جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

هذا كله في التأخير وأما التعجيل فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنه لا يجوز تقديمها قبل وقت الوجوب ، فان آثر ذلك دفع مثلها قرضا ولا يكون ذلك زكاة ولا يصدق عليها اسم التعجيل فإذا جاء وقت الوجوب احتسبها زكاة إن شاء كغيرها من الديون بشرط بقاء المقترض على صفة الاستحقاق ، خلافا لابن أبي عقيل وسلار ، قال الأول : « يستحب إخراج الزكاة وإعطاؤها في استقبال السنة الجديدة في شهر المحرم ، وان أحب تعجيله قبل ذلك فلا بأس » وقال أيضا : « ومن أتاه مستحق فأعطاه شيئا قبل حلول الحول وأراد أن يحتسب به في زكاته أجزأه إن كان قد مضى من السنة ثلثها إلى ما فوق ذلك ، وإن كان قد مضى من السنة أقل من ثلثها فاحتسب به من زكاته لم يجزئه ، بذلك تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام » وقال سلار : « وقد ورد الرسم بجواز تقديم الزكاة عند حضور المستحق » لكن الثاني لا صراحة في كلامه ، بل ولا ظهور معتد به ، فينحصر الخلاف حينئذ في الأول الذي دعاه إلى ذلك ما سمعته من دعوى تواتر النصوص اليه ، وإن كان ما وصل إلينا منها ليس كذلك.

نعم قد سمعت صحيحتي (١) حماد ومعاوية بن عمار (٢) وفي الصحيح عن أبي بصير (٣) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن رجل يكون نصف ماله عينا ونصفه دينا فتحل عليه الزكاة قال : يزكي العين ويدع الدين ، قلت : فانه اقتضاه بعد ستة أشهر قال : يزكيه حين اقتضاه ، قلت : فإنه هو حال عليه الحول وحل الشهر الذي كان يزكي فيه وقد أتى لنصف ما له سنة ونصف الآخر ستة أشهر قال : يزكي الذي مر عليه سنة ويدع الآخر حتى تمر عليه سنة ، قلت : فإذا اشتهى أن يزكي ذلك قال : ما أحسن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٩.

(٣) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب من تجب عليه الزكاة ـ الحديث ٩ وذيله في الباب ٤٩ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

٤٦١

ذلك » وفي الصحيح عن الحسين بن عثمان عن رجل (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن الرجل يأتيه المحتاج فيعطيه من زكاته في أول السنة فقال : إن كان محتاجا فلا بأس » وخبر أبي بصير (٢) عن الصادق عليه‌السلام أيضا « سألته عن الرجل يعجل زكاته قبل المحل قال : إذا مضت خمسة أشهر فلا بأس » وخبره الآخر المروي (٣) عن مستطرفات السرائر المتقدم آنفا في المسألة السابقة ، وخبر الأحول (٤) الآتي.

لكن في مقابلتها حسن عمر بن يزيد (٥) أو صحيحه المتقدم سابقا ، وصحيح زرارة (٦) « قلت للباقر عليه‌السلام : أيزكي الرجل ماله إذا مضى ثلث السنة؟ قال : لا ، أيصلي الأولى قبل الزوال » مضافا إلى ما دل من النصوص (٧) على اعتبار الحول وأنه لا شي‌ء في المال قبله ، بل مما ذكر في الصحيحين (٨) المزبورين من الاستدلال على عدم جواز التعجيل إشعار بخروج تلك النصوص مخرج التقية ، لأن المحكي في التذكرة عن الحسن البصري وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد جواز التعجيل مع وجود سبب الوجوب ، وهو النصاب كما لا يخفى على من رزقه الله معرفة رمزهم عليهم‌السلام وما يلحنون به من أقوالهم.

ولعل هذا أولى مما جمع به الشيخ بينها في التهذيب والاستبصار ، قال في الأول : « ليس لأحد أن يقول : إن هذه الأخبار مع تضادها لا يمكن الجمع بينها ، لأنه يمكن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب زكاة الأنعام والباب ١٥ ـ من أبواب زكاة الذهب والفضة.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ و ٣.

٤٦٢

ذلك ، لأنه لا يجوز عندنا تقديم الزكاة إلا على جهة القرض ، ويكون صاحبه ضامنا له متى جاء وقت الزكاة وقد أيسر المعطى ، وإن لم يكن أيسر فقد أجزأ عنه ، وإذا كان التقديم على هذا الوجه فلا فرق بين أن يكون شهرا أو شهرين أو ما زاد على ذلك ، والذي يدل على هذه الجملة ما رواه‌ محمد بن علي بن محبوب عن أحمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن الأحول (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل عجل زكاة ماله ثم أيسر المعطى قبل رأس السنة فقال : يعيد المعطى الزكاة » وروى هذا الحديث محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله » وقال في الثاني : « الوجه في الجمع بين هذه الأخبار أن يحمل جواز تقديم الزكاة قبل حلول وقتها على أن يجعلها قرضا على المعطى ، فإذا جاء وقت الزكاة وهو على الحد الذي يحل له الزكاة وصاحبها على الحد الذي يجب عليه الزكاة احتسب به منها ، وإن تغير أحدهما عن صفته لم يحتسب بذلك ، ولو كان التقديم جائزا على كل حال لما وجب عليه الإعادة إذا أيسر المعطى عند حلول الوقت ـ قال ـ : والذي يدل على ذلك ما رواه محمد بن علي ابن محبوب » إلى آخر ما في التهذيب.

