جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بقي شي‌ء وهو ما عساه يقال من أنه قد تحقق الإجماع على الحكم المزبور في الموضوعين ، لكن ينافيه ما يحكى عن الشيخين في المقنعة والغرية والنهاية والمبسوط والخلاف والمرتضى في الجمل وسلار وأبي الصلاح وبني الجنيد والبراج وزهرة من أن وقت الإخراج فجر يوم العيد المقتضي لعدم تحقق الوجوب وقبله ، إذ لا يعقل وجوب الموقت على التنجيز بحيث يخرج من التركة إن مات مثلا قبل حصول الوقت ، إذ التمكن من الامتثال من شرائط الوجوب عقلا ، بل يقتضي أيضا تحقق الوجوب على من أحرز الشرائط أو دخل في العيال في الليل قبل الفجر الذي هو أول وقت الإخراج المستلزم لكونه أول وقت الوجوب ، مع أن المحكي عن الشيخ التصريح بعدم الوجوب في بعض ذلك ، اللهم إلا أن يقال إن ذلك مما يدل على صحة القول الآخر الذي عليه الشيخ في جملة من كتبه وابنا حمزة وإدريس ومعظم المتأخرين من أن وقت الإخراج وقت الوجوب. وهو غروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، فيتخرج حينئذ ما سمعته من الأدلة على ما في المقام دليلا على هذا القول كما يحكى عن الفاضلين الاستدلال به ، ويدفع ذلك كله ما ستعرفه في محله من أن نزاع معظم هؤلاء في الوجوب ، ومنه يعلم ما في دعوى الإجماع عليه هنا من سيد المدارك وغيره ، ولو سلم فلا تنافي بين الوجوب هنا بمعنى شغل الذمة وكونه كالدين وبين تأخر الإخراج من المكلف أو غيره ممن يقوم مقامه من وارث أو غيره ، ولا نريد بالوجوب بمعنى مباشرة الأداء منه نفسه على كل حال ، بل لعل وجوب الزكاة المالية أيضا كذلك ، ضرورة عدم اشتراطه بالتمكن من الأداء على معنى أنه لو مات بعد تمام الحول قبل التمكن من الأداء سقط الزكاة ، بل هي ثابتة في ماله تخرج منه بعد موته ، ولذا قلنا هناك إنه شرط في الضمان لا الوجوب ، والله هو العالم.

المسألة الثانية الزوجة والمملوك تجب الزكاة عنهما‌ ولو لم يكونا في عياله إذا لم يعلهما‌

٥٠١

غيره لإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر إسحاق بن عمار (١) : « الواجب عليك أن تعطي عن نفسك وأبيك وأمك وولدك وامرأتك وخادمك » بل في السرائر « يجب إخراج الفطرة عن الزوجات سواء كن نواشز أو لم يكن ، وجبت النفقة عليهن أو لم تجب ، دخل بهن أو لم يدخل ، دائمات أو منقطعات للإجماع والعموم من غير تفصيل من أحد من أصحابنا » وفي المدارك « قد قطع الأصحاب بوجوب فطرة المملوك على المولى مطلقا » وعن الشيخ التصريح بوجوبها عن العبد الغائب المعلوم حياته كالمصنف في المعتبر مع زيادة الآبق والمرهون والمغصوب محتجا بوجوب نفقته عليه فتجب فطرته عليه ، ومقتضاه كون الفطرة تابعة لوجوب الإنفاق ، ولذا قال في المدارك أنه صرح الأكثر بأن فطرة الزوجة إنما تجب إذا كانت واجبة النفقة دون الناشز والصغيرة وغير المدخول بها إذا كانت غير ممكنة.

وقيل لا تجب الفطرة عن الزوجة والمملوك فضلا عن غيرهما إلا مع العيلولة ، وفيه تردد عند المصنف مما تقدم ومما تعرفه ، فتكون الأقوال في المسألة حينئذ ثلاثة : الأول الوجوب في الزوجة والمملوك مطلقا ، الثاني دوران الحكم على وجوب الإنفاق عليهما ، الثالث تبعيته للعيلولة وعدمها ، وتفصيل الحال أنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب إخراج الفطرة عنهما مع العيلولة ، وجبت النفقة أو لم تجب ، لاستفاضة النصوص في إخراجها عن جميع من تعول ، فمع فرض عدم لزوم النفقة يكون كالمعال به تبرعا الذي لا بحث في وجوب إخراج الفطرة عنه ، كما أنه لا ينبغي الإشكال في عدم وجوب الفطرة مع عدم لزوم الإنفاق لنشوز ونحوه وعدم العيلولة ، للأصل السالم عن المعارض والخبر المزبور (٢) المشتمل على ما لا يقول به الخصم في الأب والأم والولد والخادم غير المملوك منزل على ما هو الغالب من العيلولة بهؤلاء مع حاجتهم ، كما يومي اليه ما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٤.

٥٠٢

صحيح ابن الحجاج (١) السابق « العيال الولد والمملوك والزوجة وأم الولد » ودعواه الإجماع ممنوعة عليه كما صرح به المصنف والفاضل ، بل قالا : إنه لم يقل بذلك أحد من الأصحاب ، بل في المنتهى ولا أحد من الجمهور إلا الشذوذ ، ويمكن أن يريد الإجماع على إخراجها عن الزوجة من غير تفصيل وإن كان لا يجديه ، إذ المتيقن منه في الجملة لا الإطلاق.

