جواهر الكلام - ج ١٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وإيضاح ذلك أن السقي يقع على أنحاء لا يعدوها : الأول أن يكون فيه النفع التام ، فإن كان من السيح والدوالي على السواء أو بتفاوت يسير فالواجب ثلاثة أرباع ، فإن كان أحدهما أغلب حتى يكون الآخر في جنبه نادرا ندرة تلحقه بالعدم فالحكم حينئذ منوط بالأغلب ، تنزيلا للنادر منزلة المعدوم ، الثاني أن يكون السقي مضرا بالزرع على اختلاف مراتب الضرر ، إذ ربما لزم من السقي تلف الزرع أو أكثره ، الثالث أن لا يكون مضرا ولا نافعا بل يكون كالعبث أو عبثا ، الرابع أن يكون فيه نفع يسير جدا ويكون النمو والتكون والتعيش إنما هو من جهة أخرى كالجذب بالعروق مثلا ، ولا ريب أن‌ قولهم عليهم‌السلام : ما سقي بكذا ففيه العشر‌ إلى آخره ، إنما ورد على القسم الرابع والأول أن كانا من سنخ واحد ، وهذا أمر واضح لا مجال للإشكال فيه ، إذ من المعلوم أن الأخبار ليس موردها ما كان فيه نفع يسير جدا وإن دام السقي به طول السنة ، فما أظنك بما اشتمل على ضرر أو كان عبثا ، إذ لا يرتاب أحد في أن قوله عليه‌السلام : « فيما سقت » ليس واردا فيما إذا كان نفع الزرع بسقي السماء يسيرا جدا بحيث يعد نادرا وإن طالت مدته بالنسبة إلى السقي بالدوالي مثلا الكثير النفع الذي لولاه لما حصل التعيش المعتد به ، وكذلك الحال في العكس ، لا يقال : إنه قد يكون هناك نادر يكون له نفع عظيم في النمو أو الحفظ والتعيش بحيث يساوي نفعه الغالب أو يزيد عليه ، لأنا نقول : مع أنه فرض نادر لو تحقق كان معتدا به ، فان ساوى الأول قسط ، وإن زاد عليه زيادة توجب للأول عدم الاعتداد به فالحكم له ، إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا ينبغي الالتفات إليها إذا لم يكن مبناها على ما ذكرنا لما عرفت ، ويمكن أن يكون هذا البحث منهم لتحقيق الصدق الذي قلناه وحينئذ فلا ريب في أن الأخير أقربها ، بل يمكن أن يقال بعد التأمل مرجعه إلى ما قلناه ، وبملاحظته يندفع ما عن جامع المقاصد من التوقف والاشكال في خصوص ما لو كان حفظه أكثر من نموه ، كما إذا‌

٢٤١

قارب الزرع البلوغ وخيف عليه اليبس لولا السقي بعد أن اختار كون العبرة النمو في أصل المسألة ، بل وما في البيان أيضا حيث قال : ولو تقابل العدد والزمان فإشكال ، كما لو سقي بالنضح مرة واحدة في أربعة أشهر ، وبالسيح ثلاثا في ثلاثة أشهر ، فإن اعتبرنا العدد فالعشر ، وإلا فنصفه ، لما عرفت من أن المدار على الصدق المزبور الذي لا يختلف فيه الفروض المزبورة ، ولو فرض حصول الشك في بعض الموضوعات فلا ريب في أن الواجب الاقتصار على المتيقن ونفي الزائد بأصل البراءة ، والاحتياط أولى قطعا ، هذا ومن المعلوم أنه لا عبرة بالأمطار العادية في أيام السنة ، وإلا لم يبق ما يجب فيه نصف العشر ، نعم لو اتفق حصول الاستغناء بها عن العلاج بحيث ساواه أو نسب إليه جرى عليه الحكم ، وفي كثير من البلدان يبلغ الزرع من مجرد نزول المطر عليه مرة أو مرتين من دون حاجة إلى سقي آخر أصلا ، ولعل ذلك داخل في العذي.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر لك ما في كشف الأستاذ ، فإنه اختار كون المدار على الأغلب زمانا لا عددا ولا نفعا ، وهو أضعف الوجوه عند التأمل ، ثم قال : « ولو كان الزرع مشتركا واختلف الشركاء في كيفية السقي كان على من سقى موافق حصته من غير علاج العشر ، وعلى الثاني نصفه » وفيه أن المدار على صدق الزرع نفسه ، فلا مدخلية للزارعين ، اللهم إلا أن يكون فهم من النصوص السابقة علية العلاج في نصف العشر وعدمها في العشر ، وقال أيضا : « ولو سقي بالماءين دفعة بنهرين أو نهر واحد لوحظ الاختلاف في القلة والكثرة ، وحكم الشك علم مما تقدم ، ولو سقي زرع بالدوالي مثلا فجرى الزائد على زرع آخر من دون علاج احتمل فيه الوجهان ، ولعل نصف العشر أقوى ، ولو أخرج الماء بالدوالي مثلا على أرض ثم زرعت فكان الزرع بعلا احتمل أيضا الوجهان ، والأقوى نصف العشر ولو سقي البعل أو العذي بالدوالي عفوا من غير تأثير لزم العشر ، وبالعكس العكس ، ولو شك في كيفية السقي هو من موجب العشر‌

٢٤٢

أو من غيره بني على الثاني ، والأحوط الأول » انتهى ، وهو جيد في البعض محل للنظر في الآخر ، خصوصا مع ملاحظة ما ذكره أولا ، والله هو العالم.

المسألة الثانية إذا كان له نخيل أو زروع في بلاد متباعدة يدرك بعضها قبل بعض ضم الجميع وكان حكمها حكم الثمرة في الموضع الواحد بلا خلاف أجده فيه ، لإطلاق الأدلة وعمومها ، بل في محكي التذكرة « وجوب ضم بعض ثمر النخل والزرع إلى بعض سواء طلع دفعة أو أدرك دفعة أو اختلف الأمران مما أجمع عليه المسلمون » وفي محكي المنتهى « لو كان له نخل يتفاوت إدراكه بالسرعة والبطء فإنه يضم الثمرتان إذا كانا لعام واحد وإن كان بينهما شهر أو شهران أو أكثر ، ولا نعرف في هذا خلافا » وفي المدارك « أن من ذلك يعلم أن تسوية المصنف بين اطلاع الجميع دفعة وإدراكه دفعة واختلاف الأمرين بيان الواقع لا رد على مخالف كما ذكره جدي قدس‌سره » قلت : يحكى عن الميسي أنه ذكر كما ذكر جده أيضا ، والأمر سهل.