وأورد عليه في المعتبر بأن ما ذكره شاهدا على الجمع لا دلالة فيه ، إذ يمكن القول بجواز التعجيل مع ما ذكره ، مع أن الرواية تضمنت أن المعجل زكاة ، فتنزيله على القرض تحكم ، وكأن الأقرب ما ذكره المفيد من تنزيل الرواية على ظاهرها في الجواز فيكون فيه روايتان ، وفيه ـ بعد الإغضاء عما حكاه عن المفيد كما لا يخفى على من لاحظ المقنعة ـ أن عبارة التهذيب ليست نصا في الاستدلال بها على ما ذكره من التأويل ، إذ من المحتمل كون المراد من هذه الجملة في كلامه ما ذكره « ويكون صاحبه ضامنا » إلى آخره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٦٣

وعبارة الإستبصار ناصة على وجه الاستدلال بها ، وهو وجه وجيه ، فان يسار المستحق بعد أخذه الزكاة على وجه الزكاة لا أثر له فيما أخذه ، فالروايات إن لم تصلح أدلة على ذلك فلا تقصر عن التأييد ، لكن عن المنتهى القطع باعتبار هذا الشرط على تقدير تعجيل الزكاة ، فلا بد حينئذ من بقاء صفة الاستحقاق حال وجوب الزكاة ، لصحيح الأحول السابق ، ولما في المدارك من أن الدفع يقع مراعى في جانب الدافع اتفاقا فكذا القابض ، وإن كان للنظر فيه مجال إن لم يحصل إجماع عليه ، ودونه خرط القتاد ، وحمل صحيح الأحول على ذلك ليس بأولى من جعله دليلا على عدم جواز التعجيل الذي يومي اليه كثير من النصوص الدالة على القرض للزكاة ، ضرورة أن لو كان التعجيل مشروعا لم يحتج إلى جعل ذلك قرضا ، كخبر عقبة بن خالد بن عثمان بن عمران (١) « دخل على أبي عبد الله عليه‌السلام وقال له : إنه رجل موسر فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : بارك الله في يسارك ، قال : ويجيئني الرجل يسألني الشي‌ء وليس هو إبان زكاتي فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : القرض عندنا بثمانية عشر والصدقة بعشرة ، وماذا عليك إن كنت موسرا أعطيته فإذا كان إبان زكاتك احتسب بها من الزكاة » وغيره من النصوص ، والقياس على حال الدافع الذي لا إشكال في اعتبار بقائه على صفة الوجوب بناء على التعجيل لا نقول به ، خصوصا مع الفارق ، ضرورة انكشاف عدم الزكاة مع فقد شي‌ء مما يعتبر فيه ، فلا زكاة حينئذ حتى تكون معجلة ، بخلاف صفة القابض ، فان المعتبر حصولها حال الدفع ، لأن الفرض كونها زكاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ وفروع الكافي ج ٢ ص ٣٤ الطبع الحديث والصحيح هكذا « كخبر عقبة بن خالد أن عثمان بن عمران دخل. » وتقدم الحديث أيضا بهذا المضمون في ص ٣٦٣.

٤٦٤

فلا مدخلية لمراعاة حاله حال الوجوب ، إذ هو حينئذ كالدفع بهلال الثاني عشر بناء على عدم استقرار الوجوب إلا بالثاني عشر ، فان ارتفاع صفة الاستحقاق للقابض ما بين الثاني عشر إلى الثالث عشر لا يقتضي فساد ما وقع من الدفع زكاة ، بخلاف صفات الدافع والمال ، فإنه ينكشف حينئذ بفقد شي‌ء منها عدم وجوب الزكاة ، وأن ذلك الوجوب كان ظاهريا كما عرفته في محله.

ومن هنا بان لك فساد آخر في القول بالتعجيل ، ضرورة أنه إذا كان كالوجوب بالأحد عشر شهرا اقتضى عدم اعتبار الحول في الوجوب ، فلا بد من طرح ما دل عليه من النصوص ومعاقد الإجماعات ، كطرح ما تقدم من الأدلة على أن الوجوب إنما يحصل بهلال الثاني عشر وأنه لا وجوب قبله ، وإن اختلفوا في كونه حينئذ مستقرا أو متزلزلا واحتمال أن القائل بالتعجيل يدعي كونه رخصة أو ندبا يسقط به الواجب لا أنه واجب من أول السنة كالخمس عند ظهور الربح يدفعه أنه لا يتم عليه ما ذكره من اعتبار النية كالزكاة في الوقت فيه ، وأنه إن خرج الدافع أو المال عن صفة الوجوب استعيدت العين من المدفوع اليه ، ولو كانت كذلك لم يكن وجه للرجوع ، ضرورة كونه حينئذ كتقديم الغسل يوم الخميس ، وكتقديم صلاة الليل على وقتها ، ولئن أغضينا عن ذلك كله كانت النصوص قاصرة أيضا عن إثبات التعجيل على هذا الوجه ، كقصورها عن إثبات كونه قرضا يكون زكاة قهرا عند حلول وقت الوجوب من غير حاجة إلى نية ونحوها ، فلا وجه حينئذ لحملها عليه أو على كونه قرضا على الزكاة على حسب استقراض المجتهد عليها ، فلا تكون ذمة الفقير حينئذ مشغولة ، ويكون الدفع اليه كالصرف في سبيل الله على الزكاة ، فإنه لا شغل ذمة فيه لأحد ، ولا على كون المراد منها أنه ليس قرضا محضا ولا زكاة معجلة كما يومي اليه بعض الفروع المحكية عن الشيخ ، ولا غير ذلك مما هو مخالف للضوابط والقواعد التي من الواضح قصور هذه النصوص عن معارضتها من وجوه‌

٤٦٥

فليس حينئذ إلا الطرح أو الحمل على التقية ، وأما الحمل على القرض الذي سمعته فهو وإن كان المحمول عليه غير مخالف للضوابط لكن يبعد حملها عليه تقييد بعضها في كلام الامام عليه‌السلام بالشهر والشهرين ونحوهما مما لا يناسب ذلك ، كما أنه لا يناسبه إطلاق اسم التعجيل زكاة كما هو واضح ، ولولا ذلك لكان حملها على إرادة تقديم نية كونها زكاة ، والاجتزاء باستمرار هذا العزم إلى حصول وقت الوجوب ، فتكون زكاة حينئذ عند حلول الوقت باعتبار حصول الداعي سابقا ، والاستمرار عليه على نحو نية الصوم ، أو على غير ذلك مما هو أقرب منه ، لكن لا يخفى على من رزقه الله معرفة رموزهم عليهم‌السلام ولحن قولهم أن المتجه حملها على التقية ممن عرفت ، والله أعلم.

