جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كان له أصل مال الذي ستعرف عدم الفرق بينه وبين المقام ، ولا فيمن ادعى الكتابة أو الغرم كما ستعرف في سهم الرقاب والغارمين ، إذ من المعلوم كون الجميع من واد واحد عند المعظم ، بل مقتضاه جواز الدفع من دون دعوى ـ قد يناقش فيه بمعلومية انقطاع الأصل ، للقطع بحصول مال له في الجملة فيما مضى من الأزمنة ، وفرض موضوع لم يحصل فيه القطع غير مجد ، إذ هو في غاية الندرة ، نعم قد يقال : إن القطع بحصول مال له في الجملة لا ينافي استصحاب حال عدم الغنى له ، إذ حصول مال له أعم من حصول صفة الغنى له به ، لكن قد يدفع بأن المال المقطوع بحصوله له يمكن حصول وصف الغنى به ، ويمكن أن لا يكون كذلك ، وإثبات صفته بالأصل كما ترى ، وعلى كل حال فالاستدلال بالأصل لا يتم في جميع أفراد البحث كما هو واضح.

ومن هنا استدل عليه بعضهم بما حاصله أن الأصل قبول كل دعوى للمسلم مع عدم المعارض له فيها ، ونصوص البينة (١) بقرينة‌ قوله عليه‌السلام فيها : « واليمين على من أنكر » ظاهرة في الدعوى المقابلة بالإنكار لا مطلقا ، وفي‌ خبر منصور بن حازم (٢) عن الصادق عليه‌السلام « قلت له : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس وفيه ألف دينار فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد : هو لي ، فلمن هو؟ فقال : هو للذي ادعاه » إشعار به في الجملة ، بل قد يقال : إن الزكاة بعد أن أوجبها الشارع وملكها الفقراء صارت كالمال المطروح ، فمن ادعى أنه من أهلها أخذ منها ، وفي الحدائق يستفاد من هذا الخبر أن كل من ادعى ما لا يد عليه قضي له به ، وبذلك صرح الأصحاب من غير خلاف ينقل ، ثم حكى عن الشهيد الثاني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ من كتاب القضاء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١ من كتاب القضاء مع الاختلاف.

٣٢١

في المسالك أنه بعد نقل الرواية المذكورة دليلا للحكم قال : ولأنه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدعي منه ، ولا لطلب البينة ولا لإحلافه ، إذ لا خصم له.

وقد يناقش في هذا الدليل بأنه لو سلم فإنما يسلم في الكيس ونحوه مما لا مدخلية لمسلم آخر فيه بخلاف المقام الذي قد كلف فيه المسلم بإيصال الزكاة للفقير المتوقف ذلك على العلم بفقره ولو بالبينة الشرعية وما يقوم مقامها ، وليس دعوى الفقير من ذلك ، بل المقام أشبه شي‌ء بدعوى العدالة أو دعوى الاجتهاد في جواز الصلاة خلفه أو الأخذ منه ، وأما ما دل من النصوص (١) على تصديق المرأة في أن لا زوج لها فمع موافقته للأصل في بعض الأفراد لا يتعدى منه إلى غيره ، كبعض الصحاح (٢) الدالة على تصديقها في تجحيش نفسها إذا كانت مطلقة ثلاثا ، وما دل من النصوص (٣) أيضا على قبول قول من كان عليه خمس أو زكاة في الإخراج ، وقبول قوله في إبدال النصاب فرارا من الزكاة ، ودعوى النقصان عند الخرص ، وغير ذلك من المواضع التي ذكر ثاني الشهيدين منها ما يزيد على عشرين ، ثم قال : وضبطها بعضهم بأنها كل ما كان بين العبد وبين الله ، ولا يعلم إلا من قبله ، ولا ضرر فيه على الغير ، أو ما تعلق به الحد أو التعزير ضرورة مطالبة كل ما كان منها نحو المقام بالدليل ، ودعوى كون المنشأ في الجميع أنها دعوى لا معارض لها على وجه يشمل المقام ممنوعة ، ولعله لذا استشكل في الحكم هنا في المدارك وتبعه غيره ، قال : « والمسألة محل إشكال من اتفاق الأصحاب ظاهرا على جواز الدفع إلى مدعي الفقر إذا لم يعلم له أصل مال من غير تكليف له ببينة ولا يمين ، وورود‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ و ٢٥ ـ من أبواب عقد النكاح ـ من كتاب النكاح.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أقسام الطلاق ـ الحديث ١ من كتاب الطلاق.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ـ الحديث ١ والباب ١٤ من أبواب زكاة الأنعام.

٣٢٢

بعض الأخبار بذلك ، وكونه موافقا للأصل ، واستلزام التكليف بإقامة البينة على الفقر الحرج والعسر في أكثر الموارد ، ومن أن الشرط اتصاف المدفوع إليه بأحد الأوصاف الثمانية ، فلا بد من تحقق الشرط كما في نظائره ، والاحتياط يقتضي عدم الاكتفاء بمجرد الدعوى إلا مع عدالة المدعي أو ظن صدقه » وفيه أن عدالة المدعي أو ظن الصدق لا يجديان في إثبات الشرط أيضا على وجه يحصل به براءة الذمة كما هو واضح ، ولعله أشار بورود بعض الأخبار إلى ما ورد (١) في إعطاء السائل ولو كان على ظهر فرس أو إلى خصوص‌ خبر عبد الرحمن (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما جالسان على الصفا فسألهما فقالا : إن الصدقة لا تحل إلا في دين موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع ففيك شي‌ء من هذا ، قال : نعم ، فأعطياه وقد كان الرجل سأل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فأعطياه ولم يسألاه عن شي‌ء ، فرجع إليهما فقال لهما : ما بالكما لم تسألاني عن حالي كما سألني الحسن والحسين عليهما‌السلام وأخبرهما بما قالا ، فقالا : إنهما غذيا بالعلم غذاء » وضعف السند منجبر بالشهرة أو الاتفاق ظاهرا كالدلالة ، وكأنهما عليهما‌السلام علما كونه من غير الأصناف الأخر وانحصار حاله في الفقر أو الغرم بناء على إرادة الصدقة الواجبة أي الزكاة.

