جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ودعوى أن العزل إخراج وإيصال إلى المستحق ، لأن المالك حينئذ يكون بمنزلة الولي له ، ولذا يتعين المال زكاة بتعيينه ، فهو كوجود الامام عليه‌السلام أو نائبه ، فإن الظاهر كون وجودهما كوجود المستحق ، يدفعها أولا وضوح الفرق بينه وبينهما ، وتعين المال بتعيينه للدليل لا يقتضي كونه بمنزلتهما في صدق الوصول إلى المستحق أو وليه ، وثانيا أنه ستعرف عدم وجوب الفور في الدفع مع وجود المستحق وإن ترتب عليه الضمان بالتأخير ، ومنه يعلم ضعف احتمال وجوب العزل في المقام الذي هو أدنى من وجود المستحق بمراتب ، فلا إشكال حينئذ في فساده ، كما أنه لا إشكال بتعين المال زكاة للخبرين السابقين ، مضافا إلى‌ حسن عبيد بن زرارة (١) عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « إذا أخرجها من ماله فذهبت ولم يسمها لأحد فقد بري‌ء منها » وخبر أبي بصير (٢) عن الباقر عليه‌السلام « إذا أخرج الرجل الزكاة من ماله ثم سماها لقوم فضاعت ، أو أرسل بها إليهم فضاعت فلا شي‌ء عليه » ولا يقدح ما فيهما وفي غيرهما من إطلاق عدم الضمان مع العزل سواء وجد المستحق أو لم يوجد المقيد بالنصوص السابقة الدالة على الضمان بالتأخير مع وجود المستحق ، لاعتضادها بالإجماع المحكي إن لم يكن المحصل ، فما عساه يقال من كون التعارض بينها من وجه بعد تسليمه لا يصغى اليه.

نعم لا ينكر ظهور معظم هذه النصوص في مشروعية العزل وحصول فائدته مع وجود المستحق ولو من جهة الإطلاق ، بل كاد يكون صريح بعضها ، ومن هنا جزم الفاضل في المحكي من تذكرته ومنتهاه بأن له العزل بحول الحول سواء كان المستحق موجودا أو لا ، وسواء أذن له الساعي أو لا ، مستدلا عليه مضافا إلى ما عرفت بأن له ولاية الإخراج ، فيكون له ولاية التعيين ، وبأنه أمين على حفظها فيكون أمينا على تعيينها وإفرادها ، وبأن له دفع القيمة وتملك العين فله إفرادها ، وبأن منعه من إفرادها يقتضي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٤٤١

منعه من التصرف في النصاب ، وذلك ضرر عظيم ، وإن كان لا يخفى عليك ما في بعض ذلك ، والعمدة النصوص السابقة المؤيدة بما دل عليه في الفطرة التي هي في الذمة ، اللهم إلا أن يقال : إن الحكم مخالف للضوابط المعلومة في الديون وفي الشركة ، فينبغي الاقتصار فيه على المتيقن ، وهو في حال عدم المستحق ، والنصوص عدا الأول منها بين صريح كخبر أبي حمزة وبين ظاهر باعتبار الاشتمال على عدم الضمان بالتلف المعلوم اعتبار عدم المستحق فيه ، لكن ذلك وإن كان هو أقصى ما يمكن أن يقال إلا أنه كما ترى فإن الأول كاف في إثبات المطلوب ، على أن جميع ما قيل في غيره أو أكثره يمكن دفعه بل لعله ظاهر ، كما هو واضح ، وحينئذ فالإشكال في العزل من بعضهم والجزم بالعدم من آخر باعتبار كون الزكاة دينا أو كالدين لا يتعين إلا بقبض المالك أو ما في حكمه مع الإمكان لا يخلو من نظر أو منع.

ولذا قال في الدروس : ولو عين المالية أو الفطرة في مال تعين مع عدم المستحق والأقرب التعين مع وجوده ، فليس له إبداله في الموضعين في وجه ، نعم لو نما كان له ، لكن فيه أن المتجه القطع بعدم جواز الابدال وتبعيته النماء ولغير ذلك من الأحكام التابعة للزكاة المتعينة بغير ذلك كالقبض ونحوه ، ضرورة كون المراد بالعزل تعينها في المال المخصوص ، وصيرورتها أمانة في يده لا يضمنها إلا بالتفريط ونحوه ، كما أشار إليه الباقر عليه‌السلام في خبر أبي حمزة (١) ولعله رحمه‌الله ظن أن العزل لا يخرج المال عن ملك المالك وإنما يعين دفعه للفقير ، وفيه أنه مناف لما دل على كون التلف من الفقير والربح له ، كما هو واضح.

وقد ظهر لك مما ذكرنا قوة القول بجواز العزل مطلقا ، فلا فرق حينئذ بين وجود المستحق وعدمه ، ولا بين التمكن من باقي المصارف وعدمها ، إنما يتجه ذلك على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٤٤٢

