جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

قال : ثم قال : هم أكثر من ثلثي الناس » لأن الظاهر كون المراد من الأولين أن ضعفاء الدين المحتاجين للتأليف لأجل البقاء عليه ورسوخه في قلوبهم ليسوا مخصوصين بوقته ، بل هم أكثر كثير في هذه الأوقات ، ولعل ذلك باعتبار عدم الإقرار بإمامتهم عليهم‌السلام والاعتقاد بها التي هي أعظم ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان الشكاك في إمامتهم وهم القسم الثالث المتوسط بين النصاب والمؤمنين ويعبر عنهم في الأخبار (١) تارة بالشكاك وتارة بأهل الضلال وتارة بالمستضعفين أكثر الناس في زمانهم ، كما دلت عليه الأخبار المتضمنة لكون حكمهم في الدنيا حكم أهل الإسلام وفي الآخرة من المرجين لأمر الله.

والتحقيق بعد التأمل التام في كلمات الأصحاب والأخبار المزبورة ومعقد الإجماع ونفي الخلاف أن ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) عام للكافرين الذين يراد ألفتهم للجهاد أو الإسلام ، والمسلمين الضعفاء ( الضعيفي خ ل ) العقائد ، لا أنهم خاصون بأحد القسمين ، وإن أطنب في الحدائق في الإنكار على من أدرج الكافرين عملا بظاهر النصوص المزبورة ، لكن فيه مضافا إلى منافاته لإطلاق الآية طرح لمعقد الإجماع ونفي الخلاف ، بل ربما ادعي ظهور بعض النصوص السابقة في غير المسلم ، وفي حاشية الإرشاد لولد الكركي المروي أنهم قوم كفار ، على أنه قد‌ أرسل في دعائم الإسلام (٢) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام « أنه قال في قول الله عز وجل ( وَالْمُؤَلَّفَةِ ) قوم يتألفون على الإسلام من رؤساء القبائل ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطيهم ليتألفهم ، ويكون ذلك في كل زمان إذا احتاج إلى ذلك الامام فعله » وفي‌ الصحيح أو الحسن عن زرارة ومحمد (٣) أنهما قالا‌

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٣٩٩ إلى ٤٠٦ الطبع الحديث.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١١ عن أبي جعفر محمد بن على عليهما‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٤١

لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أرأيت قول الله تعالى (١) ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ) ـ إلى آخره ـ لكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف ، فقال : إن الامام يعطي هؤلاء جميعا ، لأنهم يقرون له بالطاعة ، قال زرارة : قلت : فان كانوا لا يعرفون فقال : يا زرارة لو كان يعطي من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع ، وإنما يعطي من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه ، فأما اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلا من يعرف ، فمن وجدت من هؤلاء المسلمين عارفا فأعطه دون الناس ، ثم قال : سهم المؤلفة وسهم الرقاب عام ، والباقي خاص ». فان الظاهر أن مراده بالعموم ما ذكرنا ، بل قد يستفاد منه عموم التأليف لضعف الايمان بالمعنى الأخص ، كما أنه يستفاد من بعض النصوص السابقة كمرسل الدعائم وبعض الفتاوى أن المراد بمؤلفة الكتاب من كان له ميل إلى الإسلام أو إلى الجهاد مع المسلمين ، فإنه يعطى لتحصيل كمال الألفة والدخول في الإسلام ، بل لعل ذلك هو ظاهر الآية باعتبار الوصف وكونهم كالعاملين بالنسبة إلى ذلك ، وأما الإعطاء للكفار الذين لم يظهر منهم ميل لاحتمال حصول الألفة فلا يخلو من إشكال ، فتأمل.

وعلى كل حال فما عن الشافعي ـ من أن مؤلفة الإسلام أربعة أقسام : قوم لهم نظراء فإذا أعطوا رغب نظائرهم ، وقوم في نياتهم ضعف فيعطون لتقوى نياتهم ، وقوم بأطراف بلاد الإسلام أولوا قوة وطاقة بمن يليهم من الكفار إذا أعطوا منعوا الكفار من الدخول والهجوم على المسلمين ، وإن لم يعطوا لم يفعلوا واحتاج الإمام إلى تجهيز الجيوش لمقاتلتهم ، وقوم جاوروا قوما يجب عليهم الزكاة إذا أعطوا منها جبوها للإمام ولم يحوجوه إلى عامل ، وإن لم يعطوا لم يفعلوا ، واستحسنه بعض أصحابنا ، بل تبعه عليه آخر ـ لا يخلو من إشكال إن أراد الإعطاء من سهم المؤلفة ، ضرورة عدم كون‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٦٠.

٣٤٢

الأولين منهم قطعا ، بل والأخيرين ، بل والثالث ما لم يكن ذلك لضعف في أيمانهم ، بل لا بأس بإعطاء الجميع من غير هذا السهم بعد إحراز ما يعتبر فيه ، ومن هنا قال بعضهم بعد ذكره الأقسام : « إنه يمكن إعطاء ما عدا الأخير من سهم سبيل الله ، والأخير من سهم العمالة » وقد ظهر لك التحقيق ، فلا حاجة إلى تطويل الكلام ، وبه يظهر لك ما في جملة من كلمات الأصحاب ، وكيف كان فالظاهر بقاؤه ، وفي التذكرة نسبته إلى علمائنا لإطلاق الأدلة ، وعدم الجهاد في هذا الزمان لا يقدح في بقائه مع أنه قد يحتاج إليه أيضا ، وقد عرفت عدم انحصار التأليف فيه ، فما في النهاية والوسيلة وعن الصدوق ـ من السقوط ، واختاره شيخنا في كشفه ، والثبوت لمن انبسطت يده من الأئمة عليهم‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ضعيف ، وكأن الأستاذ بناه على مختاره من أن المؤلفة قسم من الكفار وحدوا الله ولم يقروا بالنبوة ويجاهدون مع المسلمين ، ثم قال : « والظاهر أنها حرام عليهم وإن وجب إعطاؤها لهم » وهو لا يخلو من وجه وإن كان للنظر فيه مجال ، وقال أيضا : « والشرط في إعطاء هذا السهم رجاء التأثير في المعطى له ، وعدم لزوم الخلل من جهة حسد قوم آخرين فينتقض الغرض ، وفي هذا القسم يجب البسط مع توقف الغرض عليه ، ولو دخلوا في الإسلام وحصل الاطمئنان فلا شي‌ء لهم ، ومع بقاء الخوف منهم بالرجوع إلى ما كانوا عليه يبقى السهم لهم ، والظاهر أن هذا السهم مداره على حصول التأليف ، فإن كانوا متعددين لا يألفون إلا بتمامه سلم السهم تاما ، وإن كانوا قليلين يحصل تأليفهم ببعضه أعطوا بعضه ، ولو حصل تأليفهم بلين الكلام وحسن السيرة اقتصر على هذا الحال ولم يبذل المال » ولا يخفى عليك محل النظر من ذلك وغيره بأدنى تأمل ، والله أعلم.

