جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى (١) ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) قال : « تعاهدوا نعالكم عند أبواب المساجد » وخبر القداح (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إن عليا عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم » وقد تبع المصنف الخبر في التعبير بالتعاهد ، وإلا فالمحكي عن الصحاح أن التعهد أفصح ، لأن التعاهد إنما يكون بين اثنين.

وأن يدعو لنفسه وللنبي وآله بالصلاة والسلام عند دخوله المسجد وعند خروجه منه لأنها مظنة الإجابة ، وللتأسي بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحكي في‌ خبر عبد الله بن الحسن (٣) عن أمه فاطمة عن جدته فاطمة المروي عن مجالس الطوسي « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا دخل المسجد صلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج قال : كذلك » وخبر عبد الله بن سنان (٤) عن الصادق عليه‌السلام « إذا دخلت المسجد فصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا خرجت فافعل ذلك » ولموثق سماعة (٥) « إذا دخلت المسجد فقل : بسم الله والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله وملائكته يصلون على محمد وآل محمد والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته رب اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك ، وإذا خرجت فقل مثل ذلك ».

ومنه يستفاد استحباب التسمية ، كما أنه يستفاد التحميد لله والثناء عليه مما رواه‌

__________________

(١) سورة الأعراف ـ الآية ٢٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

٨١

أبو بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « إذا دخلت المسجد فاحمد الله وأثن عليه وصل على النبي وآله ( عليهم الصلاة والسلام ) » ومما رواه‌ زرارة (٢) أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا دخلته فاستقبل القبلة ثم ادع وسله وسم حين تدخل واحمد الله وصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بل منه يستفاد استحباب الاستقبال أيضا ، بل فيه إيماء إلى كون الدعاء بعد الدخول ، وهو المناسب للتعليل بكون المساجد مظنة الإجابة ، بل لعل دعاء الخروج كذلك أيضا على معنى إرادة الدعاء عند الاشراف عليه ، نعم‌ روى أبو حفص العطار (٣) قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا صلى أحدكم المكتوبة وخرج من المسجد فليقف بباب المسجد ثم ليقل : اللهم دعوتني فأجبت دعوتك وصليت مكتوبتك وانتشرت في أرضك كما أمرتني فأسألك من فضلك العمل بطاعتك واجتناب سخطك والكفاف من الرزق برحمتك » والأمر سهل.

ولا ريب في أنه يجوز نقض ما استهدم وأشرف على الانهدام دون غيره وإن لم يعزم الهادم أو غيره على الإعادة ، إذ تلك سنة أخرى لا مدخلية لها في الجواز المزبور للمصلحة ، بل في المدارك أنه قد يجب إذا خيف من انهدامه على أحد من المترددين ، وقضيته الجواز أولا وإن لم يخش من وقوعه على أحد ، ولا بأس به إذا كانت هناك مصلحة أخرى كإرادة تعميره ونحوها أو دفع مفسدة كذلك ، أما بدون شي‌ء منهما ففيه نوع توقف كالتوقف في جواز إحداث باب في المسجد لمصلحة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢ لكنه خبر علاء بن الفضيل عمن رواه عن أبى جعفر عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

٨٢

خصوص بعض المصلين ، وإلا فمتى كانت المصلحة عامة فلا ريب في الجواز وإن كان لم يبعد جوازه في الأول أيضا مع انتفاء الضرر وفاقا للمدارك وأحد وجهي الروض لما فيه من الإعانة على القربة وفعل الخير ، وكذا الكلام في الروزنة والشباك ونحوهما.

بل لا ريب في جواز النقض أيضا للتوسعة وإن كان ظاهر الشهيدين التوقف فيه ، بل أطلق المصنف عدم الجواز إلا أنه في غير محله بعد ظهور أنه من الإحسان والمصلحة باحداث مسجد وانضمامه اليه ، وما قيل من استقرار قول الصحابة في توسعة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ومنهم علي والحسن عليهما‌السلام المتقدم في أول المساجد المشتمل على فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نعم قد يقال بأنه لا ينقض إلا مع الظن الغالب بالعمارة ، بل في الذكرى والروض أنه لو أخر إلى تمام المجدد كان أولى إلا أن يحتاج إلى آلاته ، مع احتمال القول بالجواز مطلقا خصوصا مع ظن عمارة لا كالعمارة السابقة كما وكيفا ، إلا أن الأحوط أو الأقوى الأول ، وهل يلحق بالنقض للتوسعة النقض لتغيير الهيئة؟ وجهان أقواهما ذلك مع المصلحة أو حصول المفسدة في الهيئة ، ولا مدخلية لرضا الواقف هنا ، لأنه بوقفه خرج عنه وصار أمره إلى الله يتصرف به ولي الله على ما يراه.

وكيف كان فلا ريب في أنه يستحب إعادته أي المستهدم لأنه بمعنى عمارتها المعلوم استحبابها بالضرورة من الدين ويجوز استعمال آلته ونحوها في غيره من المساجد مع استغنائه عنها أو تعذر استعمالها فيه ، لاستيلاء الخراب عليه ، للأصل ولأنه لله ، وكل ما كان له فهو لوليه كما نطق به بعض الأخبار (٢) الواردة في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب قسمة الخمس والباب ١ من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.