أما لو وجبت النفقة ولكن لم يعلها عصيانا فظاهر بعض وصريح آخر الوجوب بل قد عرفت نسبته إلى الأكثر ، بل ربما نسب إلى المشهور لكونها عيالا شرعا حينئذ لكن للمناقشة فيه مجال ان لم يثبت الإجماع عليه ضرورة انصراف غيره من نحو قولهم : « يعول » و « يمون » و « العيال » ونحو ذلك ، والاستناد إلى إطلاق الخبر المزبور ـ مع أنه يقتضي عدم اختصاص الحكم بالزوجة والمملوك ، إذ الفرق بينهما وبين غيرهما بأنه قد لا تجب نفقة غيرهما ، وأن نفقة الزوجة من الديون لا يجدي ، كما هو واضح ، والتزامه خلاف ظاهر الأكثر ـ يدفعه أنك قد عرفت انسياقه الى ما هو الغالب من العيلولة العرفية ، ودعوى شمولها للشرعية واضحة المنع بعد أن لم تكن لها حقيقة شرعية ، كدعوى عدم التعارض بين الخبر المزبور ونصوص العيلولة بعد التوافق في الحكم ، إذ لا يخفى ملاحظة المفهوم في نصوص العيلولة ، خصوصا في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المصرح فيه بالحصر ، فلا ريب في التعارض حينئذ ، نعم هو من وجه ، ولا ريب في أن الترجيح لنصوص العيلولة من وجوه ، ودعوى الترجيح للآخر ، بظاهر فتوى الأصحاب يدفعها أنه لم يتحقق عندنا الى الآن الشهرة على ذلك فضلا عن الإجماع ، خصوصا مع ملاحظة كلامهم في أول المبحث الظاهر في تعليق الحكم على العيلولة ، ولعل إطلاقهم في العبد أن فطرته على مولاه مبني على غلبة كونه كلا على مولاه ، لأنه إذا أكل من كسبه فهو من مولاه ، ضرورة كونه مالا له.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٣.

٥٠٣

ومن ذلك كله يظهر لك ضعف ما يحكى عن المبسوط من إطلاق كون فطرة الأبوين والأجداد والأولاد الكبار عليه مع إعسارهم ، وإن احتج له في المختلف بكونهم واجبي النفقة ، لكن قد أجاب في رده بأن الفطرة تابعة للنفقة لا لوجوبها ، وأضعف من ذلك ما يحكى عنه أيضا من أن نفقة الولد الصغير الموسر في ماله ، وفطرته على أبيه ، لأنه من عياله ، والتحقيق سقوطها عنهما ، أما الصغير فلاشتراط البلوغ ، وأما الأب فلعدم عيلولته به كما هو الفرض ، بل مما ذكرنا يظهر لك الاضطراب في كلام جملة من الأعلام حيث عللوا الحكم تارة بوجوب الإنفاق ، وأخرى بالعيلولة ، فلاحظ وتأمل.

هذا كله إذا لم يعلهما غيره ، أما إذا عالهما فلا إشكال عندنا في سقوط الفطرة حينئذ عن الزوج والسيد بناء على ما عرفت من دورانها على العيلولة ، كما لا إشكال لذلك في وجوبها على العائل مع يساره ، لإطلاق ما دل على وجوبها عليه ، نعم قد يشكل ذلك بناء على اقتضاء الزوجية والمملوكية وجوب الفطرة ، ضرورة تحقق سببي الوجوب فيهما ، وعدم الثني في الصدقة بعد تسليم شموله لما نحن فيه إنما يقتضي عدم الوجوب على كل منهما ، فالمتجه حينئذ التوزيع بينهما ، أو صيرورته كالواجب الكفائي يسقط بفعل أحدهما ، ويأتمان معا بالترك ، وكذا الاشكال على تقدير دوران وجوبها على وجوب الإنفاق ، فإنه متحقق في الفرض مع عدم قصد المعيل التبرع عنه في الإنفاق فتأمل جيدا ، فإنه قد يدفع ذلك كله بأن المراد كفاية الزوجية والملك وإن لم يكن عيلولة ، لا أن العيلولة إذا تحققت لم تؤثر ، بل لا شبهة في أنها أقوى لنطق النصوص فكل من عالهما وجبت عليه صدقتهما ، ولو جوزنا الثني في الصدقة لأوجبناها على العائل والزوج والمولى ، لكن ذلك كله كما ترى ، ولو كان المعيل معسرا سقط الفطرة عنه وعن الزوج والسيد بناء على ما قلناه ، لإعساره وعدم العيلولة منهما لكن‌

٥٠٤

صرح الشهيدان بوجوبها حينئذ عليهما ، وكأنهما بنياه على سببية الزوجية والملكية ، فالسقوط من جهة العيلولة لا يقتضي السقوط من جهتهما.

المسألة الثالثة كل من وجبت زكاته على غيره لضيافة أو عيلولة سقطت عن نفسه وإن كان لو انفرد وجبت عليه كالضيف الغني والزوجة وغيرهما بلا خلاف محقق معتد به أجده فيه بل في المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب ، بل عن شرح الإرشاد لفخر الإسلام الإجماع عليه ، نعم في البيان « ظاهر ابن إدريس وجوبها على الضيف والمضيف » والذي فهمه الأصبهاني من عبارته الوجوب على الضيف مع إعسار المضيف ، وهو غير ما نحن فيه ، فهو غير محقق الخلاف ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، لأنه لا ثني في صدقة ، ولأن ظاهر الأخبار المتضمنة لوجوب الزكاة على المعيل سقوطها عن المعال ، خصوصا نحو‌ خبر عبد الله بن سنان (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن صدقة الفطرة قال : عن كل رأس من أهلك الصغير منهم والكبير والحر والمملوك والغني والفقير ، كل من ضممت إليك » ، ولغير ذلك ، بل الظاهر سقوطها وإن لم يخرجها عنهم كما عن جماعة التصريح به ، بل ربما نسب إلى المشهور ، لتوجه الخطاب اليه دونهم ، فما عساه يظهر من الإرشاد ـ من اعتبار الإخراج في السقوط واحتمله في المسالك مع العلم بعدم الإخراج ـ واضح الضعف ، ودعوى ظهور لفظ « عن » في النصوص في النيابة المقتضية بقاء الخطاب على المنوب عنه إذا لم يؤد النائب يدفعها معلومية عدم كون المراد منها ذلك هنا ، ولذلك لم يفرق في التعبير بها بين الموسر والمعسر فلا ريب حينئذ في توجه الخطاب اليه دونهم ، وعليه يتفرع حرمة إعطائها للهاشمي إذا كان المعيل غير هاشمي وإن كان العيال هاشميين ، والجواز مع العكس ، وذلك لما عرفت من أنها زكاة المعيل وإن كانت عن العيال ، بل لو تكلفوا إخراجها بغير إذنه لم يجز عنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب زكاة الفطر ـ الحديث ١٢.

