جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

حالا من المسكين ، وربما نقل عن القاضي والطبرسي ، وهو مع مخالفته لما سمعت وللعرف لم نعرف له شاهدا معتدا به ، ومن الغريب ما في السرائر من الاستدلال عليه ـ بعد تفسير الفقير بالذي لا شي‌ء معه ، والمسكين بالذي له بلغة من العيش لا تكفيه طول سنته ـ بقوله تعالى (١) ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) فسماهم مساكين ولهم سفينة بحرية ، وقوله تعالى (٢) ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) باعتبار أن القرآن قد نزل على لسان العرب ، وكيفية خطابهم وعادتهم البدأة بالأهم فالأهم ، فيعلم أن الفقير أهم ، وما ذاك إلا لأنه أسوأ حالا ، قال : ولا يلتفت إلى قول الشاعر :

أما الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد

يقال : لا سبد له ولا لبد أي لا قليل ولا كثير ، لأنه لا يجوز العدول عن الآيتين من القرآن إلى بيت شعر ، على أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف ، لأن كل واحد من الفقير والمسكين إذا ذكر على الانفراد دخل الآخر فيه ، وإنما يمتاز أحدهما عن الآخر ويحتاج إلى الفرق إذا اجتمعا في اللفظ كما في الآية ، وغيره بأنه مشتق من فقار الظهر ، فكأن الحاجة كسرت فقار ظهره ، وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعوذ عن الفقر ، وقال : « اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين » (٣).

وفيه ـ مع أن الآية الأولى مستعمل فيها لفظ المساكين خاصة ، وقد اعترف أنه غير محل النزاع ـ أولا يمكن أن يكون الإطلاق عليهم لاشتراكهم بها على وجه لا يكون لكل واحد منهم إلا الشي‌ء اليسير ، وثانيا يجوز أن يكون سماهم مساكين على وجه الرحمة كما في الأخبار مسكين ابن آدم ، مساكين أهل النار ، كقول الشاعر :

__________________

(١) سورة الكهف ـ الآية ٧٨.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ٦٠.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الصدقة ـ الحديث ١٥ من كتاب الزكاة.

٣٠١

مساكين أهل الحلب حتى قبورهم

علاها تراب الذل بين المقابر

وثالثا أنهم كانوا يعملون عليها بالإجارة فأضيفت إليهم ، ورابعا أنه لا دلالة فيه على الدعوى ، إذ الإطلاق أعم من ذلك ، وأما آية الصدقة فكما أن العرب يبتدئون بالأهم فربما يترقون إلى الأعلى ، وأما التعوذ من الفقر مع مسألة المسكنة فيحتمل أن يكون المراد بالفقر فيه العدم بلا قناعة ، أو مجرد عدم القناعة ، فإنه أشد من العدم ، كما أنه يحتمل إرادة الذل بين يدي الله من المسكين في دعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبالجملة لا يخفى ما في ذلك كله من القصور عن ثبوت المطلوب ، وكذا الاستدلال على المختار بقوله تعالى (١) ( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) وهو المطروح على التراب لشدة الحاجة ، وبأنه يؤكد به الفقير ، فيقال : فقير مسكين ، ضرورة عدم دلالة الأول على محل الاجتماع ، وإمكان منع الثاني ، وبالجملة إذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا تعرف ما في كلام جملة من المتأخرين ، بل وكلام بعض اللغويين ، وخصوصا المخلط صاحب القاموس ، فإنه قال : الفقر ويضم ضد الغنى ، وقدره أن يكون له ما يكفي عياله ، أو الفقير من يجد القوت والمسكين من لا شي‌ء له ، أو الفقير المحتاج ، والمسكين من أذله الفقر أو غيره من الأحوال ، أو الفقير من له بلغة ، والمسكين من لا شي‌ء له ، أو هو أخس حالا من الفقير ، أو هما سواء ، وظاهر الصحاح في مادة « فقر » عدم الترجيح لأنه قال رجل فقير من المال ، قال ابن السكيت : « الفقير الذي له بلغة من العيش ، والمسكين الذي لا شي‌ء له » وقال الأصمعي : « المسكين أخس حالا من الفقير » وقال يونس : « الفقير أخس حالا من المسكين ـ قال ـ : وقلت لأعرابي : أفقير أنت؟ فقال : لا والله بل مسكين » لكن قال في مادة « سكن » : المسكين الفقير ، وقد يكون بمعنى الذلة والضعف ، يقال : تسكن الرجل وتمسكن كما قالوا : تمدرع وتمندل من‌

__________________

(١) سورة البلد ـ الآية ١٦.

٣٠٢

المدرعة والمنديل على الفعل ، وهو شاذ ، وقياسه تسكن وتدرع وتندل مثل تشجع وتحلم وكان يونس يقول ، إلى آخره ، وفي الحديث (١) « ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ، وإنما المسكين الذي لا يسأل ولا يفطن له فيعطى » إلى غير ذلك من كلماتهم وأقربها إلى ما حققناه ـ من أن الفقير ضد الغني ـ المحتاج ، قال الله تعالى (٢) ( أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) أي المحتاجون اليه ، فأما المسكين فالذي قد أذله الفقر أو غيره ، فإذا كان هذا إنما مسكنته من جهة الفقر حلت له الصدقة ، وإذا كان مسكينا قد أذله شي‌ء سوى الفقر فالصدقة لا تحل له ، إذ كان شائعا في اللغة أن يقال : ضرب فلان المسكين وظلم المسكين وهو من أهل الثروة واليسار ، وإنما لحقه اسم المسكين من جهة الذلة.