وكيف كان فلو دفع المالك على جهة القرض فإذا جاء وقت الوجوب احتسبها من الزكاة إن شاء كغيرها من الدين على الفقير بشرط بقاء القابض على صفة الاستحقاق وبقاء الوجوب في المال بلا خلاف ولا إشكال في شي‌ء من ذلك ، بل قد عرفت الحال في ذلك لو دفعها زكاة معجلة وقلنا بجوازه ، أما على الفساد فالمتجه بقاؤه على ملك الدافع ، ضرورة عدم كونه قرضا ، لعدم قصده ، وعدم كونه زكاة ، لأن الفرض عدم جواز التعجيل ، فالمال حينئذ باق على ملك الدافع مع وجود عينه ، ومضمون على القابض بالمثل أو القيمة مع التلف إذا كان عالما بالحال ، نعم للمالك احتساب العين أو مثلها أو قيمتها زكاة جديدا عند حلول الوقت إذا اجتمعت الشرائط كما هو واضح ، إذ فساد الدفع السابق لا ينافي شيئا من ذلك.

ولو كان النصاب مما يتم بالقرض لم تجب الزكاة سواء كانت عينه باقية أو تالفة على الأشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأن التحقيق عندنا كما أشبعنا الكلام فيه في محله أن القرض يملك بالقبض ، وأنه لا زكاة في الدين عندنا من غير فرق بين القرض وغيره ، وبين بلوغه نفسه نصابا وبين كونه مكملا له ، وأن تبديل النصاب في‌

٤٦٦

الأثناء بجنسه أو بغير جنسه مسقط للزكاة ، لانثلام النصاب في الحول ، ولم يصدق عليه أن الحول قد حال على مال مخصوص بعينه ، خلافا للشيخ في جميع ذلك ، فقال : « إن القرض يملك بالتصرف دون القبض » وقال : « إن الزكاة تجب في الدين » وقال : « إن تبديل النصاب في أثناء الحول لا يسقط الزكاة » ومقتضى جميع ذلك أو بعضه أن النصاب إذا تم بالقرض وجبت الزكاة مع وجود العين ، بل ومع تلفها إذا فرض كون مثلها أو قيمتها مكملة للنصاب كما في الدراهم والدنانير ، ولعله على ذلك بنى ما يحكي عن مبسوطة من أنه إذا كان عنده أربعون شاة فعجل واحدة ثم حال الحول جاز أن يحتسب بها ، لأنها بعد في ملكه ما دامت عينها باقية ، واستدل عليه في محكي الخلاف بأنه ثبت أن ما يعجله على وجه الدين وما يكون كذلك فكأنه حاصل عنده ، وجاز له أن يحتسب به ، لأن المال ما نقص عن النصاب ، لكن عن المنتهى « أن هذا الكلام من الشيخ يدل على أن المدفوع ليس قرضا محضا ولا زكاة معجلة » وفيه أن ما ذكرناه أولى.

ومن هنا صرح في البيان بأنه مبني على ما صرح به قبيل ذلك من أنه لا يملكه المقترض ما بقيت عينه ، وفرع عليه أن العين إن زادت فالزيادة للمالك متصلة كانت أم منفصلة ، وفي المدارك ـ بعد أن ذكر ما يقرب من ذلك واستضعفه ـ قال : ونقل عنه قول آخر بأن النصاب لا ينثلم بالقرض مطلقا إذا تمكن المالك من استعادته ، بناء على وجوب الزكاة في الدين إذا كان مالكه متمكنا منه ، قال في المعتبر : وهذا ليس بجيد ، لأنا بينا أن ما يدفعه يكون قرضا ، ولا ريب أن القرض يخرج عن ملك المقرض فلا يتم به النصاب ، ويتوجه أنه لا ريب في خروج القرض عن ملك المقرض إلا أن ما ثبت في ذمة المقترض من المثل أو القيمة من أقسام الدين ، فيمكن تعلق الزكاة به عند من قال بوجوبها في الدين ، وعدم سقوط الزكاة بإبدال النصاب أو بعضه بالمثل ،

٤٦٧

ولا يخفى عليك رجوع ذلك كله إلى ما أشرنا اليه ، ويمكن أن يكون المراد مما في المبسوط بيان عدم فساد الدفع زكاة على القول بالتعجيل باعتبار اقتضائها نقص النصاب ، لأن هذا النقص غير قادح باعتبار كونه من حيث تعجيل الزكاة الذي هو بحكم البقاء على ملك المالك بالنسبة إلى هذه الجهة.

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرناه أنه لو خرج المستحق عن الوصف استعيدت العين منه إن دفعها وإلا فمثلها أو قيمتها ، لأنها قرض عليه ، ومن هنا كان له أن يمتنع من إعادة العين ببذل القيمة عند القبض إن كانت العين المدفوعة من القيمي ، ضرورة كونه حينئذ كالقرض الذي لم يعزم صاحبه على احتسابه زكاة ، وقد حررنا الحال فيه في محله ، وقلنا هناك إن كانت العين المستقرضة مثلية ثبت مثلها في ذمة المستقرض ، فيتخير حينئذ بين دفع تلك العين أو غيرها ، لكون الجميع من أفراد المثل الثابت في الذمة ، وإن كانت قيمية ثبت قيمتها في الذمة لا مثلها على الأصح ، فلا يلزم المستقرض حينئذ بالعين المدفوعة التي ملكها بالقبض عندنا كما أنه لا يلزم المقرض بقبولها على الأصح لو دفعت إليه ، لأن الثابت له في الذمة القيمة.

ولو تعذر استعادتها من المقترض غرم المالك الزكاة من رأس وبقي له ذلك المال في ذمته كما هو واضح.

