جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وللشك في وجود شرط الاستحقاق ، وهو الاستدانة في غير معصية ، كما هو المفهوم من الأخبار السابقة ، فيحصل الشك في المشروط ، فلا تبرأ الذمة بالدفع اليه وقيل والقائل الأكثر كما عن التذكرة ، بل المشهور لا يمنع وهو الأشبه بعموم الأدلة وإطلاقها ، والخبر المزبور ـ مع احتماله المعلوم حاله من الاقدام على المعاصي وعدم التحرز عن الفسوق ـ لا جابر له ، بل قد عرفت الشهرة على خلافه. بل منها ينقدح الشك في كون ذلك شرطا وإن كان يقتضيه ظاهر النصوص المزبورة ، إلا أنه لإرادة المانعية منه وبعد التسليم يمكن تنقيح الشرط بأصالة الصحة في أفعال المسلم ، لأنها من العلم الشرعي وقد بنيت عليه العبادات والمعاملات ، مضافا إلى معلومية العسر في تتبع مصارف الأموال والتطلع على ما يخرجه الإنسان دائما ، خصوصا بالنسبة إلى بعض الأفراد في بعض الأوقات ، فمن البعيد اشتراط إعطاء الزكاة به ، نعم لو علم هو حال نفسه حرم عليه الأخذ من هذا السهم ، ومن ذلك يقوى إرادة المانعية مما ظاهره الشرطية ، كما أنه يقوى في الذهن كون المدار على الإنفاق في غير المعصية ، لا أن المدار على الإنفاق في الطاعة وإن اقتضاه أيضا ظاهر النصوص المزبورة ، إلا أن المراد منها ذلك ، خصوصا بملاحظة كلام الأصحاب ، فحينئذ لا فرق في الإنفاق بين الواجب والمندوب والمكروه والمباح ، والناسي والجاهل بالموضوع بل والحكم مع عدم احتمال المعصية عنده والمجبور والمضطر لا يدخلون في العصاة ، بل وكذا غير المكلف ، والظاهر أن المراد من الغرم هنا كل ما اشتغلت به الذمة ولو بإتلاف لا خصوص الاستدانات ، وفي اعتبار الحلول وجهان ، ولكن مقتضى إطلاق النص والفتوى عدمه.

هذا كله في الغارم لمصلحة نفسه ، أما الغارم لإصلاح ذات البين ـ كما لو وجد قتيل لا يدري من قتله وكاد يقع بسببه فتنة فتحمل رجل ديته ، أو بأن تلف مال لا يدري من أتلفه وكاد يقع بسببه فتنة فتحمل رجل قيمته ـ فالمحكي عن الشيخ ومن‌

٣٦١

تأخر عنه أنه يعطى الأول ما تحمله من الدية فقيرا كان أو غنيا إذا لم يؤدها من ماله ، سواء استدان فأداها أم لم يؤدها بعد ، لإطلاق الآية وغيرها المقتصر في تقييدها على المتيقن ، ول‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمس : غاز في سبيل الله ، أو عامل عليها ، أو غارم » وقد يناقش فيه إن لم يكن إجماع بأن الخبر المزبور غير موجود في أصولنا ، بل الموجود فيها مجرد عن الاستثناء ، فيكون دالا على اعتبار الفقر في الغارم كما سمعت دعوى الإجماع عليه سابقا ، بل ربما كان المتن في بعضها أو جميعها مطلقا ، فيقيد به الآية حينئذ على إطلاقه الشامل للمستدين للمصلحة المزبورة ، نعم لا بأس بإعطائه من سهم سبيل الله بناء على عمومه لكل قربة ، بل لا بأس في استدانة الإمام عليه‌السلام أو وكيله على هذا السهم باعتبار ولايته ، ولعله لذا استشكل فيه في المحكي عن نهاية الأحكام فقال : « فيقضي دينه من سهم الغارمين غنيا كان على إشكال أو فقيرا ، لئلا يمتنع الناس من هذه المكرمة ».

ومن ذلك يظهر لك الحال في محتمل المال للإتلاف الذي قال في محكي المبسوط أنه ألحقه قوم بالدية ، بل قيل : إنه قطع به الفاضل في جملة من كتبه ناصا على التسوية بين الفقير والغني للآية ، وللحاجة إلى إصلاح ذات البين ، بل ألحق به الضامن مالا عن غيره إلا أنه قال : ما حاصله إن كانا معسرين جاز الأداء قطعا من غير فرق بين الصرف إلى الضامن أو المضمون عنه إذا كان الضمان بالاذن ، نعم إن دفعه إلى الضامن فقضي به لا يرجع به على المضمون عنه لعدم الغرامة ، وإن كانا موسرين لم يعط من سهم الغارم ، سواء كان الضمان بالإذن أو لا ، وأما إن كان الضامن خاصة معسرا فان ضمن بالاذن لم يعط ، لأن له الرجوع عليه ، وإلا أعطي ، إذ لا ملجأ له ، واحتمال العدم كما عن التحرير لعود النفع إلى المضمون عنه ضعيف ، ولو كان المعسر المضمون عنه خاصة‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ١٥.

٣٦٢

جاز إعطاؤه مع كون الضمان باذنه ، وفي الضامن إشكال من أنه دين تحمل لا صلاح ذات البين فيقضى مع اليسار ، ومن أن المصلحة هنا جزئية فلا يلتفت إليها بخلاف الكلية وعن المنتهى « الأقرب الصرف إلى الأصل ، لأنه ممكن ، ولا يصرف إلى الضامن لا يساره » ونحوه عن التحرير ، وعن النهاية « لو استدان لعمارة المسجد أو قرى الضيف أعطي مع الفقر » وعن بعض الحواشي « لا يشترط الفقر » ولا يخفى عليك تحقيق الحال بعد الإحاطة بما ذكرنا ، والله أعلم.