والانصاف أنه مع ذلك كله لا مناص عما عليه الأصحاب في المقام ، وفي دعوى الكتابة والغرم ونظائرها لذلك ، أو لأن الثابت من التكليف إيتاء الزكاة لا إيتاؤها للفقير مثلا ، وقوله تعالى (٣) ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ) إلى آخره لا يفيد إلا كونها لهم في الواقع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الصدقة ـ الحديث ١.

(٢) ذكر صدره في الوسائل في الباب ١ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٦ وتمامه في فروع الكافي ج ٢ ص ٤٧ المطبوعة عام ١٣٧٧.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٦٠.

٣٢٣

دون غيرهم ، لا أن المكلف يجب عليه إحراز الصفات في الدفع ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « لا تحل الصدقة لغني » إنما يفيد مانعية الغنى لا شرطية الفقر في الدفع والإيتاء ، وفرق واضح بينهما ، فالزكاة في يد من كانت مكلف بدفعها ، وأما من تناولها فان عرف أنه من أهلها فهي حلال له ، وإلا فحرام عليه ، لأنها مال الله ، وليس لأحد مدخلية فيها ، فهي وفي الحقيقة كالمال المطروح الذي لا يد لأحد عليه مؤيدا ذلك كله بالعسر والحرج في التكليف بالبينة في كثير من المقامات ، وبالسيرة والطريقة ، وما يظهر من جملة من النصوص في الصدقة الواجبة والمندوبة قولا وفعلا.

ومن ذلك يظهر لك الحال في قول المصنف وكذا لو كان له أصل مال وادعى تلفه كما هو المعروف أيضا بين الأصحاب في المقام وقيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه بل يحلف على تلفه لأصالة بقائه ، وفيه أنه لا دليل على إثبات اليمين لمثل ذلك ، ولعله لذا كان المحكي عنه في نقل آخر التكليف بالبينة ، وهو وإن كان أجود من الاكتفاء باليمين بناء على عدم قبول قوله لكن فيه ما عرفت مما لا فرق فيه في المقام بين ما لو كان له أصل مال أو لا ، ولعل ما ذكرنا ونحوه هو الدليل في دعوى النسب في جواز تناول الخمس وإن توقفنا فيه هناك ، ولو وكله من عليه الحق وكالة مطلقة فتناولها هو لعلمه بحاله كان طريق احتياط مع عدالة الوكيل إن قلنا باعتبارها ، وكذا في دعوى النسب فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( لا يجب إعلام الفقير أن المدفوع اليه زكاة ) لإطلاق الأدلة فلو كان ممن يترفع عنها ويدخله حياء منها وهو مستحق جاز صرفها اليه على وجه الصلة ظاهرا والزكاة واقعا ، بل الظاهر استحبابه ، بل عن التذكرة أنه لا يعرف فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٨.

٣٢٤

خلاف ، قال أبو بصير (١) في الصحيح أو الحسن كالصحيح « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : الرجل من أصحابنا يستحي أن يأخذ الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة فقال : أعطه ولا تسم له ولا تذل المؤمن » ودعوى ضعفها باشتراك أبي بصير بين الثقة وغيره مع أنا في غنية عنها بإطلاق الأدلة وانجبارها بالعمل على وجه لا يعرف فيه خلاف كما اعترف به في الحدائق مضافا إلى ما سمعته من التذكرة يدفعها منع الاشتراك بين الثقة وغيره أولا كما حقق في محله ، وثانيا أن الظاهر كونه المرادي الثقة الجليل القدر بقرينة رواية عاصم بن حميد عنه ، لكن‌ قال محمد بن مسلم (٢) في الحسن كالصحيح « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : الرجل يكون محتاجا فنبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها يأخذه من ذلك زمام واستحياء وانقباض ، أفنعطيها إياه على غير ذلك الوجه وهي منا صدقة؟ فقال : لا ، إذا كانت زكاة فله أن يقبلها ، فان لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إياه وما ينبغي له أن يستحيي مما فرض الله عز وجل ، إنما هي فريضة الله فلا يستحي منها » إلا أنه لم نجد عاملا به على ظاهره ، وإن كان قد يظهر من الدروس نوع توقف في الحكم من جهته ، لأنه اقتصر ـ بعد ذكر مثل ما هنا ـ على ذكر الخبر المزبور من غير تعرض للتأويل ، وحمله في المدارك على الكراهة ، قال : وروى الكليني (٣) بعدة طرق عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « تارك الزكاة وقد وجبت له مثل مانعها وقد وجبت عليه » ومرجعه إلى أن الأولى منعه منها وإعطاؤها لمن يقبلها ، فان ظاهره الغنى عنها ، وآخر على أن « لا » فيه إضراب عن الكلام السابق لا على النهي ، ويكون ما بعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) ذكر صدره في الوسائل في الباب ٥٨ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ وذيله في الباب ٥٧ منها ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ و ٣.