ولو كان المستحق على الصفات وحصلت شرائط الوجوب جاز له أن يحتسبها عليه وأن يستعيدها ويعطي عوضها ، لأن الفرض كون ها قرضا ولم تتعين زكاة وحينئذ فـ ( يجوز ) له أن يعدل بها عمن دفعت إليه أيضا فيدفعها إلى غيره ، وأن يدفع غيرها اليه وإلى غيره ، نعم لو قلنا بكونها زكاة معجلة لم يجز شي‌ء من ذلك ، لصيرورتها زكاة حينئذ ، ولو دفعها على هذا الوجه وقلنا بفساد التعجيل وكان القابض عالما بقيت العين على ملك الدافع ، وكانت مضمونة على القابض لو تلفت يرجع المالك‌

٤٦٨

عليه بالمثل أو القيمة ، أما لو كان مغرورا من المالك كما إذا لم يعلم بالحال ودفعها اليه على أنها زكاة وتلفت في يده فالمتجه عدم الرجوع عليه ، لغروره ، وذلك كله واضح بحمد الله.

فروع بناء على القرض‌ الأول لو دفع إليه أي المستحق شاة قرضا فزادت زيادة متصلة كالسمن أو لم تزد لم يكن له استعادة العين على وجه يلزم المقترض به مع ارتفاع الفقر وعدمه ، لأن القرض يملك عندنا بالقبض ، والقيمي يضمن بقيمته ، فـ ( للفقير حينئذ بذل القيمة ، وكذا لو كانت الزيادة منفصلة كالولد لكن لو ) تراضيا على دفع الشاة لم يجب عليه دفع الولد لأنه نماء ملكه ، وبذلك يظهر أن تقييد المصنف الحكم المزبور بالزيادة وارتفاع الفقر ليس في محله ، اللهم إلا أن يكون مبناه على غلبة عدم تعلق غرض المالك باستعادة العين بدونهما ، وهو كما ترى ، وأضعف منه توجيه اعتبار الأول بأنه مع الزيادة يمنع إلزام المالك بالإعادة بكل وجه ، أما بدونه فقد ثبت جواز الإلزام على القول بأن الواجب في قرض القيمي المثل إذا انحصرت الأفراد المطابقة للحق في تلك العين ، ويكون المراد حينئذ عدم وجوب الدفع على هذا التقدير ، لخروجها بالسمن المتجدد عن المماثلة ، فهو حينئذ من تعذر المثل ضرورة أن مقتضى كلامه في هذا الفروع وما بعده لزوم القيمة في القيمي ، على أنه لا إشعار في العبارة بتعذر المثل ، كما هو واضح ، بل لا يخفى عليك بعد التأمل فيما ذكرنا ما وقع لثاني الشهيدين في المسالك ، فلاحظ وتأمل ، كما أنه لا يخفى عليك الحال بناء على عدم ملك المقترض بالقبض ، ولا حكم الدفع زكاة معجلة ، وقلنا بفساده أو انكشف عدم الوجوب باختلال أحد الشرائط ، والله أعلم.

الفرع الثاني لو نقصت الشاة قيل والقائل الشيخ يردها ولا شي‌ء على الفقير لعدم ملك المقترض بالقبض عنده ، وفيه أنها مضمونة في يده وإن لم يملكها‌

٤٦٩

بالقبض كما لو تلفت والوجه بناء على المختار لزوم القيمة حين القبض لأن القرض يملك بالقبض ، فتثبت القيمة حينئذ في الذمة ، أما لو كانت زكاة معجلة بناء على الصحة كذلك وانكشف عدم الوجوب فقد يقال بعدم الضمان لو كان النقصان بآفة سماوية للأصل ، مع احتماله لأن اليد يد ضمان ، فيشمله‌ عموم (١) « على اليد » كما لو تلفت ، ولو دفعها زكاة معجلة وقلنا بالفساد وكان عالما بالحال اتجه ضمان النقص ، ضرورة كونه كالتلف ، وذلك كله واضح بحمد الله.

الفرع الثالث إذا استغنى المقترض بعين المال ثم حال الحول جاز احتسابه عليه ، ولا يكلف المالك أخذه وإعادته لما قدمناه سابقا من اعتبار ما يقابل الدين في مئونة السنة التي يحصل بها وصف الغنى المانع من الاحتساب ، وحينئذ فهو فقير لا بأس باحتسابه عليه وإن استغنى به ، إذ هو كالفقير الذي يدفع اليه ما يغنيه ، خلافا لابن إدريس فمنعه باعتبار كونه غنيا ، لأن المقترض يملك ما استقرضه دون القارض ، فهو غني حينئذ ، قال : « وعندنا أن من عليه دين وله من المال الذهب والفضة بقدر الدين وكان ذلك المال الذي معه نصابا فلا يعطى من الزكاة ، ولا يقال : إنه فقير يستحق الزكاة ، بل يجب عليه إخراج الزكاة مما معه ، لأن الدين عندنا لا يمنع من وجوب الزكاة ، لأن الدين في الذمة والزكاة في العين » ولا يخفى عليك ما فيه من الخبط بين المسألتين ، ضرورة الفرق بين عدم منع الدين وجوب الزكاة على من ملك النصاب وبين اقتضائه وصف الفقر إذا فرض قصور ماله عن مقابلته ومئونة سنته ، وبذلك يظهر عدم تناول خبري الأحول (٢) لمحل الفرض ، لعدم حصول وصف اليسار له حينئذ مع فرض كون استغنائه بعين مال القرض ، بل به يظهر أن ذلك أولى مما أجاب به في‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٠ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٥٧ الرقم ٥١٩٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٧٠

المختلف من أن الغنى هنا ليس مانعا ، إذ لا حكمة ظاهرة في أخذه ودفعه.

