جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بعد الإحاطة بما قدمنا.

وأوضح منه فسادا دعوى أن اعتبار الايمان في سهم الفقراء والمساكين خاصة دون باقي الأصناف ، إذ مقتضاه جواز الدفع للغارمين من المخالفين وفي فك رقابهم ولابن السبيل منهم زيادة على العاملين ، ولا ريب في بطلانه ، لقوة ما دل على اعتبار الايمان في دفع الزكاة من النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات ، حتى أنه ورد في بعض النصوص (١) طرحها في البحر مع عدم المؤمن ، وأن أموالنا وأموال شيعتنا حرام على أعدائنا ، وأنك لا تعطيهم إلا التراب ، إلى غير ذلك مما لا يصغى معه إلى دعوى كون التعارض بين الأدلة من وجه التي هي في المقام شبه دعوى كون التعارض بين ما دل على قضاء حاجة المؤمن وحرمة اللواط مثلا من وجه ، كما هو واضح ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( مع عدم المؤمن ) وعدم مصرف آخر شرعي تحفظ إلى حال التمكن منه ، ولا تعطى للمخالف بلا خلاف أجده ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، لإطلاق أدلة المنع ، وظهور جملة منها ، وصراحة آخر في ذلك ، فما في‌ خبر يعقوب بن شعيب الحداد (٢) عن العبد الصالح عليه‌السلام من أنه « إن لم يجد من يحمل زكاة ماله للمؤمن يدفعها إلى من لا ينصب » مطرح أو محمول على مستضعف الشيعة أو نحو ذلك ، كما أن ما عساه يظهر من جملة من الكتب من وجود الخلاف الآتي في الفطرة في المقام لا يلتفت اليه.

نعم يجوز صرف الفطرة خاصة مع عدم المؤمن إلى المستضعفين من المخالفين كما في المسالك عند المصنف ، بل نسب إلى الشيخ وأتباعه ، لموثق الفضيل (٣)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٨ و ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٣.

٣٨١

عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كان جدي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي فطرته الضعفة ومن لا يتوالى ، وقال : قال أبوه : هي لأهلها إلا أن لا تجدهم فلمن لا ينصب ولا تنقل من أرض إلى أرض ، وقال : الإمام أعلم يضعها حيث يشاء ، ويصنع فيها ما يرى » وموثق إسحاق بن عمار (١) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام « سألته عن صدقة الفطرة أعطيها غير أهل ولايتي من جيراني قال : نعم ، الجيران أحق بها لمكان الشهرة » وصحيح علي بن يقطين (٢) سأل أبا الحسن الأول عليه‌السلام « عن زكاة الفطرة أيصلح أن تعطى الجيران والظؤرة ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال : لا بأس بذلك إذا كان محتاجا » وخبر مالك الجهني (٣) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن زكاة الفطرة قال : تعطيها المسلمين ، فان لم تجد مسلما فمستضعفا » ومكاتبة علي بن بلال (٤) « تقسم الفطرة على من حضره ولا يوجه ذلك إلى بلدة أخرى وإن لم يجد موافقا ».

لكن المعروف بين الأصحاب عدم الجواز حتى نسبه بعض إلى الأشهر وآخر إلى المشهور ، بل عن الانتصار والغنية الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد إطلاق النهي عن دفع الزكاة إلى غير المؤمن الشامل للمستضعف ، وإطلاق‌ قول الرضا عليه‌السلام (٥) لما سئل عن الزكاة هل توضع فيمن لا يعرف : « لا ولا زكاة الفطرة » كقوله عليه‌السلام (٦) في تعليل تعطيل الزكاة أربع سنين إن لم يوجد لها أحد من الشيعة وإلا فصرها صررا واطرحها في البحر : « فان الله عز وجل حرم أموالنا وأموال شيعتنا على عدونا » وغير ذلك من إطلاق النصوص ومعاقد الإجماعات ، لكن لا يخفى عليك انصرافها كغيرها من المطلقات إلى زكاة المال ، وقول الرضا عليه‌السلام الأول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٨.

٣٨٢

مطلق يقيد بما عرفت ، والإجماع المحكي موهون بمصير من عرفت إلى خلافه ، خصوصا بعد عدم تحقق الشهرة المحكية التي يمكن أن يكون حاكيها قد استفادها من ظاهر إطلاق الفتاوى ، لأن ما حكي عنهم من التصريح بذلك لم يصل إلى حد الشهرة ، بل إن لم ينعقد إجماع لأمكن القول بجواز دفعها مع التقية لغير المستضعف من الجيران ، كما أومأت إليه تلك النصوص ، وليس عليه أن يعيدها ، ولعله لا إجماع عليه في هذا الفرض ، بل لا يبعد الجواز أيضا في زكاة المال مع التقية أيضا ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وتعطى الزكاة أطفال المؤمنين دون أطفال غيرهم بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم ، بل في المختلف والروضة والمدارك الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد إطلاق الكتاب والسنة ، وحسن أبي بصير (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يموت ويترك العيال يعطون من الزكاة قال : نعم » وخبر عبد الرحمن (٢) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : رجل مسلم مملوك ومولاه رجل مسلم وله مال لم يزكه وللمملوك ولد حر صغير أيجزي مولاه أن يعطي ابن عبده من الزكاة؟ قال : لا بأس » وقول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي خديجة (٣) : « ورثة الرجل المسلم إذا مات يعطون من الزكاة والفطرة كما كان يعطى أبوهم حتى يبلغوا ، فإذا بلغوا وعرفوا ما كان أبوهم يعرف أعطوهم ، وإذا نصبوا لم يعطوا » وخبر يونس بن يعقوب (٤) المروي عن قرب الاسناد « قلت للصادق عليه‌السلام : عيال المسلمين أعطيهم من الزكاة فأشتري لهم منها ثيابا وطعاما وأرى أن ذلك خير لهم قال : لا بأس ».