والسهم الرابع أو الخامس ( فِي الرِّقابِ ) وعدل عن اللام إلى « في » تبعا للآية ، ولعل الوجه فيه ما قيل من أن الأصناف الأول يصرف إليهم المال فيتصرفون‌

٣٤٣

فيه كيف شاءوا بخلاف الأربعة الأخيرة ، فإن المال يصرف في جهات حاجاتهم التي لأجلها استحقوا الزكاة ، فيخلص به الرقاب من الأسر والرق ، ويقضى به الدين ، وكذا في سبيل الله وابن السبيل ، وفي الكشاف « إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن « في » للوعاء ، فنبه به على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنا لها ومصبا ـ إلى أن قال ـ : وتكرير « في » في قوله تعالى ( وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين ».

وعلى كل حال فهم عند المصنف وكثير ثلاثة المكاتبون والعبيد الذين تحت الشدة والعبد يشترى ويعتق وإن لم يكن في شدة لكن بشرط عدم المستحق بل لا خلاف أجده في الأول بيننا وبين العامة ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل في‌ المرسل (١) المروي في الفقيه والتهذيب عن الصادق عليه‌السلام « أنه سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدي بعضها قال : يؤدي عنه من مال الصدقة ، إن الله تعالى يقول في كتابه ( وَفِي الرِّقابِ ) » والتعليل ظاهر في عدم تقييد الحكم بما وقع في السؤال من تأدية البعض ، ولذا أطلق الأصحاب الحكم في المكاتب من غير فرق بين ذلك وعدمه ، بل ولا بين مطلقه ومشروطه ، وأما الثاني فالعمدة في إدراجه في هذا القسم الإجماع المحكي صريحا وظاهرا مستفيضا المعتضد بالتتبع ، وإلا‌ فالصحيح (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل تجتمع عنده الزكاة يشتري بها نسمة يعتقها فقال : إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم ، ثم مكث مليا ثم قال : إلا أن يكون عبدا مسلما في ضرورة فيشتريه فيعتقه » لا دلالة فيه على كونه من هذا السهم ، لاحتمال كونه من سهم سبيل الله بناء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٤٤

على عمومه لذلك ، اللهم إلا أن يقال ولو بمعونة الإجماع المزبور : إن مقتضى الاستثناء الظاهر في خروجه بذلك عن ظلم القوم كونه من سهم الرقاب حتى على القول بالمصرف لا البسط ، فان المراد حينئذ عليه بيان أنهم إذا لم يكونوا في شدة لم يكونوا من موضوع الرقاب الذي جعله الله من المصارف ، فليس حينئذ إلا كونه من سبيل الله ، والكلام في ترجيحه على صلة الفقراء الجامعين للوصفين أيضا إن قلنا بكون السبيل أعم من الجهاد ومن المصالح العامة ، فهو حينئذ ظلم لقوم آخرين ، لعدم حاجة العبيد اليه ، أما مع الحاجة فيندرجون في موضوع الرقاب ، وقد جعله الله مصرفا ، فتأمل جيدا ، والأمر سهل بعد الاتفاق عليه عندنا.

والمرجع في الشدة والضرورة إلى العرف ، لعدم التقدير لها شرعا ، وإن كان ربما قيل : أقلها أن يمنعوا من الصلاة أول الوقت ، فيشترون منها ويعتقون بعد الشراء ولا يجزي الشراء بلا عتق ، وربما يوجد في بعض الحواشي أنه إن نوى العتق حين الشراء حصل العتق ، وإلا احتيج إلى الإعتاق ، بل في زبدة البيان احتمال العتق بمجرد الشراء ، وفيه مضافا إلى ظهور الصحيح السابق أو صراحته أن للعتق صيغة وأسبابا ، والشراء من الزكاة ليس سببا ، وكان وجهه ظهور الآية في حصول الفك بمجرد دفع الصدقة من غير حاجة إلى سبب آخر ، لكن يدفع ذلك أنه يقتضي كون المراد بالرقاب المكاتبين لا الأعم المقتضي لحصول العتق في غيرهم بلا صيغة ، وربما يؤيد ذلك أن الأصحاب ألحقوا هذا القسم بالرقاب إلحاقا ، ولعله لأدلة خاصة أفتوا بمضمونها ، أو ظهر لهم أن المراد بالرقاب في الآية الأعم مما يحصل به الفك بلا واسطة.