٥٠٥

ولا تكون فطرة ، لما عرفت من عدم الخطاب ، بل الظاهر ذلك أيضا حتى لو قصدوا التبرع بها عنه كما عن الشيخ في الخلاف التصريح به ، بل عن الفاضل في التحرير القطع به لعدم الدليل ، والقياس على الدين غير جائز ، خصوصا بعد الفارق من اعتبار النية التي لا يتصور وقوعها من غير المخاطب في المقام وعدمه فيه ، نعم استشكل فيه في القواعد من الأصالة والتحمل ، وفيه أنه لا حاصل له ، إذ الوجوب إن كان باقيا فلا تحمل ، وإلا فلا وجوب ، على أن عمومات الوجوب إن كانت شاملة لم يكن لما ذكره محصل ، لثبوت الوجوب عليهما ولا تحمل ، وإلا فلا وجوب عليها أصلا ، اللهم إلا أن يتكلف ويقال : إن الوجوب على كل منهما يتحقق ، فيسقط بفعل كل منهما ، لكن على ذلك لا تحمل ، كما هو واضح.

هذا كله في الإخراج بغير إذنه ، أما معها فعن الخلاف أنه لا خلاف في الاجزاء حينئذ ، وظاهره في المسالك كونه مفروغا منه ، ولعله لكونه حينئذ بمنزلة المخرج ، كما إذا أمر بأداء الدين والعتق ، وقد يشكل بأنه عبادة فلا يصح من غير من وجبت عليه والوكالة إنما صحت للدليل الذي صير فعل الغير ونيته فعل الموكل ونيته مع أنها من مال الموكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الاستيذان يتضمن التمليك ، فيكون الإخراج حينئذ من ماله ، لكنه كما ترى ، ومن ذلك تعرف أنه لا فرق في الاشكال بين الاذن وعدمها ، حتي أن ما سمعته من العلامة من الإشكال في الثاني للإشكال في الأصالة والتحمل بعينه جار في الاذن ، لأنها إن كانت واجبة عليه أصالة لم يكف الإذن إلا إذا انضم إليها الوكالة ، بل وكون الإخراج من ماله ، إلا أن يقال : إن الاذن توكيل ، أو المراد به المقرون به ، أو الاستئذان تمليك ، أو يثبت الإجماع عليه مؤيدا بقول الصادق عليه‌السلام في خبر جميل (١) : « لا بأس بأن يعطي الرجل عن عياله وهم غيب عنه ، ويأمرهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

٥٠٦

فيعطون عنه وهو غائب » إن لم نقل إن الظاهر منه أمر العيال بالإخراج من مال المعيل لكن الإنصاف أن ذلك كله بعد الإغضاء عما قدمناه في الزكاة المالية من جواز التبرع ، لصحيح منصور (١) الوارد في أداء المقرض الزكاة عما أقرضه ، وإلا كانت الصحة متجهة مع عدم الاذن فضلا عنها بناء على أولوية المقام منها ، ضرورة شدة شبهها في الدين منها ، بل قد سمعت سابقا احتمال جريان الفضولي فيها ، فلاحظ وتأمل ، وليس ذا من القياس كما في المدارك بل من تنقيح المساواة أو الأولوية ، فتأمل جيدا.

هذا كله مع يسار المعيل ، أما مع إعساره وإعسار المعال فلا خلاف ولا إشكال في سقوطها عنهما ، فان كان المعال موسرا فقد قطع الحلي بالوجوب عليه وقواه في المعتبر لإطلاق الأدلة ، خلافا لمحكي المبسوط والخلاف وإيضاح الفخر فلا وجوب للأصل المنقطع بما عرفت ، واضطرب كلام العلامة في المختلف ، فتارة فصل بين إعسار الزوج مثلا إلى حد يسقط نفقة الزوجة بأن لا يفضل معه شي‌ء البتة ، وبين ما لم ينته الحال إلى ذلك بأن كان الزوج ينفق عليها مع إعساره ، فإن كان الأول فالحق ما قاله ابن إدريس ، لعموم الأدلة المقتصر في تخصيصه على زوجة الموسر لمكان العيلولة ، وإن كان الثاني فالحق ما قاله الشيخ ، لأنها في عيلولة الزوج ، فسقطت فطرتها عن نفسها وعن زوجها لفقره ، وفيه أن العموم المزبور شامل لها أيضا ، ومجرد الإنفاق لا يصلح للتخصيص ، على أن الأول كأنه ليس محلا للبحث ، وأن موضع الاشكال ما إذا تكلف الزوج المعسر إعالة الزوجة الموسرة ، فلو أعالت نفسها وجب عليها الفطرة بغير إشكال ، وأخرى قال : « التحقيق أن الفطرة إن كانت بالأصالة على الزوج سقطت لإعساره عنه وعنها ، وإن كانت بالأصالة على الزوجة وإنما يتحملها الزوج سقطت عنه لفقره ووجبت عليها ، عملا بالأصل » وفيه أن ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب وإن اقتضى وجوب الفطرة بالأصالة على الزوج‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب من تجب عليه الزكاة ـ الحديث ٢.

٥٠٧

مع يساره إلا أن ذلك لا يقتضي سقوطها عن الزوجة الموسرة مع إعساره ، فلا ريب بعد ذلك كله في قوة القول الأول ، نعم يبقى شي‌ء ، وهو أن لو تكلف المعيل المعسر الإخراج امتثالا للأمر الندبي يسقط الوجوب عن الموسر من العيال ، لعدم الثني في الصدقة ، وظهور النصوص في اتحاد الفطرة ، وأنها إذا أخرجها المعيل لم يبق خطاب للمعال ، لكن في البيان أنه لمانع أن يمنع الندب في هذا ، وإنما المنصوص استحباب إخراجها للفقير عن نفسه وعياله ، والمفهوم من عياله الفقراء ، سلمنا لكن الندب قاصر عن الوجوب في المصلحة الراجحة ، فلا يساويه في الاجزاء ، وهو غير خال من الوجه والله أعلم.