ولا فرق في ذلك بين عدالة الآباء وفسقهم ، لمعلومية عدم تبعية الولد في ذلك ، لعدم الدليل ، كمعلومية عدم بناء الحكم هنا على عدم اعتبار العدالة ، أو على كون الفسق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٣٨٣

مانعا ، وليس متحققا في الطفل ، ضرورة تصريح من اشترطها بالدفع إليهم للأدلة الخاصة التي سمعتها ، وانسياق ما دل على اعتبارها في القابل للاتصاف بها وبضدها ، كما هو واضح.

وكذا لا فرق بين الذكر والأنثى والخنثى ولا بين المميز وغيره ، لإطلاق الأدلة.

ولو تولد بين المسلم والكافر ففي البيان والمسالك مسلم ، ومقتضاه عدم الفرق بين كون الأب المسلم أو الأم ، ولعله لدليل التبعية لأشرف الأبوين ولو لكون الشرف بالنسبة إلى الإسلام والكفر أتم من الرقية بالنسبة للحرية ، وكذا الحال في الايمان ، ولذا صرحا أيضا بأنه لو تولد بين المؤمن وغيره من الفرق الإسلامية جاز إعطاؤه خصوصا إذا كان المؤمن الأب ، بل قد يقال بالتبعية للجد المؤمن وإن كان الأب كافرا على إشكال ، وولد الزنا من المؤمنين كولده من الكافرين لا تبعية فيه لأحدهما ، بناء على كونها في النكاح الصحيح ، فدفع الزكاة إليه حينئذ مبني على كون الايمان فعلا أو حكما شرطا فلا يعطى ، أو أن الكفر فعلا أو حكما مانع فيعطى.

ثم لا يخفى أن المراد من إعطاء الأطفال في النص والفتوى الإيصال إليهم على الوجه الشرعي المعلوم بالنسبة إليهم ، فإذا أراد الدفع إليهم من سهم الفقراء مثلا سلم بيد وليهم لأن الشارع سلب أفعالهم وأقوالهم ، فلا يترتب ملك لهم على قبضهم ، ومعلوم اعتبار الملك في هذا السهم ، واحتمال الاجتزاء به هنا تمسكا بالإطلاق المزبور الذي لم يكن مساقا لذلك في غاية الضعف ، كاحتمال عدم اعتبار الملك في هذا السهم تمسكا بإطلاق الأمر بالإيتاء الشامل للأمرين ، إذ قد عرفت فيما تقدم ظهور الأدلة خصوصا السنة في ترتب الملك على القبض بالنسبة إلى هذا السهم ، هذا ، ولكن عن التذكرة أنه ـ بعد أن ذكر ما قلناه من كون الدفع للولي من غير فرق بين اليتيم وغيره ـ قال : « فان لم‌

٣٨٤

يكن ولي جاز أن يدفع إلى من يقوم بأمره ويعتني بحاله » وفي المدارك « أن مقتضى كلامه جواز الدفع إلى غير ولي الطفل إذا لم يكن له ولي ، ولا بأس به إذا كان مأمونا بل لا يبعد جواز تسليمها إلى الطفل بحيث تصرف في وجه يسوغ للولي صرفها فيه ، وحكم المجنون حكم الطفل ، أما السفيه فإنه يجوز الدفع اليه وإن تعلق الحجر به بعد قبضه » وعن الكركي في فوائده على الكتاب والكفاية وشرح المفاتيح للمولى الأكبر موافقته على جواز الدفع لغير الولي ممن يقوم بأمره مع عدم الولي ، بل ربما ظهر من بعض المعاصرين الميل إلى جواز ذلك مع التمكن من الولي ، وهو أغرب من سابقه ، ضرورة منافاتهما معا للمعلوم من قواعد المذهب بلا مقتض عدا بعض الاعتبارات التي لا تصلح لأن تكون مدركا لحكم شرعي ، والإطلاق الذي لم يسق لإرادة تناول ذلك كما عرفت.

وأغرب من ذلك دعوى بعضهم بعد أن ذكر الحكم المزبور اتحاد حكم المجنون مع الطفل ، ومقتضاه جواز التسليم اليه مطلقا أو مع عدم الولي ، وهو كلام لا يصغى اليه ولا يستأهل التصدي للرد عليه ، خصوصا في المجنون الذي يكون حاله كحال غير المميز ولا ينافي ذلك جواز الإنفاق عليه في الأكل والكسوة من الولي أو من يقوم مقامه بعد القبض المزبور ، ضرورة كونه حينئذ أي بعد قبض الولي من أمواله التي حكمها ذلك ، بخلافه قبل القبض ، فان الكلام في أن قبضه نفسه يصيره مالا له ، بل لا ينافي ذلك الإنفاق عليه من سهم سبيل الله ، فإنه لا يعتبر فيه الملكية ، ومحل النية بناء على ما قلناه واضح ، إذ هي حال الدفع إلى الولي ، وفي سهم السبيل عند الصرف فيه ، هذا ، وتمام البحث في أحكام الأولياء واعتبار الايمان فيهم وعدمه ، والعدالة وعدمها ، ومعلومية الإنفاق في المحل وعدمه ما لم يعلم الإنفاق في غير المحل ، ليس ذا محل ذكره ، كالبحث عن كيفية الإنفاق وأنه يراعى فيه المصلحة أو عدم المفسدة ، فيجوز حينئذ مزج نفقته‌