٨٣

باب الخمس ، فله التصرف فيه حينئذ على حسب المصلحة كباقي ما كان له ، ولأن المساجد جميعها لله فهي في الحقيقة كمسجد واحد كما يومي اليه في الجملة الأمر (١) برد الحصى المخرج من المسجد اليه أو إلى غيره ، فلا بأس بإصلاح بعضها ببعض للمصلحة ونحوها ، ولأن الغرض من المساجد وما يجعل فيها إقامة شعار الدين وفعل العبادات فيها ، وهو لا يختلف فيه المساجد ، ولأنه من الإحسان ، ومما يعلم برضى المالك فيه ، خصوصا إذا خيف عليها التلف في بقائها ، وخصوصا بعد فتوى غير واحد من الأصحاب به ، بل لا أجد فيه خلافا بينهم.

بل في مفتاح الكرامة أن الكلمة متفقة في هذا الباب وباب الوقف على جواز صرف الفاضل إلى غيره ، وفي وقف جامع المقاصد نسبته إلى الأصحاب ، بل ظاهر المصنف والمحكي عن النهاية والمبسوط الجواز مطلقا ، كظاهر الفاضل في المنتهى ، وعن النهاية قال : « وإذا استهدم مسجد جاز أخذ آلته لعمارة غيره من المساجد ، لأن المالك واحد هو الله تعالى » وقال في موضع من الذكرى : « لا بأس باستعمال آلته في إعادته أو في بناء غيره من المساجد » نعم قيده في آخر كالكركي والشهيد الثاني ، فقال : « ولا يجوز استعمال آلته في غيره إلا لمسجد آخر لمكان الوقف ، وإنما يجوز في غيره من المساجد عند تعذر وضعها فيه أو لكون المسجد الآخر أحوج إليها منه لكثرة المصلين ، أو لاستيلاء الخراب عليه » وعن السرائر « أنه إذا استهدم مسجد ينبغي أن يعاد مع التمكن من ذلك ، وإذا لم يتمكن من إعادته فلا بأس باستعماله في بناء غيره من المساجد » وعن المهذب « إذا استهدم المسجد وصار مما لا يرجى فيه الصلاة بخراب ما حوله وانقطاع الطريق اليه جاز استعمال آلته في مسجد آخر ».

لكن ومع ذلك كله ففي الذخيرة التأمل في هذا الحكم من أصله ، قال : « نعم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

٨٤

لو تعذر صرفه فيه أو حصل الاستغناء بالكلية في الحال والمآل لم يبعد جواز ذلك » وكأنه مال إليه في الرياض ، وهو كما ترى مرجعه إلى عدم اعتبار أحوجية الغير التي اكتفى بها الشهيدان ، وعدم اعتبار الاستغناء في الحال ، بل لا بد منه ومن المآل ، لا إلى أصل الحكم كما يومي اليه ما سمعته من المهذب ، لكن فيه من الاجمال ما لا يخفى ، ولعلنا نوافقه في بعض الأفراد ، كما أن تأمله في الأول أي أحوجية الغير في محله.

وكيف كان فأولى بالجواز كما اعترف به في الروض صرف غلة وقفه ونذره على غيره بالشروط السابقة ، لشدة مدخلية الأولى في المسجد بخلاف الثانية ، لكن في المدارك والذخيرة التأمل فيه أيضا ، بل قالا : « إن المتجه عدم جواز صرف مال المسجد إلى غيره مطلقا ، لتعلق الوقف والنذر بذلك المحل المعين ، فيجب الاقتصار عليه ، نعم لو تعذر صرفه فيه أو علم استغناؤه عنه في الحال والمآل أمكن القول بجواز صرفه في غيره من المساجد والمشاهد ، بل لا يبعد جواز صرفه في مطلق القرب ، لأن ذلك أولى من بقائه إلى أن يعرض له التلف ، فيكون صرفه في هذا الوجه إحسانا محضا ، و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) » (١) وكأنه يرجع إلى التأمل في خصوص نحو ما سمعته من الذخيرة قبل ذلك ، واستحسنه في الرياض ، لكنه نظر فيما احتملاه من جواز صرفه في سائر القرب حيثما يتعذر استعماله في المسجد أو المشهد المعين معللا له بأن الاقتصار على المتيقن يقتضي صرفه في مثله ، مع أنه أقرب إلى مقصود الواقف ونظره ، وهو جيد أيضا كجودة التأمل فيما ذكره الشهيد في المسالك من الفرق بين المشاهد والمساجد في الحكم المزبور ، قال : « وليس كذلك المشهد ، فلا يجوز صرف ماله إلى مشهد آخر ولا مسجد ولا صرف مال مسجد اليه مطلقا » ضرورة عدم الفرق في ذلك بينها وبين المشاهد ، اللهم إلا أن يفرق بزيادة تعلق الأغراض والرغبات في‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٩٢.

