جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الامام » وظاهره أو صريحه الإجماع منا على ما سمعته من المفيد ومن تبعه ، والله أعلم.

هذا كله في الحمل ابتداء وأما لو طلبها الامام على وجه الإيجاب بنفسه أو بساعيه وجب صرفها اليه بلا خلاف ولا إشكال ، لوجوب طاعته وحرمة مخالفته عقلا ونقلا ولو فرقها المالك في أهلها والحال هذه قيل والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطة وخلافه وابن حمزة والشهيد في اللمعة والدروس والفاضل في المختلف لا يجزي بل في الأخير أنه الذي يقتضيه قول كل من أوجب الدفع اليه ابتداء للنهي المفسد للعبادة باعتبار كون الدفع حينئذ إتيانا بالمأمور به على غير وجهه المطلوب شرعا وقيل والقائل المصنف في النافع والفاضل في التذكرة والإرشاد وولده في المحكي من شرح الإرشاد يجزي لصدق امتثال الأمر بالإيتاء وإن أثم بترك امتثال أمر الطلب ، ولعدم اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن الضد ، ولأنه أدى الحق إلى مستحقه ، فخرج عن العهدة ، والامام إنما يطلبه لإيصاله إلى المستحقين ، فلا يكون الدفع إليهم ضدا للدفع اليه ، بل موافقة لغرضه ، بل الدفع إلى الفقير ليس ضدا للدفع إلى الامام بذاته ، إذ يمكن الدفع اليه بعد الدفع اليه ، وإنما عرضت له الضدية لاستلزامه هنا التمليك ، وإن قلنا بالنهي عنه لاستلزامه التمليك لزم من وصفه صحة الدفع ، فإنه لا نهي إذا لم يكن تمليك ، ولا تمليك إذا كان نهي ، ولأنه في الحقيقة كالعبد الذي يطيع الله ويعصي سيده ، ضرورة عدم اقتضاء طلب الامام عليه‌السلام لها تقييد أوامر الإيتاء للفقراء.

ومما سمعت للقولين تردد الفاضل وسيد المدارك ، لكن قال في الأخير : « إلا أن الأمر فيها هين ، لاختصاص الحكم بطلب الامام عليه‌السلام ) ، ومع ظهوره عجل الله فرجه تتضح الأحكام كلها إن شاء الله » قلت : يمكن أن تظهر ثمرتها في زمن الغيبة بطلب الفقيه لها بناء على وجوب إجابته ، لعموم نيابته كما حكاه الشهيد ، فقال : « قيل وكذا يجب دفعها إلى الفقيه في الغيبة لو طلبها بنفسه أو وكيله ، لأنه نائب للإمام كالساعي ،

٤٢١

بل أقوى منه لنيابته عنه في جميع ما كان للإمام ، والساعي إنما هو وكيل للإمام عليه‌السلام في عمل مخصوص » لكن في شرح الأصبهاني للمعة لم أظفر بقائل ذلك ، وإنما عثرت على القول بوجوب الدفع اليه أو وكيله في الغيبة ابتداء ، بل قال : « إنا نمنع كونه كالساعي ، فان الساعي إنما يبلغ أمر الإمام ، فاطاعته إطاعة الامام بخلاف الفقيه ، ولا يجدي كونه أعلا رتبة ومنصبا منه ، ولم يعلم أمر منهم صلوات الله عليهم بإطاعة الفقيه في كل شي‌ء » قلت : إطلاق أدلة حكومته خصوصا رواية النصب (١) التي وردت عن صاحب الأمر عليه‌السلام روحي له الفداء يصيره من أولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم ، نعم من المعلوم اختصاصه في كل ما له في الشرع مدخلية حكما أو موضوعا ، ودعوى اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية يدفعها معلومية توليه كثيرا من الأمور التي لا ترجع للأحكام ، كحفظه لمال الأطفال والمجانين والغائبين وغير ذلك مما هو محرر في محله ، ويمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء ، فإنهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه المؤيد بمسيس الحاجة إلى ذلك أشد من مسيسها في الأحكام الشرعية.

ومن ذلك يظهر حينئذ أن ثمرة المسألة تتحقق في زمن الغيبة كزمن الظهور والتحقيق فيها أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده مع النهي عن التفريق لعدم التمكن من نية القربة حينئذ التي لا ريب في اشتراطها في صحة دفع الزكاة ، لأن نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهي الله تعالى ، فإنه ( ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) وكذا مع الاقتصار على الأمر بالدفع إليه المنافي للأمر حينئذ بالإيتاء ، فوجب تقييده به على معنى وجوب الإيتاء على هذا الوجه بالنسبة إلى خصوص من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١٠ من كتاب القضاء.

(٢) سورة النجم ـ الآية ٣ و ٤.

٤٢٢

تعلق به الطلب ، بناء على توقف وجوب الدفع اليه عليه ، وليس ذا من مسألة الضد بوجه ، والإيصال إلى المستحق بعد أن لم يكن على الوجه المأمور به غير مجز ، كما أن عدم ترتب الملك عليه للنهي لا يقتضي جوازه ، لعدم منافاته حينئذ ، وما أشبه هذا الكلام بما عن أبي حنيفة من اقتضاء النهي الصحة ، لعدم تحقق النهي عن الصلاة مثلا إلا بعد صحتها ، لعدم كونها صلاة مع فسادها ، فلا نهي ، وهو واضح الفساد كما بيناه في محله ، والله أعلم.

