترط تتابعه فوجهان ، أجودهما عدم صحة الصوم ، ولا يقطع التتابع لعدم التقصير ، وناقشه في المدارك بأن عدم التقصير انما يقتضي انتفاء الإثم لا تحقق الامتثال مع عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه ، قلت : يمكن ان يكون مستنده ما تسمعه في محله إن شاء الله من عدم قطع التتابع بما يقع قهرا كالمرض والحيض ونحوهما ، نعم تتجه المناقشة في حكمه بفساد الصوم بما عرفت ، بل هنا أولى بالصحة ، لأنه كالمعين.

ومن ذلك كله يعرف الوجه فيما يشعر به قول المصنف قيل : ولا يصح الصوم أيضا ندبا في الفرض من تمريض هذا القول ، وإن نسبه الكركي إلى الشيخ والأصحاب كما سمعت ، إذ مبني البطلان فيه الإلحاق بالقضاء‌

٣٤٣

لعدم التعيين فيه ، ولأن الجنب غير قابل للصوم في تلك الحال ، والصوم لا يتبعض لكن قد عرفت ان الإلحاق بعد عدم الدليل عليه لا يخرج عن القياس كما اعترف به في المدارك مع أن‌ عبد الله بن بكير (١) قد روى عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يجنب ثم ينام حتى يصبح أيصوم ذلك اليوم تطوعا؟ فقال : أليس هو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار » وحبيب الخثعمي (٢) عنه عليه‌السلام أيضا في الصحيح « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن التطوع وعن هذه الثلاثة الأيام إذا أجنبت من أول الليل فأعلم اني أجنبت فأنام متعمدا حتى ينفجر الفجر أصوم أو لا أصوم؟ قال : صم » بل مقتضى الخبر الأول الجواز في القضاء أيضا باعتبار توسعة الأمر في نيته ، لكن خرج للأدلة السابقة ، فيبقى غيره على الجواز ، وفي الدروس وإن كان الصوم نفلا ففي رواية ابن بكير صحته ولو علم بالجنابة ليلا ، وفي رواية كليب إطلاق الصحة إذا اغتسل ، ويحمل على المعين أو الندب للنهي عن قضاء الجنب في رواية عبد الله بن سنان (٣) لكن في الحدائق أن ما أسنده إلى رواية كليب هو مضمون رواية ابن بكير ، والرواية التي ذكرها لم أقف عليها في كتب الأخبار بعد الفحص والتتبع ، قلت : لكن حمله الرواية على ما ذكره ظاهر في المفروغية من الجواز في المعين والندب ، وفي المسالك أنه يؤيده أيضا جواز تجديد النية في الندب للعازم على الإفطار خصوصا بعد الزوال ، وهو أيضا مناف للصوم ، وعدم قابلية الصوم للجنب انما يمنع منه حال الجنابة ، أما بعد الغسل فلا ، ويمنع عدم تبعض الصوم مطلقا ، كيف وقد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ـ الحديث ١.

٣٤٤

تقدم النص الصحيح (١) بأن الناوي بعد الزوال انما له من الصوم ما بعد النية ، وهذه الأدلة وإن قصر بعضها إلا انها لا تقصر عن أدلة جواز صوم النافلة سفرا وقد عمل المصنف وجماعة بها تساهلا بأدلة السنن ، وخبر من بلغه شي‌ء من اعمال الخير يشملها ، وناقشه في المدارك وإن وافق على الجواز فيما عدا شهر رمضان وقضائه للأصل وصحيح الخثعمي ، ومن ذلك كله يظهر لك الحال في الإلحاق المزبور ، وان الأقوى الصحة مع تعمد الإصباح جنبا في الندب فضلا عن حال عدم التعمد إن لم ينعقد إجماع على الخلاف ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فـ ان كان في رمضان فصومه صحيح ، وكذا في النذر المعين بلا خلاف ولا إشكال ، كما لا خلاف ولا إشكال في انه يصح الصوم من المريض ما لم يستضر به لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة إطلاق ما دل على الإفطار للمريض من الآية (٢) والرواية (٣) بعد معلومية كون المراد منه خصوص المتضرر به منه نصا وفتوى لا مطلق المرض ، وعلى ذلك ينزل‌ خبر عقبة بن خالد (٤) عن الصادق عليه‌السلام « في رجل صام وهو مريض قال : يتم صومه ولا يعيد يجزيه » ضرورة عدم جواز الصوم للمريض الذي يتضرر بالصوم بزيادة مرضه أو بطوء برئه أو حدوث مرض آخر أو مشقة لا تتحمل أو نحو ذلك ، وانه إذا تكلفه مع ذلك لم يجزه ، بل كان آثما بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، والنصوص (٥) مستفيضة فيه أو متواترة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب وجوب الصوم ـ الحديث ٨.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٨٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ و ٢٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ و ٢٢ ـ من أبواب من يصح منه الصوم.