وكيف كان فقد ظهر مما سمعت أن ما أدرك وبلغ نصابا أخذ منه ثم يؤخذ من الباقي قل أو كثر ، وإن سبق ما لا يبلغ نصابا تربصنا في وجوب الزكاة إدراك ما يكمل نصابا سواء أطلع الجميع دفعة أو أدرك الجميع دفعة أو اختلف الأمران نعم يعتبر بقاء الناقص عن النصاب على اجتماع شرائط الزكاة من الملكية ونحوها إلى أن يدرك ما يكمله كذلك ، كما هو واضح.

المسألة الثالثة إذا كان له نخل يطلع مرة وآخر يطلع في عام واحد مرتين قيل : لا يضم الثاني إلى الأول ، لأنه في حكم ثمرة سنتين ، وقيل : يضم ، وهو الأشبه عند المصنف والأشهر ، بل المشهور كما قيل ، لإطلاق الأدلة ، وكونه باعتبار اتحاد العام كالبستانين المختلف إدراك ثمرتهما أو طلوعها ، خلافا للمبسوط والوسيلة فلا يضم ، لأنهما بحكم ثمرة سنتين ، وللأصل ، ورد بمنع الأول وقطع الثاني ، لكن الانصاف عدم خلو‌

٢٤٣

المسألة عن إشكال ، ضرورة عدم تعليق الحكم في شي‌ء من النصوص على اتحاد المال بمجرد كونه في عام واحد ، وأهل العرف لا يشكون في صدق التعدد عليهما ، خصوصا إذا حصل فصل بين الثمرتين بزمان معتد به ، وما حال ذلك إلا كحال الثمرة التي أخرجت معجزة في تلك السنة ، ولعله لذا اقتصر في محكي البيان والدروس والمصابيح على نقل القولين من دون ترجيح ، هذا. ولو قال المصنف : « إذا كان له نخل يطلع في السنة مرتين قيل : لا يضم » إلى آخره لكان أظهر ، ولعله عبر بما سمعت تنبيها على عبارة المحكي عن المبسوط ، فإنه قال : « وإن كان له ثمرة بتهامة وثمرة في نجد فأدركت التهامية وجذت ثم أطلعت النجدية ثم أطلعت التهامية مرة أخرى لا يضم النجدية إلى التهامية الثانية ، وإنما تضم إلى الأولى ، لأنهما لسنة واحدة ، والتهامية الثانية لا تضم إلى الأولى ولا إلى النجدية ، لأنهما في حكم سنتين » نعم عن الوسيلة الاقتصار على المسألة الأولى أي النخل الواحد الذي يطلع مرتين ، والغرض بيان الحال ، وإلا فلا فرق ، والله أعلم.

المسألة الرابعة لا يجزي أخذ الرطب عن التمر ولا العنب عن الزبيب كما صرح به جماعة لا لنقصانه عند الجفاف بل لعدم كونه من أفراد المأمور به ، فلا يجزي فريضة وإن بلغ قدر الواجب عند الجفاف ، نعم له دفعة قيمة بناء على جوازها من غير النقدين ولا رجوع فيه حينئذ وإن نقص ، وما عن المنتهى ـ من إجزائه عنه فريضة إذا كان بحيث لو جف لكان بقدر الواجب من التمر لتسميته تمرا لغة ـ واضح المنع ، مع أنه لو تم لاقتضى إجزاءه مطلقا ، أما لو أخرجهما عنهما بناء على تعلق الزكاة فيهما أجزأ قطعا ، لصدق الامتثال ، وقوله عليه‌السلام (١) : « إذا خرصه أخرج زكاته ».

وقد ظهر لك مما ذكرنا أنه لو أخذه الساعي وجف ثم نقص رجع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ١.

٢٤٤

بالنقصان ضرورة عدم جواز الأخذ فريضة ، فهو حينئذ باق على ملك مالكه ، فمع فرض صيرورته زبيبا أو تمرا وأراد المالك حينئذ دفعه عما عليه صح وطولب بنقصانه كما أن له المطالبة بزيادته لو كانت ، بل لو أراد المطالبة به لعدم خروجه عن ملكه كان له ، بل كان من الواجب على الساعي إرجاعه إلا إذا رضي المالك ببقائه ، ومن هنا اتجه ضمانه على الساعي لو تلف في يده ، لأنه كالمقبوض بالعقد الفاسد ، بل هو مما يشمله قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، قال في البيان ومحكي المبسوط : « لو أخذه الساعي كذلك وجب رده ، فان تلف ضمنه ، ولو جف فنقص طالب » إلى آخره. وربما يشكل ضمانه فيما لو علم الدافع بالفساد دون الساعي بأن المالك هو الذي غرر بماله وسلط عليه ، بل ومع علمهما معا به ، لكن يدفع بتقييد إذن المالك بالصحة وإن كانت ممتنعة ، وتحقيق المسألة يأتي في محلها إن شاء الله ، وظهر لك أيضا أنه لا يجزي أيضا دفع التمر عن الرطب ولا الرطب عن البسر ولا الزبيب عن العنب ولا العنب عن الحصرم لاتحاد المدرك في الجميع ، وهو عدم صدق الامتثال.