وولي الطفل والمجنون كالمالك في ولاية الإخراج بنفسه أو وكيله والدفع إلى الامام ، لإطلاق دليل ولايته ، هذا وفي المحكي عن المبسوط أنه يجب على الامام أن ينصب عاملا لقبض الصدقات لوجوب التأسي بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظاهر باعتبار استمراره على ذلك في الوجوب عليه أيضا إن لم نقل بوجوب التأسي بفعله الذي لم نعلم وجهه ، مضافا إلى اقتضاء قاعدة اللطف ذلك ، ضرورة عدم سماحة أنفس المكلفين بالإخراج من أموالهم ، وبنقلها ، وربما استلزم ذلك مئونة عظيمة ، فلا ريب في أن ذلك يبعدهم عن الطاعة ويقربهم إلى المعصية ، وإلى اقتضاء قاعدة وجوب مراعاة الولي مصالح المولى عليهم أو عدم المفسدة ذلك أيضا ، ولا ريب في خصوص المفسدة على الفقراء بترك نصب العامل ، نعم عن المنتهى تقييد ذلك بما إذا عرف أو غلب على ظنه أن الصدقة لا تجمع إلا بالعامل ، واستحسنه في المدارك ، وفيه أنه يمكن أن يكون المتجه بناء على ما عرفت وجوب النصب إلا إذا علم الجمع بدونه ، والأمر في ذلك كله سهل ، بل في المدارك أن أمثال هذه المناصب لا يناسب أصولنا ، لأن الإمام عليه‌السلام أعلم بما يجب علينا وعليه ، وهو كذلك بعد السقوط في زمن الغيبة التي هي وقت التقية وزمن الفترة ، كما هو واضح ، والله أعلم.

وقد عرفت سابقا أنه لا إشكال ولا خلاف في أنه يجب دفعها اليه عند‌

٤٢٣

المطالبة لكون طلبه طلب الامام عليه‌السلام وكذا قد عرفت سابقا أنه لو قال المالك : أخرجت قبل قوله : ولا يكلف ببينة ولا يمينا كما نص عليه (١) مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في تعليمه لمصدقه ولا يجوز للساعي تفريقها إلا بإذن الإمام لأن العمالة ولاية ووكالة ، فيقتصر فيها على موضع الاذن من الموكل ، نعم في المدارك « لو أذن له المالك في تفريقها ولم نوجب حملها إلى الامام ابتداء جاز له ذلك ، مع احتمال العدم ، لأن طلب الساعي قائم مقام طلب الامام عليه‌السلام » قلت : لا ريب في قوة هذا الاحتمال ، ضرورة عدم ولاية للمالك عليها بعد قبض الساعي لها ، فإذنه كعدمها ، واحتمال أن للعامل التفريق بنفسه باعتبار صيرورة المال للفقراء بقبضه فيشمله ما دل على إيصال الأمانة إلى أهلها فلا يحتاج إلى الاذن يدفعه أن يده يد الامام ، فالأمانة حينئذ عند الامام لا عنده حتى يكون مكلفا بها وإن كانت هي أمانة عنده أيضا لكن على معنى كونه وكيلا عنه كالوكيل على قبض الوديعة من صاحبها ، وهو واضح أما إذا أذن له جاز أن يأخذ نصيبه ثم يفرق الباقي بلا إشكال ، لأنه أحد المستحقين بل أعظمهم ، لكونه كالأجير ، وإن كان الاذن مطلقة تصرف كيف شاء بما تحصل به البراءة ، وإن كانت مقيدة لم يجز التعدي ، ولو عين المالك وعين له الامام واختلف المحل أو التقسيط ففي المدارك اتبع تعيين الإمام خاصة ، لأنه أولى بنا من أنفسنا ، وفيها أيضا « ولو أطلق الامام وعين المالك لم يبعد جواز التعدي عن تعيينه ، لزوال ولايته بالدفع إلى الساعي » قلت : قد يقال بناء على عدم وجوب الدفع إلى الامام ابتداء ولم يكن طلب منه ولم يكن دفع المالك للساعي مثلا على أن يكون التفرقة على وجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٤٢٤

مخصوص بوجوب ما عينه المالك ، لعموم‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « المؤمنون عند شروطهم » كما أومأنا إليه سابقا ، لكن الانصاف عدم خلوه بعد من البحث والنظر ، ومثله يأتي الآن في الدفع إلى المجتهد ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فـ ( إذا لم يكن الامام عليه‌السلام موجودا ) بين رعيته على وجه يتمكنون من الرجوع اليه دفعت ابتداء إلى الفقيه المأمون من الإمامية فإنه أبصر بمواقعها استحبابا أو وجوبا على القولين ، لأنه نائب الإمام فيجري فيه ما تقدم ، بل قيل : إنه لا قائل بوجوب دفعها إلى الامام عليه‌السلام ابتداء وعدمه إلى الفقيه ، وإن كان قد يخدش بما في الغنية من الوجوب في الأول وعدمه في الثاني ، ولعله لما عرفت من عدم عموم ولايته. لكن فيه ما تقدم سابقا ، ومنه يعلم الحال في طلبه.

والمراد بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى والحكومة ، قيل : وبالمأمون من لا يتوصل إلى أخذ الحقوق مع غنائه عنها بالحيل الشرعية ، بل في المدارك نسبته إلى المتأخرين ، ثم نفى البأس عنه ، قال : لأن في غير المأمون بهذا المعنى نقصا في الهمة وانحطاطا عما أهله الشارع له ، وفي الدفع إليه إضرارا بالمستحقين ، ونقصا في الحكمة التي لأجلها شرعت الزكاة ، وعن بعضهم احتمال زيادة عدم التوجه إلى الأمور الدنيوية ـ التي توجب نقصا في إيصال الحقوق إلى المحتاج ، كشدة الصحبة مثلا مع بعض الفقراء ـ على ذلك ، إلا أن الانصاف عدم خلو اعتبار الزائد على العدالة عن الاشكال ، لعدم الدليل ، بل إطلاق عبارة النصب يقتضي خلافه.