وممن أشكل عليه الحال في المقام سيد المدارك وبعض من تأخر عنه حتى أنه حكى عن جده ما حكيناه سابقا ، واعترض عليه بوجوه ، منها أن المتجه بعد ثبوت التغاير عدم دخول أحدهما في إطلاق الآخر إلا بقرينة ، وما ذكره من عدم الخلاف لا يكفي في إثبات هذا الحكم ، وقد عرفت وجهه بلا إشكال ، ومنها ما ذكره من الفائدة بأن المتجه عدم دخول كل منهما في الآخر وإن كان أسوأ حالا من المنذور له ، لأن اللفظ لا يتناوله كما هو المفروض ، وفيه أن المراد إذا علم كون النذر مثلا له من حيث الحاجة فإن الدخول حينئذ للأولوية ، نعم قد يناقش بأنه إن كان المذكور في النذر لفظ أحدهما دخل فيه الآخر على كل حال ، لما عرفت من نفيه الخلاف عن ذلك ، وإن ذكرا معا فلا حاجة للاندراج ، وإن كان متعلق النذر أسوأهما حالا فهو خروج عما نحن فيه ، ضرورة كون المراد بيان فائدة الخلاف في لفظ الفقير والمسكين لو كان هو المتعلق ولو جعل الفائدة في النذر والوصية والوقف إذا كان كل منها لهما معا مع تفضيل أحدهما‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ١١ مع الاختلاف في اللفظ.

(٢) سورة الفاطر ـ الآية ١٦.

٣٠٣

على الآخر أو أنه خص أحدهما بشي‌ء من ذلك ونص على نفي الآخر لكان أظهر ، ويمكن حمل كلامه على ذلك وإن قصرت عبارته ، فتأمل جيدا ، والأمر في ذلك كله سهل بعد تحقق أصل المسألة الذي تعرف ما في كلام جملة من الأصحاب من التشويش بعد الإحاطة به.

وكيف كان فالحد المسوغ لتناول الزكاة في الصنفين عدم الغني الشامل للمعنيين ، فمتى تحقق استحق صاحبه الزكاة بلا خلاف ، وعن المنتهى الاعتراف به ، كما أنه إذا تحقق الغني أو ما في حكمه حرمت بلا خلاف أيضا ، بل قد تواتر أنها لا تحل لغني.

نعم قد اختلف الأصحاب فيما به يتحقق عدم الغنى ، والمشهور بين المتأخرين من الأصحاب تحققه بقصور المال أو ما يقوم مقامه عن مئونة السنة له ولعياله ، فيكون الغني من لم يقصر ماله قوة أو فعلا عن ذلك ، بل عليه عامتهم عدا النادر الذي لا يعبأ بخلافه ، بل نسبه غير واحد إلى الشهرة من غير تقييد ، وعن آخر نسبته إلى محققي المذهب ، وحكاه في المعتبر عن الشيخ في باب قسم الصدقات‌ للمرسل (١) في المقنعة عن يونس بن عمار « سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : تحرم الزكاة على من عنده قوت السنة ، وتجب الفطرة على من عنده قوت السنة » وصحيح أبي بصير (٢) « سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره ، قلت : فان صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة قال : زكاته صدقة على عياله ولا يأخذها إلا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة أنفذها في أقل من سنة فهذا يأخذها ، ولا تحل الزكاة لمن كان متحرفا وعنده ما تجب فيه الزكاة » وفي الصحيح المروي عن العلل عن علي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٠٤

ابن إسماعيل الدعي (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام سأله « عن السائل عنده قوت يوم إله أن يسأل ، وإن أعطي شيئا إله أن يقبل؟ قال : يأخذ وعنده قوت شهر ما يكفيه لسنته من الزكاة ، لأنها إنما هي من سنة إلى سنة » ومرسل حماد (٢) عن العبد الصالح عليه‌السلام المشتمل على كيفية قسمة الخمس والزكاة والأنفال وغيرها ، إلى غير ذلك من النصوص ، بل عن فهرست الوسائل أن فيه أحد عشر حديثا ، ولأن الفقر لغة وعرفا الحاجة ، قال الله تعالى (٣) ( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) ومن قصرت أمواله عن كفاية عامه فهو محتاج بل لعل المراد من النصوص التي يمر عليك بعضها المشتملة على الكفاية وعدمها ونحو ذلك كفاية السنة ، وأنه ترك التعرض لها في كثير منها لمعلومية ذلك ولو بحسب عادة أغلب أفراد الإنسان من الاهتمام بأمر قوت السنة ، بل النصوص التي ذكرناها فيها إشارة إلى تعارف ذلك ، وإلى معلومية كون المراد من إطلاق الكفاية ونحوها ذلك ، خصوصا بعد عدم ظهور تحديد عرفا لهذا المطلق غيرها ، ضرورة عدم إمكان تنقيح العرف زمانا مخصوصا لتمام مصداق هذا الإطلاق ، وتنقيح بعض الأفراد غير كاف ، بل جرت عادة الشارع في أمثال ذلك على الضبط التحقيقي الذي به تتميز الأفراد الداخلة والخارجة ، وليس هنا إلا السنة نصا وفتوى.

نعم قيل : إنه قصور المال عن أحد النصب الزكاتية ، ولم نعرف القائل به وإن نسبه غير واحد إلى الشيخ وآخر إليه في الخلاف ولم نتحققه ، بل المحكي في السرائر عن الخلاف القول الأول ، بل في مفتاح الكرامة « ولقد نظرت الخلاف مرة بعد أولى وكرة بعد أخرى فلم أجد فيه تصريحا بشي‌ء من النقلين إلا قوله في باب الفطرة : تجب زكاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧ وفيه علي بن إسماعيل الدغشي كما أنه كذلك في العلل ج ٢ ص ٦٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٥٣٩ « باب الفي‌ء والأنفال » ٤.