٣٤٥

مضافا إلى قوله تعالى (١) ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) بل لا يبعد البطلان مع الغفلة عن المرض كما ستعرف ، والمدار في معرفة الضرر إليه ، لأن الإنسان ( عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، قال سماعة (٢) : سألته ما حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر؟ فقال : هو مؤتمن عليه مفوض إليه ، فإن وجد ضعفا فليفطر ، وإن وجد قوة فليصم ، كان المرض ما كان » وقال عمر بن أذينة (٣) : « كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله ما حد المرض الذي يفطر فيه صاحبه والمرض الذي يدع صاحبه فيه الصلاة من قيام؟

قال : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ، وقال : ذاك اليه هو أعلم بنفسه » ونحوهما غيرهما ، ويكفيه الظن بالضرر قطعا من أمارة أو تجربة أو قول عارف أو نحو ذلك بل قد يقوى الاكتفاء بالخوف الذي لا يعتبر في صدقه عرفا حصول الظن كما هو مقتضى تعليق الحكم على الخوف في إطلاق المحكي عن الأكثر ، بل لعله المراد من الظن في القواعد والدروس واللمعة ، نعم نص شارح الأخير على عدم كفاية مجرد الاحتمال ، فأوجب الصوم مع اشتباه الحال ، لثبوته في الذمة فيستصحب ما لم يعلم مسقطة ، وهو العلم بالضرر أو ظنه ، وفيه ان الأصل براءة الذمة إلى ان يحصل القطع ، وصوم كل يوم عبادة متجددة ، والتمسك بإطلاق أدلة الصوم ليس بأولى من التمسك بإطلاق الآية والنصوص ، مضافا إلى تعليق الحكم على الخوف في‌ صحيح حريز (٤) عن الصادق عليه‌السلام « الصائم إذا خاف على عينه من الرمد أفطر » ودعوى إرادة الظن منه لا شاهد عليها ، كما أنه‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٨٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١.

٣٤٦

لا مقتضي لها ، بل منافية لنفي الحرج في الدين ، وإرادة الله بالناس اليسر دون العسر ، وسهولة الملة وسماحتها ، نعم يعتبر فيه كونه خوفا معتدا به لا نحو الناشئ من الأوهام السوداوية ، وكذا الكلام في غير المقام المشترك معه في كون المدرك حسن التجنب عن كل ما فيه خوف ، بل ربما كانت النفوس مجبولة عليه من غير اعتبار للظن ، بل ربما لا يمكن حصوله في كثير من المقامات ، كما هو واضح ، والله العالم.

وعلى كل حال فإذا بان عدم الضرر لم يكن عليه إثم في إفطاره لتعبده بظنه انما الكلام في الصحة لو صام بزعم عدم الضرر فبان خلافه ، فيحتمل عدمها ، لعدم الأمر له في الواقع به وإن تخيل هو الأمر ، ضرورة كونه حينئذ كالحائض التي لم تعلم بحيضها ، والمسافر الذي لم يعلم بسفره ، ودعوى ان الفساد هنا للنهي عن التغرير بالنفس مثلا ، وليس في الفرض ، لتخيل عدم الضرر ، يدفعها منع كون الفساد لذلك ، بل لظهور أدلة المقام في إخراج هذا الموضوع عن الأوامر بل وإدخاله في المنفي عنه الصوم واقعا ، ويحتمل الصحة ، لتعليق الحكم في صحيح حريز (١) على الخوف المفروض انتفاؤه ، فيكون حينئذ مأمورا ، والأمر يقتضي الاجزاء ، وتعليقه في غيره على الضرر المنصرف إلى الواقع لا يجدي بعد الصحيح المزبور الذي هو بمنزلة المقيد له ، ويكون الحاصل حينئذ من المجموع انه إذا خاف الضرر وجب الإفطار عليه ، ولعل ذا لا يخلو من قوة.

وكيف كان فقد ظهر لك أن المدار في الإفطار على خوف الضرر من غير فرق بين المريض والصحيح في ذلك ، لإطلاق‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب » ولأنه المناسب لمقتضى سهولة الملة وسماحتها ، وإرادة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ٢.