وعلى كل حال فالمستحب حملها اليه ، خلافا لبعض العامة فجعل الأفضل تفريق المالك بنفسه ، ولا ينافي ذلك قوله تعالى (٢) : ( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الخيار ـ الحديث ٧ من كتاب التجارة.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٧٣.

٤٢٥

خَيْرٌ لَكُمْ ) إذ الإخفاء لا ينافي الحمل إلى الامام ، لأن إعطاء الفقير كما يكون بالإبداء والإخفاء كذلك الحمل إلى الامام ، وإيتاء الفقراء لا يتعين أن يكون بنفسه ، بل لعل المراد من الإخفاء الحمل إلى الامام ، فإن معه لا يعلم ممن ولا ما هو ، على أن‌ إسحاق بن عمار (١) روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في هذه الآية أنه قال : « هي سوى الزكاة ، فإنها علانية غير سر » وفي مرسل ابن بكير (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام فيها أيضا قال : « ( فَنِعِمّا هِيَ ) يعني الزكاة المفروضة ، قلت : وإن تخفوها قال : يعني النافلة إنهم كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل » وعن العياشي في تفسيره عن‌ الحلبي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام فيها أيضا ، قال : « ليس تلك الزكاة ، ولكنه الرجل يتصدق لنفسه الزكاة علانية ليس بسر » وفي المروي عن‌ علي بن إبراهيم (٤) عنه عليه‌السلام « الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سرا فهو أفضل » وفي‌ خبر أبي بصير (٥) عنه عليه‌السلام أيضا « كل ما فرض الله عز وجل عليك فإعلانه أفضل من إسراره ، وكل ما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه » إلى غير ذلك ، والله أعلم.

والأفضل قسمتها في الأصناف الثمانية مع سعتها ووجودهم ، لتعميم النفع والمراعاة لظاهر الآية ، وعن التذكرة والمنتهى « ولما فيه من التخلص من الخلاف ، وحصول الاجزاء يقينا » لكن فيه أنه لا يناسب ما تسمعه من دعواه الإجماع منا على عدم وجوب البسط ، والأمر سهل.

وكذا يستحب اختصاص جماعة أقلها ثلاثة من كل صنف مع الوجود والسعة ، والأولى البسط مع إمكانه اعتبارا لصيغة الجمع المعرفة باللام ، وأما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ١.

٤٢٦

إعطاء جماعة فلأنها وإن استعيرت للجنس الشامل للواحد نحو ركبت الخيل ونكحت النساء إلا أن الجمع أقرب أفراد المجاز إلى الحقيقة ، كذا قيل ، لكنك خبير أن ذلك لا يجري في سهم سبيل الله وابن السبيل ، إذ لا جمع فيهما ، اللهم إلا أن يكون وجهه ما في تفسير‌ علي بن إبراهيم (١) عن العالم عليه‌السلام « و ( فِي سَبِيلِ اللهِ ) قوم يخرجون ـ وقوله ـ : و ( ابْنِ السَّبِيلِ ) أبناء الطريق » والأمر سهل بعد أن كان الحكم ندبيا يتسامح فيه.

ويستحب تخصيص أهل الفضل بزيادة النصيب كما رواه‌ السكوني (٢) قال : « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إني ربما قسمت الشي‌ء بين أصحابي أصلهم به ، وكيف أعطيهم؟ فقال : أعطهم على الهجرة في الدين والفقه والعقل ».

كما أنه ينبغي تفضيل الذي لا يسأل على الذي يسأل ، لحرمانه في أكثر الأوقات ومدح الله له في كتابه المجيد (٣) ول‌ صحيح ابن الحجاج (٤) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الزكاة يفضل بعض من يعطى ممن لا يسأل على غيره قال : نعم يفضل الذي لا يسأل على الذي يسأل ».

وينبغي أيضا صرف صدقة المواشي إلى المتجملين ومن لا عادة له بالسؤال ، وصرف صدقة غيرها إلى الفقراء المدقعين المعتادين للسؤال ، قال عبد الله بن سنان (٥) : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إن صدقة الخف والظلف تدفع إلى المتجملين من المسلمين ، فأما صدقة الذهب والفضة وما كيل بالقفيز وما أخرجته الأرض فللفقراء المدقعين ، قال : فقلت : كيف صار هذا هكذا؟ فقال : لأن هؤلاء يتجملون ويستحيون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ١٧٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٢٧

من الناس ، فيدفع إليهم أجمل الأمرين عند الناس ، وكل صدقة » وربما تعارضت جهة الترجيح ، وربما تحصل مرجحات أخر ، والمتجه حينئذ مراعاة الميزان ، ومن هذا وشبهه قلنا : إن الفقيه أبصر بمواقعها وأعرف بمواضعها ، والذي يسهل الخطب كون الحكم استحبابيا.