٣٢٥

« لا » بيانا ، وحاصل المراد أن له قبولها ولا يستحي من فريضة الله ، فان لم يقبلها على هذا الوجه فلا يلزمه بها ويعطيها إياه على وجه الزكاة ، ويفهم منه حينئذ جواز الإعطاء لا على هذا الوجه ، وجواب السؤال حينئذ إنما علم من المفهوم ، وإلا فمنطوق الخبر قد سيق لبيان حال المستحق من أنه ينبغي له ولا ينبغي له ، وثالث على احتمال كون الامتناع لعدم الاحتياج وانتفاء الاستحقاق ، وفيه أنه خلاف ما فرضه الراوي ، وقال في الوافي بعد نقل الخبرين : « لعل الفرق بينهما أن الأول قد علم من حاله الاستحياء منها ولكن إذا بعثت اليه يقبلها إذا كان مضطرا إليها ، بخلاف الثاني فإنه قد بعثت اليه ولم يقبلها ، وإنما نهي عن إعطائها إياه لأنه إن كان مضطرا إليها فقد وجب عليه أخذها ، فان لم يأخذها فهو عاص ، وهو كمانع الزكاة ، وإن لم يضطر إليها ولم يقبلها فلا وجه لإعطائها إياه ».

قلت : يمكن حمل الحسن المزبور على عدم الاجتزاء بقبض المستحق مصرحا باشتراط كونه لا على وجه الزكاة بل على وجه الصلة أو الهبة أو استيفاء دين يزعمه على الدافع أو نحو ذلك ، وأنه إن كانت الزكاة فهو غير قابل لها ، بخلاف الصحيح الأول فإن أقصاه إيصال الزكاة له من دون تسميتها له ، ولم يكن قد قبضها مشترطا في قبضه عدم كونها زكاة ، بل أقصاه عدم تشخيص قصده بكونها زكاة الحاصل من عدم تسميتها له ، ولا دليل على اشتراطه ، بل إطلاق الأدلة يقتضي عدمه ، خصوصا بناء على أنها في الذمة ، أو صارت فيها بالعارض ، لأنها كالدين يكفي فيه نية الدافع ، وكذا بناء على كونها في العين فإنه يكفي نيته وقبض المستحق بعنوان التملك ، لإطلاق الأدلة ، وصدق امتثال الأمر بالإيتاء ، ومعلومية كون الزكاة ليست من قسم العقود المعتبر مطابقة قبولها ولو فعلا لإيجابها ، بل هي أشبه شي‌ء بالأحكام ، واعتبار قبض المستحق إنما هو لتحقيق امتثال الدافع فيما أمر به من الإيتاء ، وإلا فهو لا ربط له بالدفع ، فمع حصول كل من‌

٣٢٦

الدفع والقبض يتم الامتثال وإن لم يقصد القابض كونها زكاة ، ولا يحصل ( ولا حصل خ ل ) منافاة بين القصدين بل الظاهر الاجتزاء بذلك وإن كذب الدافع وقال : إنها ليست زكاة إلا أن القابض لم يقبضها على أنها ليست زكاة بل نوى التملك المطلق الذي يجامع كونها زكاة في الواقع ، لأن الإثم الحاصل الدافع بالكذب في إخباره لا يقدح في صدق الامتثال في الواقع ، نعم لو كان القبض على أنها ليست زكاة بل هبة أو نحوها أشكل براءة ذمة الدافع بذلك ، وأشكل دخول المدفوع في ملك القابض ، ضرورة كونه حينئذ كالذي لم ينو التملك ، لأن ما نواه لم يسلم له في الواقع ، والاكتفاء بمجرد القبض ولو كان مجردا عن النية لا يخلو من إشكال ، لاستصحاب الشغل وعدم الدخول في ملك الفقير ، ولو صح ذلك لجاز دسها في مال الفقير من غير علم ، وأشكل منه الاكتفاء بنية التملك المنافي لقصد المالك الذي لم يسلم للناوي ، ففي الحقيقة ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فتأمل جيدا فان المقام محتاج إليه ، ضرورة ظهور جملة من العبارات في الاجتزاء وإن اختلف القصدان ، كعبارة اللمعة ونحوها مما صرح فيها بإيصالها على وجه الهدية القاضي غالبا بكون قصد القابض ما ظهر له من الاهداء ، فينافي كونها زكاة ، والله أعلم.

وكيف كان ف( لو دفعها ) أي الزكاة اليه على أنه فقير فبان غنيا ارتجعت منه مع التمكن مع بقاء العين أو تلفها مع علم القابض بكونها زكاة ، لكونه حينئذ غاصبا ، فيجري عليه حكمه حتى لو كان جاهلا بحرمة دفع الزكاة للغني ، إذ هو جهل بالحكم الشرعي لا يعذر فيه بالنسبة إلى الضمان ، بل الظاهر ذلك أيضا لو دفعها اليه على أنه غني جاهلا بحرمة الزكاة على الغني أو عالما وتعمد الدفع ، ضرورة تحقق العدوان في استيلاء يده على كل حال كالمقبوض بالمعاملة الفاسدة مع علم الدافع بالفساد وجهل المدفوع اليه ، فضلا عن حال علمهما معا أو جهلهما معا أو جهل الدافع وعلم المدفوع إليه ، لأن الفرض كون الدفع على وجه الزكاة ، فإذنه حينئذ مقيدة بذلك ، وعلمه بعدم تحقق القيد‌

٣٢٧

شرعا لا ينافي التقييد به كي يتفرع عليه الضمان ونحوه ، ولا غرور منه بعد الأخبار بأنه زكاة ، وإنما غره جهله بالحكم الشرعي ، فلا يعذر فيه ، وبالجملة فساد الدفع يقضي بعدم ترتب أثر الدفع الصحيح عليه ، وإرجاع بعض الصور السابقة إلى الهبة أو نحوها مع عدم قصد الدافع لها كما هو الفرض واضح الفساد.