٣٤٧

الله اليسر بالناس دون العسر ، ولظهور النصوص في أن المبيح للفطر في المريض الضرر ، فلا يتفاوت بين الصحيح والمريض معه ، لكن تردد في المنتهى في الصحيح الذي يخشى المرض بالصيام من ذلك ، ومن عموم الأمر بالصوم السالم عن معارضة المرض ، وفيه ما لا يخفى خصوصا بعد ما عرفت من عدم مدخلية المرض ، وإلا لأبيح له الإفطار مع عدم الضرر ، وهو معلوم البطلان نصا وفتوى بل المدار على الضرر الذي لا تفاوت فيه بين الصحيح والمريض الذي من أقسامه من يخشى حدوث مرض آخر بالصوم الذي هو كالصحيح الذي يخاف المرض بالصوم وبالجملة فالعمدة اشتراك الصحيح والمريض في معظم المدارك المسوغة للإفطار كما هو واضح ، والله أعلم.

مسألتان مسألتان : المسألة الأولى البلوغ الذي تجب معه العبادات الأولى البلوغ الذي تجب معه العبادات وتصح معه المعاملات الاحتلام أي خروج المني من الذكر والأنثى في اليقظة أو النوم بالجماع أو غيره أو الإنبات للشعر الخشن على العانة أو بلوغ خمس عشرة سنة في الرجال على الأظهر الأشهر ، بل المشهور شهرة عظيمة ، خلافا لابن الجنيد فاكتفى ببلوغ الأربع عشر ولا ريب في ضعفه وضعف غيره من الأقوال المحكية في المقام على فرض ثبوتها ، أو بلوغ تسع سنين في النساء كما بينا ذلك كله وغيره على وجه لم نسبق إليه في كتاب الحجر مفصلا عند تعرض المصنف له ، فلاحظ وتأمل.

المسألة الثانية يستحب للولي أن يمرن الصبي والصبية على الصوم المسألة الثانية يستحب للولي أن يمرن الصبي والصبية على الصوم وغيره من العبادات قبل البلوغ ويعودا عليه سواء قلنا بشرعية عبادتهما أولا عند تمييزهما على وجه يمكن حصول الصورة منهما ، وفي المتن ومحكي القواعد والتحرير وغيرهما ويشدد عليهما لسبع مع الطاقة ومقتضاه حصول التمرين قبلها ، وهو جيد إذا فرض حصول التميز والطاقة قبلها ، وفي المعتبر ويؤخذ الصبي‌

٣٤٨

بالصوم إذا بلغ ست سنين وأطاق الصوم استحبابا ، وفي‌ صحيح زرارة والحلبي وحسنهما (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل « عن الصلاة على الصبي متى يصلى عليه؟ فقال : إذا عقل الصلاة ، قلت : متى تجب الصلاة عليه؟ قال : إذا كان ابن ست سنين ، والصيام إذا أطاقه » وخبر سماعة (٢) « سألته عن الصبي متى يصوم؟ قال : إذا قوي على الصيام » لكن في اللمعة والنافع أنه يمرن الصبي لسبع ، ولعله لحسن الحلبي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم ، فان كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل ، فإذا غلبهم العطش أفطروا حتى يتعودوا الصيام ويطيقونه فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بما أطاقوا من صيام ، فإذا غلبهم العطش أفطروا » وفيه ـ مع اشتماله على التفرقة بين صبيانهم عليهم‌السلام وصبيان غيرهم الذين هم محل البحث ، ولذا والمرسل (٤) عن الصادق عليه‌السلام « الصبي يؤخذ بالصيام إذا بلغ تسع سنين على قدر ما يطيقه ، فإن أطاق إلى الظهر أو بعده صام إلى ذلك الوقت ، فإذا غلب عليه الجوع والعطش أفطر » علق التمرين في النهاية كالمحكي عن ابني بابويه على الطاقة والتسع ـ انه يمكن أن يكون ذلك مبنيا على ما هو الغالب من الفرق بين صبيانهم عليهم‌السلام وصبيان غيرهم في شدة التمييز والطاقة الذين هما المدار في التمرين ، ويشتد باشتدادهما ، وربما كان في المحكي عن المبسوط نوع إيماء إلى ذلك ، قال : « ويستحب أخذه أي الصبي بذلك إذا أطاقه ، وحد ذلك بتسع سنين فصاعدا ، وذلك بحسب حاله في الطاقة » هذا كله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١١.

٣٤٩

بناء على تفرقة الرواية بين صبيانهم عليهم‌السلام وصبيان غيرهم ، أما على كونها بالسبع فيهما كما رواها في المختلف فهي دالة على استحباب التمرين للسبع ، كما سمعته من بعضهم.