وكذا لو كان للمالك دين على الفقير الذي لم يملك قوت سنته أو لم يتمكن من قضاء دينه على الكلام السابق جاز أن يقاصه به من الزكاة بمعنى احتسابه عليه من الزكاة المستحقة عليه بلا خلاف ، كما اعترف به الفاضلان في ظاهر المعتبر والتذكرة ومحكي المنتهى ، ولا إشكال لأنه أحد أمواله ، ومقبوض للمدفوع اليه ، فهو أحد أفراد الإيتاء المأمور به ، قال عبد الرحمن بن الحجاج (١) : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن دين لي على قوم طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة هل لي أن أدعه وأحتسب به عليهم الزكاة؟ قال : نعم » وقال عقبة بن خالد (٢) : « دخلت أنا والمعلى وعثمان بن عمران على أبي عبد الله عليه‌السلام فلما رآنا قال : مرحبا بكم وجوه تحبنا وتحبها ، جعلكم الله معنا في الدنيا والآخرة ، فقال له عثمان : جعلت فداك فقال : نعم فمه ، قال : إني رجل موسر فقال له : بارك الله في يسارك ، قال : فيجي‌ء الرجل فيسألني الشي‌ء وليس هو إبان زكاتي فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : القرض عندنا بثمانية عشر ، والصدقة بعشر ، وما زاد عليك إذا كنت موسرا أعطيته ، فإذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) ذكر ذيله في الوسائل في الباب ٤٩ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ وتمامه في فروع الكافي ج ٢ ص ٣٤ الطبع الحديث « باب القرض » ٤.

٣٦٣

كان إبان زكاتك احتسبت بها من الزكاة ». إلى غير ذلك من النصوص الدالة عليه ، بل الظاهر جواز مقاصته بأن يحتسبها صاحب الدين إن كانت عليه عليه ، ويأخذها مقاصة من دينه وإن لم يقبضها المديون ولم يوكل في قبضها.

وكذا يجوز لمن هي عليه دفعها إلى رب الدين كذلك كما صرح به الشهيدان لإطلاق الأخبار والفتاوى بالاحتساب وبقضاء الدين عنه الشامل لصورتي الاذن وعدمه وفي‌ موثق سماعة (١) « سألته عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة فقال : إذا كان الفقير عنده وفاء بما كان عليه دين من دار أو متاع من متاع البيت ، أو يعالج عملا ينقلب فيها بوجهه ، فهو يرجو أن يأخذ منه ماله عنده من دين فلا بأس أن يقاصه بما أراد أن يعطيه من الزكاة أو يحتسب بها ، وإن لم يكن عند الفقير وفاء ولا يرجو أن يأخذ شيئا منه فليعطه من زكاته ولا يقاصه بشي‌ء من الزكاة » ولا يقدح ما فيه من التفصيل المحمول على ضرب من الندب ، بل منه يعلم أن المقاصة غير الاحتساب ، فالأولى تفسيرها في المتن ونحوه بما سمعته من الشهيدين وإن استبعده بعضهم بل الظاهر أنها حقيقة في ذلك مجاز في الاحتساب ، والأمر سهل بعد جواز الأمرين معا ، لكن عن نهاية الفاضل أنه يجوز صرف السهم إلى الغارم بغير إذن صاحب الدين ، وإلى صاحب الدين باذن المديون ، وبدون الإذن إشكال ، ولو منعناه سقط من الدين قدر المصروف ، ومنشأ الاشكال ، مما تقدم ، ومن أن الغارم هو المستحق ، والآية نصت على كونها له ، ومنه ينسحب الإشكال في بعض أفراد المقاصة التي ذكرنا جوازها ، إلا أنه لا ريب في ضعفه بعد ظهور الأدلة فيما قلناه ، خصوصا ما تسمعه من نصوص الوفاء (٢) عن الميت ، بل في كشف الأستاذ بعد أن ذكر المسألة المزبورة قال : « ولو كان له على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

٣٦٤

الديان دين جاز له الاحتساب من الزكاة وإسقاط ما على المدين » وهو كذلك إذا كان قد حوله به أو أذن له في احتسابه على جهة الوفاء له عما عليه ، بل له احتساب ما على الديان زكاة وفاء له عما له في ذمة الفقير.

وكذا لو كان الغارم ميتا جاز أن يقضى عنه من الزكاة ، لأنه كالحي بالنسبة إلى ذلك ، ضرورة بقائه مشغول الذمة وأن يقاص بها على الوجهين السابقين فيها بلا خلاف أجده في ذلك ، بل الإجماع بقسميه عليه ، قال عبد الرحمن في الصحيح (١) : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل عارف فاضل توفي وترك عليه دينا لم يكن بمفسد ولا مسرف ولا معروف بالمسألة هل يقضى عنه من الزكاة الألف والألفان؟ قال : نعم » وعن يونس بن عمار (٢) قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قرض المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك ، وإن مات قبل ذلك احتسب ما به من الزكاة » وقال زرارة (٣) في الحسن : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل حلت عليه الزكاة ومات أبوه وعليه دين أيؤدي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير فقال : إن كان أورثه مالا ثم ظهر عليه دين لم يعلم به يومئذ فيقضيه عنه قضاه عنه من جميع الميراث ولم يقضه من زكاته ، وإن لم يكن أورثه مالا لم يكن أحد أحق بزكاته من دين أبيه ، فإذا أداها في دين أبيه على هذا الحال أجزأت عنه ».