(٣) سورة الفاطر ـ الآية ١٦.

٣٠٥

الفطرة على من ملك نصابا تجب فيه الزكاة أو قيمة نصاب ، وبه قال أبو حنيفة » قلت : يمكن أن يكون مدار وجوبها عنده ذلك لا الغنى والفقر ، وفيه أيضا عن بعض أنه على هامش المبسوط أن القائل به هو المفيد والسيد ، فان صحت النسبة فلعله في غير ما حضرني من كتبهما ، لكنه في الناصرية ادعى الإجماع على خلاف هذا القول ، وفي المقنعة روى خبر يونس بن عمار (١) الظاهر في مذهب المشهور إن لم يكن الصريح.

وعلى كل حال فلا ريب في ضعفه كضعف ما ذكر دليلا له ، وهو‌ النبوي (٢) المروي مضمونه في نصوصنا أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال « لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم » والتنافي بين وجوب دفع الزكاة عليه وجواز أخذ مالها ، وفيه أن الأخذ من الأغنياء لا ينافي الأخذ من الفقراء والاقتصار عليهم ، لكونهم الواجب عليهم غالبا ، خصوصا وغني الأعراب في ذلك الوقت يحصل بأدنى شي‌ء ، لقلة مئونة سنتهم ، بل وربما أجيب بجواز أن يكون الغنى مشتركا بين الموجب للزكاة والمانع من أخذها ، والاشتراك وإن خالف الأصل فلا بد من المصير إليه إذا وجد الدليل عليه ، وقد وجد ، وفيه مع كونه لا يدفع ما تعطيه المقابلة أنه لا حاجة إلى دعوى الاشتراك اللفظي التي يمكن القطع بفسادها ، إذ يمكن أن يقال مع الاشتراك المعنوي أن للغنى والفقر مراتب لا تحصر ، والمراد منهما ما دل عليه الدليل فيهما من المراتب ، وأما دليل التنافي فمنعه واضح ، إذ الزكاة على الفقير كالدين لا يدفع وجوب أدائه فقره ، والعامل تدفع له‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١٠.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ٩٦.

٣٠٦

الزكاة وقد تجب عليه وكذا غيره ، وقول الصادق عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) : « لا يحل لمن كانت عنده أربعون درهما يحول عليها الحول عنده أن يأخذها ، وإن أخذها أخذها حراما » كناية عن الغنى أي عنده أربعون درهما غير محتاج إليها وقد حال عليها الحول لذلك ، كقوله عليه‌السلام في ذيل خبر أبي بصير (٢) : « لا تحل الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة ».

فظهر لك أنه لا إشكال حينئذ من هذه الجهة كما ظهر لك استقرار المذهب على ما ذكرناه ، وأنه ليس في المسألة إلا قولان كما هو ظاهر جماعة بل صريح البيان ، قال : « إن الاتفاق واقع على أنه يشترط في الفقير والمسكين أن يقصر مالهما عن مئونة السنة لهما ولعيالهما أو عن نصاب أو عن قيمته على اختلاف القولين » وكذا في مصابيح الأستاذ الأكبر ، لكن مع ذلك كله جعل في المفاتيح الأقوال ثلاثة ، ثالثها أن الفقير من لم يقدر على كفايته وكفاية من يلزمه من عياله عادة على الدوام بربح مال أو غلة أو صنعة ، وهو الذي اختاره حاكيا له عن المبسوط ، والمنقول من عبارته ما نصه « والغنى الذي يحرم معه أخذ الصدقة أن يكون قادرا على كفايته وكفاية من يلزمه كفايته على الدوام ، فان كان مكتفيا بضيعة وكانت ضيعته ترد عليه كفايته وكفاية من يلزمه نفقته حرمت عليه ، وإن كانت لا ترد عليه حل له ذلك ، وإن كان من أهل البضائع احتاج أن يكون معه بضاعة ترد عليه قدر كفايته ، فان نقصت عن ذلك حلت له الصدقة ، ويختلف ذلك على اختلاف حاله حتى إن كان الرجل بزازا أو جوهريا يحتاج إلى بضاعة قدرها ألف دينار فنقص عن ذلك حل له أخذ الصدقة ، هذا عند الشافعي ، والذي رواه أصحابنا أنها تحل لصاحب السبعمائة ، وتحرم على صاحب الخمسين ، وذلك على قدر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

٣٠٧

حاجته إلى ما يتعيش به ، ولم يرووا أكثر من ذلك ، وفي أصحابنا من قال : إن ملك نصابا تجب فيه الزكاة وتحرم عليه الصدقة ، وذلك قول أبي حنيفة » والذي فهمه المصنف وغيره من هذه العبارة مذهب المشهور ، ولذا حكاه في المعتبر عنه في باب قسم الصدقات والموجود فيه في الباب المزبور هذه العبارة ، وفي محكي المنتهى نقل عبارة المبسوط واختارها ، واستدل عليه بأدلة المشهور ، ونحوه ما عن المهذب البارع ، وفي المختلف الظاهر أن مراد الشيخ بالدوام مئونة السنة ، مضافا إلى ما عرفته من أن ظاهر بعض وصريح آخر انحصار الخلاف في القولين.