ولعله هو الذي أشار إليه المصنف بقوله : « ولا يكلف المالك » إلى آخره هذا كله إن استغنى بنفس مال القرض ، فـ ( ان استغنى بغيره ) ولو بنمائه أو ارتفاع قيمته استعيد القرض منه واحتسب زكاة على غيره ، والمراد عدم جواز الاحتساب عليه ، لحصول وصف الغنى الذي عرفت كونه مانعا من الاحتساب بناء على ما عرفت من أن القرض يملك بالقبض ، فالنماء مثلا حينئذ للمقترض ، نعم يتجه الاحتساب بناء على مذهب الشيخ من أن القرض لا يملك بالقبض ، فهو حينئذ على ملك القارض ، ويتبعه النماء وارتفاع القيمة ، ولا يمنع الاحتساب عليه إلا غناؤه بمال آخر ، وهو واضح كوضوح باقي الفروع المتصورة في المقام على تقدير التعجيل وعدمه ، وإن أطنب فيها الفاضل في المنتهى والتذكرة وغيرهما ، والظاهر قصر الحكم فيه عند القائل به منا على خصوص اعتبار الحول ، فلا تعجيل قبل غيره من الشرائط كالنصاب والسوم والتمكن من التصرف ونحوها ، لعدم الدليل عليه ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وأما ( القول في النية )

الذي هو أحد مباحث النظر الثالث فلا خلاف في اعتبارها في الزكاة ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعله كذلك بين المسلمين ، وفي المعتبر أنه مذهب العلماء إلا الأوزاعي ، وفي التذكرة أنه قول عامة أهل العلم ، إلى أن قال : وحكي عن الأوزاعي عدم وجوبها فيها ، لأنها دين فلا تجب فيها كسائر الديون ، ولذا يخرجها ولي اليتيم ويأخذها السلطان من الممتنع ، والفرق ظاهر ، لانحصار مستحقه ، فقضاؤه ليس بعبادة ولذا يسقط بإسقاط مستحقه ، وولي الطفل والسلطان يقومان عند الحاجة ، فعموم ما دل‌

٤٧١

على اعتبارها من قوله (١) ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « إنما الأعمال بالنيات » ونحو ذلك لا معارض له هنا ، وكذا الكلام في الخمس وإن قل المصرح باعتبارها فيه ، وكأنهم أوكلوا الأمر فيه على الزكاة ، نعم في البيان في الخمس في أرض الذمي « ولا يشترط فيها النصاب ولا الحول ولا النية » لكن في الدروس في مسألة أرض الذمي قال : « والنية هنا غير معتبرة من الذمي ، وفي وجوبها على الامام عليه‌السلام أو الحاكم نظر ، أقربه الوجوب عنهما لا عنه عند الأخذ والدفع » وفي حواشي الإرشاد للكركي في هذه المسألة « ويتولى النية هنا الامام عليه‌السلام أو الحاكم ، ولا ينويان النيابة عن الكافر ، إذ لا تقع العبادة منه ولا عنه مع احتمال أن يقال : إن هذا القسم من العبادة لا يحتاج إلى النية ، كتغسيل الكافر للمسلم ، وكغسلها إذا كانت حائضة تحت مسلم وقد طهرت وقلنا إنه لا يحل إتيان الحائض حتى تغتسل » ونحوه في حاشية الشرائع ، وحكم في المسالك بتولي الإمام عليه‌السلام أو الحاكم النية وجوبا عنهما لا عنه ، ثم احتمل سقوطها هنا كما في القواعد ، وحكى عن الشهيد في حواشيه على القواعد التعرض للنية في هذه المسألة ، وحكايته عن الفخر ، وعلى كل حال فلا إشكال في اعتبار النية.

والظاهر جريان نحو هذا البحث في الزكاة المأخوذة من الكافر ونحوه مما لا تصح منه النية ، فيتولاها حينئذ الإمام عليه‌السلام أو الحاكم عنهما لا عنه على حسب ما عرفت ولا ينافي ذلك كون الخطاب لغير المتقرب ، لأنه بعد أن قصر لعدم الايمان المانع من صحة عباداته كان المخاطب بإيتاء الزكاة من ماله الامام عليه‌السلام أو الحاكم ، فالتقرب‌

__________________

(١) سورة البينة الآية ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

٤٧٢

حينئذ منهما باعتبار هذا الخطاب الذي لا ريب في إجزائه في نحو الزكاة المشابهة للديون من جهات ، ولذا جازت النيابة فيها ، بل قد عرفت أن الأقوى صحة التبرع بها كالدين من غير إذن من صاحبها سابقه ولا لاحقة إذا كان المال المدفوع زكاة من المتبرع من دون إرادة الرجوع به لا من صاحب الزكاة ، وإلا اعتبرت الوكالة حينئذ سابقا أو لاحقا على نحو الفضولي فيها ، بل قد يقال بجريان الفضولي في الزكاة من دون اعتبار الوكالة ، لكنه لا يخلو من إشكال أو منع.

وكيف كان فـ ( المراعى نية الدافع ) للفقير أو من يقوم مقامه حال الدفع إن كان مالكا مخاطبا بالزكاة أو وليه وإن كان الدافع للفقير ساعيا أو الإمام عليه‌السلام أو وكيلا للمالك جاز أن يتولى النية حال الدفع للمستحق كل واحد من الدافع والمالك قيل : أما الأخير فلتعلق الزكاة به أصالة ، فكانت نيته عند الدفع إلى الفقير كافية ، وأما الامام عليه‌السلام ونائبه والوكيل فلقيامهم مقام المستحق ، ( المالك خ ل ) وفيه أن الأول مخالف للمحكي عن الشيخ بل المصنف في المعتبر من عدم إجزاء نية الموكل دون الوكيل ، اللهم إلا أن يحمل ذلك على غير المفروض الذي هو النية حال الدفع للمستحق ، وإنما هو النية حال الدفع للوكيل ، وربما يؤيده ما يحكى عن الشيخ من الاستدلال لذلك بأن النية يعتبر مقارنتها للدفع إلى المستحق ، والدفع إلى الوكيل غيره كما أنه يحمل إطلاق الاجتزاء هنا ومحكي الإرشاد بها من الموكل على ما إذا كانت حال الدفع لا مطلقا ، فيكون ذلك عين التفصيل المحكي عن نهاية الأحكام والتذكرة وفخر الإسلام وثاني الشهيدين ، بل يرتفع الخلاف حينئذ من البين ، ودعوى إمكان المنع وإن كان حال الدفع باعتبار عدم تحقق الإيتاء منه ـ فلا وجه لنية التقرب منه ، وتجويز الوكالة في إيتاء الزكاة المشتمل على النية لا يستلزم جوازها على مجرد الفعل بحيث يكون فعلا للموكل حتى ينوي التقرب به ـ واضحة الفساد بعد معلومية كون المراد من‌

٤٧٣

الإيتاء مجرد الوصول كيفما كان ، ومعلومية تناول إطلاق الوكالة ذلك ، فلا إشكال حينئذ من هذه الجهة.