وأما الكلام في الجودة والرداءة فقد تقدم في الأنعام ما يعلم منه الحال في المقام لكن في التذكرة هنا « الثمرة إن كانت جنسا واحدا أخذ منه سواء كان جيدا أو رديا ولا يطالب بغيره ، ولو تعددت الأنواع أخذ من كل نوع بحصته ، لينتفي الضرر عن المالك بأخذ الجيد وعن الفقراء بأخذ الردي ، وهو قول عامة أهل العلم ، وقال مالك والشافعي إذا تعددت الأنواع أخذ من الوسط » قلت : قد يفرق بين ما هنا وما تقدم بالتكليف هناك باسم الفريضة من الشاة ونحوها بخلاف ما هنا ، فان الواجب فيه الحصة المشاعة ، فينبغي مراعاة قاعدة الشركة هنا ، ومقتضاها ما سمعته من التذكرة ، اللهم إلا أن يقال بقرينة جواز دفع غير العين أن المراد من العشر مثلا مقدار العشر ، فيكون حينئذ كاسم الفريضة في إجزاء مطلق التمر ، نعم لا يدفع خصوص الردي منه لقوله‌

٢٤٥

تعالى (١) ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ) وما دل (٢) على عدم خرص الجعرور والمعافارة لرداءة تمرهما ، بل ورد (٣) أنهم كانوا يأتون بهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زكاة عما عندهم من التمر الجيد ، وقد وقع ذلك منهم مكررا من غير حياء من أحد منهم فأنزل الله تعالى الآية ، ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن خرصهما ، بل من أعطى التأمل حقه في الآية وفيما ورد من النصوص في ذلك جزم باجزاء مطلق الطيب من التمر ولا يلتفت إلى قاعدة الشركة ، خصوصا بعد ملاحظة السيرة في عدم إلزام المالك الدفع من جنس جميع ما عنده من أنواع التمر ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك أن المراد بعدم إجزاء الرطب عن التمر مثلا على جهة كونه فريضة أما قيمة فلا إشكال في الجواز كغيره من الأجناس الزكوية وغيرها ، بناء على جواز دفع القيمة من غير النقدين ، ولا ربا في متحد الجنس بعد أن لم يكن ذلك من المعاوضة ، بل هو من قبيل امتثال التكليف ، ولذا لم يعتبر التراضي في دفع القيمة ، ولو اقتضت المصلحة قبول الردي مثلا كان للحاكم القبول باعتبار ولايته على الفقراء ، والله أعلم.

المسألة الخامسة إذا مات المالك وعليه دين فظهرت الثمرة وبلغت نصابا قبل قضاء الدين لم يجب على الوارث زكاتها كما عن المنتهى ، لعدم ملكه ، إذ التركة قبل الوفاء على حكم مال الميت الذي انقطع عنه الخطاب بموته ، فلا زكاة حينئذ ، لكن فيه أنه إن تم ففي المستوعب لا مطلق الدين ، فانا لا نعرف قائلا معتدا به ببقاء التركة جميعها على حكم مال الميت بمجرد الدين المفروض كونها أضعافه كما اعترف به في المدارك بل المعروف دخول ما زاد على الدين في ملك الوارث أو دخول الجميع في ملكه ، والمتجه على الأول فضلا عن الثاني الذي هو الأقوى كما حققناه في محله وجوبها على الوارث مع‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٢٦٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الغلات.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الغلات.

٢٤٦

فرض بلوغ حصته بعد الوفاء النصاب ، لإطلاق الأدلة ، ودعوى أن الزائد في الفرض وإن كان ملكا له إلا أنه محجور عليه فيه ، لتعلق الدين بالتركة تعلق رهانة أو أرش جناية أو تعلقا مستقلا ، فتسقط الزكاة عنه لذلك ، يدفعها أولا أن ذلك في الأصول دون الثمرة المفروض ظهورها في ملكه ، وثانيا منع الحجر عليه فيه ، وقيامه مقام المقابل لو تلف قبل قضاء الدين به أعم من ذلك ، على أنه لا دليل على سقوط الزكاة بتعلق الأرش أو التعلق المستقل ، ضرورة عدم اقتضائهما المنع من التصرف ، بل قد عرفت عدم اقتضاء تعلق الرهانة ذلك مع القدرة على الفك عند جماعة.

ومن ذلك يعلم الحال في المستوعب بناء على ما حققناه في محله من انتقال التركة معه إلى الوارث ، وكون التعلق تعلقا مستقلا لم يثبت منعه للوارث من التصرف ، بل أقصاه تسلط الديان على الفسخ مع عدم وفائه الدين من غيرها ، وحينئذ فيتجه وجوب الزكاة عليه في الفرض ، لعدم كون الثمرة من التركة ، بل هي نماء ملك الوارث ، بل وفيما لو كان موته بعد ظهورها قبل بلوغ حد تعلق الزكاة ، لإطلاق الأدلة السالم عن المعارض كما عرفت ، بل الظاهر عدم غرامته قدرها للديان في الأخير ، لأنها كالتلف السماوي ونقص القيمة السوقية والنفقة على التركة ، بل هو ليس من تصرفاته حتى تكون مضمونة عليه ، ضرورة قهرية ملك الفقراء عليه ، ودعوى الفرق بوصول الثواب اليه عوضها بخلاف الأمور السابقة كما ترى ، لكن في البيان « الأقرب أنه يغرم العشر للديان لسبق حقهم ، نعم لو زادت الثمرة عن وقت الانتقال إليهم فلهم الزيادة ويتقاصان » وفيه أن سبق الحق بعد فرض عدم صلاحيته لمنع تعلق خطاب الزكاة لا يقتضي الغرامة ولو أبدل هذه الدعوى بدعوى منعه تعلق خطاب الزكاة لكان له وجه باعتبار كون التعارض بين الأدلة من وجه ، ثم قال : « وإذا قلنا بالتغريم ووجد الوارث ما لا يخرجه عن الواجب ففي تعينه للإخراج وجهان : أحدهما نعم ، لانه لا فائدة في الإخراج ثم‌

٢٤٧

الغرم ، والثاني لا ، لتعلق الزكاة بالعين فاستحق أربابها حصة منها » قلت : لا يخفى عليك قوة الثاني.