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرنا أنه لو صرفها في صنف واحد جاز ، ولو خص بها ولو شخصا واحدا من بعض الأصناف جاز أيضا بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل في التذكرة نسبته إلى أكثر أهل العلم ، والنصوص فيه مستفيضة أو متواترة ، وفيها الصحيح والحسن وغيرهما ، قال أحمد بن حمزة (١) : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : رجل من مواليك له قرابة كلهم يقول بك ، وله زكاة أيجوز أن يعطيهم جميع زكاته؟ قال : نعم » وقال زرارة (٢) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل وجبت عليه الزكاة ومات أبوه وعليه دين أيؤدي زكاته في دين أبيه؟ ـ فقال بعد كلام طويل ـ : وإن لم يكن أورثه الأب مالا لم يكن أحد أحق بزكاته من دين أبيه ، فإذا أداها في دين أبيه على هذا الحال أجزأت عنه » إلى غير ذلك مما تقدم من نصوص الإعتاق (٣) والإحجاج (٤) وغيرها ، بل في‌ حسنة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم صدقة أهل البوادي في البوادي ، وصدقة أهل الحضر لأهل الحضر ، ولا يقسمها بينهم بالسوية ، وإنما يقسمها بينهم ما يحضره منهم وما يرى ، وقال : ليس في ذلك شي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٢٨

موقت » ونحوها غيرها في ذلك ، بل في المروي عن‌ تفسير العياشي عن أبي مريم (١) عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عز وجل ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ) إلى آخره ، فقال : « إن جعلتها فيهم جميعا وإن جعلتها لواحد أجزأ عنك ».

وبذلك كله يعلم أن المراد من الآية بيان المصرف الذي هو مقتضى الأصل أيضا بعد قطع النظر عن النصوص والإجماع ، فما عن بعض العامة ـ من وجوب القسمة على الأصناف الستة الموجودين على السواء ، ويجعل لكل صنف ثلاثة أسهم فصاعدا ، ولو لم يوجد إلا واحد من ذلك صرفت حصة الصنف إليه ، لأنه تعالى جعل الزكاة لهم بلام الملك ، وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك ، وذلك يوجب الاشتراك في الحكم ـ ضعيف جدا (٢) وربما أجيب عنه بأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية ، فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلا موزعا على كل واحد منهم ، وبأن اللام في الآية الشريفة للاختصاص لا للملك ، كما تقول باب الدار ، فلا يقتضي وجوب البسط ولا التسوية في العطاء ، وبأن المراد من الآية بيان المصرف أي الأصناف التي تصرف الزكاة إليهم لا إلى غيرهم ، كما يدل عليه الحصر بانما ، وقوله تعالى (٣) ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) الآية ، وهو الذي أشار إليه في محكي الخلاف بقوله : إن الآية محمولة على أن الثمانية أصناف محل الزكاة لا أنه يجب دفعها إليهم بدلالة أنه لو كان كذلك لوجب التسوية بين كل صنف ، ويفرق في جميع الصنف ، وذلك باطل بالاتفاق ، قلت : وهو كذلك ، ضرورة أنها لو أفادت وجوب الصرف إلى جميع ما ذكر من الأصناف أفادت وجوبه إلى جميع ما يدخل في كل صنف ، لإفادة الجمع المعرف الاستغراق إلا أن يراد منه الجنس مجازا ، نحو ركبت الخيل ، وأما التسوية فلعدم المرجح لبعضهم على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

(٢) ليس في النسخة الأصلية كلمة « ضعيف جدا » ولكن الصحيح ما أثبتناه.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٥٨.

٤٢٩

الآخر ، فهو كما لو أوصى بشي‌ء لجماعة من غير تفضيل ، وعلى كل حال فالمحافظة على معنى اللام المعلوم انتفاؤه هنا من وجوه ليس بأولى من المحافظة على الاستغراق في الجمع الذي لا مانع من إرادته على تقدير كون المراد بيان المصرف والاستحقاق والاختصاص ونحو ذلك مما لا يقتضي البسط المزبور.

ولا يجوز أن يعدل بها أي الزكاة إلى غير الموجود من الفقراء ، لما فيه من تأخير الإخراج مع التمكن منه الممنوع عند المصنف على ما ستعرف وكذا لا يجوز نقلها إلى غير أهل البلد مع وجود المستحق في البلد على المشهور كما في الحدائق بل في التذكرة الإجماع عليه ، بل لعله ظاهر الخلاف أو محتمله ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما فيه من لزوم التأخير المنافي للفورية الذي ستعرف عدم جوازه عند المصنف ، ومن التغرير بالمال والتعريض لتلفه ، وإلى‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح عبد الكريم ابن عتبة الهاشمي (١) : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم صدقة أهل البوادي على أهل البوادي وصدقة أهل الحضر على أهل الحضر » الخبر ، وقوله في‌ صحيح الحلبي (٢) : « لا تحل صدقة المهاجرين للأعراب ، ولا صدقة الأعراب للمهاجرين » لكن الجميع كما ترى ، إذ الشهرة فضلا عن الإجماع لم نتحققها ، بل الفاضل نفسه الذي حكى الإجماع المزبور وقد اختار في المنتهى والمختلف والتحرير الجواز على كراهية ، كالمحكي عن ابن حمزة ، وأما الشيخ فإنه وإن صرح بالعدم في الخلاف لكن المحكي عنه في مبسوطة والاقتصاد الجواز بشرط الضمان ، وقواه أول الشهيدين في الدروس وثانيهما في المسالك ومحكي حواشي القواعد ، بل اختاره فيما حكي عنه من حواشي الإرشاد ، اللهم إلا أن يريدوا بالضمان نقل المال إلى الملك باقتراض ونحوه ، فيكون حاصله عدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٣٠

جواز النقل إلا إذا أخرجه عن الزكاة بالضمان ، لكن فيه أنه ليس قولا بعدم الجواز أيضا ، ضرورة أنه عليه لا يجوز له أن يضمن وينقل ، وبذلك كانت المسألة ثلاثية الأقوال ، قال في الدروس : « ولا يجوز نقلها مع وجود المستحق فيضمن ، وقيل : يكره ويضمن ، وقيل : يجوز بشرط الضمان ، وهو قوي » وظاهر الشهيد في الروضة أن ما في الدروس هو قول بالجواز.