وعلى كل حال ففي الروضة « أن نية الزكاة مقارنة لدفع الثمن للبائع أو للعتق » وفي المسالك وعن حواشي النافع « أنها مقارنة للعتق » ولعل الثاني لا يخلو من قوة ، لأن دفع الثمن خصوصا إذا كان بعد إجراء الصيغة لكونه مقتضى البيع ، ومن هنا ينتقل‌

٣٤٥

العبد إلى أهل الصدقة ، ولذا كان ولاؤه لهم ، كما صرح به غير واحد من الأصحاب في القسم الثالث ، بل ربما نسب إليهم ، ودل عليه خبر أبي محمد الوابشي (١) الآتي ، فيكون إيصاله إلى الفقراء بعتقه عنهم ، وكان وجه التخيير بينه وبين دفع الثمن أنه يحصل الامتثال بكل منهما أما بالعتق فلما عرفت ، وأما بالدفع فلأنه به يحصل دفع الزكاة أيضا باعتبار الشراء لأهل الصدقة ، هذا ولكن قد يفرق بين هذا القسم والقسم الثالث في حكم الولاء ، فيجعل الولاء في الثالث للفقراء ، دون ما نحن فيه باعتبار كونه من الرقاب بلا خلاف ، فهو من مصارف الزكاة للفقراء ، بخلاف العبد في غير الشدة فإنه ليس من المصارف ، خصوصا بعد استغنائه عن العتق ، لعدم كونه في شدة ، فهو إن اشتري يكون بمال الفقراء ، ولهذا ورد كون ولائه لهم ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وأما القسم الثالث ففي المعتبر أن عليه فقهاء الأصحاب ، ويدل عليه‌ الموثق (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك اليه ، فنظر إلى مملوك يباع فاشتراه بتلك الألف درهم التي أخرجها من زكاته فأعتقه هل يجوز ذلك؟ قال : نعم لا بأس بذلك » لكن فيه أولا أنه لا دلالة فيه على كونه من سهم الرقاب ، بل ظاهره أو صريحه خلاف ذلك ، لكون المفروض الشراء بتمام الزكاة ، وثانيا أن التقييد فيه بعدم المستحق إنما هو في السؤال ، فلا يقتضي تقييد إطلاق الآية بناء على شمولها ولا إطلاق‌ خبر أيوب بن الحر (٣) المروي عن كتاب العلل ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه في يد من يزيد أشتريه من الزكاة وأعتقه قال : فقال : اشتره وأعتقه ، قلت : فان هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣ مع الاختلاف في اللفظ.

٣٤٦

مات وترك مالا قال : فقال : ميراثه لأهل الزكاة ، لأنه اشتري بسهمهم » وفي حديث آخر « بمالهم » وخبر أبي محمد الوابشي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله بعض أصحابنا « عن رجل اشترى أباه من الزكاة زكاة ماله قال : اشترى خير رقبة لا بأس بذلك » ولعله لذا كان ظاهر الانتصار والمراسم والسرائر والقواعد وحواشيها والإرشاد وصريح الإيضاح والكنز والمسالك على ما حكي عن بعضها جواز العتق من سهم الرقاب مع وجود المستحق ، وهو وإن كان جيدا من حيث الإطلاق لكن قد عرفت عدم الدليل على كونه من سهم الرقاب مع عدم المستحق فضلا عنه مع وجوده ، بل ظاهر اقتصار جماعة من الأصحاب أو الأكثر على ما تعرف على الأولين عدمه ، بل صرح في الروضة بكونه من سهم سبيل الله مع وجود المستحق ، ولكن الأمر سهل بعد عدم وجوب البسط ، وأن الأصناف مصارف كما تعرف ذلك في محله إن شاء الله.

فان قيل : كفى بالنصوص السابقة دليلا على كونه من سهم الرقاب ، لأنه المنساق من مثل ذلك ، ضرورة عدم إرادة بيان الجواز من حيث كونه قربة من القرب ، بناء على أن ذلك معنى سبيل الله ، مضافا إلى‌ مرسل الدعائم (٢) أنه قال في قوله : ( وَفِي الرِّقابِ ) : « إذا جازت الزكاة خمسمائة درهم اشتري منها العبد وأعتق » بل لعل‌ قوله عليه‌السلام : « اشترى خير رقبة » فيه إيماء إلى ذلك. قلنا : إن كانت هذه النصوص جميعها مساقة لذلك فالمتجه حينئذ الاقتصار على القسمين الأولين ، لأنهما حينئذ هما مقتضى الجمع بين الإطلاق والتقييد فيها ، فان ما عدا خبر الشدة مطلق يقيد به ، ولعله لذا اقتصر جماعة أو الأكثر أو المشهور عليهما.

قال الشيخ في النهاية : ( وَفِي الرِّقابِ ) وهم المكاتبون والمماليك الذين يكونون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٤٧

تحت الشدة العظيمة ، فيبتاعون من الزكاة ويعتقون ، وقد روي أن من وجبت عليه كفارة عتق رقبة في ظهار أو قتل خطأ أو غير ذلك ولا يكون عنده يشترى عنه ويعتق وقال في الجمل : « وهم المكاتبون والعبيد إذا كانوا في شدة » وقال في الانتصار : « وهم المكاتبون ، وعندنا يدخل فيهم المملوك الذي يكون في شدة يشترى من مال الزكاة يشتري ويعتق ويكون ولاؤه لأرباب الزكاة ، لأنه اشتري بمالهم » وفي المبسوط « وأما سهم الرقاب فإنه يدخل فيه المكاتبون بلا خلاف ، وعندنا أنه يدخل فيه العبيد إذا كانوا في شدة ، فيشترون ويعتقون عن أهل الصدقات ، ويكون ولاؤهم لأرباب الصدقات ، ولم يجز ذلك أحد من الفقهاء ، وروى أصحابنا أن من وجب عليه عتق رقبة في كفارة ولا يقدر على ذلك جاز أن يعتق عنه ، والأحوط عندي أنه يعطى ثمن الرقبة لكونه فقيرا فيشتري ويعتق هو عن نفسه » وفي المختلف قد اختار ما في المبسوط ، وعن ابن الجنيد « وأما الرقاب فهم المكاتبون ومن يفدى من أسر العدو الذي لا يقدر على فدية نفسه والمملوك المؤمن إذا كان في يد من يؤذيه » وفي الغنية « وأما الرقاب فهم المكاتبون بلا خلاف أيضا ، ويجوز عندنا أن يشترى من مال الزكاة كل عبد هو في ضر وشدة ويعتق بدليل الإجماع المشار اليه ، وأيضا فظاهر الآية يقتضيه » وقال في الوسيلة : « ( وَفِي الرِّقابِ ) العبيد المضيق عليهم عند ساداتهم ، فان اشتروا وأعتقوا عن أهل الصدقة أو عن من وجب عليه عتق رقبة ولم يجد أجزأ من الزكاة ، وكذلك المكاتب إذا عجز عن أداء مال الكتابة أعين بمال الصدقة على فك رقبته » وفي إشارة السبق « وهم المكاتبون ومن في حكمهم من كل عبد مضرور بالعبودية » وقال في المعتبر : « سهم الرقاب ويدخل فيه المكاتبون والعبيد إذا كانوا في ضر وشدة » وحكى عن أبي حنيفة والشافعي الاختصاص بالمكاتبين ودليلهم وبطلانه ، ثم قال : « ولو لم يوجد مستحق حاز شراء العبد من الزكاة وعتقه وإن لم يكن في ضر ، وعليه فقهاء الأصحاب روى‌