٨٥

خصوص بعض المشاهد دون آخر بخلاف المساجد غالبا.

والمراد بالآلات كما هو صريح بعضهم وظاهر آخر ما يشمل أجزاء بنائه من أحجار وأخشاب وجذوع وفرش وغيرها ، بل كأن ذلك من المقطوع به عند التأمل في كلماتهم ، خصوصا بملاحظة ذكرهم ذلك بعد مسألة نقض المستهدم ، لكن في حاشية الإرشاد للمحقق الثاني « أن المراد بها نحو الفرش والسرج لا آلات البناء ، فإنه لا يجوز نقضها على حال وإن خرب ما حولها ويئس من عوده ، ولو انهدمت لم يجز بناء مسجد آخر بها إلا مع اليأس من عود الأول » وهو مخالف لظاهر ما عرفت من كلمات الأصحاب.

نعم لا يجوز نقض غير المستهدم منها على حال كما ذكره الشهيد في الذكرى وغيره لقوله تعالى (١) ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها ) واستصحاب الحرمة وغيرهما ، مع أن للتأمل في بعض الأفراد منه مجالا ، كما أن للتأمل مجالا أيضا في صرف بعض الآلات من الفرش ونحوها في غيره إذا كانت مبذولة له من غير جريان صيغة وقف كي تخرج به عن ملك المالك ويكون أمرها لله ولوليه ، إذ مقتضى الضوابط أنه إذا بطل الجهة المبذول لها ترجع إلى المالك ، لعدم زوال ملكه عنها بالاعراض ، إذ الفرض بذلها لأمر خاص لا الاعراض عنها رأسا ، وكأنه إلى نحو ذلك أشار في كشف اللثام في بيع آلات المسجد حيث خصها بما جرى عليها الوقف منها ، فلاحظ ، اللهم إلا أن يقال : إنه من المعلوم عدم إرادة الخصوصية من هذا البذل وإن مقصوده الإخراج عن ملكه والاعراض ، لكن لما فات خصوص المبذول له انتقل إلى الأقرب إليه من أفراد صنفه ثم نوعه وهكذا ، وليس لأحد تملكه بعد بطلان الجهة المبذول لها باعتبار حصول الاعراض عنه وبطلان المبذول له ، إذ المملك من‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٠٨.

٨٦

الاعراض ما يبذله صاحبه لتملك كل أحد له لا مثل ما نحن فيه ، أما إذا لم يعلم منه عدم إرادة الخصوصية ولا كان ظاهر فعله ذلك فيشكل جواز صرفه في غيره من المساجد فضلا عن غيره من التصرفات ، إلا أن السيرة والطريقة على معاملة هذه الآلات المبذولة من الفرش والسرج ونحوها معاملة غيرها من أجزاء بناء المساجد ونحوها ، ولعله لظهور الفعل فيما ذكرنا لا في نحو الفرض ، بل كان ذلك سبب الفرق بين المشاهد والمساجد ، فتأمل جيدا ، فإن المسألة بل وغيرها من مسائل المقام محتاجة إلى نظر تام وتطويل في الكلام ، وربما يوفقنا الله له فيما يأتي ، فإنه المؤمل لنيل المرام ، وهو العالم بحقائق الأحكام.

وهل التصرفات المزبورة مختصة بالحاكم ثم بعدول المؤمنين أو أنها جائزة بعد حصول الشرائط المزبورة لكل أحد؟ وجهان أحوطهما إن لم يكن أقواهما الأول ، لكن مع عدم وجود الناظر الخاص ، وإلا وجب استئذانه في بعض ما تقدم.

ويستحب كنس المساجد قطعا بمعنى جمع كناستها بضم الكاف وإخراجها لما فيه من تعظيم الشعائر وترغيب المترددين المفضي إلى عدم خرابه ، وخبر سلام بن عاصم (١) المروي عن أمالي الصدوق ومحاسن البرقي عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من قم مسجدا كتب الله له عتق رقبة ، ومن أخرج منه ما يقذي عينا كتب الله له عز وجل كفلين من رحمته » ويتأكد في يوم الخميس وليلة الجمعة ، لخبر عبد الحميد (٢) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنس المسجد يوم الخميس وليلة الجمعة فأخرج منه من التراب ما يذر في العين غفر الله له » والموجود فيما حضرني من نسخة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ لكن روى عن سلام بن غانم.

٨٧

الوسائل حذف الواو ، فيكون المراد الكنس في أحد الوقتين ، ورواه في الروض والمدارك بالواو ، ويرجع إلى ما قلنا بجعلها بمعنى « أو » كما صرحا به فيهما ، ويؤيده بعد انقسام ذلك المقدار عليهما لو أريد الجمع وكون المقصود الحث على أصل الفعل لا على تكريره ، إلا أنه احتمل في الأول كونها للجمع ، فيتوقف حصول الثواب المعين عليهما وإن كان مطلق الكنس له ثواب في الجملة ، لكنه كما ترى ، والتقدير بما يذر في العين مبالغة في المحافظة على كنسها وإن كانت نظيفة ، أو على فعل ما اتيسر من ذلك ، ولعل الثاني أظهر ، وربما كان في الخبر الأول إيماء اليه.