٣٨٥

مع نفقة العيال بعد ملاحظة ذلك ، ولا يجب العزل ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( لو أعطى مخالف زكاته أهل نحلته ثم استبصر أعاد ) بلا خلاف أجده فيه ، بل لعله إجماعي كما حكاه في التنقيح وغيره ، لعدم وصول المال إلى مستحقه ، واليه أشار الصادقان عليهما‌السلام في‌ صحيح الفضلاء (١) قالا « في الرجل يكون في بعض الأهواء الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حج أو ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك؟ قال : ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة ، فإنه لا بد أن يؤديه لأنه وضع الزكاة في غير موضعها ، وإنما موضعها أهل الولاية » والصادق عليه‌السلام في صحيح العجلي (٢) قال : « كل عمل عمله في حال نصبه وضلالته ثم من الله عليه وعرفه الولاية فإنه يؤجر عليه إلا الزكاة ، فإنه يعيدها ، لأنه وضعها في غير موضعها ، لأنها لأهل الولاية » وحسنة ابن أذينة (٣) « أن كل عمل عمله الناصب في حال ضلالته أو حال نصبه ثم من الله عليه وعرفه هذا الأمر فإنه يؤجر عليه ويكتب له إلا الزكاة ، فإنه يعيدها ، لأنه وضعها في غير موضعها وإنما موضعها أهل الولاية ، وأما الصلاة والصوم فليس عليه قضاؤهما » إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة فيما ذكرنا.

بل قد يستفاد منها جواز استرجاع العين مع بقائها ، لعدم كون القابض من أهلها ، فتبقى على ملك المالك ، بل يستفاد منها وجه الفرق بين الزكاة وغيرها من العبادات التي هي حق لله تعالى وقد أسقطها عنه رحمة كما أسقطها عن الكافر بالإسلام ، نعم قد يستفاد منها إلحاق غير الزكاة من العبادات المالية بها ، ومن الغريب ما وقع للفاضل هنا حيث أنه بعد أن روي صحيح الفضلاء قال : « وهذا الحديث حسن الطريق وهل هو مطلق؟ نص علماؤنا على أنه في الحج إذا لم يخل بشي‌ء من أركانه لا يجب عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٣٨٦

الإعادة ، أما الصوم والصلاة ففيهما إشكال من حيث أن الطهارة لم تقع على الوجه الصحيح والإفطار قد يقع منهم في غير وقته ، ويمكن الجواب بأن الجهل عذر كالتقية ، فصحت الطهارة ، والإفطار قبل الوقت إذا كان لشبهة قد لا يستعقب القضاء كالظلمة الموهمة فكذا هنا ، وبالجملة فالمسألة مشكلة » إذ هو كما ترى كأنه اجتهاد في مقابلة النص ، ومن هنا رده في المدارك بما يقرب من ذلك ، لكن قال : ليس في هذا الحكم أعني سقوط القضاء دلالة على صحة الأداء بوجه ، فان القضاء فرض مستأنف ، فلا يثبت إلا مع الدلالة ، فكيف مع قيام الدليل على خلافه ، مع أن الحق بطلان عبادة المخالف وإن فرض وقوعها مستجمعة لشرائط الصحة عندنا ، للأخبار (١) المستفيضة المتضمنة لعدم انتفاعه بشي‌ء من أعماله.

قلت : لعل‌ قوله عليه‌السلام : « يؤجر عليه » فيه دلالة على الصحة ، كخبر ابن حكيم (٢) قال : « كنت قاعدا عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجلان كوفيان كانا زيديين فقالا : جعلنا لك الفداء كنا نقول بقول : وإن الله من علينا بولايتك فهل يقبل شي‌ء من أعمالنا؟ فقال : أما الصلاة والصوم والحج والصدقة فإن الله يتبعكما ذلك فيلحق بكما ، وأما الزكاة فلا ، لأنكما أنفذتما حق امرئ مسلم وأعطيتماه غيره » فيكون الايمان حينئذ شرطا كاشفا لصحة عباداته السابقة ، والأخبار المستفيضة إنما تدل على الأعمال التي لم يتعقبها إيمان ، نعم يعتبر في عباداته أن يكون قد جاء بها على مقتضى مذهبه ، كما هو مقتضى إضافة الأعمال إليه في النصوص السابقة الظاهرة في عدم اندراج الصلاة الباطلة على مقتضى مذهبه مثلا فيها ، وقد أوضحنا ذلك في باب القضاء من الصلاة ، وذكرنا حكم ما لو جاء بها مستجمعة للشرائط على مذهبنا ونوى بها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ٥.

٣٨٧

التقرب ، وذكرنا هنا غير واحد أنه لو أعطى الزكاة أهل الولاية لا يعيد إذا استبصر تمسكا بظاهر التعليل ، وفيه بحث ، لمعارضته بإطلاق المعلل ، فتأمل جيدا فان فيه كلاما ليس ذا محل ذكره ، إذ هو كالبحث في اقتضاء اختصاص الضمير العائد إلى العام تخصيص العام ، كقوله تعالى (١) : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) ومبنى البحث هنا عدم ما يقتضي في اللفظ مطابقة التعليل لجميع أفراد المعلل ، فيبقى العالم على دلالته اللفظية ، اللهم إلا أن يدعى الفهم العرفي ، وهو غير بعيد.

بقي أمران : أحدهما أن الكافر والمخالف مع سقوط القضاء عنهما بالإسلام والايمان لم يعقل خطابهما به مع اشتراط صحته بهما ، والفرض السقوط معهما ، وهو مناف لقاعدة التكليف بالفروع عندنا ، وربما أجيب بالتزام عدم التكليف به أو بأن التكليف به ابتلائي وامتحاني ، لأنه هو الذي صير نفسه كذلك ، ضرورة إمكان حصول الايمان منه قبل فوات وقت الأداء لتعقل خطابه بالقضاء ، فتأمل جيدا ، ثانيهما ظاهر النصوص السابقة عدم الفرق بين الحج وغيره من العبادات ، لكن اعتبر في الدروس في سقوطه بالايمان عدم الإحلال بركن مبني على مذهبنا ، ولم نجد ما يصلح للفرق بينه وبين غيره من العبادات التي عرفت اعتبار عدم الإخلال بها على مذهبه لا مذهبنا ، بل ظاهر الأدلة أو صريحها عدم الفرق ، ولتمام الكلام في هذه المباحث وغيرها محل آخر ، والله أعلم.