القول الآخر ، والمتجه عليه اعتبار عدم المستحق وعدم التمكن من غيره من المصارف حتى سهم سبيل الله الذي عرفت سعته ، وحينئذ يندر فرضه ندرة لا تليق بتنزيل النصوص عليها ، اللهم إلا أن يدعى الاكتفاء في جوازه بمجرد عدم وجود المستحق وإن تمكن من باقي المصارف ، استنادا إلى ظاهر بعض النصوص (١) وإلى كونه المعظم في المصرف ، بل ربما قيل : إن الزكاة لهم كما تفضي به نصوص المشروعية (٢) وإن جاز صرفها في باقي المصارف ، وربما يؤيد ذلك استفاضة عبارات الأصحاب في الاقتصار على اعتبار عدم المستحق خاصة في العزل وفي الضمان وفي النقل وغير ذلك ، لكن الانصاف عدم خلوه عن البحث والنظر ، ولم أجد من تصدى لتحريره ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( لو أدركته الوفاة أوصى بها وجوبا ) على وجه تثبت به شرعا كغيرها من الأمانات والديون بلا خلاف أجده ، بل في المدارك لا ريب فيه ، لتوقف الواجب عليه ، ولعموم الأمر بالوصية ، ولكونه كالخائن والمفرط بدون ذلك ، بل أوجب الشهيد في الدروس العزل مع ذلك ، ولعله لكونها كالدين الذي قد غاب صاحبه غيبة منقطعة ، وقد استوفينا الكلام على ذلك في محله ، فلاحظ وتأمل فإن له نفعا في المقام ، ولو كان الورثة محاويج جاز احتسابها عليهم وإن كانوا ممن تجب نفقتهم على المورث ، لانقطاع الوجوب عنه بالموت ، إلا أنه يستحب دفع شي‌ء منها لغيرهم ، قال‌ علي بن يقطين (٣) في الصحيح : « قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام : رجل مات وعليه زكاة وأوصى أن يقضى عنه الزكاة وولده محاويج إن دفعوها أضر بهم ذلك ضررا شديدا فقال : يخرجونها فيعودوا بها على أنفسهم ، ويخرجون منها شيئا فيدفع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

٤٤٣

إلى غيرهم ».

المسألة الثالثة المملوك الذي يشترى من الزكاة لكونه في شدة أو مطلقا على البحث السابق إذا مات ولا وارث له عدا الامام عليه‌السلام وأرباب الزكاة ورثه أرباب الزكاة على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة عظيمة ، بل في المعتبر وعن المنتهى نسبته إلى المحققين تارة وإلى علمائنا أخرى مشعرا بالإجماع عليه ، بل ربما ظهر ذلك من الانتصار أيضا وقيل : وإن كنا لم نعرف قائله من القدماء كما اعترف به في البيان لا يرثه أرباب الزكاة بل يرثه الامام عليه‌السلام إلا أنه اختاره من المتأخرين الفاضل وولده ، وربما مال اليه المصنف في المعتبر وعلى كل حال فـ ( الأول أظهر‌ ) للصحيح عن أيوب بن الحر (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه أشتريه من الزكاة وأعتقه فقال : اشتره وأعتقه ، قلت : فان هو مات وترك مالا قال : فقال : ميراثه لأهل الزكاة ، لأنه أشتري بسهمهم » وموثق عبيد بن زرارة (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك اليه ونظر إلى مملوك يباع بثمن يزيد فاشتراه بتلك الألف درهم التي أخرجها من زكاته فأعتقه هل يجوز ذلك؟ قال : قال : نعم لا بأس بذلك ، قلت : فإنه لما أعتق وصار حرا اتجر واحترف فأصاب مالا ثم مات وليس له وارث فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال : يرثه فقراء المؤمنين الذين يستحقون الزكاة ، لأنه إنما اشتري بمالهم » وإن ناقش فيه في المدارك بأنها مع قصور سندها لا تدل على أن إرثه لأرباب الزكاة مطلقا ، بل إنما تدل على اختصاص الفقراء بذلك ، قال : « والظاهر أن‌ قوله عليه‌السلام : « لأنه إنما أشتري بمالهم » توجيه للحكمة المقتضية لذلك ، والمراد أنه اشتري بالمال الذي كان يسوغ صرفه في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

٤٤٤

الفقراء لا أنه اشتري بسهم الفقراء خاصة » لكن يدفعه ـ مع أن الخبر من قسم الموثق وهو حجة ـ منجبر بالعمل كما عرفت ، كانجبار الدلالة به ، بل معتضدة بالخبر السابق (١) الظاهر في اتحاد المراد منه معه ، سيما مع ملاحظة التعليل ، وقد عرض بما ذكره أخيرا إلى ما في الدروس من أن في هذا التعليل إيماء إلى أنه لو اشتري من سهم الرقاب لم يطرد الحكم ، لأنه اشتري بنصيبه لا بمال غيره ، وذلك لأن الظاهر من الرواية وقوع الشراء بجميع الزكاة لا بسهم مخصوص منها ، قلت : مضافا إلى ما عرفت من عدم وجوب البسط ، فلم يكن سهم مخصوص للرقاب ، لكن لا يخفى عليك ما في التوجيه المزبور في المدارك ضرورة عدم صلاحية ذلك حكمة للحكم المزبور فضلا عن أن يذكر علة ، ولعل الأولى حمله على ما أشرنا إليه سابقا في الأصناف من أن المراد بيان كون الأصل في مصرف الزكاة الفقراء ، كما يومي اليه نصوص المشروعية وغيرها ، ومن هنا كان الولاء لهم في العبد المشتري من الزكاة.

وبذلك يسقط ما أطنب به في الحدائق ، ولقد ذكر فيها أن كلام الأصحاب في ذلك في غاية الاضطراب ، ولقد وقع هو فيما ادعاه عليهم ، والذي استقر عليه في آخر كلامه أن المدار على القصد والنية ، فإن كان المشتري قد اشترى العبد بالمال الذي قصد أنه للفقراء كان الولاء لهم ، وإن كان قصد أنه من سهم سبيل الله كان ميراثه للإمام عليه‌السلام وإن كان قد وقع من غير قصد بمال الزكاة صنفا من الأصناف كان الإرث مشتركا بين جميع أرباب الزكاة ، وبذلك جمع بين الخبرين السابقين اللذين تضمن أحدهما كون الإرث للفقراء ، وبه عبر جماعة كما قيل ، والآخر لأرباب الزكاة كما عن جماعة أخرى ، ثم استشكل بعد ذلك في القسم الأخير بأن هذا الإرث على حسب الزكاة فيجوز اختصاص صنف به ، أو أنه يجب فيه البسط على الأصناف ، ومال إلى الأخير ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٤٤٥

وجميع كلامه كما ترى ، وما تركناه منه أظهر فسادا.