هذا كله مع علم المدفوع إليه بأنها زكاة ، أما مع جهله فعن المصنف في المعتبر القطع بعدم جواز ارتجاع العين معللا له بأن الظاهر كونها صدقة أي مندوبة ، وفيه أن الدفع بنفسه أعم من ذلك ، وعن المنتهى ذلك أيضا معللا له بأن الدفع محتمل للوجوب والتطوع ، وفيه أن الاحتمال لا يثبت المطلوب هنا ، وحمل فعل المسلم على الصحة كما ترى بعد التصريح من الفاعل بما يقتضي الفساد ، وهو المؤتمن على فعله وأبصر به ، لأنه لا يعلم إلا من قبله ، والفرض أن المدفوع اليه لم يعارضه بأن ادعى عليه إظهار كونه هبة أو نحوها وإلا كان من مدعي الصحة والفساد يقدم الأول بيمينه على الثاني ، أما في الفرض فالمتجه العكس ، وفرق واضح بين ذلك وبين المعاملة الواقعة من الطرفين إذا ادعى أحدهما صحتها والآخر فسادها ، لاتحاد المعاملة المتنازع فيها ، واختلاف وجهها ، والأصل صحة فعل كل منهما ، ودعوى أحدهما فساد فعله بحيث يسري إلى فساد فعل الآخر مخالفة للأصل المزبور ، فكان القول قول الموافق للأصل دونه ، بخلاف ما نحن فيه الذي قبض المدفوع اليه فيه من توابع فعل الدافع ، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

نعم قد يتجه عدم الرجوع مع التلف باعتبار كونه كالغار له ، فهو أقوى منه في الإتلاف ، ولعله إلى ذلك مال سيد المدارك ، فإنه ـ بعد أن حكى عن المعتبر والمنتهى ما سمعت ، وعن التذكرة « أنه استقرب جواز الاسترجاع لفساد الدفع ، ولأنه أبصر بنيته » ـ قال : « وهو جيد مع بقاء العين ، وانتفاء القرائن الدالة على كون المدفوع‌

٣٢٨

صدقة أي مندوبة » وإنما قيده بذلك لظهور عبارته في الإطلاق كالمتن ، والتحقيق ما سمعت ، وقال الأستاذ في كشفه : « ولو دفع زكاته إلى الامام عليه‌السلام أو نائبه العام أو الخاص برئت ذمته سواء أصاب الدافع المدفوع إليه في دفعه أو أخطأ ، ولا ضمان على أحد منهم ، ولو دفعها بنفسه إلى الفقير بزعم فقره وعلم المدفوع إليه بأنها زكاة وكان ممن لا يستحقها استرجعها منه مع التلف وبدونه ، ومع علم الدافع لا رجوع مع التلف إلا أن يكون بعد العزل ، وإن لم يعلم بكونها زكاة استرجعها مع بقائها دون التلف ، والحكم في دفع الامام عليه‌السلام أو نائبه مثله » وهو موافق لما قلناه إلا في الفرق بين العزل وعدمه مع التلف وعلم الدافع ، وفيه أن المتجه في ذلك ما سمعت من الرجوع مطلقا من غير فرق بين العزل وعدمه ، وإن كان الأول أوضح باعتبار تشخصه بالعزل مال الغير ، فلولي المسلمين مطالبة كل منهما به بخلافه قبل العزل ، فيختص مطالبة الولي فيه بالمالك ، لبقائه مشغولا بالخطاب ، والمالك يطالب المدفوع اليه باعتبار كون الإذن مقيدة فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وكيف كان فان تعذر ارتجاعها حيث يرجع عليه كانت ثابتة في ذمة الآخذ لما عرفت ولم يلزم الدافع مع عدم التقصير ضمانها سواء كان الدافع المالك أو الإمام عليه‌السلام أو الساعي بلا خلاف أجده في الأخيرين كما اعترف به في محكي المنتهى ، بل نفاه عنه بين العلماء ، قال : لأن المالك أدى الواجب ، وهو الدفع إلى الامام عليه‌السلام أو نائبه ، فيخرج عن العهدة ، والدافع فعل المأمور به ، وهو الدفع إلى من يظهر منه الفقر ، إذ الاطلاع على الباطن متعذر ، وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء وفيه أن مثله يجري في المالك أيضا ، ومن هنا كان خيرة المصنف عدم الفرق ، بل هو المحكي عن الشيخ وجماعة ، بل قيل : إنه المشهور ، اللهم إلا أن يفرق بينهما بظهور الأدلة في الشرطية الواقعية في الزكاة ، فيبقى المكلف في العهدة ، بخلاف دفع الامام عليه‌السلام

٣٢٩

أو نائبه ، فإنه ليس فيه الدفع الزكاتي ، بل خطاب آخر يكفي في امتثاله مراعاة الإذن الشرعية ، خصوصا بعد أصالة براءة ذمتهما من الضمان ، وبعد معلومية منافاة منصب السلطنة ضمان أمثال ذلك ، ومعلومية كون فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل الله الذي هو المالك الحقيقي ، على أن خطأ الإمام في الموضوع يكون في بيت المال ، ولا معنى له هنا ، إذ مرجعه الغرامة للفقراء من مالهم ، إلى غير ذلك مما يصلح فارقا بين الامام عليه‌السلام والمالك.