نعم قد يناقش بأن هذا كله في الوكيل ، أما الامام عليه‌السلام والساعي فإن كانا وكيلين عن المالك في الدفع الذي نوى فيه الموكل فلا ينبغي ذكرهما بالخصوص ، ضرورة كونهما حينئذ من قسم الوكيل ، وإن لم يكونا وكيلين فلا وجه للنية في الدفع الحاصل منهما بعد عدم كونه فعلا له بالوكالة ، ودعوى الاجتزاء به وإن لم يكونا وكيلين باعتبار كون المراد مجرد الوصول تستلزم عدم الفرق حينئذ بينهما وبين الأجنبي ، فلا وجه لذكرهما بالخصوص ، كما أن دعوى ثبوت ولايتهما عليه في ذلك مطلقا وهي غير الوكالة يمكن منعها ، لعدم عموم في أدلتها بحيث يشمل الفرض ، ومن ذلك ينقدح الإشكال في الاجتزاء بنيتهما عن نيته مع فرض عدم وكالتهما كما هو مقتضى مقابلتهما به ، بل عن الشيخ والمصنف في المعتبر عدم الاجتزاء بها من الوكيل أيضا ، لأنه غير مالك ، فلا تكفي نيته ، وإن كان يدفعه أنها عبادة تقبل النيابة كالحج ، بل يمكن دعوى السيرة القطعية التي هي أعظم من الإجماع عليه ، بل النصوص (١) أيضا دالة عليه ، بل لا فرق على الظاهر في الجواز بين الوكالة في الدفع والنية أو في أحدهما.

ومن هنا جزم غير واحد بالاجتزاء بنية الوكيل هنا كالشهيدين وفخر الإسلام والفاضل في جملة من كتبه ، وإن توقف فيه في محكي المنتهى والتذكرة والتحرير ، إنما الإشكال في الاجتزاء بنية الإمام عليه‌السلام والساعي عن نيته مع عدم وكالتهما وعدم امتناعه ، بل الأقوى العدم وفاقا للشيخ ، وخلافا للمصنف هنا وبعض من تأخر عنه كالفاضل في الإرشاد والمنتهى كما قيل وثاني الشهيدين ، لكونه وليا عن المالك ، ولذا يأخذها منه مع الامتناع اتفاقا ، ولأنه كالقاسم بين الشركاء ، فلم يحتج إلى نية ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

٤٧٤

ولأنه لو لم يجز المالك ذلك لما أخذها ولأخذها ثانيا وثالثا حتى ينفد ماله ، لأن أخذها إن كان لاجزائها لم يحصل بدون النية ، وإن كان لوجوبها فهو باق بعد أخذها ، ولأنه لا يدفع إلى السلطان إلا الفرض ، وهو لا يفرق على أهل السهمين إلا الفرض ، فأغنت هذه القرينة عن النية ، ولأن الإمام عليه‌السلام كالوكيل ، وهذه عبادة يصح فيها النيابة ، فاعتبرت نية النائب كالحج.

والجميع كما ترى ، ضرورة منع الولاية في مثل الفرض ، وأن الأولوية بالمؤمن من النفس لا تقتضي النيابة عنه فيما هو متعبد به ، فلا امتناع منه ، وفرق واضح بين الممتنع الذي يسقط اعتبار نيته وبين غيره ، لكونه وليا حينئذ عنه ، مع أنه ربما احتمل عدم الاجزاء للمالك باطنا ، لأنه لم ينو ، وهو متعبد بأن يتقرب ، وإنما أخذت منه مع عدم الإجزاء حراسة للعلم الظاهر ، كما يجبر المكلف على الصلاة ليأتي بصورتها وإن كان لم تجزه عند الله لعدم النية ، وإن كان يدفعه أن الزكاة مال متعين للفقراء في يد المالك ، وللإمام عليه‌السلام الإجبار على قسمة المشترك وعلى تسليمها ، فجاز له إفرادها عند امتناع المالك ، والنيابة في تسليمها جائزة ، وليست كذلك الصلاة ، كما هو واضح ، وكون الامام عليه‌السلام كالقاسم لا يخرج الزكاة عن العبادة المقتضية لوجوب النية من المتعبد ، وبذلك افترقت عن القسمة التي لا يعتبر فيها النية ، على أن البحث في إجزاء نية الإمام عليه‌السلام والساعي لا الاجزاء بلا نية كما هو مقتضى هذا الاستدلال ، وهي في يد الامام عليه‌السلام أمانة في الفرض لا يجوز له تسليمها ، لكونها حينئذ مال المالك ، ولم يتشخص كونها زكاة حتى من حيث العزل ، ضرورة اعتبار النية فيه أيضا ، وبذلك سقط الاستدلال بأنه لو لم يجز المالك إلى آخره ، بل هو عند التأمل لا يرجع إلى حاصل ينفع في المقام ، بل كأنه خارج عن محل البحث ، كما أن الأخير مصادرة واضحة فالأحوط إن لم يكن الأقوى اعتبار النية من المالك ، وأن تسليمه إلى الامام عليه‌السلام

٤٧٥

بدونها لا يزيد على تسليمها للفقير بدونها.