وهما معا شاهدان على اعتبار قصور التركة عن الوفاء في الاحتساب من الزكاة ، كما عن المبسوط والوسيلة والتذكرة والتحرير والدروس والبيان التصريح به ، واختاره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٦٥

في المدارك وكشف الأستاذ وغيرهما ، تحكيما لهما على غيرهما من النصوص (١) مضافا إلى ما دل على عدم انتقال التركة للوارث إلا بعد الوفاء أو عدم تمامية الانتقال ، نعم في الأخير « لو أتلف الوارث المال وتعذر الاقتضاء لم يبعد جواز الاحتساب والقضاء » وهو كذلك وإن نسبه في الدروس إلى القيل مشعرا بالتوقف فيه ، بل لا يبعد جواز الاحتساب مطلقا إذا تعذر الاستيفاء من التركة إما لعدم إمكان إثباته أو لغير ذلك كما صرح به في المسالك وكذا الروضة اقتصارا في تقييد المطلق على محل اليقين ، خلافا لصريح المختلف وظاهر المنتهى ونهاية الشيخ وابن إدريس والمصنف هنا والشهيد في اللمعة فجوزوا الوفاء مطلقا ، للإطلاق المحمول على المقيد ، ولانتقال التركة إلى الوارث بالموت فيبقى الميت فقيرا ، وفيه أن ذلك أولا أحد الأقوال في المسألة ، وثانيا أنها وإن انتقلت اليه إلا أن حق الدين متعلق بها ، كما هو محرر في محله.

وكذا لو كان الدين على من تجب نفقته جاز أن يقضي عنه حيا وميتا وأن يقاص بلا خلاف بل ولا إشكال ، ضرورة كونه كالأجنبي بالنسبة إلى وفاء الدين ، فتشمله الأدلة ، بل لعل ظاهر المعتبر والتذكرة والمنتهى أنه موضع وفاق ، وقد سمعت حسن زرارة (٢) السابق ، و‌قال إسحاق بن عمار (٣) : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل على أبيه دين ولابنه مئونة أيعطي أباه من زكاته يقضي دينه؟ قال : نعم ، ومن أحق من أبيه » ولا ينافي ذلك ما في‌ صحيح عبد الرحمن بن الحجاج (٤) « خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا : الأب والأم والولد والمملوك والامرأة ، وذلك أنهم عياله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١ والباب ٤٩ منها ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٦٦

لازمون له » لأن المراد إعطاؤهم النفقة الواجبة ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام : « وذلك » إلى آخره فان قضاء الدين لا يلزمه اتفاقا ، والله أعلم.

ولو صرف الغارم ما دفع اليه المصرح له بكونه من سهم الغارمين في غير القضاء ارتجع على الأشبه لتشخص المال بقصد الدافع للغرم ، فصرفه في غيره صرف المال في غير محله ، خلافا للشيخ في المحكي من مبسوطة وجمله ، فلا يرتجع لحصول الملك بالقبض ، وفيه أنه بعد التسليم إنما ملكه ليصرفه في وجه مخصوص ، فلا يشرع له غيره نعم الظاهر الاجتزاء عن الزكاة لحصول الامتثال بالدفع اليه ، ولكن إذا تمكن من الارتجاع ارتجعه حسبة ، كما تقدم تحقيق ذلك في المكاتب في نحو الفرض ، ومنه ومما تقدم في الفقر يعلم الحال فيما لو أبرأه صاحب الدين أو بان أن دينه في معصية أو أنه غير غارم ونحو ذلك ، فلاحظ وتأمل.

وكذا تقدم في المكاتب والفقير ما يعلم منه الحال فيما لو ادعى أن عليه دينا من أنه يقبل قوله إذا صدقه الغريم وكذا لو تجردت دعواه عن التصديق والإنكار وفي المتن أنه قيل : لا يقبل إلا بالبينة ، ويحتمل أو اليمين لكن لم نعرف القائل كما اعترف به في المدارك ، نعم قال : حكى العلامة في التذكرة عن الشافعي أنه لا يقبل دعوى الغرم إلا بالبينة ، لأنه مدع ، ولا يخلو من قوة ، قلت : قد عرفت أنه توقف أيضا في دعوى الفقر والكتابة ، بل قال : ربما كان عدم القبول هنا أولى من عدمه في الفقر ، لأن الغرم مما يمكن إقامة البينة عليه ، وقد يقال في دفع الإشكال في المقامات الثلاثة إن الحاصل من الكتاب والسنة وجوب دفع الزكاة لا وجوب دفعها للفقير أو للغارم أو للمكاتب ، وقوله تعالى ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ) إلى آخره إنما يدل على كون الصدقات لهم لا أن التكليف دفعها إليهم ، وفرق واضح بين المقامين ، نعم‌ ورد « لا تحل الصدقة لغني » ونحوه مما يقضي بعدم جواز دفعها لغير الأصناف الثمانية ،

٣٦٧

وهو كذلك في المعلوم أنه ليس منهم ، أما غير المعلوم فيتحقق امتثال الأمر بالإيتاء بالدفع اليه ، لكونه أحد أفراد الإطلاق ، ولم يعلم كونه من أفراد النهي ، بل أصالة البراءة عن حرمة الدفع إليه يقتضي خروجه عنها ، وبالجملة الغنى مانع لا أن الفقر شرط ولو سلم كونه شرطا فهو محل لتناول الزكاة لا لدفعها ممن وجبت عليه ، لعدم الدليل ، بل مقتضى الإطلاق خلافه ، وعلى هذا يتجه ما ذكره الأصحاب من قبول دعوى الفقر والكتابة والغرم ، ولذا قال المصنف والأول أشبه فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع ، وتقدم وربما يأتي له تتمة ، هذا وفي المدارك أن موضع الخلاف الغارم لمصلحة نفسه ، أما الغارم لمصلحة ذات البين فلا يقبل دعواه إلا بالبينة قولا واحدا ، ولعله كذلك إذا كان المانع متحققا فيه ، كما لو كان غنيا ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