ولعله لذا كان المحكي عن المفيد وأبي الصلاح الإعادة في دفع المالك دونهما لما عرفت‌ وللصحيح عن الحسين بن عثمان (١) عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل يعطي زكاة ماله رجلا وهو يرى أنه معسر فوجده موسرا قال : لا يجزي » وإرساله ـ مع كون الراوي عن الحسين بن أبي عمير الذي مراسيله كالصحاح عند الأصحاب ، والظاهر كونه هو المرسل ـ منجبر بموافقته لقاعدة الشرطية المستفادة من الظاهر الأدلة القطعية ، ودعوى ظهور الاجزاء مما دل على حجية الأصول والاستصحابات ونحوها واضحة المنع ، خصوصا في إيصال الأموال إلى غير أهلها ، ومعتضد بأصالة الشغل ، وبما في‌ صحيح أبي المعزى (٢) عن الصادق عليه‌السلام « إن الله أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال ، فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم » وما في غيره من الصحاح (٣) والمعتبرة من أن الزكاة مخصوصة بأهلها حتى أن المخالف بعد الاستبصار يقبل منه جميع عباداته في حال الضلال سوى الزكاة ، لأنه وضعها في غير أهلها ، وفي‌ الصحيح عن الوليد بن صبيح (٤) « أنه قال له شهاب بن عبد ربه الثقة الجليل : أبلغ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ و ٣ و ٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٣٠

الصادق عليه‌السلام عني السلام وأعلمه إنه يصيبني فزع في منامي ، فقال الصادق عليه‌السلام : قل له : فليزك ، فأجاب شهاب إن الأطفال يعلمون أني أزكي مالي ، فقال عليه‌السلام : قل له : إنك تخرجها ولا تضعها مواضعها » ولعل فيه إيماء إلى ترك الاجتهاد في مستحقها.

ومن هنا جعل جماعة المدار في الضمان وعدمه على الاجتهاد وعدمه ، بل لعله المشهور بين المتأخرين ، لأنه أمين فيجب عليه الاستظهار ، ولفحوى‌ الحسن (١) أو إطلاقه « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل عارف أدى الزكاة إلى غير أهلها زمانا هل عليه أن يؤديها ثانية إلى أهلها إذا علمهم؟ قال : نعم ، قلت : فان لم يعرف لها أهلا فدفعها إلى من ليس هو لها بأهل وقد كان طلب واجتهد ثم علم بعد سوء ما صنع قال : ليس عليه أن يؤديها مرة أخرى » وفي الكافي والتهذيب وعن زرارة (٢) مثله غير أنه قال : « إن اجتهد فقد بري‌ء ، وإن قصر في الاجتهاد والطلب فلا » لكن في المدارك « يتوجه على الأول أنه إن أريد بالاجتهاد القدر المسوغ لجواز الدفع ولو بسؤال الفقير فلا ريب في اعتباره إلا أن مثل ذلك لا يسمى اجتهادا ، ومع ذلك فيرجع هذا التفصيل بهذا الاعتبار إلى ما أطلقه الشيخ في المبسوط من انتفاء الضمان مطلقا ، وإن أريد به البحث عن حال الفقير زيادة على ذلك كما هو المتبادر من لفظ الاجتهاد فهو غير واجب إجماعا على ما نقله جماعة » قلت : قد يقال : لا منافاة بين عدم وجوبه وترتب الضمان على عدمه ، ثم قال : « وعلى الروايتين أن موردهما خلاف محل النزاع ، لكنهما تدلان بالفحوى على انتفاء الضمان مع الاجتهاد في محل النزاع ، أما الضمان مع انتفاء الاجتهاد فلا دلالة لهما عليه في التنازع بوجه » قلت : قد يمنع دلالتهما بالفحوى على عدم الضمان أيضا بناء على ظهورهما في إرادة إعطائها للمخالفين ، والمراد بالاجتهاد فيهما في السؤال الثاني الطلب لأهلها المؤمنين فلم يجدهم ثم دفعها حينئذ إلى غيرهم ، وهذا غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

٣٣١

ما نحن فيه من الاجتهاد في كون المدفوع إليه مؤمنا مثلا ثم بان أنه مخالف ، ولا يستفاد منه حكمه لا بالفحوى ولا بغيرها ، ومن ذلك كله ظهر لك قوة ما ذهب اليه المفيد وأبو الصلاح من الضمان مطلقا ، ودعوى منافاته لسهولة الملة وسماحتها وكون الفقير من الموضوعات الخفية التي لا يكلف فيها بالواقع يدفعها أن المنافي لها إيجاب الدفع للمتيقن فقره في الواقع إذا قلنا بأن له الدفع ، أما لمن ظاهره الفقر ولو بدعواه بل وإن لم يدع بناء على اعتبار الأصل فيه ولكن يضمن إذا ظهر الخلاف فلا منافاة فيه ، كما هو واضح.

وكذا الكلام فيما لو بان أن المدفوع اليه كافر أو فاسق أو ممن تجب نفقته أو هاشمي وكان الدافع من غير قبيله لاتحاد الجميع فيما تقدم من الأدلة ، لكن قد يظهر من بعض متأخري المتأخرين إطباق الأصحاب هنا على عدم الضمان مطلقا ، وكأنه أخذه مما في المختلف من الإجماع على الاجزاء فيها ، إلا أنه يمكن إرادته الإجماع من الخصم ، لأنه ذكره في الرد على أبي الصلاح بعد ما حكى عنه الفرق بين الفقير والغني على أنه يمكن منعه عليه بالتتبع حتى عند المتأخرين ، فإن ظاهر الدروس وغيره ممن جعل المدار على الاجتهاد عدم الفرق بين سائر الشرائط ، وما ذكرناه من الكلام بعينه آت في المقام خصوصا بعد أن لم يذكروا له دليلا سوى قاعدة الاجزاء التي قد عرفت ما فيها سيما في المقام الذي هو كالدين وكالأمانة ونحوهما مما لا يسقط الإعادة عن المكلف بهما الأخذ بالطرق الشرعية الظاهرية.