٣٤٨

ذلك عبيد بن زرارة (١) » إلى آخره ولعله لا يريد من سهم الرقاب ، بل لعل كلامه الأول يومي إلى خلافه ، وأظهر منه في ذلك التحرير فإنه قال : « المراد بالرقاب المكاتبون والعبد إذا كان في ضر وشدة يشترون ابتداء ويعتقون » ثم قال بعد ذلك : « المبحث الثالث لو لم يوجد مستحق جاز أن يشترى العبد من مال الزكاة ويعتق وإن لم يكن في شدة » وأظهر منهما التذكرة فإنه قال : « والرقاب من جملة الأصناف المعدودة في القرآن وأجمع المسلمون عليه ، واختلفوا في المراد فالمشهور عند علمائنا أن المراد به صنفان : المكاتبون يعطون من الصدقة ليدفعوه في كتابتهم ، والعبيد تحت الشدة يشترون ويعتقون لقوله تعالى ( وَفِي الرِّقابِ ) وهو شامل لهما ، فان المراد إزالة رقيته ، وشرطنا في الثاني الضر والشدة ، لما روي عن الصادق عليه‌السلام ـ إلى أن قال ـ : وروى علماؤنا ثالثا ، وهو من وجب عليه كفارة عتق في ظهار وشبهه ولم يجد ما يعتق جاز أن يعطى من الزكاة ما يشتري به رقبة ويعتقها في كفارته ، لرواية علي بن إبراهيم (٢) ـ إلى أن قال ـ : ولو لم يوجد مستحق جاز شراء العبد من الزكاة وعتقه وإن لم يكن في ضر وشدة ، وعليه فقهاؤنا لقول الصادق عليه‌السلام » إلى آخره ، بل وكذا كنز العرفان فإنه قال : « الخامس الرقاب ، وهم المكاتبون ، وأضاف أصحابنا العبد المؤمن يكون في الشدة يشترى ويعتق ، وبه قال ابن عباس والحسن ومالك وأحمد ، وكذا جوز أصحابنا مع عدم المستحق شراء العبد من الزكاة وعتقه » وفي آيات الأحكام للجواد « الأكثر على اشتراط الضر والشدة » وفي الدروس « هم المكاتبون والعبيد في الشدة ، وفي جواز شراء العبد منها بغير شدة أو ليكفر به في المرتبة أو المخيرة خلاف » وفي البيان « الرقاب وهم المكاتبون والعبيد في شدة ، وروى علي بن إبراهيم في تفسيرها جواز التكفير للعاجز‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣٤٩

وربما حمل على الغارمين ، وروى عبيد بن زرارة شراء العبد مطلقا من الزكاة عند عدم المستحق » وفي اللمعة « وهم المكاتبون والعبيد في الشدة » إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا ريب في تحقق الشهرة بملاحظتها على اختصاص الرقاب بالقسمين.

فمع فرض كون الروايات مساقة لبيان ذلك كان المتجه الجمع بين مطلقها ومقيدها وهو يقتضي الانحصار فيهما ، وحينئذ فمبني الجواز في الفرض عموم سبيل الله لذلك وعدمه وستعرف الحال فيه ، وإن كان المراد منها أصل الجواز وإن لم يكن من سهم الرقاب فلا تعارض بينها وبين خبر الشدة الذي لا إشكال في إرادة كونه من سهم الرقاب على ما أفتى به الأصحاب ، ويكون المتجه حينئذ جواز العتق مطلقا ، لما عرفت من كون القيد في السؤال ، فلا يقتضي التقييد للإطلاق الذي عرفت ، وظاهر الإجماع المحكي في المعتبر والتذكرة والمنتهى على الجواز مع عدم المستحق أعم من الاشتراط ، فلا يعارض الإطلاق المزبور ، اللهم إلا أن يقال : إن التقييد بعدم المستحق مستفاد مما في الصحيح المزبور ، ضرورة ظهوره في كون الظلم باعتبار وجود المستحق ولو لأصالة كون الزكاة للفقراء وإن صرفت في ( الرِّقابِ ) ، ولذا كان الولاء لهم في موضوع الرقاب أي العبيد تحت الشدة ، وحينئذ فمع فرض عدم المستحق لا ظلم ، وعليه يكون المقيد بالشدة العتق مع وجود المستحق ، أما إذا لم يوجد فهو على إطلاقه ، لعدم المعارض ، فيكون الرقاب حينئذ ثلاثة ، وإطلاق خبر العلل (١) مقيد بما في الصحيح (٢) بل ربما كان فيه إيماء إلى الشدة حيث أنه فرض فيه كون العبد عارفا وفي يد من يزيد ، فيحتمل شراء المخالف له ، بل لعل مولاه كان كذلك ، لغلبتهم في ذلك الزمان ، بل تعريضه بيد الدلال في السوق المشتمل على اليهودي والمخالف وغيرهما أشد شي‌ء عليه ، والمراد من المرسل السؤال عن شراء الأب وأنه من الرقاب أو لا ، فلا إطلاق فيه حينئذ يدل على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٥٠