فروع : الأول إذا كان له مملوك غائب يعرف حياته فان كان يعول نفسه باذن سيده أو في عيال مولاه وجبت على المولى لاندراجه حينئذ في إطلاق الأدلة ، إذ عيلولته لنفسه مرجعها للمولى وإن عاله غيره وجبت على العائل إن كان موسرا إجماعا بقسميه عليه ، وسقطت حينئذ عن السيد لما عرفت ، بل منه يعلم سقوطها عنه وإن كان معسرا ، لعدم العيلولة به عرفا ، وعن المعيل لإعساره ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا ، أما إذا كان عيلولته لنفسه بغير إذن سيده فظاهر إطلاق المتن وغيره أنه على المولى أيضا ، لكن أشكله في المدارك بعدم صدق العيلولة حينئذ ، وفيه أن التحقيق عدم تبعية صدقها وعدمه للاذن وعدمه ، فرب مأذون ليس عيالا عرفا ، ورب غير مأذون هو عيال كذلك ، فالأولى جعلها أي العيلولة مناطا للحكم كما تقدم سابقا ، ومن ذلك يعلم ما في كلام المصنف في المعتبر حيث قال فيه : « تجب الفطرة عن العبد الغائب الذي يعلم حياته والآبق والمرهون والمغصوب ، وبه قال الشافعي وكثير من أهل العلم وقال أبو حنيفة : لا يلزمه زكاته لسقوط نفقته كما تسقط عن الناشز ، لنا أن الفطرة تجب على من يجب أن يعوله ، وبالرق تلزم العيلولة » وحجته ضعيفة ، لأنا لا نسلم أن‌

٥٠٨

نفقته على غير المالك مع الغيبة وإن اكتفى بغير المالك ، كما لو كان حاضرا واستغنى بكسبه ، ولقد أجاد رده في المدارك بأن مقتضى الروايات أن الفطرة تابعة للعيلولة نفسها لا لوجوبها ، ودعوى أن الإجماع على عدم اعتبارها بالنسبة إلى المملوك واضحة المنع ، بل ظاهر عبارة المصنف السابقة في المسألة الثانية تحقق الخلاف في ذلك ، وأنه كالزوجة في اعتبار العيلولة عند بعض ، وقد تردد هو فيه ، بل عن المبسوط التصريح بأنه لا يجب فطرة العبد المغصوب على الغاصب ، ولا على المولى إلا أنه استدل للسقوط عن الثاني بعدم التمكن ، ويمكن أن يكون مراده الخروج عن العيلولة بذلك عرفا.

ومن هنا يتجه سقوطها عن العبد الغائب غيبة منقطعة وفاقا لصريح سيد المدارك وظاهر غيره ، لعدم صدق العيلولة ، واستصحاب بقائه حتى جاز عتقه عن الكفارة للإجماع المحكي وصحيح الجعفري (١) لا يستلزم صدقها ، بل قد عرفت عدم صدقها في بعض الأحيان حتى مع عدم الانقطاع فضلا عنه ، ولعله هو الذي إليه أشار المصنف بالتقييد بمعرفة الحياة ، لكن ذكر غير واحد أن للأصحاب في غير معروف الحياة قولين : أحدهما عدم الوجوب على المولى ، وهو المحكي عن الشيخ في الخلاف والفاضلين في المعتبر والمنتهى محتجين عليه بأنه لا يعلم أن له مملوكا ، فلا تجب عليه زكاته ، وبأن الإيجاب شغل للذمة فيقف على ثبوت المقتضي ، وهو الحياة ، وهي غير معلومة ، وبأن الأصل عصمة مال الغير فيقف انتزاعه على العلم بالسبب ، ولم يعلم ، وثانيهما الوجوب ، وهو المحكي عن ابن إدريس محتجا بأصالة البقاء ، ولذا صح عتقه عن الكفارة ، وأورد عليه بأن أصالة البقاء معارضة بأصالة براءة الذمة ، وبالمنع من إجزائه في الكفارة ، ومع التسليم يمكن الفرق بأن العتق إسقاط ما في الذمة من حقوق ، وهي مبنية على التخفيف بخلاف الفطرة التي هي إيجاب مال على المكلف لم يثبت سبب وجوبه ، لكن لا يخفى عليك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من كتاب العتق ـ الحديث ١.

٥٠٩

ما في الجميع بناء على ما ذكرنا من بناء الأمر على العيلولة وعدمها ، كما أنه لا يخفى عليك قوة ما قاله ابن إدريس بناء على أن السبب في وجوبها الملكية لا العيلولة ، ضرورة عدم صلاحية معارضة أصالة البراءة لاستصحاب بقائه ، ولا ينافيه عدم العلم بأن له مملوكا ، وإنما ينافيه العلم بالعدم ، فالمقتضي للشغل متحقق شرعا ، وكذا العلم بالسبب ، كما هو واضح.

بل من ذلك يعلم ما في كلام سيد المدارك فإنه وإن اعترف بعدم تحرير محل الخلاف في كلامهم لكن قال : إن كان المملوك الذي انقطع خبره كما ذكره الشهيد في البيان اتجه القول بعدم لزوم فطرته ، للشك في السبب وإن جاز عتقه في الكفارة للدليل ، وإن كان مطلق المملوك الذي لا يعلم حياته فينبغي القطع بالوجوب مع تحقق العيلولة إذا لم ينقطع خبره وإن لم تكن حياته معلومة ولا مظنونة كما في الولد الغائب وغيره ، إذ لو كان العلم بالحياة معتبرا لم يجب إخراج الفطرة عن غائب ، وهو معلوم البطلان ، ويدل على الوجوب مضافا إلى العمومات ما رواه‌ الكليني في الصحيح عن جميل بن دراج (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس أن يعطي الرجل عن عياله وهم غيب عنه ويأمرهم فيعطون عنه وهو غائب » وفيه ما لا يخفى عليك من أنه ينبغي القطع بذلك في الأول أيضا بناء على أن السبب الملك كما عرفته سابقا ، والله أعلم.