وعلى كل حال فالقول بالعدم ليس مظنة الإجماع ، بل لعل العكس أقرب منه ، خصوصا مع أن المحكي عن الحلبي أنه جعل عدم النقل أولى ، وظاهره الجواز ، وعن إيضاح المفيد كما في المنتهى الجواز أيضا ، وإن كان ما وصل إلينا من عبارته في المقنعة ليس بتلك الصراحة ، والمنافاة للفورية التي يمكن منع وجوبها على وجه يقتضي منع ذلك كما ستعرفه في محله ـ بل في المدارك وغيرها أن النقل شروع في الإخراج ، فلا يكون منافيا كالقسمة مع التمكن من إيصالها إلى شخص واحد ـ لا تخص النقل بعدم الجواز ، ضرورة عدم الفرق حينئذ بينه وبين التأخير وإن لم ينقلها ، بل قد يوافقها بعض أفراد النقل إلى البلدان القريبة دون الإيصال في البلد ، فلا وجه لذكر هذه المسألة بعنوان مخصوص ظاهر في عدم ابتنائها على الفورية ، وأنه لا يجوز النقل نفسه إلى بلد آخر وإن جاز له التأخير في بلده ، والتغرير للمال ( بالمال خ ل ) والتعريض لتلفه بعد كونه مضمونا على المالك غير مضر في حق الفقير ، والصحيح (١) غير دال على الوجوب ، خصوصا بعد معلومية جواز الإعطاء لكل من القسمين مع عدم النقل ، بل ليس فيه تعرض للنقل أصلا ، ضرورة أنه قد يستدعي ذلك للنقل ، بل فيه منافاة لما دل (٢) على نقله عليه‌السلام للزكاة وإرسال الجباة لها ، فالمقصود منه ضرب من الندب ، وكذا الكلام في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٤٣١

الصحيح الآخر (١).

فبان لك من ذلك كله قصور هذه الأدلة عن تقييد إطلاق الآخر المقتضي تخيير المالك في جميع أفراد الدفع فضلا عن الأدلة الخاصة ، كصحيح هشام بن الحكم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يعطي الزكاة يقسمها إله أن يخرج الشي‌ء منها من البلدة التي هو فيها إلى غيرها؟ قال : لا بأس » والصحيح عن أحمد بن حمزة (٣) قال : « سألت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام عن الرجل يخرج زكاته من بلد إلى بلد آخر يصرفها إلى إخوانه فهل يجوز ذلك؟ قال : نعم » ومرسل درست (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في الزكاة يبعث بها الرجل إلى بلد غير بلده فقال : لا بأس أن يبعث بالثلث أو الربع ، والشك من أبي أحمد ».

نعم المتجه جمعا بين هذه النصوص وبين ما دل على الضمان بتأخير الأداء مع وجود المستحق ـ من‌ حسن زرارة (٥) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل بعث إليه أخ له زكاة يقسمها فضاعت فقال : ليس على الرسول ولا على المؤدي ضمان ، قلت : فإنه لم يجد لها أهلا ففسدت وتغيرت أيضمنها؟ قال : لا ، ولكن إن عرف لها أهلا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن حين أخرها » وحسن محمد بن مسلم (٦) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم فضاعت هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن حتى يدفعها ، وإن لم يجد لها من يدفعها اليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان ، لأنها خرجت من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٣٢

يده ، وكذلك الوصي الذي يوصى اليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه ، فان لم يجد فليس عليه ضمان » وكذلك من وجه اليه زكاة مال ليفرقها ووجد لها موضعا فلم يفعل ثم هلكت كان ضامنا ، وغير ذلك ـ الحكم بالجواز مع الضمان.

وعلى كل حال فلو نقلها وأوصلها إلى المستحق أجزأ عند علمائنا أجمع ، كما في المدارك وعن الخلاف والمنتهى والتذكرة والمختلف لصدق الامتثال ، فما عن بعض العامة من عدم الاجزاء لأنه دفعها إلى غير من أمر بالدفع إليه فأشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف معلوم البطلان ، نعم عن المنتهى « أنه إذا قلنا بجواز النقل كان مكروها ، والأولى صرفها إلى فقراء بلدها دفعا للخلاف » وقال أيضا : « أنه إذا نقلها اقتصر على أقرب الأماكن التي يوجد المستحق فيها استحبابا عندنا ، ووجوبا عند القائل بتحريم النقل » واستشكله في التذكرة من جواز النقل مطلقا لفقد المستحق ، ومن كون طلب البعيد نقلا عن القريب مع وجود المستحق فيه » وعن النهاية « انه إن كان أحد البلدين طريقا للآخر تعين التفريق في الأقرب ، ولو لم يكن كذلك تخير بين البعيد والقريب مع التساوي في غلبة ظن السلامة ، إلا أن يختص الأبعد بالأمن تحقيقا أو احتمالا أو رجح احتمال الأمن فيه عليه في الأقرب فيجوز النقل اليه ولو كان الأقرب في طريقه إذا لم يمكنه المبادرة فيه إلى الدفع إلى الفقراء ، وإن لم يكن في طريقه كان النقل اليه متعينا إن اشترطنا في جواز النقل ظن السلامة » وفيه أن المتجه بناء على كون منشأ التحريم منافاة الفورية مراعاة الأقرب فالأقرب مطلقا مع التساوي في الأمن ، كما هو واضح ، وأجرة النقل على المالك كما جزم به ثاني الشهيدين في الروضة ، وقد يحتمل كونها من الزكاة فيما لا سبيل له إلى الإيصال فيه إلا النقل ، خصوصا مع عدم إمكان الإبقاء أمانة لخوف تلف ونحوه ، فتأمل جيدا.