وكذا يستحب الإسراج فيها رفعا لحاجة المصلين ووحشة الظلمة ، ولما رواه‌ الشيخ عن أنس (١) وغيره مرسلا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أسرج في مسجد من مساجد الله سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج » بل ظاهره عدم اشتراط تردد أحد من المصلين اليه ولا إمكانه في مشروعية الإسراج كما صرح به في الروض وغيره ، ولا ينافيه النهي عن الإسراف بعد التسامح في المستحب ، وعدم اشتراط إذن الناظر إذا كان ما يسرج به ليس من مال المسجد ، نعم لو كان منه اعتبر ذلك ، ولو لم يكن للمسجد ناظر معين وتعذر استئذان الحاكم لم يبعد جواز تعاطي ذلك لعدول المسلمين ، وكذا لا يشترط كون المسرج به زيتا ، للإطلاق ، ومحل الإسراج الليل أجمع كما عن الميسي التصريح به ، لكن الظاهر عدم حصول الاستحباب بإسراج المسرج من المساجد إلا أن يكون محتاجا باعتبار سعته ، والله أعلم.

ويحرم زخرفتها وفاقا للفاضل والشهيد وعن الشيخ والحلي وغيرهما ، بل هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

٨٨

المشهور نقلا في كشف اللثام والكفاية إن لم يكن تحصيلا إلا أني لم أجد له دليلا صالحا لإثبات ذلك في خصوص ما نحن فيه من المساجد ، وإن كان قد يعلل بالإسراف ، خصوصا على ما ستسمعه من أن الزخرف الذهب ، وبأنه بدعة ، لأنه لم يعهد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما‌ في وصية ابن مسعود المروية (١) عن المكارم للطبرسي في مقام الذم « يبنون الدور ويشيدون القصور ويزخرفون المساجد » وما روته العامة (٢) « أن من أشراط الساعة أن تتباهى الناس في المساجد » وعن ابن عباس (٣) « لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى » وعن الخدري « إياك أن تحمر وتصفر فتفتن الناس » وفي‌ الغريبين للهروي إن في الحديث (٤) « لم يدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي » ثم قال : « قيل : الزخرف هاهنا نقوش وتصاوير زين بها الكعبة وكانت بالذهب فأمر بها حتى حتت » وخبر عمر بن جمع (٥) الذي ستسمعه في التصاوير بناء على استفادة المنع عنها فيه من حيث النقش لا التصوير ، وما عساه يستفاد من سبر أخبار المساجد ، خصوصا مثل‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٦) : « لا ، عريش كعريش موسى عليه‌السلام » والنهي (٧) عن الشرف لها وتعليتها ونحو ذلك من عدم ابتنائها على زخرف الدنيا وزبرجها ،

__________________

(١) مكارم الأخلاق ص ٥٢٦ الفصل الرابع من الباب الثاني عشر.

(٢) سنن البيهقي ج ٢ ص ٤٣٩ والجامع الصغير ج ٢ ص ١٥٦.

(٣) سنن البيهقي ج ٢ ص ٤٣٩.

(٤) سنن البيهقي ج ٥ ص ١٥٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ لكن رواه عن عمرو بن جميع.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

٨٩

ضرورة أنها محل العبادة والزهادة لا أنها كقصور اللهو والغرور والطرب والانس ، بل قد يخدش ذلك نية المترددين إليها وقصدهم إياها.

لكن الجميع كما ترى ، خصوصا الأول ، إذ الإسراف مع أنه لا يخص المساجد يمكن منعه باعتبار حصول الغرض المعتد به من التحسين أو قصد تعظيم الشعائر كما يصنعونه في المشاهد المشرفة أو نحو ذلك مما يمتنع معه اندراجه في الإسراف المنهي عنه كما هو واضح ، بل والثاني ، إذ لا ريب في عدم حرمة البدعة اللغوية التي هي بمعنى عدم الوقوع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكم وكم مما هو في زماننا مما نعلم بعدم وقوعه وأما ما بعد الثاني فهو مع الإغضاء عن دلالة بعضه أو جميعه من الواضح عدم صلاحيته لإثبات الحرمة ، كوضوح فساد دعوى الجبر سندا ودلالة بالشهرة ، إذ لو سلم صلاحية جبر الشهرة ، لمثل ذلك مما ورد من طرقهم يمكن منع حصول شهرة معتد بها هنا ، كما لا يخفى على المتتبع.