وعلى كل حال فالتحقيق الذي يجتمع عليه الأدلة ما ذكرنا ، ولا ينافيه‌ صحيح معاوية بن وهب (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام في كم يؤخذ الصبي بالصيام؟ فقال : ما بينه وبين خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة ، فان هو صام قبل ذلك فدعه ، ولقد صام ابني فلان قبل ذلك فتركته » ضرورة عدم المنافاة بين الأخذ في هذا الوقت وبين الأمر به قبل هذا الوقت ، مع احتمال كون المراد الأخذ الشرعي دون التمريني على أن يكون المراد أنه يؤخذ به إذا بلغ ، ويحصل البلوغ بالاحتلام ونحوه في إحدى السنتين غالبا ، فتأمل جيدا ، ومن الغريب ما عن الشارح من أن مقتضى هذه الرواية عدم تحديد مبدأ وقت التمرين ، إذ فيه أنه لو كان كذلك لم يبق لقوله عليه‌السلام : « فان هو صام قبل ذلك فدعه » وكذا‌ قوله عليه‌السلام : « ولقد صام ابني فلان قبل ذلك فتركته » فائدة وأما ما رواه‌ السكوني (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا أطاق الغلام صوم ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان » فلم أجد من افتى به سوى ما يحكى عن المقنعة من انه يؤخذ الصبي بالصيام إذا بلغ الحلم أو قدر على صيام ثلاثة أيام متتابعات قبل ان يبلغ الحلم ، ولعل المتجه حمله على شدة التشديد عليه إذا كان كذلك.

وقد ظهر لك مما ذكرنا أنه لا فرق في استحباب التمرين بين الصبي والصبية على الوجه الذي ذكرنا ، ضرورة اشتراكهما في حكمته التي أومأ إليها حسن الحلبي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٥.

٣٥٠

وفي المدارك أنه قطع الأصحاب باستحباب تمرينها قبل البلوغ ، والتشديد عليها للسبع ، لكن قال : « ولا ريب في استحباب التمرين إلا أن تعيين مبدئه يتوقف على الدليل » قلت : قد يعرف الحال فيها مما سمعته في الصبي.

وعلى كل حال فقد قيل إنه يتخير في الصوم الواجب وغيره من كل عبادة واجبة يمرن عليها بين نية الوجوب والندب ، فالوجوب لأن الغرض التمرين على الفعل الواجب ، والندب لعدم وجوبه عليه ، وفي الروضة انه قد ذكر ذلك المصنف وغيره ، قلت : لكن في البيان رجح الوجوب ، قال : « وينوي الصبي الوجوب ، ولو نوى الندب جاز » وفي الذكرى « وهل ينوي الوجوب أو الندب؟

الأجود الأول ليقع التمرين موقعه » وقال : « ويكون المراد بالوجوب في حقه ما لا بد منه يعني ولو تمرينا ، أو المراد به الواجب على المكلف ، ويمكن الثاني لعدم وجه الوجوب في حقه » وفي الروضة « أن الندب أولى » وعن العلامة انه اقتصر عليه واختاره بعض المتأخرين ، لأنه لا معنى لأفعل شيئا لوجوبه على غيره ، ولا معنى للوجوب التمريني إلا الأولوية المتحققة في الندب أو الوجوب العقلي ، لقبح مخالفة الأمر من والد ونحوه عقلا ، ولا عبرة به إذا خالف الشرع ولا يجدي كون الغرض التمرين على فعل الواجب ، فان التمرين عليه لا يستلزم التمرين على إيقاعه لوجهه ، على أن الغرض من التمرين تسهيل التكليف عليه لتعوده به ، ولا صعوبة في النية ليمرن عليها ، بل الأولى أن لا ينوي إلا القربة ، فإن الندب أيضا لا معنى له في حقه ، فإن الأحكام الشرعية كلها متساوية في انتفائها من غير المكلف ، فكما لا وجوب عليه شرعا لا ندب بالنسبة اليه ، إلا أن يمنع عدم خطاب المميز بالمندوبات ، فإنها باعتبار ما ليست مكلفا بها ، ومعنى رفع القلم انما هو رفع قلم الإيجاب ورفع المؤاخذة ، فإن من البين كونه يثاب بفعل الطاعات بل ذلك متعين بناء على شرعية عبادات الطفل على جهة الندبية ، ولا ينافيه كون‌

٣٥١

الحكمة في ذلك التمرين ، ضرورة كون المراد منه التمرين على نفس الأفعال لا نياتها كما هو واضح ، نعم بناء على التمرينية قد يتجه ذلك ، لكون الأتم فيه نية الوجوب في الواجب ، والندب في المندوب ، ودعوى أنه لا معنى للوجوب التمريني إلا الأولوية المتحققة في الندب أو الوجوب العقلي ، لقبح مخالفة الأمر من والد ونحوه عقلا ، ولا عبرة به إذا خالف الشرع ، يدفعها بعد الإغضاء عما فرضه من مخالفة الشرع لما حكم العقل بقبح مخالفته أن المراد منه التشبه بالبالغين بابراز الصورة الصادرة منهم ، كما هو واضح ، والله اعلم.