وكيف كان فقد استثنى غير واحد من ذلك ما لو بان أن المدفوع اليه عبد للمالك فإن الإعادة فيه واجبة مطلقا ، لأن المال لم يخرج عن ملك المالك بذلك ، فجرى مجرى عزلها من غير تسليم ، وأشكله في المدارك بأن ذلك بعينه آت في سائر الصور ، فان غير المستحق لا يملك الزكاة في نفس الأمر سواء كان عبد المالك أو غيره ، والجواب عن الجميع واحد ، وهو تحقق التسليم المشروع المقتضي للاجزاء ، وفيه أنه يمكن الفرق‌

٣٣٢

بين العبد وغيره بأن الدفع اليه ليس إيتاء بخلاف الدفع إلى غيره ، فإنه إيتاء ، إلا أنه فقد شرط الصحة في الواقع لا الملك وعدمه حتى يتجه عليه ما ذكره ، والمراد بعدم الخروج عن ملك المالك أنه وقع المال في يد ماله ، فهو كما لو عزله وجعله في صندوق ونحوه ، ولعله لذا خص الاستثناء في عبد الدافع لا مطلق العبد ، فتأمل ، نعم الظاهر اختصاص الاستثناء بدفع المالك لا الامام ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة فلم يفرق بينهما وفيه منع واضح ، والله أعلم.

الصنف الثالث من مستحقي الزكاة كتابا وسنة وإجماعا بقسميه العاملون عليها وهم عمال الصدقات الساعون في تحصينها ، وتحصيلها بجباية وولاية على الجباة وغيرهم من أصناف السعاة أو على بلد الزكاة بحيث تتضمن الولاية على السعاة ، وكتابة وحساب وحفظ ونحو ذلك مما له مدخل في التحصيل أو التحصين إلى أن تصل إلى المستحقين ، وفي شرح الفاضل « والقسمة مما لها مدخلية في ذلك ، لأنها تحصيل الزكاة لمستحقيها ، وتحصين لها عن غيره ، وعن استبداد البعض بجميعها » قلت : لكن‌ قال العالم عليه‌السلام في المروي (١) عنه في تفسير علي بن إبراهيم : « ( وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ) هم السعاة والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها » وظاهره خروج القسمة عن العمل ، ويمكن إرادة أول الشهيدين وغيره من القسمة المذكورة في العمل القسمة مع المالك.

وكيف كان فلا خلاف بيننا في استحقاق هؤلاء نصيبا منها ، خلافا لبعض العامة فقال : إن ما يأخذه العامل يكون أجرة وعوضا لا زكاة ، لأنه لا يعطي إلا مع العمل ، والزكاة تدفع استحقاقا لا عوضا ، ولأنه يأخذها مع الغني إجماعا محكيا عن الخلاف ، للأصل وظاهر الآية والصدقة لا تحل لغني ، وحكاه في التذكرة عن أبي حنيفة ، وفيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣٣٣

مع أنه اجتهاد في مقابلة الكتاب والسنة أن توقف الأخذ على العمل لا ينافي الاستحقاق لها بشرط العمل ، بل لا ينافي أخذها باعتباره لا باعتبار الفقر ، ولذا جازت له مع الغنى كابن السبيل الغنى في بلده ، وما ورد في النصوص (١) من أن علة شرعها الفقر لا يقتضي اختصاص جهة صرفها فيه.

وعلى كل حال فللعمال أحكام كثيرة قد اشتمل صحيح بريد (٢) على جملة منها ، إلا أن الذي يجب أن يستكمل فيهم أربع صفات : التكليف بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال ، فلا تجوز عمالة الصبي والمجنون ولو باذن وليهما ، لأنها نيابة عن الامام عليه‌السلام في الولاية على قبض مال الفقراء وحفظه لهم ، وهما قاصران عن ذلك ومن هنا اعتبر فيهم الايمان بالمعنى الأخص ، لعدم جواز هذه الولاية لغيره ، إذ هي غصن من شجرة العهد الذي لا يناله الظالمون ، مضافا إلى عموم ما دل (٣) على عدم جواز إعطائهم الصدقات وإلى ما حكي من الإجماع في الروضة والمفاتيح على اعتبار العدالة فيهم المعلوم انتفاؤها في غير المؤمن ، والخلاف الآتي في اعتبار العدالة في المستحقين في غير المقام ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) لمصدقه الذي أرسله إلى الكوفة : « انطلق يا عبد الله وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك ، وكن حافظا لما ائتمنتك عليه ، راعيا لحق الله فيه ـ إلى أن قال له ـ: فإذا قبضته ـ أي حق الله ـ فلا توكل به إلا ناصحا شفيقا أمينا حفيظا غير معنف بشي‌ء منها ، ثم احدر كل ما اجتمع عندك من كل ناد إلينا نصيره حيث أمر الله ، فإذا انحدر بها رسولك فأوعز اليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يفرق بينهما ، ولا يمصرن لبنها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٣٣٤

فيضر ذلك بفصيلها ، ولا يجهدنها ركوبا ، وليعدل بينهن في ذلك ، وليوردهن كل ماء يمر به ، ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق في الساعة التي تريح وتعبق وليرفق بهن جهده حتى يأتينا بإذن الله سماحا سمانا غير متعبات ولا مجهدات ، فيقسمن باذن الله على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك ، ينظر الله إليها وإليك وإلى جهدك ونصحك لمن بعثك وبعثت في حاجته ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما ينظر الله إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولامامه عليه‌السلام إلا كان معنا في الرفيق الأعلى ». ومعلوم أن ذلك كله لا يطمئن بحصوله من الفاسق الذي عزله الشارع عن درجة الأمانة الشرعية والولاية الربانية.

وأما اعتبار الفقه فلا دليل عليه في غير ما يحتاجون إليه في عملهم ، ولذا قال المصنف ولو اقتصر على ما يحتاج اليه فيه جاز بل قد يظهر من المصنف في المعتبر الميل إلى عدم اعتبار الفقه في العامل ، والاكتفاء فيه بسؤال العلماء ، واستحسنه في البيان ، ونفي البأس عنه في المدارك.