الفرع الثاني إذا كان العبد بين شريكين فالزكاة عليهما مع عيلولتهما به ، لفحوى مكاتبة محمد بن القاسم بن الفضيل البصري (٢) المتقدمة في أول الباب ، وإطلاق الأدلة المعلوم عدم الفرق فيها بين اتحاد المعيل وتعدده ، ولا بين كون المعال إنسانا أو بعض إنسان ، ودعوى أن المنساق منها خلاف ذلك ـ خصوصا بعد اشتمال بعضها بعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٣.

٥١٠

بيان وجوبها عن كل العيال على بيان قدرها ، وهو الصاع عن كل رأس ـ يدفعها أنه انسياق أظهرية ، فلا ينافي الحجية في غيره ، سيما بعد فهم الأصحاب وعدم معروفية الخلاف بينهم في ذلك في المقام وفي المكاتب الذي تحرر جزء منه ونحو ذلك ، نعم عن ابن بابويه منهم خاصة عدم وجوب الفطرة على الموالي إلا أن يكمل لكل واحد منهم رأس تام ، لخبر زرارة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قلت له : عبد بين قوم عليهم فيه زكاة الفطرة قال : إذا كان لكل إنسان رأس فعليه أن يؤدي عنه فطرته وإن كان عدة العبيد وعدة الموالي سواء أدوا زكاتهم كل واحد على قدر حصته ، وإن كان لكل إنسان منهم أقل من رأس فلا شي‌ء » ومال اليه بعض متأخري المتأخرين ، حيث قال : « وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند إلا أنه لا يبعد المصير إلى ما تضمنته لمطابقتها لمقتضى الأصل ، وسلامتها عن المعارض » وفيه أنه يعارضها إطلاق الأدلة أو عمومها ، مضافا إلى المكاتبة السابقة ، فلا يجدي بعد ضعف سندها مطابقتها للأصل المقطوع بذلك الذي لا ريب في عدم الفرق فيه بين اتحاد المعيل وتعدده ، وما نحن فيه من ذلك ، ولئن كان شك في الشمول فهو في نحو المكاتب الذي تحرر منه شي‌ء باعتبار ظهور الأدلة في كون المعال إنسانا تاما لا نصف إنسان مثلا ، وما نحن فيه من الأول لا الثاني ، لكن المتجه حينئذ بناء عليه سقوطها رأسا مع إعسار أحدهما ، لعدم صدق إيسار المعيل الذي هو عبارة عن مجموعهما لا كل واحد منهما ، نعم لو كان بناء المسألة على صدق العيلولة على كل منهما باعتبار عيلولة النصف مثلا اتجه حينئذ سقوط نصفها عن المعسر منهما ولزوم النصف الآخر على الآخر ، ولعل ذلك أقرب إلى كلام الأصحاب من سابقه خصوصا مع ملاحظة كلامهم في المكاتب الذي تحرر جزء منه ، وربما يقوى التعميم في الأمرين ، كما أنه يقوى في خصوص العبد دون غيره ملاحظة الاكتفاء بعيلولة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

٥١١

البعض ، وحينئذ فلا يقدح إعسار أحدهما في الوجوب على الآخر الموسر في حصته ، فلاحظ وتأمل.

وعلى كل حال فان عاله أحدهما تبرعا وكان موسرا فالزكاة على العائل دون الآخر ، وإن كان معسرا دونه ففيه البحث السابق ، نعم ينبغي أن يعلم أن مراد المصنف بالعائل ما ذكرنا من المتبرع بالنفقة على وجه يعد من عياله ، لا ما إذا تهايوا فيه واتفق وقت الوجوب في نوبة أحدهم ، فإن ذلك لا يقتضي اختصاصه بوجوب الفطرة ، ضرورة عدم صدق إطلاق أنه من عياله وإن صدق عليه أنه منهم مقيدا بذلك الوقت ، والمدار على الأول لا مطلق العيال ولو بالتقييد ، فتأمل جيدا فإنه نافع في كثير من الأفراد التي يتوهم فيها ذلك ، وقد أومأنا إليه سابقا في الضيف ، وقلنا : إنه ليس من أفراد إطلاق العيال ، فلا تشمله تلك الأدلة قطعا ، وإن كان قد يوهمه الخبر الوارد فيه كما أنه ينبغي أن يعلم عدم اعتبار اتحاد الجنس في المخرج وإن اتفق نوبتهم كما صرح به بعضهم ، لإطلاق الأدلة ، نعم في المسالك الأولى اتفاقهم في جنس المخرج ، ليصدق إخراج الصاع ، والله أعلم.

الفرع الثالث لو مات المولى أو غيره من العائلين وعليه دين فان كان بعد الهلال وجبت عليه زكاة مملوكه أو غيره من عياله في ماله سواء قلنا بأن وقت الأداء الفجر أو أول الليل ، ومن هنا لم يعتبر في الوجوب مضي زمان يمكن فيه الأداء ، لأنها بعد حصول السبب وهو الهلال دين في الذمة كغيرها من الديون ، فلا تقدم عليه ، ولا يقدم عليها ، بخلاف زكاة المال الباقية فيه بعد الموت ، فإنها تقدم على الديون باعتبار كونها في العين ، كما تقدم سابقا.

وحينئذ فـ ( ان ضاقت التركة ) ولو لتلف بعضها في الأثناء قسمت على‌

٥١٢

الدين والفطرة بالحصص على نحو الديون بلا خلاف ولا إشكال ، ولا فرق بين المملوك وغيره في ذلك ، وإنما خصه بالذكر تنبيها على عدم تعلقها برقبته ، أو ليفرع عليه ما بعده من قوله وإن مات قبل الهلال لم تجب الزكاة على أحد إلا بتقدير أن يعوله بناء على بقاء التركة على حكم مال الميت مع الدين المستوعب مع فرض البحث فيه أو مطلق الدين ، أما على القول بانتقالها إلى الوارث فالمتجه وجوب زكاته مع صدق العيلولة بناء على أنها المعتبرة في سبب الوجوب ، وإلا وجبت مطلقا ، لتحقق الملك حينئذ ، وذلك كله واضح مما تقدم سابقا.