ومن هنا كان خيرة جماعة من المتأخرين منهم الشهيد في الدروس الكراهة ، كما هو ظاهر أخرى ، بل حكاه في الذكرى عن الجعفي أيضا ، وفي كشف اللثام عن المهذب والجامع سواء فسر الزخرفة بالتزيين والنقش بالزخرف ـ وهو الذهب كما في جملة من كتب الأصحاب ، بل قيل واللغة كالصحاح والقاموس والمجمل والعين والمقاييس ، وفي المجمع الزخرف الذهب ، ثم جعلوا كل مزين زخرفا ، وفي الغريبين ويقال للذهب زخرف ، ومنه قوله (١) ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) جاء في التفسير من ذهب ـ أو فسر بمطلق التزيين كما في الغريبين وعن الجمهرة وتهذيب اللغة والمحيط وعن الأزهري أنه حكاه عن أبي عبيدة وإن قال ويقال الزخرف الذهب ، كما أن الهروي بعد أن ذكر أنه كمال حسن الشي‌ء ، قال : ويقال للذهب زخرف ، ونحوه‌

__________________

(١) سورة الإسراء ـ الآية ٩٥.

٩٠

ما عن الراغب من أن الزخرف الزينة المروقية ، ومنه قيل للذهب زخرف ، لعدم الدليل على كل منهما ، خصوصا الثاني ، إذ قضيته حرمة مطلق التزيين بالذهب وغيره كما هو خيرة المعتبر وعن غيره ، بل لعله خيرة القواعد وغيرها أيضا مما عطف فيها النقش بالذهب على الزخرف في الحرمة ، وإن كان هو على هذا التقدير من عطف الخاص على العام ، ولذا قيل : إن المراد بالزخرف التذهيب بلا نقش كي يصح عطف النقش به حينئذ عليه ، لكن فيه أن النقش استخراج الشي‌ء واستيعابه حتى لا يترك منه شي‌ء كما عن ابن فارس ، قال : ومنه نقش الشعر بالمنقاش ، ومنه المناقشة والاستقصاء بالحساب إلى أن قال : ومن الباب نقش الشي‌ء تحسينه ، فإنه ينقشه أي ينفي عنه معايبه وفي كشف اللثام عن الأزهري عن المنذر عن أبي الهيثم أنه الأثر ، فيكون معناه المصدري التأثير ، وفي المجمع وعن القاموس أنه تلوين الشي‌ء بلونين أو ألوان ، وعلى كل حال فهو راجع إلى الزخرف ، كما أن في حرمة مطلق النقش وإن لم يكن بالذهب منعا واضحا ، بل‌ فيما رووه (١) عن عثمان « أن عثمان عمر المسجد فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بحجارة منقوشة وجعل عمده حجارة منقوشة » شهادة على العدم بملاحظة عدم الإنكار بذلك عليه ، خصوصا من أمير المؤمنين عليه‌السلام وعدم عد مثله من بدعه ، بل‌ خبر علي بن جعفر (٢) المروي عن قرب الاسناد صريح أو كالصريح بذلك سأل أخاه عليه‌السلام « عن المسجد ينقش في قبلته بجص أو أصباغ فقال : لا بأس به ».

وكذا الاشكال فيما ذكره المصنف وغيره أيضا ، بل في كشف اللثام أنه المشهور من حرمة نقشها بالصور ذوات الأرواح وغيرها ، إذ لا دليل عليه‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٢ ص ٤٣٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

٩١

بالخصوص عدا التعليل بالبدعة الذي عرفت ما فيه مما يمنع من الاستدلال به على الحرمة بل أقصاه الكراهة كما عللها بذلك في المنظومة ، فقال :

لا تصطنع فيه المقاصير ودع

تصويره فإنه شر البدع

وعدا‌ ضعيف عمر بن جمع (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في المساجد المصورة ، فقال : أكره ذلك ، ولكن لا يضركم اليوم ، ولو قام العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك » مؤيدا بما يستفاد من سبر نصوص التصوير في غير المساجد من شدة المرجوحية والمبغوضية ، إذ هو مع ضعفه سندا ولا شهرة محققة تجبره غير صريح بل ولا ظاهر الدلالة على الحرمة ، ولو بملاحظة التأييد السابق ، ولذا اختار جماعة منهم الشهيد في بعض كتبه والعلامة الطباطبائي الكراهة.

نعم لو قلنا بحرمة مطلق التصوير في غير المساجد أو ذوات الأرواح اتجه القول بها فيها ، ولعله لذا خص الحرمة بعضهم بتصوير ذوات الأرواح بناء منه على حرمة ذلك في غير المساجد ، أو على أنها المتبادر من التصوير ، لكن ومع ذلك كله فالاحتياط لا ينبغي تركه بحال خصوصا في الأخير ، لإمكان دعوى استفادة الحرمة من الخبر المزبور ، وجبره بالشهرة.

فمن الغريب حكمه بالكراهة فيه في الذكرى مع حكمه بالحرمة في الزخرفة والنقش إذ لو أغضينا النظر عن دليله المختص به أمكن اندراجه في النقش والزخرف ، فلا جهة لحرمة ذلك دونه ، بل ربما يقال : إن حكم من عرفت من الأصحاب بحرمة الزخرف والنقش مأخذه خبر التصوير باعتبار فهمهم منه حيثية النقش لا التصوير ، كما يومي اليه استدلالهم به عليه مع التأييد بما سمعته سابقا مما ذكرنا مما يشهد للحرمة في الجملة أيضا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ لكن رواه عن عمرو بن جميع.