النظر الثاني في أقسامه النظر الثاني في أقسام الصوم أي مطلق الصوم الشامل للصحيح والفاسد وهي أربعة : واجب وندب ومكروه كراهة عبادة ومحظور ولو للتشريع ، أما الواجب أما الواجب فـ ستة باستقراء الأدلة الشرعية ، والإجماع بقسميه ، الأول صوم شهر رمضان والثاني صوم الكفارات التي سيأتي تفصيلها إن شاء الله والثالث صوم بدل دم المتعة في الحج والرابع صوم النذر وما في معناه من العهد واليمين ونحوهما والخامس صوم الاعتكاف على وجه كالنذر واعتكاف يومين الموجب لاعتكاف ثالث والسادس صوم قضاء الواجب.

القول في شهر رمضان القول في شهر رمضان والكلام في علامته وشروطه وأحكامه ، أما الأول في علامته أما الأول فـ لا إشكال ولا خلاف بيننا في أنه يعلم الشهر برؤية الهلال وحينئذ فمن رآه وجب عليه الصوم ولو انفرد ، وكذا لو شهد فردت شهادته ، وكذا يفطر لو انفرد برؤيته هلال شوال كل ذلك لصدق الرؤية المأمور بالصوم والإفطار لها ، وصدق شهادة الشهر ، وللسنة المستفيضة أو المتواترة ، والإجماع بقسميه ، خلافا لما عن بعض العامة من عدم صوم المنفرد وفطرة إلا في جماعة الناس ، وهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع‌

٣٥٢

وأما من لم يره فـ لا يجب عليه الصوم للأصل وظاهر كثير من النصوص إلا أن يمضي من شعبان ثلاثون يوما فيجب الصوم حينئذ إجماعا أو ضرورة من الدين أو يرى رؤية شائعة على وجه تفيد العلم الذي هو مدار التكاليف ، فيجب الصوم حينئذ بلا خلاف ولا إشكال ، ضرورة عدم اعتبار الزائد على ذلك ، نعم إن لم يكن الشياع على الوجه المزبور بل كان مفيدا للظن كان المتجه عدم الاجتزاء به ، للأصل السالم عن المعارض ، وظاهر النصوص ، خلافا للفاضل في التذكرة فاكتفى به ، لمساواة الظن الحاصل من شهادة العدلين ، بل حكاه في المدارك عن الشارح وغيره ، قال : واحتمل في موضع من الشرح اعتبار زيادة الظن على ما يحصل منه بقول العدلين ليتحقق الأولوية المعتبرة في مفهوم الموافقة ، إلا أن ذلك كله كما ترى ، ضرورة توقفه على كون الحكم بقبول شهادة العدلين معللا بإفادتها الظن ليتعدى إلى ما يحصل به ذلك ، وليتحقق الأولوية المذكورة ، وليس في النص ما يدل على هذا التعليل ، وانما هو مستنبط ، فلا عبرة به ، مع أن اللازم من اعتباره الاكتفاء بالظن الحاصل من القرائن إذا ساوى الظن الحاصل من شهادة العدلين أو كان أقوى ، وهو باطل إجماعا ، فلا دليل له حينئذ سوى معلومية الاكتفاء بالعلم في جميع التكاليف ، فيكون الأمر دائرا مداره ، وما أطنب به في الحدائق ـ من الاستدلال عليه لصحيح محمد بن مسلم (١) وموثق عبد الله بن بكير (٢) وخبر أبي العباس (٣) وخبر إبراهيم بن عثمان الخزاز (٤) التي سيمر عليك بعضها المشتملة على تفسير الصوم للرؤية بما يؤل إلى الشياع ـ لا دلالة فيه على غير المفيد للعلم كما اعترف هو به ، لعدم ذكر لفظ الشياع فيه نفسه حتى يستند إلى صدقة بدعوى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٠.

٣٥٣

شموله للأعم ، وكذا الاستدلال عليه بخبر سماعة (١) المشتمل على الأمر بالصوم إذا رآه أهل المصر وكانوا خمسمائة ، وخبر عبد الحميد الأزدي (٢) وخبري أبي الجارود (٣) المشتملة على الأمر بذلك وبالصوم بصوم الناس والفطر بفطرهم إن لم نحملها على إرادة الصوم بصوم العامة والإفطار بفطرهم للتقية ، وعلى كل حال لا دلالة فيها على غير ما عرفت ، وحينئذ لا ينحصر المخبرون في عدد ، ولا يفرق في ذلك بين خبر المسلم والكافر والصغير والكبير الذكر والأنثى كما قرر في حكم التواتر ، ضرورة كون المدار على حصول العلم الذي تدور معه التكاليف.