الفرع الرابع إذا أوصي له بعبد وكان الثلث يسع ذلك ثم مات الموصى فإن قبل الموصى له الوصية قبل الهلال وجبت الفطرة عليه لصيرورته حينئذ ملكه ، فيكون فطرته عليه بناء على أنه السبب فيها ، وإلا اعتبر صدق العيلولة مع ذلك وإن قبل بعده سقطت عنه ، لكون الملك حينئذ بعد حصول سبب الوجوب ، فتسقط الفطرة حينئذ ، نعم لو قلنا : إن القبول كاشف عن الملك من حين الموت اتجه الوجوب حينئذ عليه ، مع احتمال العدم ، لاستحالة تكليف الغافل ، ولعدم صدق العيلولة به ، وفي المسالك أن الأصح الأول ، لما سيأتي إن شاء الله من أن القبول كاشف ، وعدم علمه حين الوجوب لا يقدح ، لأنه إنما يخاطب حال العلم ، كما لو ولد له ولد ولم يعلم به حتى دخل شوال ، وهو جيد بناء على ذلك لكن مع صدق العيلولة به عرفا وعلى تقدير النقل قيل تجب الفطرة حينئذ على الوارث لأن التركة إلى حال القبول ملك له ، فتكون الفطرة حينئذ عليه ، بل في المسالك احتماله مع الكشف أيضا باعتبار كونه مالكا ظاهرا ، ومن الممكن رد الموصى له الوصية ، وفيه أن المتجه السقوط عن الوارث على الاحتمالين كما عن الشيخ الجزم به في الخلاف والمبسوط بناء على بقاء المال الموصى به وصية نافذة على حكم مال الميت ، ومن هنا قال المصنف وفيه تردد وقد‌

٥١٣

أشحنا البحث في ذلك وفي حكم المنجزات في كتاب الحجر ، فلاحظ وتأمل.

ولو وهب له عبد قبل الهلال وقبل ولم يقبض لم تجب الزكاة على الموهوب له بناء على أن القبض شرط في الصحة ، إذ لا ملك حينئذ ولا عيلولة ، بل تبقى الزكاة على الواهب مع حياته ولو مات الواهب كانت على الورثة لانتقال المال إليهم حينئذ وبطلان الهبة وقيل والقائل الشيخ لو قبل الموهوب له ومات ثم قبض الورثة أي ورثة الموهوب له قبل الهلال وجبت عليهم بناء على عدم اعتبار القبض من الموهوب له في الصحة ، فلا تبطل الهبة حينئذ بالموت قبله وفيه تردد تعرفه إن شاء الله في محله ، ومن التأمل فيما ذكرنا يظهر لك الحال في المبيع بالخيار في الثلاثة وغيرها وفي الفضولي على النقل والكشف وفي غير ذلك ، بل لا يخفى عليك جريان البحث بناء على العيلولة أو على الملك والزوجية حتى في المطلقة الرجعية التي هي بحكم الزوجة ، أما البائن فلا ريب في عدم وجوب فطرتها إذا لم تكن حاملا ، فان كانت حاملا ففي البيان « وجبت فطرتها عليه سواء قلنا : النفقة للحمل أو الحامل ، قال : وبناها الفاضل على المذهبين فأسقطها إن قلنا بأنها للحمل ، إذ لا فطرة له ، قلنا : الإنفاق في الحقيقة على الحامل وإن كان لأجل الحمل » قلت : قد عرفت أن المدار على صدق العيلولة ، والله أعلم.

الركن الثاني من أركان زكاة الفطرة في جنسها وقدرها‌ ، والضابط في الأول إخراج ما كان قوتا غالبا كالحنطة والشعير ودقيقهما وخبزهما والتمر والزبيب والأرز منزوع القشر الأعلى واللبن كما هو المحكي عن أبي الصلاح وابني الجنيد وزهرة والفاضل ، بل في محكي منتهى الأخير منهما « الجنس ما كان قوتا غالبا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والأقط واللبن ، ذهب إليه علماؤنا أجمع » ونحوه عن المعتبر إلا أنهما اختارا بعد ذلك ما ذهب اليه الشيخ من عدم إجزاء الدقيق والسويق والخبز على‌

٥١٤

أنها أصول معللين ذلك بأن النص على الأجناس المذكورة ، فيجب الاقتصار عليها أو على قيمتها ، وهو ظاهر في الحصر فيها ، كما هو ظاهر اللمعة والشيخين في كتبهما ، قال المفيد في المقنعة : « وهي فضلة أقوات أهل الأمصار على اختلاف أقواتهم من التمر والزبيب والحنطة والشعير والأرز والأقط واللبن ، أهل كل مصر فطرتهم من قوتهم » وفي محكي المبسوط والفطرة يجب صاع وزنه تسعة أرطال بالعراقي وستة أرطال بالمدني من التمر أو الزبيب أو الحنطة أو الشعير أو الأرز أو الأقط أو اللبن ، قال : « والأصل في ذلك أنه فضلة أقوات البلد الغالب على قوتهم » ثم ذكر اختصاص أهل كل ناحية بشي‌ء منها. قال : « وإن أخرج واحد من هؤلاء من غير ما قلناه كان جائزا إذا كان من أحد الأجناس التي قدمنا ذكرها ، فتأمل » وكذلك اقتصر في المحكي من جميع كتبه على وجه يظهر منه الحصر ، وقال في الخلاف : « يجوز إخراج صاع من الأجناس السبعة ـ الى أن قال ـ دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا فالأجناس التي اعتبرناها لا خلاف أنها تجزي ، وما عداها ليس على جوازها دليل » وهو صريح في الحصر ، وعن سلار وابني حمزة وإدريس موافقتهما على ذلك ، بل في الدروس نسبته الى أكثر الأصحاب.