المطلوب ، لكن مع ذلك كله قد اختار في المدارك جواز الإعتاق مطلقا وأنه من سهم الرقاب بعد أن حكاه عن الفاضل ، قال : وقواه ولده في الشرح ، ونقله عن المفيد وابن إدريس تمسكا بالخبرين السابقين ، ثم حكى عن جده أن اشتراط الضرورة وعدم المستحق إنما هو في الإعتاق من سهم الرقاب ، فلو أعتق من سهم سبيل الله لم يتوقف على ذلك ، وقال : هو غير جيد ، لعدم استفادته من النص ، بل ظهوره في خلافه ، إذ المتبادر من الرواية الأولى يعني رواية الظلم كون الشراء وقع بجميع الزكاة ، والأولى حملها على الكراهة ، أما الثانية فلا دلالة فيها على اعتبار هذا الشرط أعني عدم المستحق ، لأن ذلك إنما وقع في كلام السائل ، وليس في الجواب دلالة على اختصاص الحكم بالمسؤول عنه ، كما هو واضح ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا ، والغرض من هذا الاطناب بيان التحقيق أولا ، وثانيا بيان الخبط في كلام جملة من الناس حيث أنهم لم يحرروا كلام الأصحاب كسيِّد المدارك وغيره ، بل قد يظهر من الكاشاني في المفاتيح الجواز من سهم الرقاب مع عدم المستحق قولا واحدا ، فلاحظ وتأمل ، والله أعلم.

وكيف كان فقد روي قسم ثالث أو رابع من موضوع الرقاب وهو من وجبت عليه كفارة ولم يجد فإنه يعتق عنه رواه‌ علي بن إبراهيم (١) في كتاب التفسير عن العالم عليه‌السلام قال : « ( وَفِي الرِّقابِ ) قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الأيمان وفي قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما يكفرون به وهم مؤمنون ، فجعل الله لهم سهما في الصدقات ليكفر عنهم » وعليه يمكن أن يكون المراد بالرقاب من عليه الكفارة بمعنى تعلق الحق في رقبته أي ذمته ، بل في المدارك « أن مقتضاه جواز إخراج الكفارة من الزكاة وإن لم تكن عتقا ، لكنها غير واضحة الإسناد لأن علي بن إبراهيم أوردها مرسلة ، ومن ثم تردد المصنف في العمل بها ، وهو في محله » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣٥١

قلت : مضافا إلى ما قيل في وجه قول المصنف وفيه تردد من عدم الحاجة في الكفارة إلى العتق ، لأنها مخيرة أو مرتبة ، وعلى كل حال ينتقل إلى الفرد الآخر من الخصال ، لكن فيه أن الخبر المزبور لم يذكر فيه اعتبار الحاجة إلى خصوص العتق ، فمع فرض العمل به يتجه عدم اعتبار ذلك ، على أن من الكفارة كفارة الجمع ، نعم قد يتوقف في العمل بها وإن اشتهر روايتها بين الأصحاب إذا أريد الشراء من الزكاة والعتق عمن عليه الكفارة من غير احتساب عليه وتمليك الرقبة إياه ، لعدم الجابر لها ، ضرورة أن لا شهرة في العمل بها ، بل لعلها على العكس وإن استفاض نسبة مضمونها إلى الرواية في كلمات الأصحاب حتى أنه في التذكرة نسبه إلى رواية علمائنا ، لكن ليس ذلك عملا بها ، كما هو واضح.

هذا كله في صرف الزكاة في ذلك على الوجه المزبور ، أما دفعها اليه باعتبار أنه فقير كما سمعته من المبسوط أو من سهم الغارمين بناء على شمول الغرم لذلك كما صرح به المصنف في المعتبر فلا بأس به ، وليس عملا بالرواية ، بل يبعد تخريجها عليهما ، هذا ، وقد أطنب المحدث البحراني في الإنكار على عدم العمل بالخبر المزبور ، وانحصار المراد بفي الرقاب به وبالمكاتب ، وأن ما دل عليه باقي النصوص من جواز العتق مطلقا فهو شي‌ء خارج عن الأصناف الثمانية بدليل التعليل بالظلم ، وكون الولاء للفقراء ، ولو أنه كان من الرقاب لم يكن فيه ظلم ولا استحق الفقراء الولاء ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا ، ويمكن أن يكون مبنى الظلم والولاء على ما أشرنا إليه سابقا من أصالة كون الزكاة للفقراء كما أومأت اليه نصوص التشريك (١) بينهم وبين الأغنياء ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة والباب ٢ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