وقد بان لك من ذلك النظر في كلام المصنف وغيره حتى قوله ولو قضى الدين وفضل منها النصاب لم تجب الزكاة ، لأنها على حكم مال الميت الذي هو كالوصل للسابق المحمول على استيعاب الدين ، ويكون الفضل حينئذ باعتبار علو القيمة السوقية ونحوه ، فلا إشكال في العبارة حينئذ بناء على مختاره ، وإنما هو في أصل الاختيار ، لكن أطنب ثاني المحققين في فوائده على الكتاب في ذلك ، قال : اعلم أن قول المصنف : « ولو قضى » إلى آخره ، يقتضي أن تكون شعب المسألة ثلاثا : إحداها أن يكون الدين مستوعبا للتركة ، الثانية أن يكون غير مستوعب ويبقى بعد قضاء الدين نصاب لكنه لم يقض الدين ، الثالثة الصورة بحالها لكنه قضى ، فيلزم من هذا أن يفرق في الحكم مع عدم إحاطة الدين بالتركة بين القضاء وعدمه ، إلا أن الفرق غير مستقيم ، فإنه إنما ينظر إلى الوجوب وعدمه عند بدو الصلاح ، فان كان بحيث تتعلق به الزكاة حينئذ وجب ، وإلا فلا ، وليس للقضاء المتجدد بعد ذلك اعتبار ، ويمكن أن يحمل قول المصنف : « ولو قضى » على إرادة إمكان القضاء مع إبقاء بقية من التركة بعده تبلغ النصاب ، فيكون المراد أن الدين غير مستوعب للتركة ، ويكون قوله : « إذا مات المالك وعليه دين » منزلا على أن الدين مستوعب ، ويمكن أن يريد معنى آخر ، وهو أن الدين على تقدير أن لا يستوعب التركة ويبقى بعده نصاب فانا لو حكمنا بتعلق وجوب الزكاة به لم يحكم به قبل قضاء الدين ، لإمكان تلف بعض التركة بغير تفريط من الوارث قبل وصولها إلى يده ، فيكون الباقي متعينا لقضاء الدين ، ويتبين عدم وجوب الزكاة ، فيكون قضاء الدين وبقاء النصاب كاشفا عن الوجوب ، وقضاؤه بعد‌

٢٤٨

تلف العين وعدم بقاء النصاب كاشفا عن العدم ، وعلى هذا فيكون القضاء معتبرا من هذه الجهة ، فإن قلت : المصنف لا يرى الوجوب مطلقا ، لأنه يرى أن التركة على حكم مال الميت ، فلا ينظر إلى القضاء وعدمه عنده ، قلت : وإن كان لا يرى ذلك إلا أن عدم الوجوب إنما يستند إلى كون التركة على حكم مال الميت إذا انتفت جميع موانع الوجوب مثل استيعاب الدين للتركة وعروض التلف قبل قضائه ، فإذا وجد شي‌ء من هذه الموانع لم يكن عدم الوجوب مستندا إلى خصوص كون التركة على حكم مال الميت بل يعم القولين ، فلا بد من التقييد بانتفاء الموانع ، فيكون عدم الوجوب مستندا إلى ذلك ، ومن هذا يعلم أن قوله : « لأن التركة على حكم مال الميت » تعليل لقوله أخيرا « لم تجب الزكاة » وأما قوله قبل ذلك : « لم يجب على الوارث » فإنه معلل بأمر آخر ، وهو تعلق الدين بالتركة الموجب للحجر على الوارث فيها ، لأن الظاهر أن المراد هناك كون الدين مستغرقا ، ولقائل أن يقول : إن الوارث متى تمكن من التركة تعلق به وجوب الزكاة إذا كانت تفي بالدين ويبقى بعده نصاب وإن لم يضع يده عليها ، ولو تلف بعضها في هذه الحالة لم يسقط من الزكاة شي‌ء ، فلا يكون لاعتبار القضاء وجه.

وهي كما ترى متعبة عظيمة لا مقتضي لها ، مع أن فيها نظرا من وجوه ، وقد عرفت أن المراد من الدين فيها المستوعب ، ومن قوله : « ولو قضى » إلى آخره اتفاق زيادة قيمة أعيان التركة بحيث قضي الدين منها ، وفضل للوارث نصاب بعد أن كان الدين محيطا بها وقت بلوغها الحد الذي تتعلق به الزكاة ، وعدم الوجوب حينئذ لأن التركة على حكم مال الميت عند المصنف وقت تعلق الوجوب ، وإذا سقطت الزكاة في هذا الفرض سقطت في غيره أي فيما لم يفضل شي‌ء بطريق أولى ، فيكون مراد المصنف التنبيه على الفرد الأخفى ، فلا حاجة إلى ذلك كله وإلى حمل كلام المصنف على ما لا يقول به أحد من بقائها على حكم مال الميت وإن لم يكن مستوعبا ، ولا إلى غير ذلك مما يحتاج‌

٢٤٩

بيان فساده إلى إطناب ، ولا إلى ما أطنب به ثاني الشهيدين حيث تصدى لدفع ما ذكره المحقق المزبور ، إلا أنه أيضا غير خال عن النظر ، بل كلامه في المسألة أيضا كذلك ، فلاحظ وتأمل ، بل وقع لغير الفاضلين المزبورين في المقام كلام لا يخلو من تشويش ، ولعله للتشويش في تحرير أصل المسألة ، وهي حكم التركة مع الدين وحكم تعلقه بها ، ولقد فرغنا من تحريرها بحمد الله تعالى على أحسن وجه قبل ذلك ، فمن أرادها فليلاحظها.