وحينئذ تكون هي المرادة من الضابط المزبور ، لا أنها مذكورة من باب المثال ، كما أن المراد من الغلبة في القوت بالنسبة إلى غالب نوع الإنسان ، ويؤيده أنها جملة ما اشتملت عليه الأخبار نصا ، وما اشتمل منها (١) على غيرها من الذرة والعدس والسلت ونحوها فقد نص في صحيح محمد بن مسلم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام على أنها لمن لا يجد الحنطة والشعير ، ولا يقدح ضعف السند في بعضها بعد انجباره بما عرفت ، وما في المدارك من الاقتصار على ما في الصحيح منها فحصرها في الحنطة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١٣.

٥١٥

والشعير والتمر والزبيب واللبن ـ مع انه كان عليه زيادة الذرة ، لاشتمال صحيح الحذاء (١) عليها ـ لم نعرفه قولا لأحد ، نعم يحكى عن الصدوقين وابن أبي عقيل الاقتصار على الأربعة الأول ، وهو مشعر بالحصر فيها ، ولعله لا يريدونه ، مع أنك قد عرفت دعوى الإجماع من الشيخ والفاضل وغيرهما على خلافه ، فلا ريب حينئذ في ضعفهما ، بل وضعف القول بالحصر في السبعة فضلا عنهما.

والأقوى كون المدار على الغلبة في القوت لغالب الناس كالأجناس الأربعة الزكوية ، أو القطر أو البلد كغيرها ، لمرسل يونس (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قلت : جعلت فداك على أهل البوادي الفطرة قال : فقال : الفطرة على كل من اقتات قوتا فعليه أن يؤدي من ذلك القوت » وخبر زرارة وابن مسكان (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « الفطرة على كل قوم مما يغذون عيالاتهم من لبن أو زبيب أو غيره » وخبر إبراهيم ابن محمد الهمداني (٤) « اختلفت الروايات في الفطرة فكتبت الى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام أسأله عن ذلك فكتب أن الفطرة صاع من قوت بلدك ، على أهل مكة واليمن والطائف وأطراف الشام واليمامة والبحرين والعراقين وفارس والأهواز وكرمان تمر ، وعلى أوساط الشام زبيب ، وعلى أهل الجزيرة والموصل والجبال كلها بر أو شعير ، وعلى أهل طبرستان الأرز ، وعلى أهل خراسان البر إلا أهل مرو والري فعليهم الزبيب ، وعلى أهل مصر البر ، ومن سوى ذلك فعليهم ما غلب قوتهم ، ومن سكن البوادي من الأعراب فعليهم الأقط » بل فيما في ذيله من الاجتزاء بالأقط وهو لبن جاف مستحجر غير منزوع الزبد من الإيماء الى ما ذكرنا ما لا يخفي كنصوص اللبن ، ضرورة عدم كونهما من الأقوات الغالبة لغالب الناس ، وإنما هما لبعضهم ، وفي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٢.

٥١٦

خبر حماد ويزيد ومحمد بن مسلم (١) عن الصادقين عليهما‌السلام « سألناهما عن زكاة الفطرة ، قالا : صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو نصف ذلك كله حنطة أو دقيق أو سويق أو ذرة أو سلت » وفي صحيح الحذاء (٢) عن الصادق عليه‌السلام « صاع من تمر أو صاع من زبيب أو صاع من شعير أو صاع من ذرة ».

هذا كله مضافا الى ما في تكليف الإنسان من شراء غير قوته وصرفه الى الفقراء من الحرج والمشقة والضرر المنفية بالآية (٣) والرواية (٤) والى ما في اختلاف نصوص المقام بالزيادة والنقصان من الإيماء الى ما ذكرنا من أن الضابط ذلك ، وأنها أمثلة ، فنقص في صحيح صفوان (٥) الشعير ، وفي صحيح عبد الله بن ميمون (٦) البر وزيد الأقط ، واقتصر في صحيح معاوية (٧) على التمر والزبيب والشعير وترك الحنطة وغيرها ، وفي‌ صحيح الحلبي (٨) « صاع من تمر أو نصف صاع من بر » وفي‌ صحيح عبد الله ابن سنان (٩) « صاع من حنطة أو صاع من شعير » وقد سمعت صحيح الحذاء ، الى غير ذلك من النصوص المبنية على ما ذكرنا ، وأن الاقتصار في كثير منها على السبعة أو بعضها لغلبة التقوت به.

ولعل ما ذكرنا هو مراد المنتهى والمعتبر وغيرهما ممن عرفت بقرينة ذكرهم الضابط المزبور ، ولا ينافيه ما ذكراه في الدقيق والخبز ، لاحتمال كون المراد اعتبار الأسماء الواردة في النصوص ، فيكون الحاصل حينئذ اعتبار الصاع من القوت الغالب حنطة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١٠.

(٣) سورة الحج ـ الآية ٧٧ وسورة البقرة ـ الآية ١٨١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣ و ٤ و ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١٢.

(٩) الاستبصار ج ٢ ص ٤٧ ـ الرقم ١٥٥.

٥١٧

أو شعيرا أو نحوهما ، فلا يجزي الدقيق والخبز ولا غيرهما من الفروع وغيرها مما لا يندرج تحت الاسم كالرطب والعنب ونحوهما إلا على جهة القيمة.