٣٥٢

ونصوص (١) حكمة مشروعية الزكاة لدفع الحاجة وسد الخلة وغيرهما ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( المكاتب إنما يعطى من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في كتابته ) بلا خلاف محقق أجده ، لأنه هو الذي دل عليه المرسل السابق ، وإطلاق الآية غير مساق إلا لبيان المصرف ، فلا وثوق بشموله للأفراد ، كما لا وثوق بإرادته من التعليل ، خصوصا بعد ملاحظة الفتاوى وما ورد من النصوص في مشروعية الزكاة وأنها لدفع الضرورة والحاجة ، وإشعار تقرير السائل على سؤاله بعدم ذكر الجواب عاما بذلك أيضا ، بل اعتبر الشهيد في البيان قصور كسبه عن مال الكتابة ، وهو لا يخلو من قوة لما عرفت ، مضافا إلى إطلاق عدم حلها للمحترف السوي ، بل قد عرفت اندراجه في الغني عندهم ، وإلى ما تسمعه من بعضهم في الغارمين ، لكن في المدارك أن مقتضى العبارة الجواز وإن كان قادرا على تحصيله بالتكسب ، وهو كذلك عملا بالإطلاق ، قلت : قد عرفت عدم الوثوق بالإطلاق المزبور ، وإلا لاقتضى الجواز مع المال أيضا ، وليس في المرسل منافاة باعتبار كون التقييد في السؤال ، وهو معلوم البطلان ، ومنه يعلم بناؤهم على التقييد به في خصوص المقام ، وهو يقتضي ما سمعته من الشهيد ، بل قد يتجه لذلك ما قيل من توقف الإعطاء على حلول النجم فلا يجوز قبله ، لانتفاء الحاجة في الحال ، فلا يصدق العجز وإن استضعفه في المدارك أيضا معللا له بالعموم المراد منه الإطلاق الذي قد عرفت حاله ، نعم لا بأس بالتمسك به في الآية والرواية بالنسبة إلى ما صرح به بعضهم من جواز الدفع إلى السيد بغير إذن المكاتب ، لإطلاق الأدلة الشامل لذلك وللدفع إلى المكاتب نفسه ، فان صرفه فيما عليه من مال الكتابة وتحرر فقد وقع موقعه إجماعا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

٣٥٣

ولو صرفه في غيره والحال هذه أي دفع اليه ولم يكن معه ما يصرفه في الكتابة ولكن لم يصرفه فيها بل صرفه في غيرها ولو لاستغنائه عنها بأن أبرأه السيد من مال الكتابة أو تطوع عليه متطوع فالوجه الاجزاء عن الزكاة للأمر ، لكن إذا تمكن من إرجاعه جاز له ارتجاعه بل وجب عليه ذلك حسبة ، لأنه مال الجهة الخاصة ، فلا يصرف في غيرها حتى لو قلنا بعدم وجوب البسط ، لكن لا ريب في أن للمالك الخيرة في صرف الزكاة في الأصناف ، فمع فرض كون الدفع لهذه الجهة الخاصة تعين لها فلم يكن المكاتب مالكا للمال ليتصرف فيه كيف شاء ، والمناقشة في اعتبار هذا القصد يدفعها ما تسمعه في الغارم وابن السبيل من الاستدلال على جواز الارتجاع منهما في مثل الفرض بأن كلا منهما إنما ملك المال ليصرفه في وجه مخصوص ، فلا يسوغ لهما صرفه في غيره ، وهو بعينه جار في المقام ، بل في المدارك لو لا ذلك لجاز إعطاء المكاتب والغارم وابن السبيل ما يزيد على قدر حاجتهم ، وهو باطل اتفاقا.

وحينئذ فقد ظهر لك من ذلك كله أن ما قيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه من أنه لا يرتجع منه لأنه ملكه بالقبض فكان له التصرف فيه كيف يشاء ضعيف لما عرفت من كون الملك على وجه مخصوص ، نعم لو دفعه المكاتب إلى السيد ثم عجز عن الأداء في المشروطة فاسترق ففي المدارك أنه قد قطع الشيخ وغيره هنا بعدم جواز ارتجاعه ، لأن المالك مأمور بالدفع إلى المكاتب ليدفعه إلى سيده وقد فعل ، والامتثال يقتضي الاجزاء ، مع أنه حكى في التذكرة وجها للشافعية بجواز ارتجاعه ، لأن القصد تحصيل العتق ، فإذا لم يحصل به وجب استرجاعه كما لو كان في يد المكاتب ، لكن رده في التذكرة بأن الفرق ظاهر ، لأن السيد ملك المدفوع بالدفع ، قلت : قد يمنع ملكه له على جهة الإطلاق ، اللهم إلا أن يدعى ظهور الأدلة في صرف هذا السهم فيما يتعلق بالرقاب وإن لم يترتب عليه الفك ، فتأمل جيدا.

٣٥٤

وعلى كل حال فهذا كله مع الدفع من سهم الرقاب ، أما لو دفع اليه من سهم الفقراء لم يرتجع قطعا وكان له التصرف فيه كيف يشاء ، لأن الفقير لا يحتكم عليه فيما يأخذه من الزكاة إجماعا ولو ادعى أنه كوتب فان علم صدقه أو أقام بينة فلا بحث ، وإلا فإن كذبه السيد لم يقبل قوله بدونهما للأصل ، وإن لم يعلم حال السيد من تصديق أو تكذيب إما لفقده أو لغير ذلك فـ ( قيل ) والقائل الأكثر كما في المدارك يقبل قوله وفي المتن قيل ولكن لم نعرف القائل منا لا يقبل إلا بالبينة أو يحلف ، والأول أشبه عند المصنف معللا له في المعتبر كالفاضل في التذكرة ومحكي المنتهى بأنه مسلم أخبر عن أمر ممكن فيقبل قوله كالفقير ، وبأصالة العدالة الثابتة للمسلم ، وهما معا كما ترى ، خصوصا بعد ما عرفت فيما تقدم في دعوى الفقر ، ومن هنا حكى في المدارك عن بعض العامة عدم القبول إلا بالبينة ، ثم قال : وظاهر العبارة تحقق القائل بذلك من الأصحاب ، ولا يخلو من قوة ، وهو كذلك ، نعم لا وجه لقيام الحلف مقامها كما هو ظاهر القيل في المتن وأما لو صدقه مولاه في دعواه قبل قوله بلا خلاف ، بل في المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب ، لأن الحق له ، فيقبل إقراره فيه ، لكن عن الشافعي أنه لا يقبل أيضا ، لجواز التواطؤ لأخذ الزكاة ، وعن الشيخ أن الأول أولى فيمن عرف أن له عبدا ، والثاني أحوط فيمن لم يعلم منه ذلك ، وهو حسن كما في المدارك ، أما عدم الجواز مطلقا بدونها كما سمعته من الشافعي فواضح الضعف ضرورة كون التواطؤ مجرد احتمال لا يقدح في إطلاق ما دل على حجية الإقرار الذي لم يعارضه إنكار ولا غيره في أمثال المقام كالإقرار بالتحرير وطلاق الزوجة ونحوهما ، نعم قد يتجه عدم قبول الإقرار فيما لو كذبه العبد ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