ومن ذلك ما في محكي نهاية الأحكام « إذا مات وعليه دين مستوعب وله ثمرة بدا صلاحها بعد موته يحتمل سقوط الزكاة ، لأنها في حكم مال الميت ، وملك الورثة غير مستقر في الحال ، وإنما يستقر بعد قضاء الدين من غيره ، والوجه عندي الوجوب إن كانوا مؤسرين ، لأنها ملكهم ما لم تبع في الدين ، ولهذا كان لهم التصرف فيها وقضاء الدين من موضع آخر ، وإنما لرب الدين التعلق بالتركة وطلب الحق منه ، فتكون الرقبة لهم كالمرهون والجاني ، وقيمتها للمالك ، فإذا ملكوها وهم من أهل الزكاة وجبت عليهم ، وإن كانوا معسرين فلا زكاة ، لأنه في حكم المحجور عليهم ، إذ ليس لهم التصرف إلا بعد قضاء الدين من غير النصاب ، وهم عاجزون عنه ، وإنما تجب الزكاة عليهم لو بلغ نصيب كل واحد منهم النصاب ، فان قصر لم تجب وإن بلغ المجموع ، لأنا لا نوجب الزكاة على الخلطة ، ولو قصر نصيب أحدهم دون غيره وجب على من لا يقصر نصيبه عن النصاب » وفي الدروس « لو مات المديون قبل بدو الصلاح وزع الدين على التركة ، فإن فضل نصاب لكل وارث ففي وجوب الزكاة عليه قولان » وفي البيان « إن مات قبل بدو الصلاح سواء كان بعد الظهور أو لا فلا زكاة على الوارث عند الشيخ إذا كان الدين مستوعبا حال الموت ، لأنه على حكم مال الميت سواء فضل نصاب أم لا ، وإن قلنا بملك الوارث وجبت إن فضل نصاب عن الدين ، ويحتمل عندي الوجوب في متعلق الدين على هذا القول ، لحصول السبب والشرائط أعني إمكان التصرف ، وتعلق‌

٢٥٠

الدين هنا أضعف من تعلق الرهن » وفي محكي حواشي الشهيد « إن قلنا إن التركة تبقى على حكم مال الميت فلا زكاة مع الاستيعاب وتأخر بدو الصلاح ، ومع عدمه تجب في الزائد على تقسيط الدين على الثمرة وغيرها ، وإن قلنا إنها تنتقل إلى الوارث يحتمل الوجوب مطلقا لحصول الملك وإمكان التصرف ، والعدم مطلقا لتعلق الدين بالتركة فأشبه الرهن ، ويحتمل تقييد الوجوب بيسار الوارث لتحقق التمكن من التصرف حينئذ وهذا الاشكال إنما يجري في الذي يصيب الثمرة من الدين ، أما الزائد فيجب قطعا ، وإن هناك احتمالا بعيدا وهو الحجر على التركة وإن كان الدين غير مستوعب ، فحينئذ ينقدح عدم وجوب الزكاة على الوارث مطلقا » إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا تحرير فيها للمطلوب ، والتحقيق ما عرفت ، هذا كله في الموت قبل الظهور أو بعده قبل حد تعلق الزكاة.

وأما لو بدا صلاحها أو صارت تمرا والمالك حي ثم مات وجبت الزكاة ولو كان دينه يستغرق تركته لأصالة بقاء الوجوب من غير خلاف ولا إشكال نعم لو ضاقت التركة عن الدين قيل والقائل الشيخ في المحكي عن مبسوطة يقع التحاص بين أرباب الزكاة والديان ، وقيل والقائل غيره تقدم الزكاة لتعلقها بالعين قبل تعلق الدين بها ، وهو الأقوى بل ينبغي القطع به بناء على ذلك ، ضرورة عدم كون مقدارها من تركة الميت كي يتعلق بها الدين ، بل الفرض انتقالها عنه إلى الفقراء في زمن حياته ، نعم لو قلنا بكونها في الذمة أمكن ذلك ، مع أنه بناء عليه أيضا وقلنا بتعلقها بالمال أيضا تعلق رهانة أو أرش جناية يتجه تقديمها أيضا للسبق ، وإن كان ظاهر الشهيد في البيان التوزيع حينئذ ، لكنه لا يخلو من نظر ، والله أعلم.

المسألة السادسة قد تقدم سابقا ما يعلم منه حكم ما إذا ملك نخلا مثلا قبل أن يبدو صلاح ثمرته فالزكاة عليه مع بقاء الثمرة على ملكه بلا خلاف أجده فيه‌

٢٥١

بل الإجماع بقسميه عليه ، والنصوص جميعها متناولة له وكذا لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها على الوجه الذي يصح بالضميمة أو أزيد من عام أو غير ذلك مما هو مذكور في محله ، لعموم الأدلة ، بل لا فرق بين الشراء وغيره من أسباب الملك كما أنه لا فرق بين الثمرة والزرع في ذلك كما عرفته سابقا بلا خلاف أجده فيه إلا من ابن زهرة فلم يوجب الزكاة على حصة المساقي في المساقاة ، وكل من لا يكون البذر منه من المالك والعامل في المزارعة ، ومقتضاه السقوط عنهما لو كان البذر من ثالث ، ولقد سبقه الإجماع ولحقه ، والنصوص المتقدمة سابقا في مسألة المئونة وغيرها عامها وخاصها شاهدة عليه ، وشنع عليه ابن إدريس في سرائره غاية التشنيع ، وحكي عنه التعليل لذلك بأنه كغاصب الحب ثم زرعه ، فإنه لا زكاة عليه ، وهو كما ترى قياس فاسد ، ضرورة عدم ملك الغاصب شيئا من الزرع بخلاف العامل في المزارعة والمساقاة ، فإنهما يملكان الحصة قبل بلوغ حد الزكاة ، وأقبح من ذلك تعليله بأن الحصة هنا بمنزلة الأجرة للأرض والعمل ، وفيه أنه بعد التسليم لا ينافي وجوب الزكاة فيه ، كما لو آجر الأرض أو نفسه بزرع قبل انعقاد حبه ، نعم ربما استدل له بمرسل ابن بكير المتقدم (١) سابقا في مسألة المئونة إلا أنه ـ مع كونه من المرسل واشتمال ذيله على ما لا يقول به أحد من سقوط الزكاة الآن إلا على من كان في يده شي‌ء مما أقطعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا دلالة فيه على اعتبار عدم كون البذر منه في السقوط ، فلا بد من طرحه أو حمله على ما تقدم سابقا مما لا ينافي ذلك ، ضرورة قصوره عن معارضة غيره من وجوه لا تخفى كمضمر ابن مسلم (٢) « سألته عن الرجل يتكارى الأرض من السلطان بالثلث والنصف هل عليه في حصته زكاة؟ قال : لا » خصوصا مع احتمال إرادة زكاة الجميع حتى ما يأخذه السلطان ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ٥.