والتحقيق كون الإرث للفقراء ، وهم أرباب الزكاة ، لما عرفت من كونهم المعظم في مصرفها ، بل ومشروعيتها ، ومن المعلوم عدم إرادة البسط فيه ، لعدم انحصار المستحق ، فليس هم إلا مصرفا لذلك قطعا ، فيجوز تخصيصه بواحد من الفقراء ، كما هو واضح ، وأغرب من ذلك كله ما وقع لبعض مشايخنا في كتاب الميراث ، حيث أنه بعد أن حكى عن الطوسي ما نحن فيه من جملة أقسام الولاء وذكر له الصحيح دليلا ، قال : وقد أعرض الأصحاب عن ذلك ، وانعقد إجماعهم على حصر الولاء في الأقسام الثلاثة أي المعتق وضامن الجريرة والامام عليه‌السلام والمخالف نادر ، نعم ذلك مذهب العامة ، وكأنه رحمه‌الله غفل عما هنا من شهرة الأصحاب إن لم يكن إجماعهم كما سمعته من المعتبر ، بل قد عرفت أن الشهيد في البيان لم يعرف القائل بأن الوارث الامام عليه‌السلام من القدماء ، وإنما هو من المتأخرين ، وأندر منه القول بأن الشراء إن كان من سهم الرقاب فالميراث للإمام عليه‌السلام لصيرورة العبد سابئة ، ولم يكن قد اشتري بمال الفقراء كي يكون الإرث لهم كما هو مقتضى التعليل ، وإن كان الشراء من سهم الفقراء كان الإرث لهم ، وأضعف منه التفصيل بين العبد في الشدة وبين غيره باعتبار كون الأول من موضوع الرقاب التي جعلها الله مصرفا ، فيكون ميراثه للإمام عليه‌السلام وبين الثاني فإنه ليس منها بل من سهم الفقراء ، ومن الواضح خلو هذا الكلام كله عن التحصيل ، والتحقيق ما عرفت ، وفي المسالك أن التفصيل بين من اشتري من سهم الرقاب فميراثه للإمام عليه‌السلام وإلا فلأرباب الزكاة فلا أصل له في المذهب ، والله أعلم.

المسألة الرابعة إذا احتاجت الصدقة إلى كيل أو وزن كانت الأجرة على المالك المكلف بالإيتاء الذي من مقدماته ذلك وقيل والقائل الشيخ يحتسب من الزكاة‌

٤٤٦

لأصالة براءة ذمة المالك من وجوب دفعها ، وظهور أدلة وجوب الزكاة التي هي بمعنى القدر المخصوص في عدم وجوب غيرها عليه ولا ريب أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، ضرورة أولوية المقام من البيع الذي يجب فيه أجرة الكيل والوزن على البائع باعتبار كونهما مقدمة للتسليم الواجب عليه ، ضرورة توافق الكتاب والسنة على تكليفه بالإيتاء الذي قد عرفت كونهما مقدمة له ، وبذلك ينقطع الأصل ، كما أنه يمنع ظهور أدلة وجوب الزكاة في عدم وجوب ما يشمل ذلك مما هو خارج عن المثال ، وإنما هو مقدمة للامتثال عند الحاجة إليه ، كما هو واضح.

المسألة الخامسة إذا اجتمع للمستحق كالفقير وغيره سببان أو ما زاد يستحق بهما الزكاة كالفقر والكتابة والغزو جاز أن يعطى بحسب كل سبب نصيبا لاندراجه حينئذ في الصنفين مثلا ، فيستحق بكل منهما ، ودعوى اعتبار الانفراد في الأصناف بالنسبة إلى الدفع لا يصغى إليها ، لعدم الشاهد لها ، بل الشاهد على خلافها متحقق ، فما في الحدائق ـ من المناقشة في ذلك بأن المتبادر من الآية إنما هو الشائع المتكثر من هذه الأفراد ، ولذا صارت أصنافا ثمانية باعتبار مقابلة كل منها للآخر ، وبأنه متى أعطي من حيث الفقر ما يغنيه ويزيد فكيف يعطى من حيث الغرم والكتابة المشروطين بالعجز كما تقدم ـ واضح الفساد خصوصا الأخير ، ضرورة معلومية اعتبار ما تقدم سابقا في الدفع ، فمع فرض حصول المانع لا يعطى كما في الفرض الذي فرضه ، وهو خارج عن موضوع كلام الأصحاب ، كما هو واضح.

المسألة السادسة أقل ما يعطى الفقير ما يجب في النصاب الأول من النقدين وهو عشرة قراريط أو خمسة دراهم ، وقيل والقائل الإسكافي وسلار وغيرهما والمرتضى في المصريات على ما حكي أقله ما يجب في النصاب الثاني وهو قيراطان أو درهم بل في الأخير الإجماع عليه والأول أكثر قائلا كما في المعتبر ، إذ هو‌

٤٤٧

على ما قيل خيرة الشيخين والصدوقين والمرتضى وابن زهرة والحلبي وغيرهم ، بل ربما حكي عن ابن الجنيد أيضا ، بل في الانتصار والغنية الإجماع عليه ، لصحيح أبي ولاد الخياط (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سمعته يقول : لا يعطى أحد من الزكاة أقل من خمسة دراهم ، وهو أقل ما فرض الله من الزكاة في أموال المسلمين ، فلا تعطوا أحدا أقل من خمسة دراهم فصاعدا » وخبر معاوية بن عمار وعبد الله بن بكير (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا « لا يجوز أن يدفع الزكاة أقل من خمسة دراهم ، فإنها أقل الزكاة » وهما وإن كان لم يذكر فيهما النصف دينار الذي هو الواجب في أول نصب الذهب لكن الظاهر إرادة المقدار من الخمسة دراهم ، ومن المعلوم أن مقابلها من الذهب ذلك.