وكذا لا يجوز عند المصنف وجماعة أن يؤخر دفعها مع التمكن بناء‌

٤٣٣

على الفورية التي ستعرف البحث فيها ، وعليها وعلى حرمة النقل فان فعل شيئا من ذلك أثم وضمن للتعدي وللنصوص (١) المتقدمة في الضمان الذي لم نجد فيه خلافا على كل حال وكذا في الإثم والضمان كل من في يده مال لغيره وطالبه الغير به فامتنع عن دفعه اليه من دون عذر شرعي بلا خلاف ولا إشكال ، لكن قد يفرق بينه وبين الزكاة بعدم الطلب من جميع المستحقين ، وطلب البعض صريحا فضلا عن كونه بشاهد الحال لا يقتضي الوجوب ، لعدم تعين الحق له ، نعم لو طلب ولي الجميع المستحقين فيجب الدفع أو أوصي اليه بصرف شي‌ء فلم يصرفه مع التمكن أو دفع اليه ما يوصله إلى غيره فلم يوصله كذلك ، لحسن محمد بن مسلم (٢) المتقدم الذي نص فيه على الضمان دون الفورية ، فلا بد لمدعيها من دليل آخر ، كما أنه ينبغي له تقييد ذلك بما إذا لم ينص الموصى والدافع على التراخي أو دلت عليه القرائن ، فإنه لا ريب في انتفاء الفورية حينئذ ، بل والضمان مع عدم التعدي والتفريط في وجه قوي ، بل ينبغي الجزم به بناء على كونه حينئذ كالأمانات.

وكيف كان فـ ( لو لم يجد المستحق ) للزكاة جاز نقلها إلى بلد آخر بلا خلاف ولا إشكال ، بل في محكي التذكرة والمنتهى الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد إطلاق الأمر بالإيتاء ، لكن ينبغي تقييده بما إذا لم يكن الطريق مخوفا ، وإلا كان مغررا بها أو مفرطا كما اعترف به الحلي والفاضلان ، ولا عبرة بإذن المستحق بعد عدم انحصار الحق فيه ، فما عن الحلبي ـ من أنه إن كان السبيل مخوفا لم يجز حملها إلا بإذن الفقير ، فان حمل من غير إذنه فهي مضمونة حتى تصل إليه ـ في غير محله ، وإن وافقه ابن زهرة مدعيا الإجماع عليه ، ويمكن إرادتهما إذن الفقيه الذي هو الولي العام ، لأنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٣٤

هو الذي يكون إذنه إذن تمام المستحق ، وحينئذ يتجه ما ذكراه ، بل ظاهر الأستاذ في كشفه دوران جواز النقل وعدمه على إذن المجتهد وعدمه ، قال : « ولا يجوز نقلها لغير المجتهد إلى مواضع بعيدة مع وجود المستحق في البلد ، أو موضع قريب منها ، ولو أخرجها ونقلها لفقد المستحق وعدم مصرف آخر في البلد فلا بأس ولا ضمان مع التلف ، ولو نقلها إلى بعض المواضع القريبة مع وجود المستحق جاز ، وعليه ضمانها مع التلف ما لم يكن مجتهدا أو مأذونا منه » إلى آخره ، وإن كان قد عرفت فيما تقدم أن التحقيق عندنا الجواز مع وجود المستحق بدون الاذن منه من غير فرق بين المواضع القريبة والبعيدة.

وكيف كان فالظاهر فيما نحن فيه الجواز من غير خلاف ولا إشكال ، نعم قال المفيد : « إلا أن يغلب في ظنه قرب وجود المستحق ويكون أولى ممن يحمل اليه » وعن سلار موافقته إلا في قيد الأولوية والقرب فاعتبر ظن الحضور وأطلق ، مع أن الأصح عدم اعتبار ذلك أيضا ، خصوصا على ما اخترناه من جواز النقل مع وجود المستحق ، للنصوص السابقة فضلا عن المقام الذي هو أولى منه من وجوه ، خصوصا بعد‌ حسن ابن مسلم (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل بعث زكاة ماله لتقسم فضاعت هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن حتى يدفعها ، وإن لم يجد لها من يدفعها اليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان » ونحوه حسن زرارة (٢).

ومنهما يعلم أنه لا ضمان عليه مع التلف إلا أن يكون هناك تفريط مضافا إلى الإجماع على الظاهر كما اعترف به بعضهم ، وإلى أنه تصرف تصرفا مشروعا ، فالأصل عدم ترتب الضمان عليه به ، بل قد عرفت ما تقدم أن من المحتمل قويا عدم الضمان وإن تمكن من المصارف الأخر كسهم سبيل الله ونحوه ، لظاهر الحسن المزبور‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