وكذا يعتبر في العامل أن لا يكون هاشميا بلا خلاف أجده ، وما عن المبسوط من أنه حكي عن قوم جوازه لأنه يأخذ على وجه الأجرة يريد به من العامة كما استظهره في المختلف ، قال : إذ لا أعرف قولا لعلمائنا في ذلك ، لعموم ما دل (١) على حرمة الصدقة الواجبة عليهم ، والتعارض بينه وبين الآية وإن كان من وجه لكن يرجح عليه من وجوه ، مضافا إلى‌ صحيح العيص بن القاسم (٢) عن الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٢) ذكر صدره وذيله في الوسائل في الباب ٢٩ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ١ وتمامه في فروع الكافي ج ٢ ص ٥٨ الطبع الحديث.

٣٣٥

قال : « إن أناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي ، وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله عز وجل للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكن قد وعدت الشفاعة ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اللهم اشهد قد وعدها ، فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم ».

وفي اعتبار الحرية خلاف وتردد من أن العامل يملك نصيبا من الزكاة والعبد لا يملك ، ومولاه لم يعمل ، وهو خيرة الشيخ على ما قيل ، ومن حصول الغرض بعمله ، وكون العمالة نوعا من الإجارة ، والعبد صالح لذلك مع إذن سيده ، وقواه في المختلف ومال اليه المصنف في المعتبر ونفي البأس عنه في المدارك ، ولا ريب في أن الأول أقوى ، نعم ينبغي تقييده بغير المكاتب ، أما هو فلا ريب في جواز عمالته ، لأنه صالح للملك والتكسب ، كما أنه ينبغي أن يعلم أن المراد في المقام ونظائره صيرورته عاملا مندرجا في آية الزكاة ، لا أنه غير قابل لأصل العمل في الزكاة ، فإنه لا إشكال في صحة استئجاره من بيت المال ، وتبرعه لو أذن له سيده بلا عوض ، بل قد يقال بجواز إجارته من الزكاة ، بل من الزكاة التي يستأجر للعمل فيها ، لعدم كونه من العاملين الذين هم بعض مصارف الزكاة ، وكذا الكلام في الهاشمي ، ضرورة عدم كون ذلك أخذا من الزكاة على وجه التصدق بها عليهم ، بل هي أجرة على عمل قد وقعت ممن له الولاية على الفقراء ، وهو واضح بأدنى تأمل ، كوضوح عدم البأس في العبد وغيره حتى الصبيان إذا كانوا من توابع العامل ، وليسوا بعمال نواب عن الامام عليه‌السلام أو نائبه بحيث يندرجون في مصارف الزكاة ، بل قد ينقدح في المقام شي‌ء ، وهو إمكان أن يقال :

٣٣٦

إنه لا يعتبر في بعض أنواع العمل إذن الامام عليه‌السلام ، وكونه نائبا عنه كالكتابة والحفظ ونحوهما ، وبذلك يندرج صاحبه في العاملين ، لإطلاق الآية ، فيعطون حينئذ من هذا السهم وإن لم يكونوا في الصفات السابقة ، ضرورة اعتبارها في العمال السعاة الولاة عن الامام عليه‌السلام وربما يشهد لذلك في الجملة بعض ما تسمعه من كلمات الأصحاب في المؤلفة فإن جماعة جعلوا هناك من سهم العمالة إعطاء قوم يجبون الزكوات من غيرهم ولا يحوجون الامام عليه‌السلام إلى إرسال عامل لجبايتها ردا على من جعلهم من المؤلفة ، فلاحظ وتأمل ، لكن قد يمنع ذلك ظاهر تعريف الأصحاب للعاملين من أنهم النواب والسعاة من قبل الامام عليه‌السلام وحينئذ فيتجه سقوط هذا السهم في هذا الزمان إلا إذا استعمل المجتهد على جبايتها ونحوها ، مع احتمال السقوط فيه أيضا باعتبار انسياق العمل الناشئ عن بسط اليد من الأدلة ، وليس ذلك إلا في زمن ظهور الامام عليه‌السلام وبسط يده ، قال في النهاية : « ويسقط سهم المؤلفة وسهم السعاة وسهم الجهاد ، لأن هؤلاء لا يوجدون إلا مع ظهور الامام عليه‌السلام ، لأن المؤلفة إنما يتألفهم ليجاهدون معه والسعاة الذين يكونون من قبله في جمع الزكوات » إلى آخره.

وكيف كان فـ ( الامام عليه‌السلام مخير بين أن يقدر لهم جعالة مقدرة أو أجرة عن مدة مقررة ) وبين أن لا يجعل لهم شيئا من ذلك ، فيعطيهم ما يراه ، قال الحلبي (١) في الحسن : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما يعطى المصدق؟ قال : ما يرى الامام عليه‌السلام ولا يقدر له شي‌ء » ثم لو عين له أجرة فقصر السهم عن أجرته أتمه الإمام عليه‌السلام من بيت المال أو من باقي السهام ، ولو زاد نصيبه عن أجرته فهو لباقي المستحقين ، وفي المدارك « لا يخفى أن ذلك إنما يتفرع على وجوب البسط على الأصناف على وجه التسوية ، وهو غير معتبر عندنا » وتبعه على ذلك في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