وعلى كل حال فمن ذلك يظهر لك قوة هذا القول ، بل القول الثاني لم أجد له دليلا ، إنما الكلام في أن ذلك على سبيل الوجوب أو الندب ، ظاهر جملة من العبارات الأول ، بل لعله الأكثر ، كما أنه ظاهر معقد إجماعي الغنية والانتصار ، إلا أن الفاضل في التذكرة ادعى الإجماع على الثاني منزلا عليه عبارات المقدرين ، وهو مع أنه لا مقتضي له خلاف ظاهرهم جميعا ، بل صريح بعضهم كسلار ، قال فيما حكي عنه : « وأقل ما يجزي إخراجه من الزكاة ما يجب في نصاب ، فمن أصحابنا من قال أقله نصف دينار أو خمسة دراهم ، ومنهم من قال : أقله قيراطان أو درهم ، فالأولون قالوا بوجوب النصاب الأول والآخرون قالوا بالثاني ، والأثبت الأول ، وكذلك في سائر ما يجب فيه الزكاة » وقال ابن حمزة : « لا يجوز أن يعطى المستحق من الذهب والفضة والمواشي أقل من نصاب » اللهم إلا أن يريدا من الوجوب تأكد الندب ، ومن عدم الجواز الكراهة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

٤٤٨

سيما مع معروفية ذلك في عبارات القدماء التي ظاهر بعضها في المقام الندب ، قال ابن البراج فيما حكي عنه : « أقل ما ينبغي دفعه من الزكاة إلى مستحقها هو ما يجب في نصاب واحد » ولعله مراد الباقين كابن زهرة ، قال : « وأما مقدار المعطى منها فأقله للفقير الواحد ما يجب في النصاب الأول ، فإن كان من الدنانير فنصف دينار ، وإن كان من الدراهم فخمسة دراهم ، وكذا في الأصناف الباقية » والحلبي في الإشارة « وأقل ما يعطى مستحقها ما يجب في أول نصاب من أنصبتها » إلى غير ذلك من عباراتهم المحتملة لذلك لكن لا مقتضي له.

نعم هو التحقيق وفاقا للمرتضى في المحكي من جمله وابن إدريس والفاضل في جملة من كتبه وغيرهم من المتأخرين ومتأخريهم ، للأصل وإطلاق الأدلة والإجماع المحكي في التذكرة ، وحسن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (١) عن الصادق عليه‌السلام « ليس في ذلك شي‌ء موقت » وخبر محمد بن أبي الصهبان (٢) « كتبت إلى الصادق عليه‌السلام هل يجوز لي يا سيدي أن أعطي الرجل من إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة الدراهم؟ قد اشتبه ذلك علي ، فكتب ذلك جائز » وصحيح محمد بن عبد الجبار (٣) « إن بعض أصحابنا كتب على يدي أحمد بن إسحاق إلى علي بن محمد العسكري عليهما‌السلام أعطي الرجل من إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة فكتب افعل إن شاء الله » وما في‌ مرسل حماد بن عيسى (٤) « ليس في ذلك شي‌ء موقت ولا مسمى ولا مؤلف ، إنما يضع ذلك على قدر ما يرى وما يحضره حتى يسد فاقة كل قوم منهم » وحسن الحلبي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قلت له : ما يعطى المصدق؟ قال : ما يرى الامام عليه‌السلام ولا يقدر له شي‌ء » فالجمع بين ذلك والنصوص السابقة يقتضي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٤٤٩

حمل النهي في الخبرين السابقين على الكراهة ، وأنه يستحب إعطاء الخمسة فصاعدا.

والمناقشة فيها بأن الأصل مقطوع بالدليل ، والإطلاق لا دلالة فيه على كيفية الإيتاء ، مع أنه يجب تقييده بالدليل كالأصل ، والإجماع مع معارضته بغيره متبين خلافه كما عرفت ، وبأن المراد من حسن عبد الكريم نفي القول بالبسط الذي ادعاه عمرو ابن عبيد المعتزلي كما هو مقتضي مساق الخبر ، لأن‌ الصادق عليه‌السلام قال له : « ما تقول في الصدقات؟ فقال له ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) إلى آخر الآية ، قال : فكيف تقسمها؟ قال : أقسمها على ثمانية أجزاء فأعطي كل جزء واحدا ، قال : وإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد ما جعلت للعشرة آلاف قال : نعم ، قال : وتجمع صدقات أهل الحضر والبوادي فتجعلهم فيها سواء قال : نعم ، قال : فقد خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ما قلت في سيرته ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسم بينهم بالسوية ، وإنما يقسم على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس في ذلك شي‌ء موقت موظف ، وإنما يصنع » إلى آخر ما سمعت ، فسياقه يقتضي عدم التوقيت الذي ادعاه عمرو ، والمكاتبتان محمولتان على التقية ، لأن عدم التحديد مذهب العامة ، وحسن الحلبي إنما هو في المصدق والظاهر أن محل الخلاف في الفقير لا في باقي الأصناف المعلوم عدم جريان هذا الخلاف فيه ، إذ العمال والمؤلفة والغارمون لا تقوم بهم الخمسة أو الدرهم ، كما هو واضح.