والسادس أو السابع في سبيل الله وهو في المقنعة والنهاية والمراسم والإشارة على ما حكي عن بعضها الجهاد السائغ خاصة وقيل والقائل الأكثر بل المشهور يدخل فيه المصالح كبناء القناطر والحج ومساعدة الزائرين وبناء المساجد وجميع سبل الخير ، بل عليه عامة المتأخرين ، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه ومن هنا كان هو الأشبه مضافا إلى اقتضاء اللفظ ذلك ، إذ السبيل هو الطريق فإذا أضيف إلى الله سبحانه كان عبارة عن كل ما يكون وسيلة إلى تحصيل رضا الله وثوابه ، فيتناول الجهاد وغيره ، وقال العالم عليه‌السلام فيما رواه عنه‌ علي بن إبراهيم (١) في تفسيره : « ( وَفِي سَبِيلِ اللهِ ) قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما ينفقون ، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به وفي جميع سبل الخير فعلى الامام عليه‌السلام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد » وقال علي بن يقطين في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣٦٨

الصحيح (١) لأبي الحسن عليه‌السلام : « يكون عندي المال من الزكاة أفأحج به موالي وأقاربي؟ قال : نعم » وترك الاستفصال فيه عن كيفية إحجاجهم كاف في الاحتجاج ، كخبر محمد بن أبي نصر (٢) المروي في مستطرفات السرائر عن جميل ، قال : « سألت الصادق عليه‌السلام عن الصرورة أيحجه الرجل من الزكاة؟ قال : نعم » وقال الحسن بن راشد (٣) : « سألت أبا الحسن العسكري عليه‌السلام بالمدينة عن رجل أوصى بمال في سبيل الله فقال : سبيل الله شيعتنا » وخبر الحسين بن عمر (٤) قال : « قلت للصادق عليه‌السلام : إن رجلا أوصى إلى بشي‌ء في سبيل الله فقال لي : اصرفه في الحج ، قال : قلت : أوصى في السبيل قال : اصرفه في الحج ، فاني لا أعلم شيئا في سبيل الله تعالى أفضل من الحج » وفي رواية أحد المشايخ « لا أعلم سبيلا من سبيله أفضل من الحج ».

وعلى كل حال هو ظاهر في تعدد سبل الله وإن كان الحج أفضلها ، على أنه على أي تقدير فيه شهادة على خلاف ما يقوله الخصم من كونه الجهاد الذي ربما يشعر بعض النصوص بكون التفسير له به للعامة ، قال يونس بن يعقوب (٥) : « إن رجلا كان بهمدان ذكر أن أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر فأوصى بوصية عند الموت وأوصى أن يعطى شي‌ء في سبيل الله فسئل عنه أبو عبد الله عليه‌السلام كيف يفعل به؟ فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر فقال : لو أن رجلا أوصى إلى بوصية أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما ، إن الله عز وجل (٦) يقول :( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤ لكن عن آخر السرائر نقلا عن نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر عن جميل.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من كتاب الوصايا ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من كتاب الوصايا ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من كتاب الوصايا ـ الحديث ٤.

(٦) سورة البقرة ـ الآية ١٧٧.

٣٦٩

سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) فانظر إلى من يخرج إلى هذا الوجه يعني بعض الثغور فابعثوا به اليه ».

فلا ريب حينئذ في أن الأقوى عمومه لكل قربة ، فيداخل حينئذ جميع المصارف ويزيد عليها ، وإنما يفارقها في النية ، ضرورة شموله لجميع القرب من بناء خانات وتعمير روضة أو مدرسة أو مسجد أو إحداث بنائها ، أو وقف أرض أو تعميرها ، أو وقف كتب علم أو دعاء ونحوها ، أو تزويج عزاب أو غيرهم ، أو تسبيل نخل أو شجر أو ماء أو مأكول أو شي‌ء من آلات العبادة ، أو إحجاج أحد أو إعانة على زيارة أو في قراءة أو تعزية ، أو تكرمة علماء أو صلحاء أو نجباء ، أو إعطاء أهل الظلم والشر لتخليص الناس من شرهم وظلمهم ، أو إعطاء من يدفع ظلمهم ويخلص الناس من شرهم ، أو بناء ما يتحصن به المؤمنون عنهم ، أو شراء الأسلحة لدفاعهم ، أو إعانة المباشرين لمصالح المسلمين من تجهيز الأموات أو خدمة المساجد والأوقاف العامة أو غير ذلك.

ومن هنا قال الأستاذ في كشفه : « إنه لا يعتبر في المدفوع إليه إسلام ولا إيمان ولا عدالة ولا فقر ولا غير ذلك للصدق » لكن في التذكرة بعد أن ذكر دخول الزوار والحجاج قال : « وهل يشترط حاجتهم؟ إشكال ينشأ من اعتبار الحاجة كغيره من أهل السهمين ، ومن اندراج إعانة الغني تحت سبيل الخير » بل جزم في المسالك والروضة باعتبار الفقر ، بل ربما ظهر من الغنية الإجماع عليه ، قال في الأول : « ويجب تقييد المصالح بما لا يكون فيه إعانة لغني مطلقا بحيث لا يدخل في شي‌ء من الأصناف الباقية ، فيشترط في الحاج والزائر الفقر أو كونه ابن السبيل أو ضيفا ، والفرق بينهما حينئذ وبين الفقير أن الفقير لا يعطى الزكاة ليحج بها من جهة كونه فقيرا ويعطى لكونه في سبيل الله » واستشكله في المدارك بأن فيه تخصيصا لعموم الأدلة من غير دليل ، إلا أنه قال : « والمعتمد جواز صرف هذا السهم في كل قربة لا يتمكن فاعلها من الإتيان بها ،

٣٧٠

وإنما صرنا إلى هذا التقييد لأن الزكاة إنما شرعت بحسب الظاهر لدفع الحاجة ، فلا تدفع مع الاستغناء عنها ، ومع ذلك فاعتباره محل تردد » قلت : هو في محله ، بل الأقوى عدم اعتباره ، لإطلاق الأدلة ، وحكمة المشروعية لا تصلح للتقييد ، وإلا لاقتضت الصرف في خصوص سد الخلة ، وما ورد من أنها لا تحل الصدقة لغني محمول على ما لا ينافي ذلك من إرادة الصدقة عليه على نحو الصدقة على الفقير ، بل هو الظاهر منه ، وحينئذ لا تكون الصدقة عليه من القرب التي هي سبيل الله ، كما هو واضح.