٩٢

ومن هنا كان الاحتياط لا ينبغي تركه في ذلك أيضا ، خصوصا بعد أن عرفت أنه فتوى من تقدم ، وفيهم من لا يعمل إلا بالقطعيات ، ومن علم من حاله عدم التسامح في مدارك الأحكام الشرعية مع شدة حسن اقتناصه لها كالفاضل والشهيد وغيرهما ، على أنه محكي عن نهاية الشيخ التي هي متون أخبار غالبا ، إلى غير ذلك.

وليست كتابة القرآن على جدرانها من النقش على الظاهر ، وكأنه خيرة الحر في ) الوسائل ، ولعله لما يومي اليه‌ خبر أبي خديجة (١) المروي عن محاسن البرقي « رأيت مكتوبا في بيت أبي عبد الله عليه‌السلام آية الكرسي قد أدبرت بالبيت ، ورأيت في قبلة مسجده مكتوبا آية الكرسي » لكن يحتمل إرادة ما يسجد عليه من المسجد فيه ، كما يؤيده عدم معروفية مسجد له عليه‌السلام في ذلك الزمان ، وكذا يحتمل إرادة بيان الجواز من‌ خبر علي بن جعفر (٢) المروي عن قرب الاسناد سأل أخاه عليه‌السلام « عن المسجد يكتب في قبلته القرآن أو الشي‌ء من ذكر الله ، قال : لا بأس » بقرينة ما فيه متصلا بذلك « وسألته عن المسجد ينقش في قبلته بجص أو أصباغ فقال : لا بأس ».

ثم إن الحرمة والكراهة في الصلاة أيضا في المساجد الموصوفة بتلك الصفة أو أنهما مختصان بالفعل ظاهر عبارات الأصحاب هنا الثاني ، بل حكي التصريح به عن مجمع البرهان ، وعن العلامة الطباطبائي الكراهة في المصورة ولو إلى غير الصورة ، ولعله لظاهر‌ الخبر السابق وإن قال فيه : « إنه لا يضركم اليوم » لظهور إرادة ارتفاع ذلك من حيث التقية ، فلا ينافي الحكم في نفس الأمر ، والله أعلم.

وكذا يحرم بيع آلتها كما في التحرير والقواعد والإرشاد وعن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام المساكن ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

٩٣

الإصباح والجامع والمبسوط ، وظاهرهم عدم الجواز مطلقا ، بل في الأول كما عن الأخير أنه لا يجوز بحال ، وهو كالصريح في الإطلاق المزبور مع المصلحة وبدونها ، فتكون حينئذ كالعرصة ، لأصالة حرمة التصرف في الوقف ، إذ الوقوف على حسب ما يقفها أهلها ، لكن في كشف اللثام يعنون حرمة ما جرى عليه الوقف من الآلات إلا أن تقتضيه المصلحة كسائر الوقوف ، وفي المختلف وجامع المقاصد والروض والمسالك وعن نهاية الأحكام وحاشية الميسي التصريح بالجواز في عمارتها أو عمارة غيرها من المساجد مع عدم الانتفاع بها ، واستحسنه في الذكرى ، بل صرح الثانيان في كتبهما الثلاثة بالجواز أيضا مع المصلحة ، كما لو خيف عليها التلف أو صارت رثة لا ينتفع بها فيه أو نحو ذلك ، بل صرح في الجامع منها بأنه لو كان بيعها أعود مع الحاجة إليها للتصرف في مرمة المسجد فالظاهر جوازه للمصلحة ، وربما يؤيده في الجملة ما يأتي إن شاء الله من جواز بيع الأرض الموقوفة لرفع الخلف بين أربابها مثلا ، وفي المدارك « أن التحريم إنما يثبت مع انتفاء المصلحة ، وإلا جاز قطعا ، بل قد يجب ، ويتولاه الناظر » قلت : لا ريب في أصالة الحرمة ولا دليل على كفاية مطلق المصلحة.

نعم لا يبعد الجواز إذا تعذر استعمالها والانتفاع بها فيما قصده الواقف أو قرب منه ، ضرورة أولويته من التلف ، أما مع إمكان أحدهما فلا ، وربما يشهد له في الجملة كلامهم السابق في صرف آلات المسجد في مسجد آخر ، اللهم إلا أن يحمل ذلك منهم على الجواز ، أو يحمل هذا على تعذر الصرف مطلقا أو نحو ذلك ، فلاحظ وتأمل فإنه قد تقدم في ذلك المقام ماله دخل تام هنا في الدليل والحكم والموضوع أي الآلات ، فإنه قد يظهر من جامع المقاصد هنا أيضا أن الآلات عبارة عن الفرش والسرج خاصة وفيه ما عرفت ، ويأتي إن شاء الله في باب الوقف أو غيره تمام البحث في ذلك وغيره.