٣٣٧

الحدائق ، قلت : يمكن تفريعه على غيره أيضا ، نعم قد ينافيه ما أشرنا إليه سابقا من أنه حيث تقدر للعامل أجرة يخرج عن كونه مصرفا للزكاة ، ضرورة ملكه لها بعقد الإجارة ، ولذا وجب الإتمام من بيت المال ، بل لو لم يأت بشي‌ء أو ذهب ما جاء به أخذ من الامام عليه‌السلام ما يستحقه ، ومن المعلوم أن المراد من الآية إعطاء العامل من الصدقات على وجه الصدقة ، وهو الذي لم يقدر له شي‌ء ، وقد سأل عنه الحلبي فأجابه عليه‌السلام بما عرفت ، فتأمل جيدا ، هذا. وقد ذكر غير واحد أنه يجب على الامام بعث السعاة في كل عام ، وهو حسن إن توقف حصولها على ذلك ، وحينئذ فلو فرقها الامام عليه‌السلام بنفسه أو وكيله في مكانها لم يجب ، وكذا لو علم أن قبيلا يؤدوها اليه أو إلى أهلها ولم يتعلق له غرض بجمعها ، وكان المسألة خالية عن الثمرة ، إذ هو عليه‌السلام أعرف بتكليفه مع بسط يده عليه‌السلام ، وأما مع قصورها كما في هذا الزمان فلا ريب في عدم وجوب ذلك عليه ولا على الحكام من قبله ، كما هو واضح.

والثالث من الأصناف أو الرابع ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ، وهم الكفار الذين يستمالون إلى الجهاد ، ولا تعرف مؤلفة غيرهم كما في محكي المبسوط بتفاوت يسير ، قال : « هم كفار يستمالون إلى الإسلام ويتألفون ليستعان بهم على الجهاد بالاسهام لهم منها ـ ثم قال ـ: ولا يعرف أصحابنا مؤلفة أهل الإسلام » ونحو منه عن الخلاف ، ونص على الإجماع عليه لكن لم يذكر فيه الاستمالة إلى الإسلام ، وفي محكي الاقتصاد « قوم كفار لهم ميل في الإسلام يستعان بهم على قتال أهل الحرب » ونحوه عن المصباح ، وفي الوسيلة « والذين يستمالون من الكفار استعانة منهم على قتال غيرهم من أمثالهم » وفي الإرشاد « هم الكفار الذين يستمالون إلى الجهاد » وفي الدروس « هم كفار يستمالون بها إلى الجهاد ، وفي مؤلفة الإسلام قولان أقربهما أنهم يأخذون من سهم سبيل الله » ويمكن أن يكون مراده ما في الجمل حيث قال : « هم الذين يستمالون إلى الجهاد » بل والسيد ابن زهرة في الغنية لقوله :

٣٣٨

( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) هم الذين يستمالون إلى الجهاد بلا خلاف » فيكون معقد نفي الخلاف حينئذ ، وإن كان ظاهره الإطلاق كالحلبي في إشارة السبق ، حيث قال : « هم المستعان بهم في الجهاد وإن كانوا كفارا » ونحوه النافع والمعتبر والتذكرة ، وظاهرهم أو صريحهم أنهم مسلمون وكفار كما هو صريح المحكي عن المفيد ، واختاره ابن إدريس وغيره ، كما أنه مال إليه جماعة من المتأخرين ، بل ظاهر كتاب الأشراف للمفيد اختصاصهم بالمسلمين قال فيه : « هم الداخلون في الايمان على وجه يخاف عليهم معه مفارقته ، فيتألفهم الامام بقسط من الزكاة ، لتطيب نفوسهم بما صاروا اليه ويقيموا عليه ، فيألفوه ويزول عنهم بذلك دواعي الارتياب » وعن حواشي القواعد للشهيد الأول لا ريب أن التأليف متحقق في الجميع ، إلا أن ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كان يعطيهم من الزكاة وغيرها زيادة على غيرهم ما كانوا كفارا ظاهرا ، بل مسلمين ضعيفي العقائد أشرافا في قومهم كأبي سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصين ونظائرهم ( نظرائهم خ ل ) وهم معلومون مضبوطون بالعدد بين العلماء ، وقد أحسن ابن الجنيد حيث عرفهم بأنهم من أظهر الدين بلسانه وأعان المسلمين وإمامهم عليه‌السلام بيده ، وكان معهم إلا قلبه ، إلى آخره.

وفي‌ صحيح زرارة أو حسنه (١) عن الباقر عليه‌السلام « سألته عن قول الله عز وجل (٢) ( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) قال : هم قوم وحدوا الله عز وجل وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله ، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم في ذلك شكاك في بعض ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمر الله نبيه أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا به ، وأن‌

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٤١١ الطبع الحديث.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ٦٠.

٣٣٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين تألف رؤساء العرب من قريش ومضر منهم أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتأذن لي بالكلام؟ فقال : نعم ، فقال : إن كان هذا الأمر في هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئا أنزله الله رضينا ، وإن كان غير ذلك لم نرض ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أكلكم على قول سيدكم سعد؟ فقالوا : سيدنا الله ورسوله ، ثم قالوا في الثالثة : نحن على قوله ورأيه ، فحط الله نورهم وفرض للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن » وبه يظهر المراد من‌ خبره الآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا « ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتألفهم ويعرفهم ويعلمهم » كالمرسل (٢) عن الصادق عليه‌السلام المروي عن تفسير علي ابن إبراهيم بزيادة « فجعل لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا » بل وخبر زرارة (٣) الآخر عن الباقر عليه‌السلام أيضا « ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم » كمرسل موسى بن بكير (٤) عنه عليه‌السلام أيضا لكن زاد فيه « وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلوبهم » بل لعله إلى ذلك رمز‌ الصادق عليه‌السلام في قوله لإسحاق بن غالب (٥) فيما رواه عنه : « كم ترى أهل هذه الآية (٦) ( فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ )

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٤١١ الطبع الحديث.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

(٣) أصول الكافي ج ٢ ص ٤١١ الطبع الحديث.

(٤) أصول الكافي ج ٢ ص ٤١٢ الطبع الحديث.

(٥) أصول الكافي ج ٢ ص ٤١٢ الطبع الحديث.

(٦) سورة التوبة ـ الآية ٥٨.

٣٤٠