٤٣٥

وغيره ، وعلى كل حال فقد ظهر لك أنه لا إشكال في الجواز مع عدم الضمان ، بل في المدارك الظاهر وجوب النقل لتوقف الدفع الواجب عليه وإن كان قد يناقش فيه بأن الأصل يقتضي التخيير بين ذلك وبين الحفظ إلى حضور مستحق مع التساوي في عدم فساد المال واحتمال التلف ، كما صرح به الفاضل في الإرشاد ، بل قيل : إنه لا يظهر خلافه من كلام غيره من الأصحاب ولا من ألفاظ النصوص ، إذ ليس فيها إلا نفي الضمان والجواز ونفي البأس ، نعم في‌ خبر ضريس (١) أنه سأل المدائني أبا جعفر عليه‌السلام « أن لنا زكاة نخرجها من أموالنا فيمن نضعها فقال : في أهل ولايتك ، فقال : إني في بلاد ليس فيها أحد من أوليائك فقال : ابعث إلى بلدهم تدفع إليهم ، ولا تدفعها إلى قوم إن دعوتهم غدا إلى أمر لم يجيبوك ، وكان والله الذبح » وليس نصا في الوجوب ، لأن المقصد فيه بيان حرمة الدفع إلى غير الموالي ، مع أن الأمر في مقام توهم الحظر ، فينزل على الإباحة ، وفي خبر إبراهيم الأوسي (٢) عن الرضا عليه‌السلام المتقدم سابقا الأمر بالانتظار بها سنة مع عدم معرفة أحد لها ، بل وسنتين بل وأربع سنين ، فان لم تصب لها أحدا فصرها صررا واطرحها في البحر ، الحديث ، وكأن منشأ توهم السيد المزبور استدلال الفاضلين على الجواز بكونه مقدمة للدفع الواجب ، ويمكن أن يكون وجهه الوجوب ولو على التخيير بينه وبين الحفظ ، فيكون حينئذ مقدمة للواجب في الجملة ، وإلا كان محلا للمنع ، ضرورة أن المستحقين إنما يستحقونه في المكان المخصوص فلا يجب عليه النقل إلى غيره ، ولذلك تعارف في ذلك الزمان إرسال العمال لجلب الزكاة وجبايتها ، فلا وجوب حينئذ للدفع حتى يجب النقل مقدمة له ، بل قال بعضهم : إنه إذا كان الحفظ مؤديا إلى فساد أو تلف دون النقل ولم يمكن التبديل بما لا يفسد ولا يتلف من النقل ونحوه ففي وجوب النقل إشكال ، وإن كان الوجوب حينئذ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٨.

٤٣٦

لا يخلو من قوة.

وكيف كان فـ ( لو كان ماله في غير بلده فالأفضل صرفها ) في بلد المال عند العلماء كافة كما في المدارك ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما قيل من أنه يدل عليه مع ذلك حسن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (١) إلا أنه ليس بتلك المكانة ، ضرورة عدم اقتضاء قسمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر المحافظة على البلد ، إنما الإشكال في أن ذلك لا يوافق ما تقدم من المصنف وغيره من حرمة النقل المقتضية لوجوب الصرف في البلد لا لأفضليته ، واحتمال الفرق بين بلد المالك وغيره لا يصغى اليه ، ويمكن دفعه بأنه ليس مراد المصنف بغير الأفضل جواز النقل ، بل المراد جواز دفع العوض في بلده مثلا الذي أشار إليه بقوله متصلا بذلك : ولو دفع العوض في بلده جاز وقد نفى الخلاف عنه في المدارك ، وليس هو من النقل لكن في الروضة وأما نقل قدر الحق بدون النية فهو كنقل شي‌ء من ماله فلا شبهة في جوازه مطلقا ، فإذا صار في بلاد أخر ففي جواز احتسابه على مستحقيه مع وجودهم في بلده على القول بالمنع نظر ، من عدم صدق النقل الموجب للتغرير بالمال ، وجواز كون الحكمة نفع المستحقين بالبلد ، وعليه يتفرع ما لو احتسب القيمة في غير بلده أو المثل من غيره ، إلا أنه لا يخفى عليك وضوح ضعف النظر في المقامين ، بل في محكي الخلاف في قسمة الصدقات والمنتهى والتذكرة والمختلف الإجماع على الاجزاء في الأول ، ضرورة عدم الاختصاص لها بفرد دون فرد من الأصناف الثمانية ، فيتحقق الدفع إلى المستحق ، ولأنه إذا حضر فقير غير أهل البلد في البلد فدفعت إليه أجزأ فكذا في الفرض ، بل أيده في المعتبر بحسن محمد بن مسلم السابق باعتبار جعل غاية الضمان فيه الدفع ، نعم هو محكي عن أحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحد ، للنهي عن البدل المتضمن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٣٧

للنهي عن الدفع إلى من ليس في البلد المقتضي للفساد من جهة التعلق بالعبادة ، ومن جهة استلزامه خروج من ليس في البلد عن المستحقين ، لكنه كما ترى ، إذ قد عرفت أن العمدة في دليل حرمة النقل الفورية ، فلا نهي إلا عن التأخير ، وفي الفرض ربما يكون هو في بعض الأحوال أقرب من الإيصال إلى المستحق في البلد ، كما إذا كان له دين على شخص في غير بلده ونحو ذلك ، وأما خروج من ليس في البلد عن الاستحقاق فلا وجه له.