ثم إنه إذا بيعت مع المصلحة يجوز صرفها في عمارة مسجد آخر مع تعذر صرفها في‌

٩٤

الأول أو استيلاء الخراب عليه أو كون الثاني أحوج لكثرة المصلين على إشكال في الأخير ، وقد تقدمت الإشارة إليه ، كما أنه تقدم ما يستفاد منه البحث هنا ، فلاحظ.

وكذا يحرم أن يؤخذ منها في الطريق والأملاك قطعا فضلا عن أن تؤخذ جميعها بمعنى جعل بعضها طريقا أو ملكا بحيث تنمحي عنه آثار المسجدية ، أو يبطل استعماله فيما أعد له كما صرح به غير واحد من الأصحاب بل في الروض نسبته إليهم ، بل هو كأنه من القطعيات إن لم يكن من الضروريات ، إذ هو تخريب لها وتبديل لوضعها ، ومناف لمقتضى تأييدها للعبادة المخصوصة ، بل لا فرق بين الطريق والملك وغيرهما ولو وقفا آخر إذا كان مستلزما لتغيير هيئة المسجد وإبطال آثاره.

وعلى كل حال فلا ريب في غصبية الاتخاذ المزبور وكون الآخذ غصبا غاصبا ، فمن أخذ منها شيئا وجب عليه أن يعيده إليها أو إلى مسجد آخر مع تعذر الإعادة إلى الأول ، أما بدونه فمشكل ، خصوصا إذا حصل بسببه الضيق في المسجد وتغيير الهيئة وقلة الرغبات ونحو ذلك ، وإن كان ربما يؤيده ما تسمعه نصا (١) وفتوى من التخيير بين إرجاع الحصى إلى مسجده وبين إرجاعه إلى غيره ، إذ هو كما ستعرف بعض أجزاء المسجد أيضا.

وكيف كان فلا يختص الوجوب بالمغير بل يعمه وغيره كما صرح به في المدارك ولا بأس به إن كان المراد حسبة ، لكن لا يبعد وجوب المئونة لو احتيج إليها من المتخذ ، فيجبر عليها وتؤخذ من ماله قهرا كغيره من مؤن رد المغصوب ، وفي حرمة باقي التصرفات على المتخذ بعد الاتخاذ كاستطراقه ونحوه مما كان يجوز له فيه وهو بهيئة المسجد وعدمها وجهان ، بل قد يحتمل التفصيل بين الصلاة ونحوها وغيرها ، فيجوز ما كان المسجد معدا له دون غيره ، خصوصا الأفعال التي هي سبب التغيير ، وصار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

٩٥

معدا لها بعده كالاستطراق في المتخذ طريقا ونحوه ، ثم إنه بناء على حرمة سائر التصرفات فهل تختص بالمتخذ خاصة أو بكل مستعمل له في خلاف ما عد له من الاستطراق ونحوه لا الصلاة ونحوها مما هي من تصرفات المساجد أو الأعم؟ الظاهر الأول ، للأصل واستصحاب بقاء الاذن في سائر هذه التصرفات قبل زوال هيئة المسجد نعم قد يحرم من جهة العارض كما إذا كان هذه التصرفات سببا أو جزء سبب لاضمحلال المسجدية وزوال آثارها ، فيكون إعانة على الإثم والعدوان ، وهو أمر آخر ولا عبرة بالمصلحة هنا بل ولا بالمفسدة ، فلا يجوز بيع عرصة المسجد على حال من الأحوال ، للأصل وظهور الأدلة من الكتاب والسنة والفتاوى والسيرة في أن المسجدية من الأمور الأبدية التي لا يجوز تغييرها إلى غيرها أو نقلها بأحد النواقل بحال من الأحوال ، نعم غير المسجد من الأوقاف العامة يمكن دعوى جواز تغيير هيئاتها إذا قضت به المصلحة ، بل يجوز بيعها في بعض الأحوال.

لكن الإنصاف أن كثيرا من هذه المسائل غير منقحة ، لعدم وضوح أدلتها من الكتاب والسنة بل والفتاوى ، لما فيها من الإجمال الذي لا يجسر معه على الفتوى بشي‌ء منها ، إذ بعضها يومي إلى أن المدار على المصلحة ، وآخر على الأصلح ، وثالث على المفسدة ، ورابع على تعذر الجهة الموقوف عليها أو الاستغناء عنها ، وغير ذلك ، فالاحتياط لا ينبغي تركه في بعض الأفراد.

وكما أنه لا يجوز اتخاذ المسجد طريقا أو ملكا بأن يغير إليهما لا يجوز جعل شي‌ء منهما مسجدا ، إذ الأول ملك للمسلمين المستطرفين ، والثاني ملك آحادهم ، نعم لو رجعت الطريق إلى الإباحة بأن بطل استطراق الناس أمكن حيازتها لها وإحياؤها يجعلها مسجدا ، وكذا لو كانت الطريق زائدة على المقدار الشرعي أمكن أيضا جعل‌

٩٦

الزائد كذلك كما عن التحرير وغيره النص على الأخير ، مع أنه لا يخلو من إشكال ، لاحتمال تعلق حق الاستطراق به وإن كان زائدا على ما ستعرف في إحياء الموات إن شاء الله.