بل الظاهر انسياق الصحيح منها ، فلا يجزي المعيب كما نص عليه في الدروس ، بل ولا الممزوج بما لا يتسامح فيه إلا على جهة القيمة ، لفقد الاسم المتوقف عليه الامتثال أو المنساق منه عند الإطلاق ، خصوصا مع ملاحظة عدم إجزاء ذات العوار والمريضة في الزكاة المالية وإن كان هو من القوت الغالب ، اللهم إلا أن يفهم الأولوية ، وأن المراد اليسر على المالك بعدم تكليفه الطحن ونحوه ، وهو غير بعيد ، خصوصا مع ملاحظة الخبر المزبور الظاهر في الاجزاء أصالة لا قيمة ، ولعله لذا جزم المصنف هنا بإجزائهما ، وفي‌ خبر عمر بن يزيد (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته يعطى الفطرة دقيقا مكان الحنطة قال : لا بأس ، يكون أجرة طحنه بقدر ما بين الحنطة والدقيق » ولعل مراد السائل إعطاء الدقيق أعني الذي يحصل من صاع من الحنطة بعد وضع أجرة الطحن منها كما يستفاد من الجواب ، وعلى كل حال فهو خارج عما نحن فيه من إجزاء القوت الغالب في نفسه وإن لم يكن قوتا للمخرج وفي خصوص قطر المخرج أو بلده ، وعدم اجزاء غير الغالب في شي‌ء من الأحوال الثلاثة ، لكن الاحتياط في الاقتصار على السبعة بل الخمسة بل الأربعة لا ينبغي تركه.

وكيف كان فيجزيه من غير ذلك أن يخرج بالقيمة السوقية مع التمكن من الأنواع بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منه فوق الاستفاضة كالنصوص ، قال‌ محمد بن إسماعيل بن بزيع (٢) : « بعثت الى الرضا عليه‌السلام بدراهم لي ولغيري وكتبت له أنها من فطرة العيال فكتب بخطه قبضت وقبلت » وقال أيوب بن نوح (٣) « كتبت الى أبي الحسن عليه‌السلام أن قوما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٣.

٥١٨

يسألوني عن الفطرة ويسألوني أن أحمل قيمتها إليك ، وقد بعثت إليك العام عن كل رأس من عيالي بدرهم على قيمة كل تسعة أرطال بدرهم ، فرأيك جعلني الله فداك في ذلك ، فكتب عليه‌السلام الفطرة قد كثر السؤال عنها ، وأنا أكره كل ما أدي الى الشهرة ، فاقطعوا ذكر ذلك ، واقبض ممن دفع لها وأمسك عمن لم يدفع » وقال إسحاق بن عمار (١) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ما تقول في الفطرة أيجوز أن أؤديها فضة بقيمة هذه الأشياء التي سميتها؟ قال : نعم ، إن ذلك أنفع له يشتري ما يريد » وعنه أيضا في موثقه الآخر (٢) « لا بأس بالقيمة في الفطرة ».

بل ربما استفيد من الأخير إخراج القيمة من الدراهم وغيرها ، بل عن مبسوط الشيخ التصريح بهذا التعميم ، فقال : « يجوز إخراج القيمة عن أحد الأجناس التي قدرناها سواء كان الثمن سلعة أو حبا أو خبزا أو ثيابا أو دراهم أو شيئا له ثمن بقيمة الوقت » وأشكله في المدارك بقصور الرواية المطلقة من حيث السند عن إثبات ذلك ، واختصاص الأخبار السليمة بإخراج القيمة من الدراهم ، وفيه ما تبين في الأصول من حجية الموثق ، نعم قد يشكل بانصراف خصوص النقدين من القيمة ، بل الظاهر المسكوك منهما ، لكن قد تقدم في الزكاة المالية ما يستفاد منه قوة التعميم المزبور هنا ، ضرورة أولويته منها أو مساواته ، فلاحظ وتأمل ، بل ربما ظهر من خلاف للشيخ وغيره كون المسألتين من باب واحد ، فيكون حينئذ ذلك من معقد إجماعه كما هو ظاهر غيره ، بل لم يظهر الخلاف إلا من ظاهر مقنعة المفيد. ولعله لا يريده ، والاقتصار في النصوص على الدراهم لغلبتها في ذلك الزمان ، وإلا فلا ريب في إجزاء الدنانير وغيرها من النقد المسكوك ، والظاهر خروج ما يكون كالصلح مع الحاكم الذي هو ولي الفقراء عن البحث ، كخروج المدفوع الى الفقير بثمن من النقد ثم يحتسب ذلك فطرة عنه أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٩.

٥١٩

بل قد يقال باجزاء المدفوع الى الفقير على جهة الوفاء عن الفطرة على حسب دفع المديون بالنقد مثلا للديان من غيره مع الرضا به ، بناء على كون الوفاء فيه بإثبات قيمة المدفوع في ذمة المدفوع اليه على وجه يقع التهاتر قهرا ، إذ الفطرة من جملة الديون للفقراء الذين جعل الشارع قبض واحد منهم كافيا في الاجزاء ، لكنه لا يخلو من نظر أو منع ، والاحتياط لا ينبغي تركه.

ثم على الجواز لو أخرج نصف صاع أعلى قيمة يساوي صاعا أدون قيمة منها أو من غيرها فالأصح عدم الاجزاء ، وفاقا للبيان والمدارك ، لظهور كون قيمة الأصول من غيرها ، خصوصا وليس في الأدلة التخيير بين الصاع من كل نوع وقيمته حتى يدعى ظهوره في تناول القيمة للنوع الآخر ، وإنما الموجود فيها ما عرفت مما هو ظاهر فيما ذكرنا ، وربما يؤيد ذلك ما تسمعه من النصوص (١) الآتية المشتملة على إنكار ما وقع في زمن عثمان ومعاوية من الاجتزاء بنصف صاع من حنطة باعتبار غلو سعرها كما ستعرف ، وليس ذلك مبنيا على الاجتزاء به أصلا ، ضرورة عدم وجوب نية ذلك وظهور تلك النصوص في غيره ، نعم لو باعه من الفقير مثلا بثمن أراد احتسابه قيمة صاع من الأدون لم يكن في ذلك بأس ، وحينئذ فقد ظهر لك أن ما في المختلف من الاجتزاء بالنصف المزبور عن الصاع من الأدون لا يخلو من نظر ، وقد تقدم نظير ذلك في الزكاة المالية ، ولا فرق فيما ذكرنا بين صاع نفسه وصاع من يعوله للاتحاد في المدرك قيل وربما يوجد الفرق في بعض القيود ، وليس بشي‌ء ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( الأفضل إخراج التمر ) عند الأكثر ، لقول الصادق عليه‌السلام (٢)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب زكاة الفطرة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٨.

٥٢٠