ومما يؤيد ذلك اتفاقهم ظاهرا على أن الغازي يعطى وإن كان غنيا قدر كفايته على حسب حاله شرفا وضعة وقرب المسافة وبعدها وغير ذلك ، بل في المدارك أن هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب ، إذ العمدة فيه العموم المزبور ، لأن‌ النبوي (١) « لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة ـ وعد منها ـ الغازي » قد عرفت عدم وجوده في شي‌ء من أصولنا ، وكون ما يأخذه من الزكاة كالأجرة على الغزو فلا يعتبر في إعطائه وصف آخر تعليل اعتباري لا يصلح أن يكون مدركا.

وكيف كان فلا خلاف في أنه إذا غزا لم يرتجع ما بقي منه عنده ، بل في التذكرة أنه موضع وفاق بين العلماء ، لأنه ملكه بالقبض ، وكونه كالإجارة له على عمله ، أو كالنفقة التي لا ريب في ملك ذيها ما يفضل منها بما يضيق على نفسه ، فلا يسترد وهو واضح ، نعم إن لم يغز أو رجع من الطريق استعيد لأنه إنما ملكه ليصرفه في الوجه المخصوص ولم يحصل وإذا كان الامام عليه‌السلام غير مبسوط اليد على وجه لا يقع منه الجهاد أو كان مفقودا أي غائبا مستترا سقط نصيب الجهاد بناء على أنه سبيل الله ، وحينئذ يحفظ بناء على التوزيع إلى حصول مصرفه ولا يصرف في المصالح نعم بناء على أن سبيل الله كل قربة لا يسقط‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ١٥ وفيه « إلا الخمس. ».

٣٧١

هذا السهم بتعذر بعض أفراد المصرف وهو ظاهر ، مع أنه قد يمكن وجوب الجهاد مع عدم تمكنه أيضا ، كما إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام لا للدعوة إلى الإسلام ، فإن ذلك لا يكون إلا مع الامام عليه‌السلام وحينئذ فلا يسقط هذا السهم على كل من القولين بل يكون النصيب باقيا مع وقوع ذلك التقدير بل منه يعلم عدم سقوط سهم المؤلفة بناء على أن المراد بهم ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) للجهاد ، لما عرفت من إمكانه في زمن الغيبة ، لكن في المتن وكذا يسقط سهم السعاة وسهم المؤلفة ويقتصر بالزكاة على بقية الأصناف وفيه ما لا يخفى ، بل قد عرفت أن الأقوى عموم التألف ، بل في المدارك لم أقف على ما يقتضي سقوط سهم السعاة ، ومن ثم جزم الشهيد في الدروس ببقائه في زمن الغيبة مع تمكن الحاكم من نصيبهم ، وهو جيد ، لاندراجهم في العاملين ، قلت : اللهم إلا أن يقال : إن المراد بالعاملين السعاة لجباية الصدقات بإذن الامام ، وهذا لا يكون إلا مع ظهوره وبسط يده ، بل لا ينكر إشعار الآية وغيرها بذلك وكذا التأليف ، فلعل المراد بالسقوط هنا نحو سقوط تعيين صلاة الجمعة والعيدين والحدود وغيرها ، والله أعلم.

والسابع أو الثامن ابن السبيل وهو وإن كان عاما لمطلق المسافر إلا أن المراد به هنا المنقطع به فعجز عن سفره بذهاب نفقته أو نفادها أو تلف راحلته أو نحو ذلك مما لا يقدر معه أن يتحرك ، فلا يستعمل إلا في المسافر إلى غير وطنه ومقره ولو بالعارض كالبلد التي دخلها مسافرا فعزم على استيطانها ، أما المقيم عشرا فصاعدا أو المتردد ثلاثين يوما أو نحو ذلك مما يوجب التمام فغير خارج عن صدق ابن السبيل عرفا وإن انقطع سفره شرعا بالنسبة للقصر والإتمام ، والإفطار والصيام ، ضرورة عدم التنافي بينهما ، فما عن ظاهر المبسوط وصريح التذكرة وكذا ابن فهد في المحرر وإن قال : إلا لضرورة كانتظار رفقة من انقطاع سفره بالنسبة للمقام فلا يعط من سهم ابن السبيل‌

٣٧٢

واضح الفساد ، كوضوح فساد دعوى صدقه على من أراد إنشاء السفر المحتاج اليه ولا قدرة له عليه ، خلافا للمحكي عن الإسكافي والشهيد في الدروس واللمعة ، ضرورة انسياق المتلبس في الاستطراق لا المريد له ، وفي‌ تفسير علي بن إبراهيم (١) عن العالم عليه‌السلام « وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فينقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الامام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات » فدعوى صدقه عليه باعتبار إرادته قطع الطريق وإنشائه للسفر لا يصغى إليها ، كقياسه على ناوي الإقامة في بلد ثم أراد الخروج منها ، ضرورة فرق العرف بينهما ، نعم لا بأس بالدفع اليه من سهم سبيل الله ، كما أنه لا بأس بالدفع اليه بعد تلبسه بالسفر على وجه يصدق عليه أنه ابن سبيل ، إذ لا نعتبر فيه حدوث انقطاع الطريق به يتجدد ذهاب ماله ، بل يكفي فيه انقطاع الطريق به ولو لقصور أصل ماله ، ولعل ذا هو الذي دعا الشهيد إلى عده ابن سبيل ، لأنه بمجرد تلبسه بالسفر وخروجه إلى محل الرخصة يصدق عليه ذلك ، فلا فائدة في اعتبار حصول ذلك منه ، لكنه بعد تسليم الصدق عليه بذلك لا بد من تحققه في جواز التناول والتصرف ، لتوقف صدق الموضوع عليه ، والأول إليه غير كاف قطعا.