الوصف الثاني العدالة ، وقد اعتبرها كثيرون من القدماء ، بل في التنقيح نسبته إلى الثلاثة وأتباعهم ، وفي المختلف إلى المرتضى وأبي الصلاح وابني إدريس والبراج ، بل في الخلاف « الظاهر من أصحابنا أن زكاة الأموال لا تعطى إلا العدول‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٢٢٨.

٣٨٨

من أهل الولاية دون الفساق منهم ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، وقالوا : إذا أعطى الفساق برئت ذمته ، وبه قال قوم من أصحابنا » بل في ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع على ذلك ، بل لعله اليه يرجع ما في الانتصار من الإجماع على عدم إعطائها الفساق وإن كانوا يعتقدون الحق ، وأن المخالفين أجازوا إعطاءها إليهم وإلى أصحاب الكبائر ، ضرورة عدم ملاحظة الواسطة على فرضها ، كعدم ملاحظة مانعية الفسق لا شرطية العدالة ومن هنا حكى الفاضلان والشهيد وغيرهم عن السيد كما قيل شرطيتها ، ودعواه الإجماع عليها ، واحتمال أنه في غير هذا الكتاب أو في غير موضع منه تعويل على المني واتكال على الهباء ، فالحجة حينئذ على ذلك الإجماعان المزبوران المعتضدان بما سمعته من الخلاف الظاهر في كون ذلك هو المعروف المشهور بين الأصحاب ، بل في الرياض نسبته إلى الشهرة العظيمة بين القدماء غير مرة ، بل لم نر منهم مخالفا لم يعتبر العدالة مطلقا صريحا بل ولا ظاهرا عدا ما يحكى عن ظاهر الصدوقين والديلمي حيث لم يذكروها في الشروط وهو كما ترى ليس فيه الظهور المعتد به في المخالفة فضلا عن أن يقدح في الإجماع المنقول فقد يحتمل اكتفاؤهم بذكر الايمان بناء على احتمال اعتبار العمل فيه ، كما يعزى إلى غيرهم من القدماء منهم المفيد ، ويدل عليه جملة من النصوص (١).

نعم أكثر المتأخرين على عدم اعتبارها مطلقا ، وحكاه في الخلاف عن قوم من أصحابنا بعد أن عزاه إلى جميع الفقهاء من العامة العمياء ، وهذا الإجماع المنقول معتضد بالشهرة العظيمة بين القدماء القريبة من الإجماع ، بل الإجماع حقيقة على اعتبار مجانبة الكبائر ، إذ لا خلاف فيه بينهم أجده ، وربما تشعر به العبارة هنا وفي النافع حيث لم ينقل فيهما قولا بعدم اعتبارها مطلقا ، والشهرة المتأخرة ـ مع أن الشهيد منهم في اللمعة اعتبرها ـ ليست بتلك الشهرة التي تقوى بها العمومات وتصونها عن قبولها التخصيص‌

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٣٣ إلى ٤٠.

٣٨٩

بالإجماعين المزبورين المعتضدين بما عرفت ، وب‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي خديجة (١) : « فليقسمها ـ أي الزكاة ـ في قوم ليس بهم بأس أعفاء عن المسألة لا يسألون أحدا شيئا » إلى آخره ، وبقاعدة الشغل ، وب‌ خبر داود الصيرفي (٢) « سألته عن شارب الخمر يعطى من الزكاة شيئا قال : لا » بناء على عدم القول بالفصل بين شرب الخمر وغيره من الكبائر ، وعلى رجوع القولين إلى واحد كما أومأنا إليه سابقا ، وبما يشعر به منع ابن السبيل إذا كان سفره معصية والغارم إذا كان غرمه كذلك ، وبكل ما دل على النهي عن الإعانة للفساق وعلى الإثم والعدوان (٣) وعن الموادة لمن يحاد الله ورسوله (٤) وعن الركون إلى الظالمين (٥) من كتاب أو سنة المراد منها فعل ما يقتضي الإعانة وإن لم يكن بقصد الإعانة على الفسق ، كما يومي اليه ما ورد من النصوص (٦) في إعانة الظالمين وأن منها معاملتهم ومساعدتهم في بناء المسجد فضلا عن غيره ، خصوصا بعد ما ورد (٧) من أن الزكاة إرفاق ومعونة ومودة للفقراء ومواساة لهم ، بل ورد (٨) فيها أنها تقسم على أولياء الله المعلوم عدم كون الفساق منهم ، ربما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١ عن داود الصرمي وهو الصحيح.

(٣) سورة المائدة ـ الآية ٣.

(٤) سورة المجادلة ـ الآية ٢٢.

(٥) سورة هود عليه‌السلام ـ الآية ١١٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٧ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٣٩٠

كتب الرضا عليه‌السلام في جواب محمد بن سنان (١) في علة الزكاة من أنها من أجل قوت الفقراء إلى أن قال : « مع ما فيه من الزيادة والرأفة والرحمة لأهل الضعف والعطف على أهل المسكنة ، والحث لهم على المواساة وتقوية الفقراء والمعونة لهم على أمر الدين » إلى غير ذلك مما هو معلوم عدمه في الفساق ، وخصوصا بعض أنواع الفسق بل لعل منعها عنهم من النهي عن المنكر بل الأمر بالمعروف الواجبين على المكلف بالكتاب والسنة والإجماع ، لا أقل من ذلك كله يحصل الشك في اندراج هؤلاء الفاسقين المعاندين المحاربين لله ورسوله في إطلاق الآية الذي لم يكن مساقا لبيان جميع الشرائط كإطلاق الشيعة وأهل الولاية والعارفين والمؤمنين في الروايات ، سيما مع ملاحظة ما ورد في المؤمن والشيعي والموالي من المدح والثناء على وجه يقطع بعدم إرادة أولئك منهم ، وأن الشيعة الذين أمرنا بإعطائهم وأن الوصول إليهم وصول إلى الأئمة عليهم‌السلام غير هؤلاء المعاندين المرتكبين الفجور من الزنا واللواط وشرب الخمر وأمثال ذلك ، بل ربما كان بعضهم من أجناد الظلمة ، ويعيش مدة عمره لم يأت بصلاة واحدة فضلا عن استمراره على أنواع المعاصي.