قلت : ويمكن أن يتعلق قيد الدوام في كلامه بلزوم الكفاية أي من يلزمه أن ينفق عليه دائما لا من تجب نفقته في بعض الأوقات مثل الأجير المشترط إجارته وغيره فيبقى حينئذ مطلقا كالنصوص يجب تنزيله على ما عند المشهور ، لعدم التحديد له في الشرع غيره ، كما أنه لا حد له في العرف واللغة ، ولقد أطنب الأستاذ الأكبر في شرحه على المفاتيح في فساد فهمه ، وأنه يمكن أن يكون مخالفا للضرورة من المذهب ، وحيث كان الأمر من الوضوح بمكانة لم نتعرض لنقل كلامه ، على أن ما قدمناه سابقا في أول المسألة كاف في رده ، ضرورة عدم معقولية المراد بالدوام إذا لم ينزل على ما عند المشهور.

وكيف كان ففي المدارك وبعض ما تأخر عنها « أن إطلاق المشهور مناف لما صرح به الشيخ والمحقق والعلامة وغيرهم من جواز تناول الزكاة لمن كان له مال يتعيش به ، أو ضيعة يستغلها إذا كان بحيث يعجز عن استمناء الكفاية ، إذ مقتضاه أن من كان كذلك كان فقيرا وإن كان بحيث لو أنفق رأس المال المملوك لكفاه ـ إلى أن قال ـ: والمعتمد أن من كان له مال يتجر به أو ضيعة يستغلها فان كفاه الربح أو الغلة له ولعياله لم يجز له أخذ الزكاة ، وإن لم يكفه جاز له ، ولا يكلف الإنفاق من رأس المال ولا من ثمن الضيعة ، ومن لم يكن له ذلك اعتبر فيه قصور أمواله عن مئونة السنة له ولعياله » ‌

٣٠٨

والمحكي عن الأردبيلي أنه نسب إلى صريح الأصحاب جواز التناول إذا لم يكف الربح وإن كان رأس المال يكفيه ، لكنه تأمل فيه ، فإنه بعد أن أورد خبر هارون بن حمزة الذي ستسمعه قال : وظاهره أنه يأخذها وإن كان رأس المال يكفيه كما صرح به الأصحاب ، وفيه تأمل ، لعدم الصراحة والصحة مع مخالفته للأخبار الأخر.

قلت : الذي عثرنا عليه في المسألة من النصوص هو‌ خبر هارون (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ، فقال : لا تصلح لغني ، قال : فقلت له : الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعة وله عيال فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها قال : فلينظر ما يستفضل منها فيأكلها هو ومن وسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله » وصحيح معاوية بن وهب (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله عيال وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها أيكب فيأكلها ولا يأخذ الزكاة أو يأخذ الزكاة؟ قال : لا بلى ينظر إلى فضلها فيقوت بها نفسه ومن وسعه ذلك من عياله ، ويأخذ البقية من الزكاة ، ويتصرف بهذه لا ينفقها » وموثق سماعة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا « سألته عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال : نعم إلا أن يكون داره دار غلة فيخرج له من غلتها ما يكفيه وعياله ، فان لم تكن الغلة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم من غير إسراف فقد حلت له الزكاة ، وإن كانت غلتها تكفيه فلا » وخبر أبي بصير (٤) سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن رجل له ثمائمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

٣٠٩

كثيرة إله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال : يا أبا محمد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قال : نعم ، قال : كم يفضل؟ قال : لا أدري ، قال : إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة ، وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة » وخبره الآخر (١) قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره ، قلت : فان صاحب السبعمائة يجب عليه الزكاة فقال : زكاته صدقة على عياله ، فلا يأخذها إلا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة أنفذها في أقل من سنة ، فهذا يأخذها ، ولا تحل الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة » وموثق سماعة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قد تحل الزكاة لصاحب السبعمائة ، وتحرم على صاحب الخمسين درهما ، فقلت له : وكيف هذا؟ قال : إذا كان صاحب السبعمائة له عيال كثير فلو قسمها بينهم لم تكفه فليف عنها نفسه وليأخذها لعياله ، وأما صاحب الخمسين فإنه يحرم عليه إذا كان وحده وهو محترف يعمل بها وهو يصيب منها ما يكفيه السنة » وذيل خبر عبد العزيز (٣) الآتي.

وهي وإن كان بعضها مطلقا شاملا لمن يكفيه رأس المال سنة ومن لا يكفيه لكن قد يستفاد من‌ قوله عليه‌السلام في خبر أبي بصير : « فلا يأخذها إلا أن يكون » إلى آخره اعتبار قصور رأس المال عن كفاية السنة ، وكذا موثق سماعة ، نعم إطلاقها بالنسبة إلى ثمن الضيعة لا معارض له ، فلو فرض أن نماءها لا يكفيه لسنته حل له أن يأخذ الزكاة وإن كان ثمنها لو باعها يكفيه سنين ، مع أنه لا يخلو من إشكال في بعض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢ وفي ذيله « ما يكفيه إن شاء الله ».

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

٣١٠

الأفراد ، كما إذا كان عنده ضيعة ذات ثمن عظيم لبعض الأحوال التي لا مدخلية لها في النماء ويمكنه بيعها وشراء ضيعة أخرى بثمنها تقوم بمئونته سنة أو أزيد ، فإن الزكاة لمثله قد يتوقف في حلها ، بل يمكن دعوى عدم شمول النصوص لذلك ، حملا لها على المتعارف.