٢٥٢

وكيف كان فان ملك الثمرة بعد ذلك فالزكاة على المالك الأول الذي قد خوطب بالزكاة ، والأصل عدم سقوطه عنه كما هو واضح ، هذا ، وفي المدارك « إن كان التمليك بعد الضمان نفذ في الجميع ، وإن كان قبله نفذ في نصيبه ، وفي قدر الواجب يبني على ما سلف ، فعلى الشركة يبطل البيع فيه ، وكذا على الرهن ، وعلى الجناية يكون البيع إلزاما بالزكاة ، فإن أداها نفذ البيع ، وإلا تبع الساعي العين ، ولو باع المالك الجميع قبل إخراج الزكاة ثم أخرجها قال الشيخ : صح البيع في الجميع ، واستشكله المصنف في المعتبر بأن العين غير مملوكة ، فإذا أدى العين ملكها ملكا مستأنفا فافتقر بيعها إلى إجازة مستأنفة ، كمن باع مال غيره ثم اشتراه ، وهو جيد ، وعلى هذا فلا ينفذ البيع في نصيب الزكاة إلا مع إجازة المالك بعد الإخراج » قلت : قد يتوقف في النفوذ مع الضمان للتوقف في مشروعيته ، خصوصا إذا أريد منه معناه المتعارف ، كما أنه قد يناقش في البطلان على الشركة بل لولي المسلمين ووكيله إجازة البيع والمطالبة بالثمن على النسبة ، بل قد يناقش فيما حكاه عن المعتبر بأن المستند في ذلك الخبر السابق (١) الدال على كون الأداء كإجازة الفضولي على الكشف ، فلا يحتاج إلى إجازة مستأنفة ، وإلا فمقتضى الضوابط عدم اعتبار إجازة غير المالك الأول ، خصوصا إذا كان الانتقال عنه بمعاوضة ونحوها لا بارث وشبهه ، وقد تقدم منا سابقا ما له دخل في المقام ، وربما يأتي له زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى ، والله الموفق لكل خير ، هذا. ولا يخفى عليك أن ما ذكره المصنف هنا من بدو الصلاح مبني على أنه الحد الذي تتعلق به الزكاة لا على مختاره ، ولذا قال والأولى الاعتبار بكونه تمرا ، لتعلق الزكاة بما يسمى تمرا لا بما يسمى بسرا وقد عرفت تحقيق الحال في ذلك.

المسألة السابعة لا خلاف في أن حكم ما يخرج من الأرض مما يستحب فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب زكاة الأنعام ـ الحديث ١.

٢٥٣

الزكاة حكم الأجناس الأربعة في قدر النصاب ، وكمية ما يخرج منه ، واعتبار السقي سيحا أو بالدلاء ، وأمر المئونة وغير ذلك مما عرفته سابقا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، والنصوص (١) المتقدمة سابقا عند الكلام في استحبابها فيها دالة عليه ، مضافا إلى انسياق الاتحاد في الكيفية ، وأن الاختلاف في الوجوب والندب خاصة ، كما يومي اليه اتحاد الكيفية في الواجب والندب في غير المقام من الوضوء والغسل وغيرهما ، بل لعل ذلك هو مقتضى القاعدة المستفادة من النصوص ، ولا يخرج عنها إلا بالدليل كما أوضحنا ذلك في كتاب الطهارة ، والله أعلم.

المسألة الثامنة يجوز للساعي الخرص في ثمرة النخل والكرم بلا خلاف أجده بيننا بل في الخلاف والمعتبر وغيرهما الإجماع عليه ، بل في الأول « أن الشافعي والزهري ومالك وأبا ثور ذكروا أنه إجماع الصحابة » وقد سمعت‌ قول أبي الحسن عليه‌السلام في صحيح سعد بن سعد (٢) : « إذا خرصه أخرج زكاته » وفي‌ خبر رفاعة (٣) المروي عن تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى (٤) ( إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عبد الله بن رواحة فقال : لا تخرصوا أم جعرور ولا معافارة ، وكان أناس يجيؤون بتمر أسوأ فأنزل ( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) وذكروا أن عبد الله خرص عليهم تمرا أسوأ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عبد الله لا تخرص أم جعرور ولا معافارة » وفي‌ خبر إسحاق بن عمار (٥) عن جعفر بن محمد عليه‌السلام المروي عنه أيضا ، قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ٤.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ٢٧٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ٥.

٢٥٤

« كأن أهل المدينة يأتون بصدقة فطر إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه عذق يسمى الجعرور وعذق يسمى معافارة عظيم نواهما دقيق لحماهما في طعمهما مرارة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخارص : لا تخرص عليهم هذين اللونين ، لعلهم يستحون لا يأتون بهما ، فأنزل الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ) ـ إلى قوله ـ ( تُنْفِقُونَ ) » (١) وفي‌ خبر أبي بصير (٢) المروي في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ ) إلى آخره ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكى يجي‌ء قوم بألوان من التمر وهو من أردى التمر يؤدونه عن زكاتهم تمرا يقال له الجعرور والمعافارة قليل اللحم عظيم النوى وكان بعضهم يجي‌ء بهما عن التمر الجيد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تخرصوا هاتين التمرتين ، ولاتجيئوا منهما بشي‌ء ، وفي ذلك نزل ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) والإغماض فيه أن يأخذ هذين التمرتين » ونحوه خبر شهاب (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروي عن مستطرفات السرائر.

والجميع كما ترى خاص في النخيل والكرم ، لكن في الخلاف « يجوز الخرص على أرباب الغلات وتضمينهم حصة المساكين » وظاهره الجواز في غيرهما ، كما هو خيرة جامع المقاصد وكشف الأستاذ ومحكي التلخيص ، بل في المدارك نسبته إلى الشيخ وجماعة بل عن التلخيص أنه المشهور ، خلافا لمحكي المعتبر والمنتهى والتحرير وظاهر المبسوط وغيره والإسكافي فلم يجوزوه في غيرهما ، اقتصارا على مورد النص فيما هو مخالف للقواعد من وجوه ، ولأن الزرع قد يخفى خرصه ، لاستتار بعضه وتبدده بخلاف النخل والكرم فان ثمرتيهما ظاهرة يتمكن الخارص من إدراكها والإحاطة بها ، ولأن الحاجة في النخل‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٢٦٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب زكاة الغلات ـ الحديث ٢.