والمرسل (٢) المروي عن العلل عن أبي الحسن عليه‌السلام « ما حد المؤمن الذي يعطى الزكاة؟ قال : يعطى المؤمن ثلاثة آلاف ثم قال : أو عشرة آلاف ويعطى الفاجر بقدر ، لأن المؤمن ينفقها في طاعة الله ، والفاجر ينفقها في معصية الله » مع ضعف سنده غير دال على الجواز مطلقا كما هو ظاهر الخصم ، بل على إعطائه بقدر ، ولم يذكروا هذا الشرط ، ومحتمل للتقية مما عليه إجماع العامة ، ويؤيده كون الخبر المزبور عن أبي الحسن عليه‌السلام والتقية في زمانه في غاية الشدة ، وعدوله عن الجواب بما يوافق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

٣٩١

السؤال ويناسبه من تحديد المؤمن وحاله من فسق أو عدالة مثلا إلى الجواب بتحديد مقدار ما يعطى عشرة آلاف أو ثلاثة آلاف فان في ذلك تنبيها واضحا على ورود الحكم للتقية ، كما لا يخفى على من أنصف وأعطى التأمل حقه.

لكن لا يخفى عليك أن كثيرا من ذلك إنما يقتضي القول الآخر ، وهو ما ذكره المصنف بقوله واعتبر آخرون مجانبة الكبائر كالخمر والزنا دون الصغائر وإن دخل بها في جملة الفساق وإن كنا لم نعرف من حكي عنه هذا القول إلا ابن الجنيد والمرتضى في ظاهره أو محتمله كما سمعت ، بل أرجعه ثاني الشهيدين إلى القول الأول قائلا : قد عرف الشهيد العدالة هنا وفي شرح الإرشاد بأنها الملكة الباعثة على التقوى ، ولم يعتبر فيها المروة ، وحينئذ فمرجعها إلى اجتناب الكبائر ، لأن الإصرار على الصغيرة يلحقها بالكبيرة ، وعدم الإصرار لا يؤثر ، فيتحد القولان ، وملخصه ما أشار إليه في الروضة من أن الصغائر إن أصر عليها لحقت بالكبائر ، وإلا لم توجب الفسق ، والمروة غير معتبرة في العدالة هنا ، فلزم من اشتراط تجنب الكبائر اشتراط العدالة ، وإن كان قد يناقش فيه بأنه ـ مع مخالفته للمصنف وغيره ممن حكى هذا القول مع القول الأول ، وعدم معلومية عدم اعتبار المروة من كل من اشترط العدالة الظاهرة في اعتبارها بعد دخولها في مفهومها ، وعدم ظهور الدليل عليها عندنا لا يقتضي عدم اعتبارها عندهم لدليل لم يصل إلينا أو تخيله وإن لم يكن كذلك ، ومع إمكان الفرق بينهما على هذا التقدير باعتبار الملكة وعدمها فان اجتناب الكبائر أعم من أن يكون عن ملكة تقتضي ذلك بخلاف العدالة ـ يمكن أن يقال : إن المتبادر من الكبائر في عبارة من اعتبر اجتنابها كل ذنب من الذنوب الذي يكون بنفسه كبيرا لا باجتماع الصغائر ، سيما في عبائر النقلة لهذا القول ، وخصوصا المتن.

لكن على كل حال قد عرفت أن جميع ما تقدم من الأدلة بين قاصر السند والدلالة‌

٣٩٢

وبين ما لا يصلح للاستدلال ، وإنما هو صالح للتأييد ، وبين ما هو معارض لما يقتضي العدم مما ستسمعه من وجه ، والترجيح لغيره من وجوه ، وبين ما هو موهون بمصير المتأخرين إلا النادر إلى خلافه ، فكيف يكون مثله صالحا لتقييد إطلاق الكتاب والسنة وعمومها ، خصوصا‌ قول الباقر والصادق عليهما‌السلام (١) : « الزكاة لأهل الولاية قد بين الله لكم مواضعها في كتابه » وقول الصادق عليه‌السلام (٢) : « هي لأصحابك » وقوله عليه‌السلام أيضا (٣) : « من وجدت من هؤلاء المسلمين عارفا فأعطه » وقول الرضا عليه‌السلام (٤) : « إذا دفعتها إلى شيعتنا فقد دفعتها إلينا » وترك الاستفصال من‌ أبي الحسن عليه‌السلام لما سأله أحمد بن حمزة في الصحيح (٥) « رجل من مواليك له قرابة كلهم يقولون بك وله زكاة أيجوز أن يعطيهم جميع زكاته؟ فقال له : نعم ، » خصوصا مع استبعاد العدالة في جميع القرابة حتى النساء ، ونحوه‌ الخبر الآخر (٦) « لا تعطين قرابتك الزكاة كلها ، ولكن أعطهم واقتسم بعضا » إلى غير ذلك من النصوص التي لا يستريب من تصفحها في توسعة الأمر في الزكاة بالنسبة إلى المؤمنين الذين يكفي إيمانهم في استحقاق الرأفة والرحمة والعطف والإعانة والموادة في الله تعالى ، خصوصا بعد ملاحظة السيرة والطريقة في إعطاء مجهول الحال وغير العدل ، وخصوصا مع ملاحظة تصديق من ادعى كونه من أهلها لفقر أو غرم أو كتابة من غير بينة.