يدفعها قصور الخبرين عن معارضة الأصل والإطلاق الذي لا معنى لنفي دلالته بعد فرض اندراج معطي الأقل فيه ، وأن المورد لا يخصص الوارد ، والتقية إنما هي محمل اضطراري ، لما فيها من إخراج الخبر عن الحجية ، والمراد من حسن الحلبي عدم التوقيت في أصناف الزكاة لا في خصوص العاملين ، وبالجملة لا يخفى على من رزقه الله‌

٤٥٠

معرفة لحن القول عدم وجوب هذا التحديد ، خصوصا مع ملاحظة ما في الخبرين من التعليل الظاهر في إرادة الكراهة من النهي فيهما ، ضرورة كون المراد منه أنه إذا كان ذلك هو الأقل فرضا فهو الأقل دفعا ، لأن الزكاة اسم للقدر المخصوص من المال ، فمع فرض كون أقله ذلك كان الناقص منه ليس زكاة ، فلا يصدق عليه أن المأتي زكاة حتى يكون خمسة فصاعدا ، ولا يخفى عليك كونه تعليل مناسبة للحكم لا تعليلا له حقيقة لوجوه لا تخفى ، ولعل الأشد من ذلك كراهة الأقل من الدرهم والقيراطين وإن كنا لم نعثر على ما يدل على ذلك صريحا ، وإجماع المرتضى في المصريات متبين خلافه ، على أنه غير صريح ، لأن المحكي عنه أنه قال فيها : إن أقل ما يجزي من الزكاة درهم للاحتياط وإجماع الفرقة المحقة ، لأن من أخرج هذا المبلغ أجزأ عنه وسقط ما في ذمته بالإجماع ، وليس الأمر على ذلك فيمن أخرج أقل منه ، وهو كما ترى ، نعم لا بأس في القول بشدة الكراهة للتسامح ، وللخروج عن شبهة الخلاف ، ولما يشعر به سؤال المكاتبتين من أن منتهى القلة الدرهم الذي سئل فيهما عن جواز دفعه لا الأقل منه.

كما أنه لم نعثر على التقدير بالنسبة إلى الذهب ، ولعله لذا اقتصر عليها في المقنعة اللهم إلا أن يجعل المراد من الخمسة دراهم ما يقابلها منه ، وهو نصف دينار ، لمعروفية مقابلة العشرة به ، ولعله لذا اقتصر بعضهم كالاسكافي وعلم الهدى والشيخين على ما حكي عنهم على التقدير بالنسبة إليهما خاصة ، فيبقى غيرهما حينئذ على أصالة عدم التقدير ، إنما العجب ما يحكى عن علي بن بابويه من الاقتصار على نصف دينار ، مع أنا لم نعثر على خبر فيه فضلا عما يقتضي الاقتصار عليه ، ونحوه ما في المختلف عن مقنع ولده من أنه يجوز أن يعطى للرجل الواحد الدرهمين والثلاثة ، ولا يجوز في الذهب إلا نصف دينار وكأنه تبع به والده ، لكن الفاضل الأصبهاني قال : إن الموجود فيما حضرني من نسخته الاقتصار على نصف دينار من غير تعرض للدراهم ، كما نقله في الفقيه عن أبيه ، وعلى‌

٤٥١

كل حال لم يصل إلينا ما يدل عليه.

أما التعدي إلى غير النقدين بملاحظة التقدير بهما فهو أحد الوجهين الناشئين من إطلاق النص والفتوى بالتقدير بالمذكور ، ولا يعم غير النقدين إلا بالتقويم ، وشيوع مثل هذه العبارة فيه ، ومن الاقتصار على النصوص فيما هو مخالف للأصل والإطلاق ، بل عن ثاني الشهيدين القطع به في حواشي القواعد ، واستجوده في المسالك ، قال فيها : « والتقدير بخمسة دراهم ونصف دينار يؤذن بأن ذلك مختص بزكاة النقدين فلا يتعدى الحكم إلى غيرها وإن فرض فيها نصاب أول وثاني ، وإلا لزم وجوب إخراج القيمة أو استحبابه ولا يقولون به ، وقيل : يتعدى فلا يدفع للفقير أقل مما في النصاب الأول أو الثاني على حسبه ، ويحتمل تقدير أقل ما يعطى بمقدار زكاة النقدين عملا بظاهر الخبر ، فيعتبر قيمة المخرج إن لم يكن من النقدين بأحدهما ، وهذا هو الأجود ـ إلى أن قال ـ : ولو لم يكن للمال إلا نصاب واحد كالغلات ففي اعتبار المخرج بقيمة النقدين كما مر الوجهان » قلت : قد يقال : إن الأولى اعتبار ما يجب في أول نصاب من كل جنس ، وماله نصاب واحد وهو الغلة فما يجب أولا إذا بلغ النصاب ، بل هو المنطبق على ما سمعته من العبارات السابقة ، وجعله في السرائر أحد القولين ، قال : « واختلف أصحابنا في أقل ما يعطى الفقير من الزكاة في أول دفعة ، فقال بعضهم : أقل ما يجب في النصاب الأول من سائر أجناس الزكاة ، وقال بعضهم : أخصه بأول نصاب الذهب والفضة فحسب » إلى آخر ما قال ، وكان وجهه جعل ما في الخبرين مثالا لغيره لا أن المراد القيمة به ، وربما كان في التعليل نوع إيماء اليه ، والله أعلم.

هذا كله مع بلوغ الواجب المقدار فصاعدا ، أما لو أعطى ما في النصاب الأول من النقدين مثلا لواحد ثم وجبت عليه الزكاة في النصاب الثاني أخرج زكاته وسقط اعتبار التقدير فيه إذا لم يجتمع منه نصب كثيرة تبلغ الأول ، ولو كان عند المالك نصاب أول‌

٤٥٢

وثاني فقد ذكر ثاني الشهيدين وغيره أنه يجوز إعطاء ما في الأول لواحد وما في الثاني لآخر من غير كراهة ولا تحريم على القولين ، واستشكله في المدارك لإطلاق النهي عن إعطاء ما دون الخمسة ، وإمكان الامتثال بدفع الجميع إلى الواحد ، وطريق الاحتياط واضح.