والخامس أو السادس الغارمون وهم لغة المدينون ، ولكن المراد بهم شرعا هنا الذين علتهم الديون في غير معصية بلا خلاف أجده فيه ، كما لا أجده‌

٣٥٥

في استحقاقهم في الجملة هذا السهم من الزكاة كما اعترف به في المعتبر على ما قيل ، بل الكتاب والسنة والإجماع بقسميه دالة على ذلك ، نعم صرح غير واحد باعتبار كونه غير متمكن من القضاء ، بل في محكي الخلاف والغنية وظاهر التذكرة الإجماع منا على اعتبار الفقر فيه ، بل عن المبسوط الإجماع من أهل العلم كافة على ذلك ، وهو المراد مما في المعتبر أن الغارم لا يعطى مع الغنى ، لكن في المدارك الظاهر أن المراد من الغنى انتفاء الحاجة إلى القضاء لا الغنى الذي هو ملك قوت السنة ، إذ لا وجه لمنع مالك قوت السنة من أخذ ما يوفي به الدين إذا كان غير متمكن من قضائه ، وقد أخذ ذلك مما في المسالك حيث صرح بالفرق بين الفقير والغارم ، فمنع من إعطاء مالك قوت السنة من سهم الفقراء وإن كان دينه أضعاف ما عنده ، لأنه حينئذ غارم غير فقير ، وفي شرح اللمعة للاصبهاني يمكن أن لا يكون المراد بالفقير هنا ما عرفته في الفقراء والمساكين من عدم مئونة السنة فعلا أو قوة ، بل عدم التمكن من قضاء الدين بدليل أن جماعة منهم الشارح عبروا بذلك ونحوه مما يفيد مفاده ، قلت : الأصل في ذلك ما دل على أن الزكاة إنما شرعت لسد الخلة ودفع الحاجة ، وأنها لا تحل لغني ، وأن الله شرك بين الأغنياء والفقراء إلى غير ذلك مما دل على كونها للفقراء ، وقد صرح غير واحد باعتبار الفقر فيهم ، بل قد عرفت أنه معقد الإجماعات المزبورة ، فيمكن أن ينقدح من ذلك اعتبار القدرة على قضاء الدين مع مئونة السنة في الغني ، فمن عجز عنهما أو أحدهما فهو فقير ، ومن ملك ما يقابلهما معا كان غنيا كما صرح به الأستاذ في كشفه في تعريف الفقر والغنى ضرورة أن الحاجة إلى وفاء الدين أشد من الحاجة إلى غيرها من المؤن ، مضافا إلى صدق الفقير على من ملك قوت سنته وكان عليه أضعافها دينا ، وخصوصا إذا كان قد اشتراها به ، ولذا يعطى في الخمس وغيره مما يشترط فيه الفقر ، ودعوى أن مثله غني كما ترى ، فحينئذ اشتراط الفقر ممن عرفت في محله ، إذ متى كان عاجزا عن وفاء الدين‌

٣٥٦

كلا أو بعضا كان فقيرا وإن ملك قوت سنته ، وهو المراد من اشتراط عدم التمكن من القضاء ، ولعل إلى ذلك لمح الفاضل بما في المحكي من نهايته من جواز إعطاء الغارم المتمكن من قضاء دينه من الزكاة إذا كان بحيث لو صرف ما عنده في دينه صار فقيرا معللا له بانتفاء الفائدة في أن يدفع ماله ثم يأخذ الزكاة باعتبار الفقر ، وإن كان في التعليل بل والعبارة ما لا يخفى ، بل الأولى تعليله بأنه في الفرض فقير ، لقصور ما عنده عن مئونة السنة التي منها وفاء الدين ، ومقابلة الغارمين في الآية للفقراء يمكن أن يكون لبيان كون الغرم مصرفا من مصارف الزكاة وإن لم يصدق على الغارم أنه فقير كالميت ونحوه ، فالغرض تعداد المصارف ، ويكفي هذا الاعتبار في المقابلة ، ولا ريب أن ذلك أولى من دعوى كون الفقير والغارم قسمين متقابلين بمعنى أنه قد يكون الغارم غنيا إذا كان مالكا لمئونة سنته ولم يكن عنده ما يقابل دينه ، ضرورة أنه مع منافاته لما عرفت يحتاج إلى ترجيح ما دل على جواز وفاء الغرم من الزكاة على ما دل على أنها لا تحل للغني فتأمل جيدا فان به يظهر لك ما في كلام جملة من الأعلام ، وقد تقدم ، وربما يأتي مزيد تحقيق لذلك ، كما أنه به يظهر لك ثمرات مهمة في المقام وغيره.

وعلى كل حال فلو لم يملك شيئا إلا أنه كسوب يتمكن من قضاء دينه من كسبه فعن نهاية الأحكام احتمال الإعطاء بخلاف الفقير والمسكين ، لأن حاجتهما تتحقق يوما فيوما ، والكسوب يحصل في كل يوم ما يكفيه ، وحاجة الغارم حاصلة في الحال لثبوت الدين في ذمته ، وإنما يقدر على اكتساب ما يقضي به الدين بالتدريج ، واحتمال المنع تنزيلا للقدرة على الكسب منزلة القدرة على المال.