وكيف كان يعطى ابن السبيل هذا السهم وإن كان غنيا في بلده إذا كان لا يمكنه الاعتياض عنه ببيع أو اقتراض أو غيرهما ، وإلا لم يعط ، لعدم صدق الانقطاع به ، ودعوى تحققه بمجرد تعذر البيع ونحوه دون الاستدانة كدعوى تحققه وإن تمكن من الجميع لا يصغى إليهما ، وإن نسب ثانيهما إلى المصنف في المعتبر لكن لا تصريح فيه ، نعم لم يذكره شرطا ، ويمكن اكتفاؤه عن ذلك بتفسيره ابن السبيل بالمنقطع به ، لما عرفت من عدم صدقه بدون ذلك ، بل لعل ترك كثير التعرض له لذلك لا لعدم اشتراطه ، وإلا كانوا محجوجين بما دل عليه من النص ومعقد الإجماع وغيرهما مما دل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣٧٣

على اعتبار الفقر والحاجة في الزكاة ، وأنها لا تحل لغني وغير ذلك.

وكذا الكلام في الضيف الذي هو محتاج للضيافة ، فإنه لا يخرج بها عن كونه ابن سبيل ، ضرورة تحقق الصدق عليه ، فيعطى من سهم ابن السبيل ، بل يحتسب عليه ما يأكله عنده منه ، لعدم وجوب نفقته عليه ، وكأن الداعي إلى نص المصنف عليه بيان أنه لا يخرج بالضيافة عن كونه ابن سبيل ، ودفع توهم فرد آخر لابن السبيل ، أو أنه يلحق به ، وأن ما ورد فيه من الرواية (١) محمولة على ذلك ، والأصل في المسألة عبارة المفيد في المقنعة قال : « وابن السبيل وهم المنقطع بهم في الأسفار ، وقد جاءت رواية أنهم الأضياف يراد به من أضيف لحاجة إلى ذلك وإن كان له في موضع آخر غنى ويسار ، وذلك راجع إلى ما قدمناه » وكأنه أشار بقوله : « وذلك راجع » إلى آخره إلى ما ذكرناه ، وقال ابن زهرة : « وروي أيضا أنه الضيف الذي ينزل بالإنسان وإن كان في بلده غنيا أيضا » وربما استظهر منها ومن المقنعة أن الرواية تقتضي انحصار ابن السبيل فيه ، لكن قد يحتمل في كلام ابن زهرة عدم الانحصار باعتبار وجود لفظ « أيضا » في كلامه ، وفي نهاية الشيخ « وقيل أيضا : إنه الضيف الذي ينزل بالإنسان ، ويكون محتاجا في الحال وإن كان له يسار في بلده وموطنه » ونحوه في نقل الانحصار قولا الطبرسي وسلار على ما قيل ، لكن ليس في كلامهما لفظ « أيضا » وأطلقا الضيف ، وعن المبسوط وروي أن الضيف داخل فيه ، فصرح بالدخول ، وأطلق الضيف كالمحكي عن نهاية الفاضل ، وفي الوسيلة « وقال بعض أصحابنا : الضيف إذا كان فقيرا داخل فيه » وعن فقه القرآن للراوندي « وابن السبيل المسافر المنقطع به والضيف » وهو مع إطلاقه الضيف ظاهر في الدخول ، وفي شرح الأصبهاني للمعة ، وكذا الفاضلان في غير المنتهى والتحرير والنهاية والمختلف إلا أنهما لم يطلقا ، بل اشترطا السفر ونصا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٩.

٣٧٤

على التسوية بينه وبين المنقطع به في الشرائع والقواعد ، وعن المنتهى والتحرير بعد ذكر المنقطع به قال : ويدخل فيه الضيف ، وظاهرهما الدخول في التفسير كالشهيد في اللمعة ، بل هو صريح المختلف ، لكن في المسالك في شرح عبارة المصنف أي « يلحق بابن السبيل في جواز ضيافته من الزكاة » قال : « ويشترط فيه أن يكون مسافرا محتاجا إلى الضيافة وإن كان غنيا في بلده » وفي الإرشاد « وهو المنقطع به وإن كان غنيا في بلده ، والضيف بشرط إباحة سفرهما » وعن حاشية ثاني الشهيدين عليه أيضا أي يلحق بابن السبيل في جواز ضيافته من الزكاة مع حاجته إليها وإن كان غنيا في بلده ، وفيه أن العبارتين ظاهرتان في الدخول في ابن السبيل ، خصوصا عبارة الإرشاد ، مع أنه لا وجه للإلحاق ولا دليل معتد به عليه ، سيما مع ظهور الآية والرواية ومعاقد الإجماعات في خلافه ، على أنه بعد أن اشترط فيه السفر والحاجة للضيافة لا ينبغي التأمل في دخوله فيه ، بل في المنقطع به.

وبالجملة دعوى لحوق الضيف بابن السبيل في الحكم كدعوى كونه فردا منه مقابلا للمنقطع به لا دليل عليهما ، إذ الرواية مع إرسالها وعدم انجبارها لم نقف على متنها في شي‌ء من الأصول ، فلا تصلح لإثبات ذلك ، خصوصا مع منافاتها على هذا التقدير لظاهر الآية والرواية ومعاقد الإجماعات ، فيجب الاقتصار حينئذ في ابن السبيل على ما ذكرنا ، ويدخل فيه الضيف الذي هو مسافر ومحتاج للضيافة ، ضرورة كونه حينئذ أحد أفراد المنقطع به ، ومن الغريب ما يحكى عن بعض الحواشي من عدم اشتراط الغربة فيه ولا الحاجة ، واحتمال أن مستنده إطلاق الرواية غير مجد ، مع أن الذي عثرنا عليه من حكايتها الإطلاق الذي هو غير كاف في المعارضة لمفهوم ابن السبيل ، وما وقع تفسيرا في غيرها ومقام استحقاق الزكاة المشعر بالحاجة وغير ذلك ، وعلى كل حال فالنية عند شروعه في الأكل بالوضع في الفم أو المضغ أو البلع ، وإن لم يعلم مقدار ما سيأكله‌