وعلى كل حال فالأمر في الضيعة هين ، أما رأس المال فقد عرفت ظهور بعض النصوص في أن المدار على ربحه لا عليه ، وسمعت نسبته إلى الأصحاب ، كما أنك عرفت ظهور بعض النصوص في خلاف ذلك ، مضافا إلى ما يظهر من الأصحاب في تعريف الفقر والغني بملك ما يمون به نفسه وعياله سنة وعدمه ، وإلى عد العرف لبعض الأفراد في سلك الأغنياء ، كما لو كان رأس مالهم لكوكا لكن نماؤه يقصر عن مؤونتهم ، إلا أنهم لو أرادوا الصرف من رأس المال كفاهم سنين متعددة ، بل يمكن أن يكفيهم تمام أعمارهم ، فإن حل الزكاة لأمثالهم كما ترى ، فلو جعل المدار على قصور الربح وعدم عده غنيا عرفا برأس ماله كان قويا ، وربما يؤيده أن أكثر الموجود في النصوص فرض رأس المال الثمانمائة درهم ، ومثلها مع قصور ربحها عن مئونة السنة لا يعد كونه غنيا بها ، بخلاف الآلاف المتعددة ، وعلى كل حال لا بد من ملاحظة أمر آخر ، وهو أن المراد استعداد قصور رأس المال لعدم كفاية ربحه ، فلا عبرة بالاتفاق في بعض السنين لبعض العوارض فلا تحل الزكاة بمجرد القصور في تلك السنين ، فتأمل جيدا فان هذه المسائل ونظائرها غير محررة في كلام الأصحاب ، بل قد يأتي نحو ما ذكرنا في الضيعة ، بل ربما مال إليه في الروضة بعد أن حكاه قولا ، قال : والمعتبر في الضيعة ، نماؤها لا أصلها في المشهور ، وقيل : يعتبر الأصل ، ومستند المشهور ضعيف ، وكذا الصنعة بالنسبة إلى الآلات ، فتأمل ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( من يقدر على اكتساب ما يمون نفسه وعياله على ) وجه‌

٣١١

يليق بحاله لا تحل له ، لأنه كالغني وكذا ذو الصنعة اللائقة بحاله التي تقوم بذلك كالتجارة والحياكة ونحوهما بلا خلاف معتد به أجده في الأخير ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل والأول إذا كان محترفا فعلا ، نعم عن الخلاف أنه حكى عن بعض أصحابنا جواز الدفع للمكتسب من غير اشتراط لقصور كسبه ، ولعله لكونه غير مالك للنصاب ولا لقدر الكفاية ، فجاز له الأخذ كالفقير ، وفيه أن الفقير محتاج إليها بخلاف الفرض كما هو واضح ، وبالجملة لا ينبغي التأمل في ذلك خصوصا مع ملاحظة النصوص والفتاوى ، أما إذا لم يكن محترفا فعلا إلا أنه قابل لاكتساب ذلك فلا يخلو من إشكال ينشأ من اختلاف عبارات الأصحاب في المقام ، لظهور جملة منها في اعتبار كونه محترفا فعلا ، وأخرى في الاكتفاء بقدرته على ذلك ، قال الشيخ في النهاية : « ولا يجوز أن يعطى الزكاة لمحترف يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده وأود عياله ، فان كانت حرفته لا تقوم به جاز أن يأخذ ما يتسع به على أهله ، ومن ملك خمسين درهما يقدر أن يتعيش بها بقدر ما يحتاج إليه في نفقته لم يجز له أن يأخذ الزكاة ، وإن كان سبعمائة وهو لا يحسن أن يتعيش بها جاز له أن يقبل الزكاة ، ويخرج ما يجب عليه فيما يملكه من الزكاة ليتسع به على عياله » وفي التحرير « لو كان ذا كسب يكتسبه حرم عليه أخذها ، ولو كان كسبه يمنعه من النفقة في الدين فالأقرب عندي جواز أخذها ، ولو كان معه ما يمون به عياله ونفسه بعض السنة جاز أن يتناولها من غير تقدير ، وقيل : لا يتجاوز » وفي الدروس « ويمنع من يكتفي بكسبه ولو ملك خمسين ، كما لا يمنع من لا يكتفي به ولو ملك سبعمائة ، وكذا ذو الصنعة والضيعة ، ولو كان أصلها يقوم به دون النماء استحق ، وهل يأخذ تتمة السنة أو يسترسل الأخذ قولان ، ولو اشتغل بالنفقة أو محصلاته عن التكسب جاز الأخذ » وفي البيان « ويعطى ذو الحرفة والصنعة إذا قصرتا عن حاجته‌

٣١٢

أو شغلاه عن طلب العلم على الأقوى » إلى غير ذلك من العبارات الظاهرة في المحترف فعلا.

وفي المقنعة « لا تجوز الزكاة في اختصاص الصفتين إلا لمن حصلت له حقيقة الوصفين ، وهو أن يكون مفتقرا إليها بزمانه يمنعه من الاكتساب أو عدم معيشة تغنيه عنها فيلتجئ إليها للحاجة والاضطرار » وفي الغنية « وأن لا يكون ممن يمكنه الاكتساب لما يكفيه ـ إلى أن قال ـ : بدليل الإجماع المتكرر وطريقة الاحتياط ، وقد‌ روي (١) من طرق المخالف « لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي » وفي رواية أخرى (٢) ولا لذي قوة مكتسب » وفي السرائر « وأن لا يقدر على الاكتساب الحلال بقدر ما يقوم بأوده وسد خلته » إلى غير ذلك من العبارات الظاهرة في الاكتفاء بالقدرة على الاكتساب ، بل في المدارك في شرح المتن نسبته إلى الشهرة ، وفي مفتاح الكرامة في شرح قول الفاضل في القواعد : « ويمنع القادر على تكسب المئونة بصنعة أو غيرها » « هذا مما لا خلاف فيه كما في تخليص التلخيص إلا ما حكاه في الخلاف ، وهو مع عدم معروفيته نادر ».