وكيف كان فهذا كله بالنسبة إلى الأقل ، وأما غيره فقد عرفت سابقا أنه لا حد للأكثر إذا كان دفعة فله إعطاء الفقير غناه وزيادة على ما صرح به غير واحد ، وحكى عليه الإجماع في الجملة جماعة ، واستفاضت به النصوص (١) كذلك لكن قد عرفت الاشكال منا فيه ، كما أنك قد عرفت تفصيل الكلام فيه ، وأنه يمكن التحديد بالغنى الذي هو بمعنى الكفاية ، وتنزيل كثير من العبارات عليه ، فلاحظ وتأمل. ولو تعاقبت العطية فبلغت مئونة السنة تناول ما زاد من حيث الفقر ، لحصول الغنى الذي لا تحل الصدقة معه ، كما هو واضح.

المسألة السابعة إذا قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام الزكاة دعا لصاحبها وجوبا عند جماعة منهم الشيخ في المحكي من مبسوطة ، والفاضلان في المعتبر والإرشاد ، والشهيدان في الدروس والمسالك وغيرهم ، بل نسب إلى الأكثر وقيل وقائل الشيخ والفاضل في غير التذكرة والإرشاد على ما قيل وغيرهما استحبابا ، وهو الأشهر عند المصنف لأصالة عدم الوجوب ، ولأنه لا يجب على الفقير إجماعا حكاه في المدارك عن بعضهم فنائبه أولى ، ولأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يأمر بذلك ساعيه الذي أنفذه إلى بادية الكوفة مع اشتمال وصيته التي أوصاه بها على كثير من الآداب والسنن (٢) لكن فيه أن الأصل لا يعارض الدليل ، وهو ظاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٤٥٣

الآية (١) كما أن عدم الوجوب على الفقير للإجماع لا يقتضي عدمه في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام ونائبهما ، وترك أمير المؤمنين عليه‌السلام تعليمه الساعي أعم من عدم الوجوب قطعا ، مع أنه لا ينافي وجوبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام ، نعم في المدارك أن البحث في وجوب ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام واستحبابه خال عن الفائدة ، وإنما الكلام في وجوب ذلك واستحبابه على الساعي والفقيه ، لكن فيه منع عدم الفائدة ، ضرورة اقتضاء الوجوب عليهما الوجوب على غيرهما ، لأصالة الاشتراك أو للتأسي.

وبذلك ظهر حينئذ أن المتجه الوجوب عملا بظاهر الأمر بالصلاة عليهم (٢) الظاهر في كون المراد منه عند الأخذ ، نحو قولك : خذ من زيد كذا وادع له ، ودعوى اختصاص ذلك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام لظهور التعليل فيه ، إذ هما الذي يسكن المرء إلى دعائهما وتطمئن به نفسه ، لمعلومية استجابة دعائهما بخلاف غيرهما ، يدفعها معلومية عدم كون المراد من التعليل دوران الحكم مداره وجودا وعدما ، بل ربما ظهر من المحكي عن بعضهم إشعاره بالوجوب ، لأنه استدل عليه أولا بظاهر الصيغة ، وثانيا بالعطف على « خذ » وثالثا لتعليله بأن فيه لطفا للمكلف واللطف واجب ، فالموصل اليه مثله ، ضرورة عدم التفاوت في اللطف بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونائبه الخاص أو العام.

وعلى كل حال فلا ريب في ظهور الآية في جواز الدعاء لهم بلفظ الصلاة كما ذهب إليه أصحابنا للأصل ، ولقوله تعالى (٣) ( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) ولأن المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحاح العامة الدعاء لهم بلفظ‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ١٠٤.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ١٠٤.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ١٥٢.

٤٥٤

الصلاة ، قال عبد الله بن أبي أوفى (١) « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صلى على آل أبي فلان فأتاه أبي بصدقة فقال : اللهم صلى على آل أبي أوفى » وفي رواية أخرى (٢) « إذا أتى رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدقة قال : اللهم صل عليه » فما عن العامة من عدم الجواز اجتهاد في مقابلة النص ، وفي المسالك « أنهم وافقوا على الدلالة وخالفوا في المدلول لوجه قريب » قلت : بل قد يقال بتعيين الدعاء بلفظ الصلاة كما هو المحكي عن بعض أصحابنا ، لتبادر خصوص الدعاء بلفظها من الأمر بها كالتحميد والتسبيح ونحوهما ، لكن المعروف عدمه ، بل في كنز العرفان أنه لا قائل بالعدم ، لأن المراد من الصلاة الدعاء لغة ، وهو عام للدعاء بلفظها وبغيره ، والأحوط الأول وإن كان الأقوى الثاني ، وفي محكي التذكرة أنه ينبغي أن يقال في صورة الدعاء آجرك الله تعالى فيما أعطيت ، وجعله لك طهورا ، وبارك الله لك فيما أبقيت ، ولكن لم أجده في نص وإن كان لا بأس به ، والأمر سهل.