نعم لا ريب في رجحان إعطاء العدل على غيره ، خصوصا إذا كان مرتكب الكبائر متجاهرا بها غير مبال بتوعد الله عليها ، وخصوصا بعض أجناد الظلمة وفسقة الشيعة ، وخصوصا إذا علم صرفهم لها في المعصية ، أو كان الغالب فيها ذلك ، بل لا يبعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

٣٩٣

حينئذ عدم جواز دفعها إلى هؤلاء ، لكون مثله إعانة وإن كانت هي حيثية أخرى غير ما نحن فيه ، ضرورة خروجها عن محل النزاع ، لأن الكلام في أصل الجواز من حيث نفسه لا إذا اقترن بجهة أخرى ، كما هو واضح ، أما الدفع اليه لقوته أو قوت عياله فلا بأس ، ولعله إلى ذلك‌ أشار عليه‌السلام بقوله : « يعطى الفاجر بقدر » إلى آخره أي ما يحتاجه لقوته وقوت عياله ولباسهم ، ولا يطلق له الأمر كما يطلق إلى غيره ، ولكن مع ذلك كله فالاحتياط الذي هو ساحل بحر الهلكة لا ينبغي تركه ، خصوصا في مثل المقام الذي قد اشتغلت فيه الذمة بيقين ، فإنه قد يشك في إرادة بعض الأفراد من الإطلاقات والعمومات ولا ريب أن الأول هو الأحول والله هو العالم بحقيقة الحال.

هذا كله في الصنف الأول من أصناف الزكاة ، وهو الفقير ، أما غيره من الأصناف فلا ريب في عدم اعتبارها في المؤلفة منه كما عرفته سابقا ، وإن كان قد يقضيه إطلاق بعضهم إلا أنه لا ريب في ضعفه ، وأما العاملون أي السعاة ففي الإرشاد والدروس والمهذب البارع والروضة وغيرها الإجماع على اعتبارها فيهم ، وهو الحجة بعد اعتضاده بالتتبع ، وبما في العمالة من تضمن الاستيمان ، وقد سمعت ما في‌ الصحيح (١) من أنه « لا يوكل بها إلا ناصحا شفيقا أمينا » ولا أمانة لغير العدل ، وأما ابن السبيل والغارم فقد يومي اقتصارهم على اعتبار عدم كون السفر والغرم في معصية ممن اعتبرها هنا إلى عدم اعتبارها فيهما ، وإن اقتضاه إطلاق بعضهم كبعض الأدلة ، لكن الأقوى الأول وكذا الرقاب ، وأما سهم سبيل الله فقد قدمنا ما يعلم منه عدم اعتبار الايمان والكفر فيه فضلا عن غيرهما ، كما أنه تقدم لك ما يعلم منه عدم اعتبار المروة في العدالة هنا وإن اقتضاه إطلاق بعضهم ، لكن لا يخفى عليك أن كثيرا من أدلتهم السابقة إنما يقتضي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٣٩٤

عدم جواز الإعطاء للفاسق ، ولا فسق في منافي المروة ، والاستناد إلى إجماع ابن زهرة على اعتبار العدالة كما ترى ، خصوصا مع غلبة الظن بكون مراده ما حكاه السيد ، وقد سمعته ، كما أنه لا يخفى عليك أن ذلك كله على القول باعتبارها أو اجتناب الكبائر ، أما على المختار فلا إشكال في شي‌ء من ذلك ولا في زكاة الفطرة التي لا خلاف على الظاهر في أن مصرفها مصرف زكاة المال كما تعرفه في محله إن شاء الله.

بقي شي‌ء وهو أنه على تقدير اعتبار العدالة لا ريب في أن مقتضى قاعدة الشرطية عدم جواز الدفع لمجهول الحال ، وعدم الاكتفاء بدعواه ، لكن قد يظهر لك مما قدمناه في قبول دعوى الفقير الفقر ما يقتضي قبول قوله ، فلاحظ وتأمل وأما على اعتبار مجانبة الكبائر فالمتجه الدفع مع الشك ، لأصالة عدم صدور معصية منه ، ولا ينافي ذلك كون بعض أفرادها على مقتضى الأصل كعدم الصلاة والصوم ونحوهما من الأفعال الواجبة ، ضرورة أعمية عدم فعلها من كونه معصية ، فأصالة عدم المعصية بحالها ، ولا يقتضي ذلك ثبوت العدالة التي هي بمعنى الملكة ، كما هو واضح ، فتأمل جيدا.

الوصف الثالث من أوصاف المستحق أن لا يكون المدفوع اليه منها لمئونته ممن تجب نفقته على المالك كالأبوين وإن علوا والأولاد وإن سفلوا والزوجة والمملوك بلا خلاف أجده فيه مع القدرة عليها والبذل لها كما اعترف به في السرائر ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، فضلا عن محكيه في التذكرة والتحرير وفوائد الشرائع والمدارك ، بل في المحكي عن المنتهى أنه قول من يحفظ عنه العلم ، مضافا إلى تصريحه أيضا بأنه لا يجوز لكل من الوالد والولد أخذها إذا كان مكتفيا بإنفاق الآخر عليه إجماعا ، كتصريحه ثالثا والمعتبر ونهاية الأحكام بأنه لا يجوز للزوج دفعها إلى الزوجة مطلقا إذا كان ينفق عليها إجماعا ، وقال الصادق عليه‌السلام في صحيح عبد الرحمن (١) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٩٥

« خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا الأب والأم والولد والمملوك والزوجة ، وذلك بأنهم عياله لازمون له » وقال عليه‌السلام في خبر الشحام (١) في الزكاة : « يعطى منها الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة ، ولا يعطى الجد والجدة » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر أبي خديجة (٢) عن الصادق عليه‌السلام : « لا تعط الزكاة أحدا ممن تعول » وسأل إسحاق بن عمار (٣) الكاظم عليه‌السلام في الموثق أو الصحيح ، فقال : « قلت له : لي قرابة أنفق على بعضهم وأفضل على بعضهم فيأتيني أو ان الزكاة أفأعطيهم منها؟ قال يستحقون لها قلت : نعم ، قال : هم أفضل من غيرهم أعطهم ، قال : قلت : فمن الذي يلزمني من ذوي قرابتي حتى لا أحتسب الزكاة عليهم؟ فقال : أبوك وأمك قلت : أبي وأمي قال : الوالدان والولد » بل ظاهره المفروغية من ذلك عند الراوي ، وفي‌ مرفوع العدة (٤) عن الصادق عليه‌السلام المروي عن العلل ، قال : « خمسة لا يعطون من الزكاة الوالدان والولد والمرأة والمملوك ، لأنه يجبر على النفقة عليهم ».

لكن ومع ذلك قال الأستاذ فيما حضرني من نسخة كشفه : إن الحكم فيما عدا الزوجة والمملوك بطريق الندب ، بل في نسخة أخرى الاقتصار على المملوك ، ولم أجد موافقا له على ذلك ، كما لم أجد له دليلا سوى الجمع بين النصوص المزبورة وبين‌ مكاتبة عمران بن إسماعيل القمي (٥) إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام « إن لي ولدا رجلا ونساء أفيجوز أن أعطيهم من الزكاة شيئا؟ فكتب أن ذلك جائز لك » والمرسل عن محمد بن خرك (٦) قال : « سألت الصادق عليه‌السلام أدفع عشر مالي إلى ولد ابني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٦.

(٣) ذكر صدره في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ وذيله في الباب ١٣ منها ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤ لكن عن محمد بن جزك وهو الصحيح.

٣٩٦

فقال : نعم لا بأس » وهما ـ مع ضعف سندهما وقلة عددهما ومتروكيتهما ، وكونهما مكاتبة ومرسلا ، واحتمال الأولى الأقارب الذين يصلح إطلاق الولد عليهم مجازا كما عن المنتهى ، والزكاة المندوبة ، وعدم تمكن الوالد من الإنفاق عليه ، وكونهم ممن لا يجب إنفاقه عليهم ، وأن المراد بقرينة قوله عليه‌السلام : « لك » اختصاصه بهذا الحكم ، ودفع الزكاة إليهم للتوسعة عليهم كما عن الشيخ مستدلا عليه بخبر أبي خديجة ، إلى غير ذلك من الاحتمالات القريبة المتعين بعضها ولو باعتبار الإطلاق والتقييد ، وكذا المرسل المحتمل أيضا المشاورة في هبة ذلك أو الصدقة به ، وليس سؤالا عن الزكاة ، واحتمل في الوافي بناءه على عدم وجوب نفقة ولد الولد ، ورواه في الوسائل « ابنتي » وحمله على قيام الأب أو الجد له بنفقته ، فيكون ما يدفعه الجد للأم على جهة التوسعة ـ لا ريب في قصورهما عن معارضة النصوص المزبورة المعتضدة بما سمعت ، وبالاحتياط ، وبكونه كالغني ذي الحرفة أو الصنعة ، وبالشك في كونه إيتاء لو دفع إليهم باعتبار عود النفع اليه بسقوط نفقة الوالد والولد بها ، لصيرورتهم بها ذوي مال ، وبغير ذلك كما هو واضح.

ولا يبعد كون النسخة غلطا كما يشهد لذلك قرائن ، منها أن الموجود في رسالته المعروفة في الزكاة ما هو عند الأصحاب من عدم الجواز ، اللهم إلا أن يكون الأستاذ في الكشف قد حمل النص والفتوى على إرادة احتساب نفقتهم زكاة ، لا أن المراد عدم جواز دفع الزكاة لهم مطلقا ، وربما يؤيده ما صرح به الفاضل في المنتهى ، والمحكي عن التذكرة والنهاية ويحيى بن سعيد في الجامع والكركي في فوائده والشهيد في الدروس على ما حكي عن بعضهم من جواز تناول ما عدا الزوجة والمملوك الزكاة من غير المنفق وإن كان موسرا باذلا لها بتقريب عدم الفرق بين زكاة المالك وغيره ، ضرورة اشتراكهما في اشتراط الفقر ، فلو كان وجوب النفقة رافعا له لمنع في التناول من الغير للإنفاق ، وكذا ما ذكروه من جواز التناول من المالك فضلا عن غيره للتوسعة ، لعدم‌

٣٩٧

وجوبها عليه ، وللحقوق اللازمة عليهم ، كنفقة الزوجة والمملوك ونحوهما ، إذ ذلك كله مؤيد لجواز الدفع من المالك ، لأن وجوب النفقة عليه لا يخرجون به عن حد الفقر الذي يندرجون به تحت إطلاق الأدلة ، وتحمل النصوص المانعة حينئذ على إرادة عدم احتساب النفقة الواجبة عليه زكاة ، لأنها هي اللازمة عليه والتي يجبر عليها ، ولكن إنما تجب عند الحاجة إليها لا مطلقا ، فله أن يدفع إليهم من الزكاة لما عرفت من الاتصاف بالفقر باعتبار عدم ملكه لمئونة السنة ، فيرتفع وجوب النفقة عليه ، لحصول مال لهم عند الحاجة ، فلا تجب نفقتهم حينئذ ، كما أن له أن يدفع إليهم عند الحاجة إليها باعتبار ما يلزمهم من مئونة من يعولون به ، أو للتوسعة ما يستغنون به ، لما عرفت من عدم التقدير في المدفوع دفعة عند المعظم ، فمع تحقق مقتضى الجواز فله أن يدفع ما يشاء ، وكل ذلك مؤيد لما يقوله الأستاذ ، فيتجه له حمل النصوص المزبورة ولو للجمع بينها وبين ما عرفت على ما ذكرنا ، أو على الكراهة أو غير ذلك.