وأما النصوص فالذي عثرنا عليه منها مضافا إلى بعض النصوص السابقة‌ صحيح زرارة (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : إن الصدقة لا تحل لمحترف ولا لذي مرة سوي قوي ، فتنزهوا عنها » وفي‌ خبر معاوية بن وهب (٤) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يروون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تصلح لغني » وكأنه إليه أشار‌ الصدوق في الفقيه بقوله : قيل (٥) للصادق عليه‌السلام : « إن الناس يروون‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ١٣.

(٢) سنن البيهقي ج ٧ ص ١٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٥.

٣١٣

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي فقال عليه‌السلام : قد قال لغني ولم يقل لذي مرة سوي » وفي‌ خبر زرارة (١) المروي عن معاني الأخبار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ولا لمحترف ولا لقوي ، قلنا : ما معني هذا؟ قال : لا يحل له أن يأخذها وهو يقدر على ما يكف نفسه عنها » والخبر الأخير منها ظاهر في موافقة الثاني ، لكن الأول فيه إشعار بالكراهة لا الحرمة ، فيمكن حمل نفي الحل فيه للقوي عليها ، كما أن الظاهر من إنكاره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك جواز تناولها لذي القوة ، لكن في الوافي جعل الوجه فيه « أن ذكر الغني يغني عن ذكر ذي المرة السوي ، قال : ولذا لم يقله ، وذلك لأن الغني قد يكون بالقوة والشدة كما يكون بالمال ، ولو فرض رجل لا تغنيه القوة والشدة فهو فقير محتاج لا وجه لمنعه من الصدقة ، فبناء المنع على الغنى ليس إلا » وهو كما ترى ، والأولى حمله على ما قلنا ، فيدل على جواز إعطاء ذي القوة إذا لم يكن محترفا فعلا.

ويؤيد ذلك ما عساه يظهر من بعضهم من الإجماع على جواز إعطاء ذي الصنعة إذا أعرض عنها وترك التكسب بها ، وإطلاق الأدلة وترك الاستفصال في كثير منها ، والسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار على إعطائها للأقوياء القابلين للاكتساب اللهم إلا أن يحمل ذلك على حاجتهم الفعلية وإن كان ذلك بسبب تركه التكسب المقدور له ، أو على عدم العلم بكونه قادرا على تكسب ما يمون به نفسه وعياله ، ضرورة أعمية الاحتراف من ذلك ، فمجرد قابليته للتكسب وقوته عليه لا يقضي بقدرته على تكسب مئونته ، إذ ربما لا يربح بل قد يخسر.

لكن الأقوى في النظر الجواز مطلقا وإن كان الأولى له التنزه عنها إذا لم يكن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٨.

٣١٤

مشغولا بطلب العلم على وجه لا يمكنه الاجتماع مع الكسب ، قال في المحكي عن نهاية الأحكام والمنتهى والتحرير وغيرها : « لو كان التكسب يمنعه عن التفقه في الدين جاز أخذها ، لأنه مأمور به إذا كان من أهله » نعم في الأول « لو كان لا يتأتى له تحصيل العلم لبلادته لم تحل له الزكاة مع القدرة على التكسب ، وكذا لو اشتغل بنوافل العبادة وكان التكسب يمنعه عن استغراق الوقت بها لم تحل له الصدقة ، لأن قطع الطمع عما في أيدي الناس أولى » ونحوه عن الإيضاح والمهذب البارع ، بل عن الأخير « وكذا لو اشتغل بالرياضات لا تحل له ، وأما ما زاد على الواجب على التفقه فان كان طالبا لدرجة الاجتهاد أو قد بلغها وتحتاج الناس إلى التعلم منه جاز له ترك التكسب ، وإن كان يعلم أنه لا يبلغ درجة الاجتهاد وكان في ازدياد ويعلم حاجة الناس إلى القدر الذي عنده جاز له الاشتغال بالتعلم والتعليم عن التكسب ، وإلا فلا ».

قلت : لا يخفى عليك عدم اعتبار شي‌ء من ذلك على ما ذكرناه ، لما عرفت من صدق اسم الفقير عليه بمجرد عدم ملكه لما يمون نفسه وعياله سنة ، وعدم تلبسه بما يقوم بذلك ، ولا تكفي القدرة عليه إذا لم يكن متلبسا به عازما عليه ، ومن هنا كان البحث عن كثير من الفروع السابقة غير متجه ، وإلا كان للنظر فيها مجال ، خصوصا مع ملاحظة الوجوب الكفائي في العلم وعدمه ، وأمكن المناقشة في جواز التناول مع عدم الوجوب ، وفي غير ذلك مما لا يخفى ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وعلى كل حال فقد اتضح لك عدم الجواز إذا لم يقصر الحرفة أو الصنعة عن مئونته وأنه لو قصرت عن كفايته جاز له أن يتناولها بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه ، بل النصوص التي تقدم شطر منها ظاهرة أو صريحة فيه ، إنما الخلاف والاشكال في تقدير الأخذ للقاصر وعدمه ، فـ ( قيل )كما حكاه غير واحد يعطى ما يتمم كفايته واستحسنه الشهيد في البيان والأكثر ، بل المشهور أنه ليس‌