المسألة الثامنة يكره أن يملك ما أخرجه في الصدقة اختيارا واجبة كانت أو مندوبة بلا خلاف أجده فيه كما عن المنتهى الاعتراف به ، بل في المدارك الإجماع عليه وهو الحجة ، مضافا إلى أنه طهور لماله لأنه وسخ ، فالراجع فيه كالراجع بقيئه ، وإلى أنه ربما أستحيي الفقير فيترك المماكسة معه ، ويكون ذلك وسيلة إلى استرجاع بعضها ، وربما طمع الفقير في غيرها فأسقط بعض ثمنها ، وعلى كل حال فلا ريب في جوازه ، لإطلاق الأدلة والإجماع بقسميه ، بل الظاهر أن المالك أحق من غيره إذا أراده ، قال الصادق عليه‌السلام (٣) : « فإذا أخرجها ـ يعني الشاة ـ فليقومها فيمن يزيد ، فإذا قامت على ثمن فإن أرادها صاحبها فهو أحق بها ، وإن لم يردها فليبعها » كما أنه إذا‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٥٧.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٥٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ٣.

٤٥٥

احتاج إلى شرائها بأن يكون العوض جزء من حيوان لا يتمكن الفقير من الانتفاع به ولا يشتريه غير المالك أو يحصل للمالك ضرر بشراء غيره جاز شراؤها وزالت الكراهة إجماعا محكيا عن المنتهى ، والأمر سهل ، والله أعلم.

ولا بأس في إبقائه على ملكه إذا عاد عليه بميراث وما شابهه مما هو غير الملك اختيارا ، بل في المدارك يندرج في شبهة شراء الوكيل العام واستيفائها من مال الموكل ، وهو جيد.

المسألة التاسعة يستحب عند علمائنا وأكثر العامة كما في المدارك أن يوسم نعم الصدقة في أقوى موضع منها وأكشفه كأصول الآذان في الغنم وأفخاذ الإبل والبقر فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) كان يسم الإبل في أفخاذها ، وعن أنس (٢) [ « أنه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يسم الغنم في آذانها » مضافا إلى ما فيه من التمييز عن غيرها ، فيعرفها به من يجدها لو شردت فيردها ، وغيره من الفوائد. وينبغي أن يكتب على الميسم بكسر الميم وفتح السين وهو المكواة بكسرها أيضا ما أخذت له زكاة أو صدقة أو جزية ولو أضاف « لله » كان أبرك وأولى ، والله أعلم.

( القول في وقت التسليم )

إذا هل الثاني عشر أو تم وجب دفع الزكاة وجوبا مستقرا على اختلاف القولين كما تقدم البحث فيه مشبعا وعلى كل حال فالأكثر كما في المدارك والمشهور في غيرها أنه لا يجوز التأخير إلا لمانع كعدم المال أو خوف التغلب أو لعدم‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٦.

(٢) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٦.

٤٥٦

المستحق فيؤخرها حينئذ لانتظار من له قبضها بل عن المنتهى نسبة ذلك إلى علمائنا وبه أفتى الشيخ في النهاية أولا لكن قال بعد ذلك : ما حاصله أنه إذا عزلها جاز تأخيرها إلى شهر أو شهرين واختاره في الحدائق بزيادة كتابتها وإثباتها على العزل ، وجعله وجه جمع بين نصوص الجواز والعدم والأشبه عند المصنف أن التأخير إذا كان لسبب مبيح دام بدوامه ولا يتحدد ، وإن كان اقتراحا لم يجز وظاهره أو صريحه وجوب الإخراج فورا مع الإمكان من غير فرق بين العزل وعدمه ، وانتظار الأفضل وعدمه ، وإرادة التعميم وعدمه ، ومعتاد السؤال وعدمه ، وقد سمعت كلام الشيخ في النهاية ، وجوز في الدروس التأخير لانتظار الأفضل والتعميم ، ولم يذكر الثاني في البيان لكن زاد الأحوج ومعتاد الطلب منه ، وقيد التأخير بما لا يؤدي إلى الإهمال ، وفي محكي التذكرة والنهاية والمنتهى والتحرير التأخير للتعميم خاصة بشرط دفع نصيب الموجودين فورا ، وفي محكي النهاية « جاز أن يؤخر إعطاء بعض بقدر ما يعطي غيره » ونحوه عن الأخيرين ، وتردد فيهما في الضمان حينئذ إن تلفت ، وعن محرر ابن فهد « ولو أخرها للبسط لم يأثم ويضمن » وعن جماعة جواز التأخير شهرا أو شهرين مطلقا خصوصا مع المزية ، ومال إليه ثاني الشهيدين ، وحكاه في البيان عن الشيخين ، وكذا في التذكرة مع العزل ، نعم ربما ظهر من ابن إدريس ، بل ظاهره الإجماع عليه ، قال : « وإذا حال الحول فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه إذا حضر المستحق ، فإن أخر ذلك إيثارا به مستحقا آخر غير من حضر فلا إثم عليه بغير خلاف ، إلا أنه إن هلك قبل وصوله إلى من يريد إعطاءه إياه فيجب على رب المال الضمان ، وقال بعض أصحابنا إذا حال الحول فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه على الفور ، ولا يؤخره ، فإن أراد على الفور وجوبا مضيقا فهذا خلاف إجماع أصحابنا ، لأنه لا خلاف بينهم في أن للإنسان أن يخص بزكاته فقيرا دون فقير ، ولا يكون مخلا بواجب ولا فاعلا لقبيح ،

٤٥٧

وإن أراد بقوله على الفورية إذا حضر المستحق فإنه يجب عليه إخراج الزكاة ، فان لم يخرج طلبا وإيثارا بها لغير من حضر من مستحقها وهلك المال فإنه يكون ضامنا ويجب عليه الغرامة للفقراء فهذا الذي ذهبنا اليه واخترناه » لكنه كما ترى ليس فيه التقييد بالشهر والشهرين.