نعم لو نوى عند الدفع إلى الامام عليه‌السلام أو الساعي أو الفقيه اتجه الاجزاء باعتبار ولايتهم عن المستحق ، كما عن جماعة التصريح به كالفاضل والشهيدين وغيرهم ، بل في محكي التذكرة لا فرق بين أن يطول زمان دفع الامام عليه‌السلام إلى الفقراء وبين أن يقصر ، واحتمال عدم الاجزاء ـ بناء على أن الامام عليه‌السلام كالوكيل عن المالك أيضا فلا تجزي النية عند الدفع إليه الذي هو كبقاء المال في يده ـ واضح الضعف كوضوح الضعف في احتمال الاجزاء مع عدم نية المالك والامام عليه‌السلام ضرورة منافاته لكونها عبادة كما صرح به غير واحد ، فما عن التذكرة من أنه في كل موضع قلنا بالاجزاء مع عدم نية المالك لو لم ينو الساعي أو الإمام عليه‌السلام أيضا حالة الدفع إلى الفقراء توجه الاجزاء ، لأن المأخوذ زكاة قد تعينت بالأخذ ، وهو كما ترى ، والله أعلم ، هذا.

وربما احتمل في عبارة المتن كون المراد أن الدافع للفقير إن كان الامام عليه‌السلام أو الساعي أو الوكيل جاز أن يتولى المالك النية عند الدفع إلى أحد الثلاثة أو أحد الثلاثة عند الدفع إلى الفقير ، وفيه مضافا إلى ما عرفت من الاجتزاء بنية الإمام عليه‌السلام أو الساعي مع عدم الوكالة أنه لا وجه للاجتزاء بنيته عند الدفع إلى الوكيل الذي من الواضح الفرق بينه وبين الامام عليه‌السلام والساعي المعلوم ولايتهما عن المستحق ، فكانت النية عند الدفع إليهما كالنية عند الدفع اليه ، بخلاف وكيله الذي يده يد الموكل فتكون النية عند الدفع إليه كالنية والمال في يده ، فما عن فخر الإسلام ـ من الاكتفاء بذلك لحصول الغرض الأقصى من الزكاة ، وهو دفع حاجة المحتاجين ، ووجود النية منه حال تعينها ، لأنها بالدفع إلى الوكيل تتعين كما في صورة العزل ، بل أولى ، لأنه أخرجها هنا عن يده ـ لا يخفى ما فيه بعد ما عرفت من عدم نيابة الوكيل عن الفقير ،

٤٧٦

أو عدم كون وقت التعيين وقت الدفع إلى الوكيل ، بل هو وقت الدفع إلى الفقير ، وجعل ذلك من العزل بناء على جوازه مطلقا خروج عن البحث الذي هو الاجزاء من حيث قبض الوكيل ، كما هو واضح.

ومن ذلك كله يظهر لك الحال في جملة من كلمات الأصحاب ، بل ويظهر لك أيضا محل النظر وعدمه فيما ذكره في المسالك وإن كان هو أجود من غيره ، قال فيها : « اعلم أن النية معتبرة في الزكاة عند الدفع ، لكن الدفع قد يكون إلى المستحق ، وقد يكون إلى من يدفع اليه ، وهو إما وكيل المالك لا غير ، أو وكيله ووكيل المستحق ، وهو الامام عليه‌السلام وساعيه والفقيه عند تعذرهما ، والدافع إلى المستحق إما المالك أو أحد الأربعة ، فإن دفع المالك الزكاة إلى المستحق ابتداء ونوى عنده أجزأ قطعا ، وإن دفعه إلى أحد الأربعة ونوى عند الدفع إليهم ونوى المدفوع اليه عند المستحق أجزأ أيضا ، بل هو الأفضل ، وإن اقتصر على نية أحدهما فإن كان الناوي هو المالك عند الدفع إلى أحدهم ففي الاجتزاء به قولان ، أجودهما ذلك في غير وكيله المختص به ، لأن يده كيده ، فنيته عند الدفع اليه كنيته وهي في يده ، وإن كان الناوي هو الدافع إلى المستحق ففي الاجتزاء به وجهان أيضا ، والأصح الاجتزاء به مطلقا ، وكذا لو لم ينو الدافع إلى المستحق ولكن نوى المالك عنده ، وفي حكم نية المالك عند الدفع إلى الامام عليه‌السلام نية الساعي خاصة عند الدفع إليه ، فتأمل جيدا » فإنه لا يخفى عليك محل النظر من غيره بعد الإحاطة بما ذكرناه الذي هو موافق له في الأكثر.

بقي شي‌ء ، وهو أن ذلك كله في الدفع إلى المستحق أو وليه ، أما وكيله الخاص فحكمه حكمه ، لكن عن ابني إدريس والبراج منع الوكالة في ذلك ، واختاره سيد المدارك لأن إقامة الوكيل مقام الموكل في ذلك يحتاج إلى دليل ، ولم يثبت ، ولأن الذمة مرتهنة بالزكاة ، ولا خلاف بين الأمة في اليقين بالبراءة بتسليمها إلى المستحق ، وليس كذلك‌

٤٧٧

إذا سلمت إلى الوكيل ، لأنه ليس أحد الثمانية أصناف بلا خلاف ، ولأن التوكيل إنما يثبت فيما يستحق الموكل المطالبة به ، والزكاة لا يستحقها واحد بعينه ، ولا يملكها إلا بعد القبض ، والجميع كما ترى ، ضرورة صلاحية إطلاق أدلة الوكالة للأعم من ذلك ، كما لا يخفى على من له أدنى بصيرة ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( الولي عن الطفل والمجنون يتولى ) هو النية في دفع الزكاة المتعلقة بهما بلا خلاف ولا إشكال أو يتولاها عن كل منهما من له أن يقبض عنه كالإمام عليه‌السلام والساعي بناء على ولايتهما على كل من كانت الزكاة في ماله ، أو على خصوص زكاة الطفل والمجنون ، وهما معا محل للنظر كما عرفته سابقا في الجملة ، والأمر سهل ، هذا.