وكيف كان فان لم يتفق ذلك وشهد شاهدان عدلان قيل ولكن لم نعرف القائل لا تقبل ، وقيل والقائل الصدوق والشيخ وبنو زهرة وحمزة والبراج وأبو الصلاح تقبل مع العلة خاصة ، ومع عدمها يعتبر الخمسون ، نعم في عباراتهم خلاف بالنسبة إلى داخل المصر وخارجه ، ففي المختلف عن المقنع « واعلم انه لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة ، ويجوز شهادة رجلين عدلين إذا كانوا من خارج البلد ، أو كان بالمصر علة » ومقتضاه قبول شهادتهما مع الخروج عن البلد مطلقا ، لكن في شرح الأصبهاني للمعة أن الموجود فيما عندنا من نسخ المقنع بالواو ، ثم قال : ولعلها أوضح ، لأن الظاهر أنه أفتى بلفظ خبر حبيب الجماعي (٤) وقد ذكره تماما من غير تغيير ، وقال في محكي المبسوط ما حاصله : « إنه مع العلة تقبل شهادتهما من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٥ والمستدرك ـ الباب ـ ٩ ـ منها ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ١٣.

٣٥٤

البلد وخارجه ، وبدونها لا يقبل إلا شهادة القسامة خمسين رجلا من البلد أو خارجه » ونحوه عن ابني زهرة وحمزة ، وقال في محكي الخلاف : « لا يقبل في هلال رمضان إلا شهادة شاهدين ، فأما الواحد فلا تقبل منه ، هذا مع الغيم ، فأما مع الصحو فلا يقبل فيه إلا خمسون قسامة أو اثنان من خارج البلد » وقال في محكي النهاية : « إن كان في السماء علة لم يثبت إلا بشهادة خمسين رجلا من أهل البلد أو عدلين من خارجه ، وإن لم يكن هناك علة وطلب فلم ير لم يجب الصوم إلا أن يشهد خمسون من خارج البلد أنهم رأوه » وكذا عن ابن البراج ، لكن من المعلوم إرادتهم اعتبار الخمسين إذا لم يحصل الشياع بالأقل ، وإلا أجزأ قطعا ، كما هو واضح.

وقيل والقائل المشهور تقبل مطلقا سواء كان في السماء علة أو لا وهو الأظهر سواء كانا من البلد أو خارجه لا طلاق ما دل على قبولهما ، وخصوص المعتبرة المستفيضة ، كصحيح الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ان عليا عليه‌السلام كان يقول : لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين » وصحيح منصور ابن حازم (٢) عنه عليه‌السلام أيضا أنه قال : « صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه » وصحيح عبد الله الحلبي (٣) عنه عليه‌السلام أيضا ، قال علي عليه‌السلام : « لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين » وصحيح الشحام (٤) عنه عليه‌السلام أيضا سأله عن الأهلة فقال : « هي أهلة الشهور ، فإذا رأيت الهلال فصم ، وإذا رأيته فأفطر ، فقلت : أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما أقضي ذلك اليوم قال : لا إلا أن تشهد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٤.

٣٥٥

لك بينة عدول ، فان شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم » إلى غير ذلك من النصوص المعتضدة بغيرها التي لا معارض لها سوى‌ خبر إبراهيم بن عثمان الخزاز (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قلت له : كم يجزي في رؤية الهلال؟ فقال : إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوه بالتظني ، وليس رؤية الهلال أن تقوم عدة ، فيقول واحد : قد رأيته ويقول الآخرون لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة ، وإذا رأوه مائة رآه ألف ، ولا يجوز في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين ، وإذا كان في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر » وخبر حبيب الجماعي (٢) قال : أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة ، وانما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علة فأخبرا أنهما رأياه ، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية » الذين ردهما في المعتبر بأن اشتراط الخمسين لم يوجد في حكم سوى قسامة الدم ، ثم لا يفيد اليقين بل قوة الظن ، وهي تحصل بشهادة العدلين إلى ان قال : « وبالجملة فإنه مخالف لعمل المسلمين كافة ، فكان ساقطا » وفي محكي المنتهى بالمنع من صحة السند ، ولعله لما قيل من أن في طريق الأولى العباس بن موسى وهو غير معلوم الحال وإن كان الظاهر أنه الوراق الثقة الذي هو من أصحاب يونس بقرينة روايته عنه هنا ، وفي يونس كلام ، وجهالة حبيب في سند الثانية ، وفي محكي المختلف بالحمل على عدم عدالة الشهود ، وحصول التهمة في أخبارهم ، وظني والله اعلم انهما تعريض لما في يد العامة من الاجتزاء بشهادة رجلين في الصحو مع القطع بكذبهما باعتبار عدم العلة في الرائي والمرئي وكثرة المتطلعين وغير ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث ١٣.