وقد تلخص مما ذكرناه أن الأقوال في المسألة ستة أو خمسة ، والظاهر إمكان تحصيل الإجماع هنا على عدم إرادة مطلق الطبيعة من الأمر على وجه يكون التكليف هنا على حسب غيرها من الواجبات المطلقة التي وقتها العمر أو الوصول إلى حد التهاون على اختلاف القولين ، وإن كان ربما يوهم ذلك بعض كلمات بعض خصوصا ما في البيان ، إلا أنه يمكن القطع بفساده من التدبر في النصوص فضلا عن الإجماع ، كالقطع بفساد القول بالفورية وأنه لا يجوز التأخير مع الإمكان مطلقا بحال من الأحوال ، ضرورة اقتضائه طرح النصوص الكثيرة الدالة على جواز التأخير ، كصحيح حماد بن عثمان (١) عن الصادق عليه‌السلام « لا بأس بتعجيل الزكاة شهرين وتأخيرها شهرين » وصحيح عبد الله بن سنان (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « في الرجل يخرج زكاته فيقسم بعضها ويبقى بعض يلتمس لها المواضع ، فيكون بين ذلك وآخره ثلاثة أشهر ، قال : لا بأس » وموثق يونس بن يعقوب (٣) « قلت للصادق عليه‌السلام : زكاتي تحل في شهر أيصلح لي أن أحبس منها شيئا مخافة أن يجيئني من يسألني؟ فقال : إذا حال الحول فأخرجها من مالك ولا تخلطها بشي‌ء ثم أعطها كيف شئت ، قال : قلت : فإن أنا كتبتها وأثبتها أيستقيم لي؟ قال : نعم لا يضرك » وصحيح معاوية بن عمار (٤) عن الصادق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٩.

٤٥٨

عليه‌السلام « قلت له : الرجل تحل عليه الزكاة في شهر رمضان فيؤخرها إلى المحرم قال : لا بأس ، قال : قلت : فإنها لا تحل عليه إلا في المحرم فيعجلها في شهر رمضان قال : لا بأس » وفي المحكي عن‌ فقه الرضا عليه‌السلام (١) « إنما أروي عن أبي عليه‌السلام في تقديم الزكاة وتأخيرها أربعة أشهر ».

وليس في مقابلها من النصوص الدالة على التعجيل إلا‌ صحيح سعد بن سعد الأشعري (٢) قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يحل عليه الزكاة في السنة ثلاثة أوقات أيؤخرها حتى يدفعها في وقت واحد؟ فقال : متى حلت أخرجها » وخبر أبي بصير (٣) المروي عن مستطرفات السرائر نقلا من نوادر محمد بن علي بن محبوب قال : قال الصادق عليه‌السلام : « إن كنت تعطي زكاتك قبل حلها بشهر أو شهرين فلا بأس ، وليس لك أن تؤخرها بعد حلها » وأما حسن عمر بن يزيد (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الرجل يكون عنده المال أيزكيه إذا مضى عليه نصف سنة؟ قال : لا ، ولكن حتى يحول عليه الحول ويجعل عليه ، إنه ليس لأحد أن يصلي الصلاة إلا لوقتها ، وكذلك الزكاة ، ولا يصوم أحد شهر رمضان إلا في شهره إلا قضاء وإنما تؤدى إذا حلت » فإنه وإن استدل به بعضهم على ذلك للغاية والتشبيه بالصلاة والتسوية بينها وبين الزكاة واستفادة الحصر من « إلا » لكن الانصاف عدم دلالته ، ضرورة كون المراد منه بيان عدم جواز التقديم على أنه زكاة لا التأخير الذي هو محل البحث ، كما هو واضح ، فينحصر دليل الفورية فيهما ، مضافا إلى دعوى كونها من مقتضيات الصيغة التي قد فرغنا في الأصول من فسادها ، ودعوى كون الزكاة كالوديعة‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

٤٥٩

والدين ونحوهما مما يجب أداؤها بالمطالبة المتحققة هنا من المستحق بشهادة الحال ، بل لا ريب في كونها من الأمانات الشرعية التي يجب إيصالها إلى صاحبها وإن لم يطلب ، وإنما جواز التأخير مشروط بالاذن فعدمها حينئذ كاف في وجوب الدفع فورا لا أن الطلب شرط ، مع أنك قد عرفت تحققه ، بل عن فخر الإسلام تحققه بطريق آخر ، وهو أن طلب الولي يقوم مقام طلب المولى عليه ، ولا ريب في كون الله تعالى وليا لقوله (١) ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) إلى آخره. وقد طلبها بقوله (٢) ( آتُوا الزَّكاةَ ) فيجب الفور في الدفع.

لكن الجميع كما ترى لا يصلح معارضا للأدلة الخاصة ، بل الأخير منها واضح الفساد ، لمعلومية عدم كون المراد من قوله تعالى طلب دفع من حيث الولاية ، بل المراد منه طلب إيجاب للزكاة في المال ، فلا محيص حينئذ عن العمل بالنصوص السابقة ، وحمل الخبرين المزبورين على استحباب التعجيل وكراهة التأخير لا لغرض ، أما التأخير مع العزل أو التماس المواضع أو لمعتاد السؤال أو شهر أو شهرين وثلاثة اقتراحا فلا بأس به عملا بالنصوص السابقة التي لا وجه للاقتصار على رواية العزل منها ، وتقييد الخبرين بها ، خصوصا بعد ظهورها بقرينة ما فيها من الكتابة والإثبات في عدم اعتبار العزل ، وأنه غير لازم ، كما أنه لم نعثر على ما يدل على جواز التأخير للتعميم خاصة ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وكيف كان فقد عرفت مما تقدم لنا في الأبحاث السابقة أنه يضمن لو تلفت مع التأخير لغير عذر وإن قلنا بجوازه للنصوص الخاصة التي قدمناها الصريحة في الضمان ، فلاحظ وتدبر.

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٦٠.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٤٠.

٤٦٠