وقد تقدم في المباحث السابقة في الصلاة وغيرها وجوب مقارنتها لأول العمل ، فـ ( تتعين ) هنا حينئذ عند الدفع إلى المستحق مثلا الذي هو أول العمل ولا يجزي التقدم ولو يسيرا ، خلافا لبعض العامة فجوزه ، ولا ريب في بطلانه ، لأن ما سبق إن لم يستدم خلا عن النية ، وإن استدام تحقق الشرط ، والأمر هين بناء على أنها الداعي لا الاخطار لغلبة استمراره ولو نوى بعد الدفع لم أستبعد جوازه بلا ريب فيه مع بقاء العين ، لعدم خروجها عن الملك ، فتصادفها النية ، بل ومع التلف إذا كان القابض عالما بالحال ، لكونه مشغول الذمة بالعوض ، فيجوز احتسابها كسائر الديون ، نعم المتجه عدم الجواز مع التلف وعدم العلم ، لعدم الضمان حينئذ ، فلا تصادف النية حينئذ شيئا ، وفي محكي المبسوط بعد أن ذكر أنه ينبغي المقارنة قال : ولا يجوز نقل زكاة ما بأن نقله إلى غيره ، لفوات محل النية ، قيل : وهو مشعر بعدم الاجتزاء بالنية بعد الدفع ، ولا ريب في ضعفه إلا إذا كان المراد احتساب الدفع الأول زكاة بالنية المتأخرة ، لا إذا احتسب باعتبار ذلك الحال المقارن للاحتساب ، وهو حينئذ يكون‌

٤٧٨

احتسابا للزكاة لا الدفع السابق ، وكذا لو أراد احتساب ما في يد الأمين أو الغاصب أو غيرهما ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فقد ذكرنا سابقا أن حقيقتها أي النية القصد إلى القربة وأنه لا يعتبر فيها نية الوجه من الوجوب أو الندب ، ولكن يعتبر فيها كونها زكاة مال أو فطرة بناء على أنهما نوعان مختلفان ، وتوقف التعيين المتوقف عليه الامتثال على ذلك ، إذ حالهما حينئذ كالكفارة والخمس ، وإن كان قد يقوى عدم وجوب التعيين مع اتحاد الحق في ذمته وإن جهل نوعه وكيف كان فـ ( لا يفتقر إلى نية الجنس الذي يخرج الزكاة ) منه كالأنعام والغلات والنقدين ، لأنها أصناف لا أنواع ، من غير فرق بين اتحاد محل الوجوب وتعدده ، وبين اتحاد نوع الحق كما لو كان عنده أربعون من الغنم وخمس من الإبل وعدمه كنصاب من النقدين وواحد من النعم ، وبين كون المدفوع من جنس أحدهما وعدمه ، ولكن لو عينه حال الدفع تعين على الظاهر ، ولو دفعه من غير تعيين فهل يبقى له صرفه إلى ما شاء منهما أم يوزع؟ صرح في التذكرة بالأول ، واختاره الشهيد الثاني ، وتعرف إن شاء الله في الفروع التحقيق ، وتظهر الثمرة في تلف أحد النصابين قبل التمكن وقبل إخراج فريضة الثاني ، وفي غير ذلك أيضا.

فروع لو قال : إن كان مالي الغائب باقيا فهذه زكاته ، وإن كان تالفا فهي نافلة صح بلا خلاف أجده بين من تعرض له منا ، بل في فوائد الشرائع لا مانع من صحته بوجه من الوجوه ، بل عن الشيخ الإجماع عليه ولا كذا لو قال : أو نافلة لكون الترديد حينئذ في النية ، بخلاف الأولى فإنه في المنوي ، وهو غير قادح ، لأنه جازم بالوجوب على تقدير سلامة المال ، وبالنفل على تقدير تلفه ، والتحقيق أن هذا وإن كان ترديدا لكن بعد الإجماع المزبور عليه ـ وشدة الحاجة إليه في كثير من‌

٤٧٩

المقامات ، وثبوت شرعيته في الفائتة المجهولة ، وفي ركعات الاحتياط ، بل وفي كثير من موارد الاحتياط ـ لا مناص من القول به مع الاضطرار دون الاختيار كما صرح به في المسالك ، بخلاف الصورة الأخرى التي لا دليل على صحتها ، بل ما دل على اعتبار النية يقتضي العدم ، ضرورة منافاة الترديد للجزم المتوقف عليه صدق امتثال الأمر المخصوص ، فان حاصلها الترديد بين الزكاة والنفل على تقدير واحد ، وهو بقاء المال كما هو واضح.

ولو كان له مالان مثلا متساويان أو مختلفان ، حاضران أو غائبان ، أو أحدهما حاضر والآخر غائب فأخرج زكاة ونواها عن أحدهما من غير تعيين أجزأته لإطلاق الأدلة ، وما تقدم من عدم الدليل على وجوب تعيين الأفراد التي جمعها أمر واحد ، نعم لو أراد التعيين لم يكن به بأس ، لكن في الفرض يحتمل بقاء التخيير له في التعيين بعد الدفع ، بل عن الفاضل في التذكرة الجزم به ، وهو مشكل ، وإن ذكروا نظيره في الدين لشخصين إذا قبضه وكيلهما ، والدينين المختلفين في الرهن على أحدهما وعدمه للآخر ، لأنه لا دليل على تعيين الأفعال بعد وقوعها ، وإنما الثابت تعينها بالنية المقارنة ، اللهم إلا أن يقال : إنه باق على كليته بعد الدفع كما كان قبله ، فله احتسابه على الوجه الذي يريده بعد أن كان له التعيين ، بل ربما يقال نحوه في مثل الصوم إذا كان عليه قضاء لشهري رمضان فصام بلا تعيين ثم أراده بعد ذلك تخلصا من كفارة تأخيره عن شهر رمضان المقبل ، أو غير ذلك من الثمرات ، بل لو كان عليه صلاة لشخصين فأدى من غير تعيين لأحدهما ثم عين بعد ذلك.

لكن الجميع كما ترى ، بل مقتضى الأخير جواز التأدية من غير تعين أصلا إذا كان قد جاء بتمام العمل لهما كالدينين لشخصين ، وفي التزامه ما لا يخفى ، هذا كله‌

٤٨٠