هذا أقصى ما يمكن أن يقال له ، إلا أنه كما ترى وإن كان الأقوى جواز التناول من الغير ، واختاره في المدارك ، لعدم الخروج بذلك عن حد الفقر ، فيندرج حينئذ في إطلاق الأدلة وعمومها ، ول‌ صحيح ابن الحجاج (١) عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام « سألته عن الرجل يكون أبوه أو عمه أو أخوه يكفيه مئونته أيأخذ من الزكاة فيوسع به إذا كانوا لا يوسعون عليه في كل ما يحتاجون اليه؟ قال : لا بأس » خلافا للفاضل في التذكرة ، فمنع مع البذل واليسار معللا له بأن الكفاية حصلت لهم بما يصلهم من النفقة الواجبة ، فأشبهوا من له عقار يستغني بأجرته ، وتبعه في شرح المفاتيح وهو كما ترى قياس أولا ، ومع الفارق ثانيا ، ودعوى شمول ما دل من صحيح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٩٨

ابن الحجاج (١) وخبر الشحام (٢) على عدم جواز إعطاء الزكاة لزكاة المنفق وغيره واضحة المنع ، ولو سلم فبينها وبين ما دل على الجواز من الآية وغيرها تعارض العموم من وجه ، والترجيح للثاني من وجوه ، وكذا دعوى ظهور التعليل في الغني الذي لا فرق فيه بين المنفق وغيره ، ضرورة إمكان كون التعليل مبنيا على عدم صدق الإيتاء معه باعتبار عود النفع له ، أو على غير ذلك.

فلا ريب في أن الأقوى الجواز وإن أطنب الأستاذ الأكبر في شرحه على المفاتيح في ترجيح عدم الجواز ، بل مقتضى ما ذكرنا الجواز أيضا في الزوجة مع فقرها إن لم يقم إجماع ، اللهم إلا أن يفرق بأن نفقتها كالعوض عن بعضها ، ولذا يضمنها المنفق إذا لم يؤدها ، بخلاف نفقة الوالد والولد ، وإن كان قد يناقش فيه بأنها وإن كانت كذلك إلا أنها إنما تملك عليه يوما فيوما ، ومثله لا يخرجها عن حد الفقر الذي هو عدم ملك مئونة السنة ، وكونها حينئذ كذي الصنعة قياس أولا ، ومع الفارق بالدليل ثانيا ، لكن الإجماع على عدم جواز تناولها مع يسار الزوج وبذله يمكن تحصيله ، وإن احتمل بعض الناس الجواز أيضا.

نعم قد يقال بجوازها في غير نفقتها كما إذا كان عندها من تعول به من مملوك أو غيره ، لإطلاق الأدلة السالم عن المعارض ، ووجوب نفقتها على الزوج لا يجعلها غنية بمعنى ملك مئونة السنة لها ولمن تعول به ، بل لا يبعد جواز تناولها من الزوج المنفق من هذه الحيثية ، وكذا غيرها من واجبي النفقة كما صرح به في المدارك وغيرها ، لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة ما هنا بعد ظهوره خصوصا بملاحظة التعليل في إرادة المنع من دفع الزكاة إليهم للإنفاق ، كما هو معقد إجماع الكركي في فوائد الكتاب ، قال : « يشترط في المستحقين للزكاة أن لا يكونوا واجبي النفقة على الدافع إجماعا في أصل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٣٩٩

الإنفاق » ولعل هذا مراد غيره ، وعليه بنى الكركي وثاني الشهيدين في المسالك جواز دفع الزكاة من المالك لقريبه للتوسعة ، لعدم لزومها عليه ، بل حكاه بعضهم عن غيرهما ، لإطلاق الأدلة وعمومها ، وخصوص موثق إسحاق بن عمار (١) وموثق سماعة (٢) وخبر أبي خديجة (٣) وخبر أبي بصير (٤) لكن الجميع يحتمل زكاة التجارة التي قد عرفت ندبها ، فيكون المراد حينئذ بيان أولوية مراعاة استحباب التوسعة من إخراج زكاة التجارة ، بل بعضها كاد يكون صريحا في ذلك ، ومنه يعلم الحال في غيره لكون الجميع على مذاق واحد ، بل ظاهر آخر أنه لا زكاة عليه للتوسعة المزبورة ، لا أنها يخرجها ويحتسبها عليهم ، على أنه يمكن أن يكون المراد غير واجبي النفقة من عياله ، وترك الاستفصال في ذلك كتركه في كون العيال أغنياء أو فقراء ، إذ الزوجة قد تكون غنية وإن وجبت نفقتها ، بل هما وغيرهما شاهدان على إرادة الزكاة المندوبة التي هي المتسامح فيها بالنسبة إلى ذلك وغيره ، كل ذلك لإطلاق أدلة المنع الذي يمكن عدم معارضة التعليل له وإن كانت التوسعة غير واجبة على المنفق ، إلا أن كثيرا من أفرادها أفضل أفراد الواجب المخير ، كشراء البر عوض الشعير ، ولبس الحرير عوض الخام ونحو ذلك ، فالإنفاق الممنوع من احتسابه زكاة شامل لذلك حينئذ ، خصوصا بملاحظة ندرة الاقتصار على أقل الواجب من المنفقين ، وخصوصا بملاحظة السيرة المستمرة بين الأعوام والعلماء في إخراج الزكاة من الفقراء والأغنياء ، بل لو كان ذلك جائزا لاشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار ، لشدة الداعي له ، ولكان ذلك عذرا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٤٠٠