٣٧٥

وقد يحتمل عند البذل كما في الفقير ، إلا أن الأول أظهر ، لعدم التمليك هنا بل ولا بذل وإنما فيه تقديم للأكل ، ولذا لا يملك إلا ما يأكله ، وله أن ينوي ما أكله زكاة بعد الأكل ، ولا يقدح كونه مجهولا عند المحتسب والناوي ، لعدم منافاة ذلك لمعلومية أقل ما يحتمل أكله ، على أنه إن كان قد عزل الحنطة للزكاة وقد بقي من الخبز شي‌ء أعطاه مستحقا آخر إن أمكن ، وإلا اقتصر في الاحتساب على ما ذكرناه ، كما هو واضح.

وكيف كان فـ ( لا بد أن يكون سفرهما مباحا ، فلو كان معصية لم يعط ) بلا خلاف كما اعترف به بعضهم ، بل نفاه في المدارك بين العلماء ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، ورواية العالم عليه‌السلام (١) دالة عليه ، مضافا إلى ما في إعطائه من الإعانة على الإثم والعدوان ، بل الرواية المزبورة دالة على اعتبار كون السفر طاعة كالمحكي عن ابن الجنيد ، إلا أنها لقصور سندها وعدم مقاومتها لإطلاق الكتاب المعتضد بفتاوى الأصحاب ينبغي حمل الطاعة فيها على ما لا معصية فيه ، واليه أومأ في المختلف في الجواب عنها بأن الطاعة تصدق على المباح ، بمعنى أن فاعله معتقد لكونه مباحا مطيع في اعتقاده وإيقاع الفعل على وجهه ، لا أن المراد صدقها حقيقة ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فـ ( يدفع اليه ) من الزكاة قدر الكفاية اللائقة بحاله من المأكول والملبوس والمركوب أو ثمنها أو الأجرة إلى أن يصل إلى بلده بعد قضاء الوطر من سفره ، أو يصل إلى محل يمكنه الاعتياض فيه ولو فضل منه شي‌ء ولو بالتضييق على نفسه أعاده وفاقا للأكثر بل المشهور ، تقديرا للضرورة بقدرها ، ولتشخيص المالك له في المصرف الخاص كما هو المفروض ، وقد عرفت أن قصده مشخص للمصارف ولو لم نقل بوجوب البسط وقيل والقائل الشيخ في الخلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣٧٦

لا يعيد ، ولا ريب في ضعفه كما سمعته في الغارم والرقاب ، هذا. وفي المسالك « لا فرق أي في وجوب الرد بين النقدين والدابة والمتاع » وكأنه أشار إلى ما عن نهاية الفاضل من إنه لا يسترد منه الدابة ، لأنه ملكها بالإعطاء ، بل عن بعض الحواشي إلحاق الثياب والآلات بها ، ولعل ذلك لأن المزكي يملك المستحق عين ما دفعه اليه ، والمنافع تابعة ، والواجب على المستحق رد ما زاد من العين على الحاجة ، ولا زيادة في هذه الأشياء إلا في المنافع ، ولا أثر لها مع ملكية تمام العين ، اللهم إلا أن يلتزم انفساخ ملكه عن العين بمجرد الاستغناء ، لأن ملكه متزلزل ، فهو كالزيادة التي تجدد الاستغناء عنها.

ثم إن الإعادة كما في الروضة للمالك أو وكيله ، فان تعذر فالى الحاكم ، فان تعذر صرفه بنفسه إلى مستحق الزكاة ناويا به عن المالك ، وفيه أولا أنه لا وجه للزوم هذا الترتيب بعد فرض تعين المال زكاة بالدفع والقبض ، فيجزيه ، بل يتعين عليه الدفع للحاكم من أول الأمر ، اللهم إلا أن يقال ببقاء ولاية المالك عليه ، فينبغي اعتبارها مع التمكن منها ، ولو قيل بعدم صيرورته زكاة بذلك بل يعود إلى ملك المالك أشكل بعدم جواز دفع المستحق بل والحاكم الزكاة عنه من دون إذنه مع عدم امتناعه ، وبالجملة لا يخلو الترتيب المزبور من إشكال ، على أنه ينبغي تقييد الأخير بدفعه زكاة في هذا المصرف الخاص ، لأنه هو الذي حصل فيه إذن المالك ، والله أعلم.

( القسم الثاني )

( في أوصاف المستحقين ) للزكاة‌

الوصف الأول الإيمان بالمعنى الأخص فلا يعطى الكافر بجميع أقسامه في غير التأليف وسبيل الله بلا خلاف معتد به بين المسلمين فضلا عن المؤمنين ، بل‌