٢٥٥

والكرم تامة لاحتياج أهلها إلى تناولها ، ولا كذلك الفريك فإن الحاجة إليه قليلة ، وفيه منع قلة الاحتياج قبل التصفية ، بل في كشف الأستاذ في عدمه فيها حرج وضيق ، ولذا جوزه فيها أجمع ، بل احتمل قويا جوازه فيما تعلق به الزكاة استحبابا مما يدخله الكيل والوزن محافظة على السنة ، ولما سمعته من انسياق الاتحاد في الكيفية في الواجب والندب ، بل يمكن دعوى الأولوية فيه من الواجب ، إلا أنه لا يخلو من إشكال ، نعم قد يقوى جوازه في متعلق الوجوب لما عرفت ، ولما في‌ صحيح سعد (١) الآخر المتقدم سابقا الذي قد سأل فيه أبو بصير أبا الحسن عليه‌السلام « عن الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب متى تجب على صاحبها فقال : إذا صرم وإذا خرص » وظاهره كون ذلك للجميع ، ولأنه من معقد إجماع الخلاف ، ولغير ذلك.

وفائدة الخرص أن للمالك مع قبوله التصرف كيف شاء ، بخلاف ما إذا لم يقبل فإنه لا يجوز له التصرف فيه على ما نص عليه جماعة ، لكن قد يقوى جوازه مع الضبط ووقته حين بدو الصلاح على ما صرح به جماعة ، بل في مفتاح الكرامة كأنه مما لا ريب فيه ، وقد سمعت دعوى ظهور الإجماع عليه من شرح الأستاذ للمفاتيح ، إلا أنه قد يشكل ذلك بعدم موافقته للقول بكون حد الزكاة التسمية لا بدو الصلاح ، ومن الغريب وقوع ذلك من المصنف مع أنه ممن يختار التسمية محتاجا عليه بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة خارصا للنخل حين يطيب (٢) ويمكن أن يكون قد ذكر ذلك بناء على أن حدها بدو الصلاح ، فلاحظ وتأمل ، وقد تقدم منا سابقا ما له نفع في المقام.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المستحقين للزكاة ـ الحديث ١ وفيه‌ « عن سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سألته » وليس فيه ذكر عن أبي بصير وهو الصحيح كما تقدم في ص ٢١٧.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٤٣.

٢٥٦

وصفة الخرص أن يدور بكل نخلة أو شجرة وينظر كم في الجميع رطبا أو عنبا ثم يقدر ما يجي‌ء منه تمرا أو زبيبا ، وينبغي للخارص التخفيف على المالك ، لما رواه‌ أبو عبيدة (١) بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كان إذا بعث الخارص قال : خففوا على الناس ، فان في المال العرية والواطية والآكلة » قال أبو عبيدة : والعرية هي النخلة والنخلات بهب الإنسان تمرها ، والواطية السائلة سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين ، بل عن جماعة من الجمهور منهم أحمد بن حنبل أنه يترك الثلث أو الربع له ، لما‌ روى سهل بن أبي خيثمة (٢) « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : إذا خرصتم فخففوا ودعوا الثلث ، فان لم تدعوا الثلث فدعوا الربع » لكن فيه أنه إجحاف بالفقراء ومناف لأصل عدم جواز التسليط على مال الفقراء والنقص له ، والخبر المزبور غير صالح لقطع ذلك ، نعم ما ذكرناه من التخفيف في الجملة يستفاد مما عرفت ومن غيره من النصوص (٣) الدالة على مراعاة المالك المتقدم بعضها في زكاة الأنعام.

وعلى كل حال فالظاهر اعتبار التراضي في الخرص ، كما يومي اليه التخيير بين الصور الثلاثة ، ولو رضي بعض الشركاء فقط خص بالخرص ، ولو وقع الرضا على البعض دون البعض جاز ، والخارص الامام عليه‌السلام أو نائبه الخاص أو العام ، لولايته على مال الفقراء ، بل قد يقوى جوازه من المالك إذا كان عارفا ، وخصوصا مع تعذر الرجوع إلى الولي العام كما عن الفاضلين والشهيد والمقداد والصيمري النص عليه ، وعلى جواز إخراجه عدلا يخرصه له وإن كان الأحوط الرجوع إلى الولي مع التمكن ، قال في المعتبر : « ويجوز عندنا تقويم نصيب الفقراء من غير مراجعة الساعي » ولعله لمعلومية عدم خصوصية خرص الساعي ، وإطلاق‌ قوله عليه‌السلام في صحيح سعد بن سعد : « إذا‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٢٤.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٢٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب زكاة الأنعام.

٢٥٧

خرصه أخرج زكاته » وقوله عليه‌السلام : « إذا صرم وخرص » وقال أيضا : يجوز لرب المال قطع الثمرة وإن لم يستأذن الخارص ضمن أو لم يضمن ومنع الشيخ في المبسوط إذا لم يضمن المالك الخرص ، قال : لأنه تصرف في مال الغير ، فيقف على الأذن وليس بوجه ، لأن المالك مؤتمن على حفظها ، فله التصرف بما يراه مصلحة ، وهو جيد.

ولا يشترط في الخرص صيغة ، بل هو معاملة خاصة يكتفى فيها بعمل الخرص وبيانه ، ولو جي‌ء بصيغة الصلح كان أولى ، وهو معاملة غريبة ، لأنها تتضمن وحدة العوض والمعوض وضمان العين ، ثم إن زاد ما في يد المالك كانت الزيادة له وإن قيل : إنه يستحب له بذل الزيادة ، وإن نقص فعليه ، تحقيقا لفائدة الخرص ، لكن جزم بعدم الضمان في البيان ، وتردد فيه في المعتبر ، لأن الحصة أمانة في يده ، ولا يستقر ضمان الأمانة كالوديعة ، وهو كما ترى.