٣٥٦

وعلى كل حال فلا ريب في سقوطهما في مقابلة ما عرفت ، لكن أطنب في الحدائق وظن انه قد جاء في الباب بما لم يلم به احد من الأصحاب ، وهو الجمع بين هذين الخبرين وبين غيرهما من النصوص الدالة على الاجتزاء بشهادة الشاهدين بأنه لا بد من العلم مع عدم العلة من الغيم ونحوه ، ولا يجزي التظني وإن كان من شهادة العدلين ، وهذا هو الذي أشاروا عليهم‌السلام اليه بقولهم (١) : إذا رآه الواحد رآه عشرة ، وإذا رآه مائة ، وليس معنى رؤيته ان يقوم واحد من العشرة فيقول : رأيته يقول التسعة لم نره ، نعم لو كان هناك غيم أو نحوه اجتزي بالشاهدين ، لإمكان اختصاصهما حينئذ بالرؤية دون غيرهما ، بل لعل اعتبار كونهما من خارج البلد جريا مجرى الغالب ، لأنهما لو كانا قد رأياه وهما من أهل البلد لرآه غيرهما أيضا بخلاف الخارجين ، كما ان اعتبار الخمسين في الخبرين ليس إلا لإرادة حصول العلم ، ونصوص الاجتزاء بالشاهدين ليس فيها إلا الإهمال المتحقق في حال الغيم ، وعلى تقدير الإطلاق فهو مقيد بالخبرين المزبورين ، إلا أن ذلك جميعه كما ترى ، إذ هو مع إمكان تحصيل الإجماع المركب بخلافه واضح الضعف من وجوه ، خصوصا بعد ما عرفت من أن مبنى تلك النصوص الإنكار على ما هو متعارف عند العامة من الشهادة على الهلال زورا ، وانه يجي‌ء الواحد منهم فيقول : رأيته من بين الجم الغفير ، بل ربما ادعى رؤيته في غير إمكانها كما لا يخفى على من له علم بأحوالهم وفساد مذهبهم فخرجت هذه النصوص مخرج الإنكار عليهم لا لبيان عدم الاجتزاء بالشاهدين العدلين اللذين قد اكتفى الشارع بهما في جميع الموضوعات التي فيها ما هو أعظم من رؤية الهلال بمراتب كالدماء ونحوها ، فلا ينبغي التوقف في ذلك ولا الإطناب في فساد ما يخالفه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ١٠ و ١١.

٣٥٧

والظاهر من النص والفتوى الاجتزاء بهما من غير اعتبار لحكم الحاكم بشهادتهما ، بل لكل من قامت الشهادة عنده الصوم والإفطار بعد فرض إحراز العدالة تمسكا بإطلاق الأدلة ، بل قال الصادق عليه‌السلام في‌ صحيح منصور بن حازم (١) « فان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه » وفي‌ صحيح الحلبي (٢) وقد قال له : « أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما أقضي ذلك اليوم : قال : لا ، إلا ان تشهد لك بينة عدول ، فان شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم » بل الظاهر من إطلاقهما الاجتزاء بهما وإن ردهما الحاكم لعدم تحقق عدالتهما أو نحو ذلك مما لم يكن كذلك عند غيره ممن شهدوا عنده.

ولو اختلف الشاهدان في صفة الهلال بالاستقامة والانحراف ونحو ذلك مما يقتضي اختلاف المشهود عليه بطلت شهادتهما ، ولا كذلك لو اختلفا في زمان الرؤية مع اتحاد الليلة ، ولو شهد أحدهما برؤية شعبان الاثنين وشهد الآخر برؤية رمضان الأربعاء احتمل القبول لاتفاقهما في المعنى ، وعدمه لأن كل واحد يخالف الآخر في شهادته ، ولم يثبت أحدهما ، ولعل الأول أقوى ، هذا ، وفي المدارك لا يكفي قول الشاهد اليوم الصوم أو الفطر ، بل يجب على السامع الاستفصال ، لاختلاف الأقوال في المسألة ، فيجوز استناد الشاهد إلى سبب لا يوافق مذهب السامع ، نعم لو علمت الموافقة أجزأ الإطلاق كما في الجرح والتعديل ، وقد يناقش بأن مقتضى شهادته كونه كذلك واقعا ، وهو لا اختلاف فيه ، ولذا لم يجب استفصاله في الشهادة بالملك والغصب والنجاسة ونحوها مما هي مختلفة الأسباب أيضا ، وكذلك الجرح والتعديل وإن ظهر منه المفروغية من وجوب استفصال الشاهد بهما ، ولعل الأمر بالعكس كما يشهد له الاكتفاء بما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٩.