ثم إن صريح المتن حيث قال فلو كان في معصية لم يقض عنه كصريح غيره اعتبار عدم كون الدين في معصية ، بل لا أجد فيه خلافا ، بل عن الخلاف والمنتهى والتذكرة الإجماع على منع الإعطاء من سهم الغارمين في الدين المنفق في معصية ، ويدل‌

٣٥٧

عليه ـ مضافا إلى ذلك ، وإلى أن الزكاة إرفاق لا تناسب المعصية ، بل في وفائه منها إغراء بالقبيح ـ ما في‌ تفسير علي بن إبراهيم (١) من قول العالم عليه‌السلام : « والغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف ، فيجب على الامام عليه‌السلام أن يقضي عنهم ويفكهم من مال الصدقات » وخبر الحسين ابن علوان (٢) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام كان يقول : يعطى المستدينون من الصدقة والزكاة دينهم كله إذا استدانوا في غير سرف » وخبر محمد بن سليمان (٣) المروي في الكافي في باب الديون « عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا نجار قال : سأل الرضا عليه‌السلام رجل وأنا أسمع فقال له : جعلت فداك إن الله عز وجل (٤) يقول ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله وليس له غلة ينتظر إدراكها ، ولا دين ينتظر محله ، ولا مال غائب ينتظر قدومه ، قال : نعم ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الامام عليه‌السلام فيقضي عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله ، فان كان أنفقه في معصية الله فلا شي‌ء على الامام عليه‌السلام له قلت : فما هذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة الله عز وجل أم في معصيته؟ قال : يسعى له في ماله ويرده عليه وهو صاغر » وخبر صباح بن سيابة (٥)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدين والقرض ـ الحديث ٣ من كتاب التجارة وفيه « أبا محمد » بدل « أبا نجار ».

(٤) سورة البقرة ـ الآية ٢٨٠.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٥٨

عن الصادق عليه‌السلام المروي فيه أيضا قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيما مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الامام أن يقضيه ، فان لم يقضه فعليه إثم ذلك » مضافا إلى ما يشعر به صحيح عبد الرحمن بن الحجاج (١) الآتي في قضاء الدين عن الميت ، بل‌ خبر موسى بن بكر (٢) المروي في الكافي أيضا لا يخلو من إشعار أيضا ، قال : « قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله ، فان غلب عليه فليستدن على الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله ، فان مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه ، فان لم يقضه كان عليه وزره ، إن الله عز وجل يقول : « ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) ـ إلى قوله ـ ( وَالْغارِمِينَ ) » وهو فقير مسكين مغرم » إلى غير ذلك من النصوص المحمول مطلقها على مقيدها وعامها على خاصها ، فتجتمع جميعا على ما سمعت من الأصحاب الإجماع عليه ، فوسوسة صاحب المدارك في دليل ذلك في غير محلها.

نعم لو تاب صرف اليه من سهم الفقراء وجاز أن يقضي هو ولا يجوز إعطاؤه معها من سهم الغارمين لإطلاق الأدلة السابقة ، خلافا للمحكي عن المصنف في بعض فتاواه وظاهره أو صريحه ، في المعتبر ، فجوز إعطاءه من سهم الغارمين ، واحتمله في التذكرة لإطلاق الآية ، وفيه ما لا يخفى ، واعتبار التوبة في الإعطاء من سهم الفقراء مبني على ما تعرف إن شاء الله من اعتبار العدالة أو اجتناب الكبائر ، أما على القول بعدمه يعطى وإن لم يتب ، بل قيل : وكذا الإعطاء من سهم سبيل الله بناء على تعميمه لكل قربة كما نص عليه في المسالك ، ولعله لأنه بدونها لا قربة فيه ، لما فيه من الإغراء بالقبيح ، هذا. وفي المسالك « في المسألة إشكال ، وهو أنه مع صرف المال في المعصية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدين والقرض ـ الحديث ٢ من كتاب التجارة.

٣٥٩

إن لم يجز وفاؤه من سهم الغارمين لم يجز من سهم الفقراء وإن تاب ، لأن الدين لا يدخل في سهم الفقراء ، وإلا لم يكن الغرم قسيما للفقر ، بل قسما منه ، بل إما أن تكون التوبة مسوغة للدفع اليه من سهم الغارمين أو سهم سبيل الله ، وإما أن لا يجوز الدفع لوفاء دين المعصية مطلقا ، وقد لزم من ذلك احتمالات : عدم الجواز مطلقا اعتبارا بالمعصية المانعة ، ذكره العلامة حكاية ، والجواز مع التوبة من سهم الفقراء ، وهو الذي اختاره الشيخ ، وتبعه عليه جماعة ، والجواز معها من سهم سبيل الله ، وهو متوجه ، ويمكن حل الإشكال بأن الفقير وإن لم يعط بسبب الفقر إلا قوت السنة لكن إذا دفع اليه ذلك ملكه وجاز له صرفه حيث شاء ، فيجوز له صرفه في الدين ، مع أن إعطاء قوت الزائد على قوت السنة إنما هو ممنوع تدريجا ، أما دفعة فلا ، نعم لو لم يكن فقيرا بأن كان مالكا لقوت سنته لم يتوجه على ذلك إعطاؤه من سهم الفقراء لعدم الفقر ، ولا من سهم الغارمين لانفاقه في المعصية ، فيجب أن يقيد كلام المصنف في جواز إعطائه من سهم الفقراء بكونه فقيرا » ولعلك إذا أحطت خبرا بما ذكرنا لا يخفى عليك محال النظر من كلامه ، بل قد يقال : إنه بناء على ما قدمنا من تحقق الفقر بالغرم لا حاجة إلى تقييد كلام المصنف بما ذكره ، فإنه يعطى المالك لقوت سنته من حيث الفقر بسبب ما عليه من الدين وإن كان قد صرفه في معصية لكن بشرط التوبة بناء على ما عرفت ، فان دين المعصية وإن كان لا يقضى من سهم الغارمين لكنه يؤثر في الغارم صفة الفقر ، فيعطى من هذه الجهة ، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

وكيف كان فـ ( لو جهل فيما ذا أنفقه قيل ) والقائل الشيخ في المحكي عن نهايته يمنع وربما مال إليه أول الشهيدين لخبر محمد بن سليمان (١) المتقدم آنفا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدين والقرض ـ الحديث ٣ من كتاب التجارة.

٣٦٠