ولو تلفت الثمرة بآفة سماوية أو أرضية أو ظلم ظالم سقط ضمان الحصة بلا خلاف أجده فيه ، بل عن التذكرة الإجماع عليه ، لأنها أمانة فلا تضمن بالخرص ، خلافا للمحكي عن مالك فضمنه ، لانتقال الحكم إلى ما قال الخارص ، وهو واضح الضعف ، ولو ادعى المالك غلط الخارص فان كان قوله محتملا أعيد الخرص ، وإن لم يكن محتملا سقطت دعواه ، ولكن من المالك والخارص الفسخ مع الغبن الفاحش ، ولو كان الخرص في عدة أمور فليس له سوى الفسخ في الجميع ، بل الظاهر جواز اشتراط الخيار فيه ، لعموم (١) « المؤمنون ».

ويشترط في الخارص إن لم يكن مالكا أن يكون عدلا ضابطا ، واعتبار العدلين أوفق بالاحتياط ، ولو ظهر فسقه بطل خرصه ، بخلاف ما لو تجدد بعد الخرص ، ولو رجع الخارص عن خرصه بدعوى أنه زاد فيه قبل قوله ، ولو ادعى أنه أجحف بالفقراء لم‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الخيار ـ الحديث ٧ من كتاب التجارة.

٢٥٨

يقبل بغير البينة في وجه قوي ، ولو ادعى العلم على المالك كان له حلفه على نفي العلم ، ولو اقتضت المصلحة تخفيف النخل جاز وسقط من الحق بالحساب ، ولو كان قبل بلوغه جاز تخفيفه وقطعه أصلا ، لما يراه من مصلحة نفسه وأصوله ، وفي محكي التذكرة لو احتاج إلى قطع الثمرة أجمع بعد بدو الصلاح لئلا تتضرر النخلة بمص الثمرة جاز القطع إجماعا ، لأن الزكاة تجب على طريق المواساة ، فلا يكلف ما يتضرر به المالك ويهلك به أصل ماله ولأن في حفظ الأصول حظا للفقراء ، لتكرر حقهم ، ولا يضمن المالك خرصها ، بل يقاسم الساعي بالكيل أو الوزن بسرا أو رطبا ، ولو كفى تخفيف الثمرة خففها وأخرج الزكاة مما قطعه بعد بدو الصلاح ، وهل للمالك قطعها لمصلحة من غير ضرورة؟ الوجه ذلك ، لأن الزكاة تجب مواساة ، فلا يجوز تفويت مصلحته بسببها ، وفي قطعها بغير مصلحة إشكال ، من تضرر الفقراء ، ومن عدم منع المالك من التصرف بماله كيف يشاء ولو أراد قطع الثمرة لتحسين الباقي منها جاز ، ولو اختار الخارص القسمة رطبا ووافقه المالك جاز ، لأنها تمييز الحق ، وليست بيعا حتى يمنع بيع الرطب بمثله عند من منعه ، ويجوز لولي الفقراء بيع نصيب المساكين من رب المال وغيره ، والله أعلم.

( القول في مال التجارة )

ويقع البحث في موضوعه من حيث تعلق الزكاة به وفي شروط زكاته وفي أحكامه ، أما الأول فهو عند المصنف وجماعة المال الذي ملك بعقد معاوضة وقصد به الاكتساب عند التملك ، فلو انتقل اليه بغير عقد كالم يراث وحيازة المباحات ونحو ذلك أو عقد لكن ليس عقد معاوضة كال هبة والصدقة والوقف ونحو ذلك لم يزكه ، وكذا لو ملكه بعقد معاوضة لكن لا بقصد التكسب بل للقنية فإنه لا يزكيه وإن قصد به التكسب بعد ذلك ، ضرورة عدم مقارنته لحال‌

٢٥٩

الانتقال اليه ، بل الظاهر اعتبار المصنف استمرار قصد التكسب به ، لقوله وكذا لو اشتراه للتجارة ثم نوى القنية أي لا زكاة فيه بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك إلا في اعتبار مقارنة قصد التكسب لحال التملك ، فإنه وإن كان ظاهر المصنف والفاضل في القواعد وغيرهما ذلك ، بل في المدارك « أنه ذهب علماؤنا وأكثر العامة إلى اعتبارها » وعن المعتبر « أنه موضع وفاق » لكن الذي يقوى في النظر عدمه ، لإطلاق الأدلة ، ولصدق التجارة عليه عرفا بذلك ، ولأنه كما يقدح نية القنية في التجارة فكذا يقدح نية التجارة في القنية ، ودعوى الفرق بين النيتين بأن الأصل الاقتناء والتجارة عارضة وبمجرد النية يعود حكم الأصل ولا يزول حكم الأصل بمجردها كما ترى ، ولأن المؤثر حال التملك نية التجارة ، فلا فرق ، ولعله لذلك كان خيرة البيان وظاهر اللمعة ، واستحسنه في المسالك وقواه في الروضة ، بل مال إليه في المعتبر ، قال فيما حضرني من نسخته : مسألة قال الشيخ : لو نوى بمال القنية التجارة لم يدخل في حول التجارة بالنية وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك ، لأن التجارة عمل ، فلا تصير بالنية ، كما لو نوى سوم المعاملة ولم يسمها ، وقال إسحاق : تدور في الحول بالنية ، وبه‌ رواية عن أحمد لما رووا عن سمرة (١) « أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع بالنية » وهذا عندي قوي ، لأن نية التجارة هو أن يطلب به زيادة على رأس ماله وينوي بها البيع كذلك ، فتجب الزكاة بظاهر الروايتين اللتين سبقتا ، وقولهم التجارة عمل ، قلنا : لا نسلم أن الزكاة تتعلق بالفعل الذي هو البيع ، لم لا يكفي إعداد السلعة لطلب الربح ، وذلك يتحقق بالنية ، ولأنه لو نوى القنية بأمتعة التجارة صح بالنية اتفاقا فكذا لو نوى الاكتساب ، وهو مع خلوه عما حكي عنه من الإجماع واضح الميل لما قلنا من عدم اعتبار مقارنة النية للتملك ، بل إن لم ينعقد إجماع على اعتبار الملك بعقد‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٤٧ وفيه‌ « من الذي نعد للبيع ».

٢٦٠