٣١٥

ذلك شرطا فيعطى ما يراد أن يعطى ولو زاد على غناه كالفقير غير المكتسب ، لإطلاق الأمر بالإعطاء ، وقول الصادق عليه‌السلام في صحيح سعيد بن غزوان (١) لما سأله « كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة؟ فقال : أعطه من الزكاة حتى تغنيه » وفي‌ موثقة عمار الساباطي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل « كم يعطى الرجل من الزكاة؟ فقال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا أعطيت فأغنه » وقال أبو بصير (٣) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن شيخا من أصحابنا يقال له عمر سأل عيسى بن أعين وهو محتاج فقال له عيسى بن أعين : أما أن عندي من الزكاة ولكن لا أعطيك منها فقال له : ولم؟ فقال : لأني رأيتك اشتريت لحما وتمرا ، فقال : إنما ربحت درهما فاشتريت بدانقين لحما وبدانقين تمرا ثم رجعت بدانقين لحاجة ، قال : فوضع أبو عبد الله عليه‌السلام يده على جبهته ساعة ثم رفع رأسه ثم قال : إن الله تبارك وتعالى نظر في أموال الأغنياء ثم نظر في الفقراء فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به ، ولو لم يكفهم لزادهم ، بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويتزوج ويتصدق ويحج » وموثق إسحاق بن عمار (٤) « قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهما قال : نعم وزده ، قلت : أعطيه مائة قال : وأغنه إن قدرت أن تغنيه » وموثقه (٥) الآخر « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطي الرجل من الزكاة مائة درهم قال : نعم قلت : مائتين قال : نعم ، قلت : ثلاثمائة قال : نعم ، قلت : أربعمائة قال : نعم ، قلت : خمسمائة قال : نعم حتى تغنيه » إلى غير ذلك من النصوص المرخصة في الإغناء الذي من أفراده الإغناء سنين متعددة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ٧.

٣١٦

لكن في البيان « وما ورد في الحديث من الإغناء بالصدقة محمول على غير المتكسب » ورده في المدارك بأن هذا الحمل ممكن إلا أنه يتوقف على وجود المعارض ، ولم نقف على نص يقتضيه ، نعم ربما أشعر به مفهوم‌ قوله عليه‌السلام في صحيح معاوية بن وهب (١) : « ويأخذ البقية من الزكاة » لكنها غير صريحة في المنع من الزائد ، ومع ذلك فمورد الرواية من كان معه مال يتجر به وعجز عن استنماء الكفاية لا ذو الكسب القاصر ، قلت : هذا الإشعار مؤيد بما يظهر من رواية هارون بن حمزة (٢) وموثق سماعة (٣) وغيرهما من النصوص الظاهرة في الرخصة في أخذ البقية خاصة من الزكاة ، والظاهر حجة شرعية كالصريح ، بل يؤيده ما دل (٤) على أن الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم ، حيث علل عدم استحقاقهم الزائد باكتفائهم بالناقص ، وما دل (٥) على أن للفقير الذي عنده قوت شهر أن يأخذ قوت سنة ، لأنها من سنة إلى سنة ، الظاهر في أن منتهى الرخصة ذلك ، والمناقشة في هذه باقتضائها عدم الفرق بين المكتسب القاصر كسبه وغير المكتسب يدفعها أن التحقيق ذلك إن لم يكن إجماعا ولم أتحققه ، وإن كان ستسمعه من العلامة ، بل ربما ادعاه بعض أهل الظاهر من أهل العصر تمسكا ببعض العبارات ، لكن وصول الدال منها على المطلوب إلى حد الإجماع واضح المنع ، ضرورة كون جملة منها كنصوص الإغناء التي لا دلالة فيها على المطلوب عند التأمل ، ضرورة صدقه على كفاية السنة ، ودعوى كون المراد منه الأعم من ذلك يمكن منعها ، بل هي عند التدبر دالة على خلاف المطلوب ، ومن هنا قال الفاضل الأصبهاني إنه لا دلالة فيها ، لأن الإغناء يحصل بالتتمة ، وما زاد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٧.

٣١٧

عليها شي‌ء زائد على الإغناء ، ودعوى تحصيل الإجماع مع ما يظهر من عبارة المصنف وغيرها من كون محل الخلاف ذا الكسب القاصر دون غيره كما ترى ، بل في المدارك ربما ظهر من كلام العلامة في موضع من المنتهى تحقق الخلاف في غيره أيضا ، فإنه قال : « لو كان معه ما يقصر عن مئونته ومئونة عياله حولا جاز له أخذ الزكاة ، لأنه محتاج ، وقيل : لا يأخذ زائدا عن تتمة المئونة حولا ، وليس بالوجه » لكنه حكى عنه في موضع آخر منه أيضا أنه قال : « يجوز أن يعطى الفقير ما يغنيه وما يزيد على غناه ، وهو قول علمائنا أجمع » وبالجملة إن تحقق هذا الإجماع فهو ، وإلا كان المنع قويا جدا ، خصوصا مع الإجحاف بغيره من الفقراء ، بل يمكن دعوى معلومية إنكار إعطاء الخمس أو الزكاة فقيرا واحدا من الشرع ، فتأمل جيدا فيما وصل إليك من النصوص ، والمعلوم من طريقة الشرع.

وليعلم أن ذلك كله في الإعطاء دفعة ، أما إذا أريد إعطاؤه دفعات فلا إشكال في عدم جواز ما زاد منها على كفاية السنة ، ضرورة صيرورته غنيا بالدفعة الأولى مثلا فلا يجوز إعطاؤه حينئذ ، والله أعلم.