٣٧٧

الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منه متواتر ، بل يمكن دعوى كونه من ضروريات المذهب أو الدين وكذا لا يعطى عندنا معتقدا لغير الحق من سائر فرق المسلمين بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منه متواتر كالنصوص خصوصا في المخالفين ، قال إسماعيل بن سعد الأشعري (١) : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الزكاة هل توضع فيمن لا يعرف؟ قال : لا ولا زكاة الفطرة » وقال ضريس (٢) : « سأل المدائني أبا جعفر عليه‌السلام أن لنا زكاة نخرجها من أموالنا فيمن نضعها؟ فقال : في أهل ولايتك ، فقال : إني في بلاد ليس فيها أحد من أوليائك فقال : ابعث بها إلى بلدهم تدفع إليهم ، ولا تدفعها إلى قوم إن دعوتهم إلى أمرك لم يجيبوك ، وكان والله الذبح » وقال ابن بلال (٣) : « كتبت إليه أسأله هل يجوز أن أدفع زكاة المال والصدقة إلى محتاج غير أصحابي؟ فكتب لا تعطي الصدقة والزكاة إلا لأصحابك » وقال عمر بن يزيد (٤) : « سألته عن الصدقة على النصاب وعلى الزيدية فقال : لا تتصدق عليهم بشي‌ء ، ولا تسقهم من الماء إن استطعت ، وقال : الزيدية هم النصاب » وقال ابن أبي يعفور (٥) لأبي عبد الله عليه‌السلام : « جعلت فداك ما تقول في الزكاة لمن هي؟ فقال : هي لأصحابك ، قال : قلت : فان فضل عنهم قال : فأعد عليهم ، قال : قلت : فان فضل عنهم قال : فأعد عليهم ، قال : قلت : فان فضل عنهم قال : فأعد عليهم ، قلت : فيعطى السؤال منها شيئا فقال : لا والله إلا التراب إلا أن ترحمه ، فان رحمته فأعطه كسرة ، ثم أومأ بيده فوضع إبهامه على أصول أصابعه » وفي المقنعة عن‌ زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد كلهم (٦) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام « أنهما قالا : موضع الزكاة أهل الولاية » ورواه الشيخ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٢.

٣٧٨

في الصحيح (١) بما يقرب من هذا الاسناد عنهما أيضا كذلك ، قال : « قالا : الزكاة لأهل الولاية قد بين الله لكم موضعها في كتابه » بل في‌ المروي (٢) عن قرب الاسناد عن علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى عليه‌السلام « عن الزكاة هل هي لأهل الولاية؟ فقال : قد بين الله لكم ذلك في طائفة من الكتاب » ولعل المراد الإشارة إلى آية النهي (٣) عن موادة من حاد الله وما شابهها ، فيكون الكتاب دالا على المطلوب مضافا إلى السنة ، إلى غير ذلك من النصوص المروية في الكتب الأربعة وغيرها التي لا يسع المقام استقصاؤها ، بل هي أكثر من أن تستقصي ، خصوصا مع ملاحظة ما دل (٤) على إعادة المستبصر زكاته ، وجملة منها بإطلاقها أو عمومها تدل على المنع بالنسبة إلى باقي الفرق المخالفة وإن عدوا من الشيعة.

مضافا إلى ما ورد فيهم من النصوص بالخصوص ، كخبر يونس بن يعقوب (٥) « قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أعطي هؤلاء الذين يزعمون أن أباك حي من الزكاة شيئا قال : لا تعطهم ، فإنهم كفار مشركون زنادقة » ومرسل ضريس (٦) عن الطيب يعني علي بن محمد وعن أبي جعفر عليهما‌السلام « أنهما قالا : من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ولا تصلوا وراءه » وغيرهما.

ولا يخفى عليك ظهور النصوص في شرطية الايمان لا أن عدمه مانع ، فمجهول الحال لا يعطي إلا أن يكون هناك طريق شرعي لإثبات إيمانه بدعواه أو كونه في سبيل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٥.

(٣) سورة المجادلة ـ الآية ٢٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ وهو مرسل الحسن بن العباس بن جريش الرازي.

٣٧٩

أهل الايمان ، قال الأستاذ في كشفه : « ويكفي في ثبوت وصف الإيمان ادعاؤه وكونه مندرجا في سلك أهله ، أو ساكنا أو داخلا في أرضهم ما لم يعلم خلافه » بعد أن حكم بأن الجاهل المطلق القاصر عقله عن الإدراك أو البعيد بحيث لا يمكنه الوصول والسؤال والمتربي بين كفار ونحوهم بحيث لا يمكنه الخروج للاستعلام أو كان مشغولا بالنظر يقبل عذره لو اعتذر ليسوا من العصاة ، ولا يعطون من الزكاة ، وهو جيد.

ثم إن الظاهر استثناء المؤلفة لما عرفت وسهم سبيل الله من هذا الشرط ، أما غيرهم فعلى مقتضى إطلاق ما دل على المنع ، ودعوى كونه شرطا فيهم أيضا واضحة الفساد على ما سمعت البحث فيه مفصلا ، كوضوح فساد اعتباره في سهم سبيل الله بعد ظهور دليله في عدم اعتبار ذلك فيه ، بل هو موضوع آخر لا يوصف بالايمان ، وظاهر ما دل على اعتبار الإيمان إنما هو في المستحقين بالذات لا ما كان مصرفه الجهات وإن رجعت إلى الذات في بعض الأوقات ، كإعطاء أهل الخلاف لدفع شرهم عن المؤمنين ونحو ذلك مما هو في الحقيقة دفع للمؤمنين باعتبار وصول النفع إليهم ، مع أن أدلة اعتبار الايمان ظاهرة في كون ذلك شرطا في الاستحقاق الشرعي ، والدفع لهؤلاء في نحو الفرض ليس لاستحقاقهم ذلك ، وبالجملة لا يخفى على من له أدنى درية عدم صلاحية أدلة سبيل الله للتقييد بما هنا ، نعم ظاهر الأدلة هنا أن غير المؤمن ليس من سبيل الله تعالى ، فلا يدفع اليه لذاته من الزكاة ، أما الدفع إليه لمصلحة أخرى فلا بأس به ، ضرورة كونه كالدفع لتحصيل مصالح المؤمن أو دفع المضار عنه ، ولعله إلى ما ذكرنا يرجع استثناء بعضهم المؤلفة والغزاة من اشتراط الايمان ، لما عرفت من أن الدفع للغزاة من سهم السبيل أما استثناء العاملين خاصة مع المؤلفة كما وقع من ابن زهرة فلا وجه له ، لما عرفت وتعرف أن العاملين يعتبر فيهم العدالة فضلا عن الايمان ، ولعله لحظ أن الدفع إليهم من قسم الأجرة التي لا تفاوت فيها بين المؤمن وغيره ، لكن لا يخفى عليك ما فيه‌

٣٨٠