وعلى كل حال فقد بان لك أن مراد المصنف بغير الأفضل ما ذكرنا الذي لا ينافيه قوله بحرمة النقل ، وكذا لا ينافيه قوله ولو نقل الواجب إلى بلده ضمن حيث أنه اقتصر على الضمان دون الإثم بناء على ما في المسالك من احتمال كون المراد بالواجب في كلامه مماثلة في القدر والوصف ، وكون المراد بضمانه ذهابه من ماله وبقاء الحق في ماله أو ذمته ، لكنه كما ترى ، مع أنه خلاف الظاهر لا داعي له ، وكأن الذي دعاه إلى ذلك ظهوره في كون المنقول الواجب خاصة لا أنه في ضمن غيره ، وحينئذ لا يكون إلا بعزله الذي لا يجوز إلا مع عدم المستحق ، وحينئذ إذا نقله لا ضمان عليه ، لما عرفته سابقا ، وفيه أولا منع كون المراد الواجب خاصة ، ضرورة صدقه إذا نقل الجميع ، وثانيا منع اعتبار عدم المستحق في العزل كما هو ظاهر المعتبر وصريح التذكرة والدروس وستعرف قوته فيما يأتي ، وثالثا إمكان فرضه بالعزل مع عدم المستحق ثم وجد بعد ذلك ، فالمراد حينئذ بيان أنه لا فرق في لزوم الضمان بالنقل بين أن يكون إلى بلد المالك أو غيره ، لعموم الأدلة الدالة على ذلك.

نعم كان عليه أن يذكر الإثم مع الضمان بناء على مختاره ، ولعله تركه اعتمادا على ما سبق والأمر سهل ، هذا كله في زكاة المال ، وأما زكاة الفطرة فالأفضل أن تؤدي في بلده وإن كان له مال في غيره ، لأنها تجب في الذمة دون المال‌

٤٣٨

فلا مدخلية حينئذ لبلد ماله ، كما أنه لا مدخلية لبلد استيطانه ، بل ينبغي له تأديتها في البلد الذي هو فيها سواء كانت بلد استيطانه أولا ، ولو أراد إخراج القيمة اعتبرت قيمة تلك البلد ولو عين زكاة الفطرة في مال غائب عنه ضمن بنقله عن ذلك البلد مع وجود المستحق فيه لما ستعرفه إن شاء الله في مبحث زكاة الفطرة أنها وإن كانت واجبة في الذمة إلا أنها تتعين بالتعيين مع وجود المستحق وعدمه ، وحينئذ تكون كالمالية في تحريم النقل أو كراهته ، وتحقق الضمان بتأخير الإخراج مع التمكن منه ، كما قطع به الأصحاب على ما اعترف به في المدارك لاشتراكهما في الدليل على ذلك ، واحتمال اختصاص العزل الجائز فيها بالمال الحاضر مناف لإطلاق أدلته ، ولذا قال في البيان : « ولو عزلها في مال حاضر أو غائب في موضع جواز العزل ثم نقلها لعدم المستحق فلا ضمان كما لا يضمن في زكاة المال » هذا. وفي المدارك أنه ربما كان الوجه في فرض المصنف المسألة في تعيين الفطرة في المال الغائب التنبيه على أن استحباب إخراج الفطرة في بلد المخرج لا يقتضي انتفاء الضمان بنقلها من بلد المال مع وجود المستحق فيه ، ولا يخفى ما فيه ، قلت : هو كذلك ، ضرورة كون الاستحباب لا ينافي الضمان كالجواز ، وقد بينا هناك أنه يجوز له النقل والتأخير وإن ترتب عليه الضمان بهما ، كما هو واضح ، والله أعلم.

( القسم الرابع )

( في اللواحق وفيه مسائل ) :

( الأولى إذا قبض الامام عليه‌السلام أو ) نائبه الخاص كـ ( الساعي )

أو العام كالفقيه الزكاة على جهة الولاية عن الفقراء برئت ذمة المالك ولو تلفت بعد ذلك بتفريط أو بدونه بلا خلاف ولا إشكال حتى في الأخير بناء على شمول‌

٤٣٩

ولايته لذلك ، لأن الوصول إليهم على الوجه المزبور بمنزلة الوصول إلى المستحق.

المسألة الثانية إذا لم يجد المالك لها مستحقا يدفعها إليه فالأفضل له عزلها وتعيينها في مال مخصوص ، وبه يتشخص المال حينئذ زكاة ، ويتبعه النماء وغيره ، ولا يجب للأصل وغيره ، وإن قيل : إنه محتمل عبارة الشيخين وغيرهما ، ولعل نص المصنف والفاضل والشهيد على الأفضلية دفعا لهذا الاحتمال الذي لم أجد قائلا به ولا دليلا عليه ، وموثق يونس (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : زكاتي تحل علي في شهر أيصلح لي أن أحبس شيئا منها مخافة أن يجيئني من يسألني فقال : إذا حال عليها الحول فأخرجها من مالك ولا تخلطها بشي‌ء ثم أعطها كيف شئت ، قال : قلت : فإن أنا كتبتها وأثبتها يستقيم لي قال : لا يضرك » لا دلالة فيه على ذلك ، ضرورة كون الأمر فيه للإرشاد لجواز التأخير حتى مع وجود المستحق ، ومنه ينقدح الإشكال في الاستدلال به على الندب كما وقع من بعضهم ، والأولى الاستدلال له بخبر أبي حمزة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « سألته عن الزكاة تجب علي في موضع لا يمكنني أن أؤديها قال : اعزلها فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح ، وإن نويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك شي‌ء ، وإن لم تعز لها واتجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها » بل ربما كان ظاهر الأمر فيه للوجوب ، إلا أن قوله عليه‌السلام بعده : « وإن لم » إلى آخره ، مشعر بجواز الإبقاء ، بل ربما كان فيه إشعار أيضا بإرادة الإرشاد من الأمر الأول إلى عدم الضمان بالعزل مع التلف ، لكن الاستحباب أمره سهل يكفي فيه ذلك ونحوه بخلاف الوجوب الذي من المعلوم عدم كفاية ذلك ونحوه فيه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٤٤٠