وعلى كل حال فقد بان لك أن من هذا الباب تحل الزكاة لصاحب الثلاثمائة بل السبعمائة بل الثمانمائة بل الأزيد من ذلك إذا كان ربحها لا يقوم بمئونته وتحرم على صاحب الخمسين فما دون مع قيام الربح بها اعتبارا بعجز الأول عن تحصيل الكفاية وتمكن الثاني كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا ، وسمعت النصوص الدالة عليه ، والله أعلم.

ويعطى الفقير ولو كان له دار يسكنها أو خادم يخدمه إذا كان لا غنى له عنهما ولو لشرفه بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، وفي‌ الصحيح عن عمر‌

٣١٨

ابن أذينة (١) عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام « أنهما سئلا عن الرجل له دار أو عبد أو خادم يقبل الزكاة قال : نعم ، إن الدار والخادم ليسا بمال » وفي‌ خبر عبد العزيز (٢) قال : « دخلت أنا وأبو بصير على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له أبو بصير : إن لنا صديقا وهو رجل صدق يدين الله بما ندين به ، فقال : من هذا يا أبا محمد الذي تزكيه؟ فقال : العباس بن الوليد بن صبيح ، فقال : رحم الله الوليد بن صبيح ما له يا أبا محمد؟ قال : جعلت فداك له دار تسوى أربعة آلاف درهم ، وله جارية وله غلام يستقي على الجمل كل يوم ما بين الدرهمين إلى الأربعة سوى علف الجمل ، وله عيال إله أن يأخذ من الزكاة؟ قال : نعم ، قال : وله هذه العروض فقال : يا أبا محمد أتأمرني أن آمره ببيع داره وهي عزه ومسقط رأسه أو ببيع جاريته التي تقيه الحر والبرد ، وتصون وجهه ووجه عياله ، أو آمره ببيع غلامه أو جمله وهو معيشته وقوته بل يأخذ الزكاة وهي له حلال ، ولا يبيع داره ولا غلامه ولا جمله » وهما ظاهران في استثناء كل ما يحتاج اليه كفرس الركوب وثياب التجمل اللتين نص على إلحاقهما الفاضل في المحكي من تذكرته ، قائلا إنه لا يعلم في ذلك كله خلافا ، والظاهر إرادته منهما المثال لكل ما يحتاجه حتى كتب العلم ونحوها مما تمس الحاجة اليه ، ولا يخرج بملكها عن حد الفقر إلى الغني عرفا ، بل الظاهر أن منها ما يحتاج إليه لعزة وشرفه ، هذا.

وفي المدارك « أنه لو كانت دار السكنى تزيد عن حاجته بحيث تكفيه قيمة الزيادة حولا وأمكنه بيعها منفردة فالأظهر خروجه بذلك عن حد الفقر ، أما لو كانت حاجته تندفع بأقل منها قيمة فالأظهر أنه لا يكلف بيعها وشراء الأدون ، لإطلاق النص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٢.

(٢) ذكر ذيله في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ٣ وتمامه في فروع الكافي ج ١ ص ٥٦٢ المطبوعة عام ١٣٧٧.

٣١٩

ولما في التكليف بذلك من العسر والمشقة ، وبه قطع في التذكرة ـ ثم قال ـ : وكذا الكلام في العبد والفرس ، ولو فقدت هذه المذكورات استثني له أثمانها مع الحاجة إليها ، ولا يبعد إلحاق ما يحتاج إليه في التزويج بذلك مع حاجته اليه » وفيه أن إطلاق النص يقتضي عدم الفرق بين الزيادتين لحمله على المتعارف من عدم الزيادة ، وكذا الكلام في العبد والفرس ، وأما استثناء الأثمان فلا يخلو من وجه ، ضرورة صدق الحاجة إليها ، فتندرج في المئونة من غير فرق في ذلك بين الحاجة إليها للعجز أو للعز ، ولعله لذا جزم ثاني الشهيدين وثاني المحققين بالإبدال مع الزيادة ، وهو جيد لما عرفت ، فالمدار حينئذ على عادته أو حاجته ، وقد يجتمعان وقد يفترقان ، ولا وجه لاعتبارهما جميعا كما عن بعضهم ولا للاقتصار على الأولى كما عن آخر ، نعم لا بأس بالاقتصار على الثانية مع إرادة عمومها للأولى ، ولا فرق معها بين المتحد والمتعدد ، وما في بعض الكتب من أن الظاهر عدم اعتبار العادة في تعدد فرس الركوب ، لعدم نقص قدر الشريف في الاقتصار على فرس واحد فيه ما لا يخفى ، وبالجملة المدار على ما يناسب حاله حاجة وعزا في جميع ذلك كما وكيفا ، ويختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة ، والله أعلم.

ولو ادعى الفقر فان عرفت صدقه أو كذبه عومل بما عرف منه بلا خلاف ولا إشكال ولو جهل الأمران أعطي من غير يمين سواء كان قويا أو ضعيفا بلا خلاف معتد به أجده ، بل في المدارك هو المعروف من مذهب الأصحاب ، بل ظاهر المعتبر والعلامة في كتبه الثلاثة أنه موضع وفاق ، نعم في المبسوط « لو ادعى القوي الحاجة إلى الصدقة لأجل عياله ففيه قولان ، أحدهما يقبل قوله بلا بينة ، والثاني لا يقبل إلا ببينة لأنه لا يتعذر ، وهذا هو الأحوط » لكن في المختلف الظاهر أن مراد الشيخ بالقائل من الجمهور ، وعلى كل حال فقد استدل عليه بعضهم بالأصل ، وهو ـ مع أنه لا يتم فيمن‌

٣٢٠