٣٥٨

يذكره علماء الرجال فيهما ، بل السيرة من العلماء وغيرهم على عدم استفصال الشاهد إذا شهد بالفسق أو العدالة ، وما ذاك إلا لما ذكرناه ، فتأمل جيدا.

ثم إن الظاهر ثبوت الهلال بالشهادة على الشهادة ، لإطلاق أو عموم ما دل على قبولها ، ولأن الشهادة حق لازم الأداء ، فيجوز الشهادة عليه كسائر الحقوق خلافا للفاضل في المحكي عن تذكرته فلم يثبته بها بل أسنده فيها إلى علمائنا مستدلا عليه بأصالة البراءة ، واختصاص مورد القبول بالأموال وحقوق الآدميين وفيه بعد انقطاع الأصل بما عرفت ان اختصاص مورد القبول بذلك لا يقتضي تخصيص العموم ، كما أن الظاهر ثبوته بحكم الحاكم المستند إلى علمه ، لإطلاق ما دل على نفوذه وأن الراد عليه كالراد عليهم (ع) من غير فرق بين موضوعات المخاصمات وغيرها كالعدالة والفسق والاجتهاد والنسب ونحوها ، وفي المدارك ولأنه لو قامت عنده البينة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام والعلم أقوى من البينة ، ولأن المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما يتحقق به العدالة قوله ، فيكون مقبولا في جميع الموارد ، ومقتضاه المفروغية من الثبوت بحكمه المستند إلى شهادة العدلين ، وحينئذ يتجه الاستدلال به في المقام ، ضرورة كون المستند في الثبوت عند الغير في المشبه به ليس إلا حكمه الحاصل في الفرض ، إذ شهادة الشاهدين عنده ليس شهادة عند غيره ، والحصر في‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين » مراد منه بالنسبة إلى الشهادة بمعنى اني لا أجيز في الشهادة على رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين لا فاسقين أو مجهولين كما هو عند العامة ، ولا عدل واحد لا أن المراد عدم ثبوته إلا بذلك ضرورة ثبوته بالشياع وبالحكم بالبينة وبغير ذلك ، فاحتمال العدم حينئذ للخبر المزبور ـ الذي هو بعد الإغضاء عما ذكرناه معارض لما ( بما ظ ) دل على قبول حكمه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٨.

٣٥٩

من وجه ، ولا ريب في رجحانه عليه من وجوه ـ في غاية الضعف ، وأضعف منه الاستناد إلى عدم ثبوت عموم حكم الحاكم لما يشمل ذلك ، انما المسلم منه في خصوص موضوعات المخاصمة دون غيرها ، إذ هو كما ترى مناف لإطلاق الأدلة ، وتشكيك فيما يمكن تحصيل الإجماع عليه ، خصوصا في أمثال هذه الموضوعات العامة التي هي من المعلوم الرجوع فيها إلى الحكام ، كما لا يخفى على من له خبرة بالشرع وسياسته ، وبكلمات الأصحاب في المقامات المختلفة ، فما صدر من بعض متأخري المتأخرين من الوسوسة في ذلك من غير فرق بين حكمه المستند إلى علمه أو البينة أو غيرهما لا ينبغي الالتفات اليه ، لما عرفت من ثبوت الهلال بذلك ، بل الظاهر عدم الفرق في ذلك بين الحاكم الآخر وغيره ، فيجب الصوم أو الفطر على الجميع ، نعم لو قال : اليوم الصوم أو الفطر من غير تصريح بكونه لرؤية أو شهادة ففي الدروس في وجوب استفساره على السامع ثلاثة أوجه ، ثالثها إن كان السامع مجتهدا استفسره ، قلت : قد يقوى في النظر عدم وجوب استفساره ، ضرورة كون ذلك منه حكما ، فيجب اتباعه به ، لإطلاق ما دل عليه.

وكيف كان فـ إذا رؤي الهلال في البلاد المتقاربة كالكوفة وبغداد ونحوهما مما لم تختلف فيه المطالع وجب الصوم على ساكنيها اجمع بلا خلاف ولا إشكال بعد‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح منصور (١) : « فان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه » وفي‌ صحيح هشام (٢) فيمن صام تسعة وعشرين يوما « إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوما » وغيرهما من النصوص دون البلاد المتباعدة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ الحديث ١٣.

٣٦٠