ومثل الطريق والملك غيرهما من الأوقاف العامة والخاصة ، فلا يجوز تغييرها وجعلها مسجدا ، لكن قد تدعو المصلحة إلى تغيير هيئة بعض الأفراد الأولى اليه ، فيجوز حينئذ للحاكم الذي هو الولي مع عدم الناظر الخاص ذلك على تأمل ونظر ، والله أعلم ، ونسأله التوفيق للوقوف على حقائق هذه المسائل.

وكيف كان فمما سمعت ظهر لك أنه إذا زالت آثار المسجدية لم يحل لأحد تملكه أو فعل مناف المسجدية فيه ، لعدم بطلان وقفه بذلك ضرورة ، كما أنه مما قدمناه في كتاب الطهارة ظهر لك الحال في قول المصنف ولا يجوز إدخال النجاسة إليها ولا إبقاؤها فيها وإن لم يكن هو المدخل مثلا ، وأن المدار على الملوثة منها أو الأعم ، بل وقوله ولا إزالة النجاسة فيها إذ الظاهر كون مرجعها الأولى كما يومي اليه تعليله في المعتبر والمنتهى بأن ذلك يعود إليها بالتنجيس ، أما إذا فرض كون النجاسة غير ملوثة وكان إزالتها على وجه لا ينجس المسجد إما لطهارة الغسالة أو لكون المزال به ماء كثيرا أو أزيلت في إناء جاز بناء على حرمة الملوث من النجاسة خاصة ، ولم يجز بناء على الإطلاق ، واحتمال حرمة الإزالة هنا تعبدا لما فيه من الامتهان لا دليل عليه ، وإن مال اليه المحقق الثاني ، وربما أوهمه ظاهر المتن وغيره مما أطلق ، فيه هذا الحكم بعد الحكم الأول ، إلا أنه لا أعرف له دليلا معتدا به يختص به من حيث الإزالة ، نعم في الذكرى ـ بعد ذكر الحكم المزبور والذي قبله ـ قال : قاله الأصحاب ثم قال : والظاهر أن المسألة إجماعية ، فإن تم ذلك مع إرادته الإزالة من حيث هي لا من حيث التلويث كان هو الحجة ، خصوصا مع إمكان تأيده بالكراهة في الوضوء من‌

٩٧

البول والغائط ، بل هي دليل آخر بناء على إرادة الاستنجاء منه والحرمة من الكراهة ضرورة طهارة غسالته مع أنه أطلق فيه النهي ، بل قد استدل بذلك في المعتبر على المطلوب ، لكنك تعرف ما فيه مما تقدم ، وإلا كان ممنوعا كما هو واضح ، فتأمل هذا.

ولا فرق على الظاهر بين ظاهر المسجد وباطنه ، ولا بين سبق النجاسة المسجدية وسبقها لها ، وإن كان قد يشعر بخلاف ذلك إطلاق النصوص الواردة في جواز اتخاذ الكنيف مسجدا إذا طم بالتراب ، منها‌ خبر الحلبي (١) قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : « يصلح المكان الذي كان حشا زمانا طويلا أن ينظف ويتخذ مسجدا ، فقال : نعم إذا ألقي عليه من التراب ما يواريه ، فان ذلك ينظفه ويطهره » وصحيح عبد الله بن سنان (٢) سأل الصادق عليه‌السلام « عن المكان يكون حشا زمانا فينظف ويتخذ مسجدا ، فقال : ألق عليه من التراب حتى يتوارى ، فان ذلك يطهره إن شاء الله » وخبر أبي الجارود (٣) سأله أيضا « عن المكان يكون خبيثا ثم ينظف ويجعل مسجدا فقال : يطرح عليه من التراب حتى يواريه فهو أطهر » والمرسل (٤) عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام « عن بيت قد كان حشا زمانا هل يصلح أن يجعل مسجدا ، فقال : إذا نظف وأصلح فلا بأس » ونحوه خبر علي بن جعفر (٥) عن أخيه عليه‌السلام المروي عن قرب الاسناد ، وخبر مسعدة بن صدقة (٦) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه سئل « أيصلح مكان حش أن يتخذ مسجدا؟ فقال : إذا ألقي عليه من التراب ما يواري ذلك ويقطع ريحه فلا بأس ، لأن التراب يطهره ، وبه مضت السنة » بل‌ قال الصادق عليه‌السلام في خبر محمد بن مضارب (٧) : « لا بأس بأن يجعل على العذرة مسجدا ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٦.

٩٨

بل وإطلاق بعض الفتاوى كالقواعد والذكرى وغيرهما ، بل في جامع المقاصد أن ما وقفت عليه من العبارات هنا مطلق ، لكن قال فيه : إنه ينبغي أن يراد بانقطاع الرائحة في عبارة القواعد ذهاب النجاسة ، لأنه مع بقاء عينها وصيرورة البقعة مسجدا يلزم كون المسجد ملطخا بالنجاسة ، بل عن فوائد القواعد أن ظاهر صحيح عبد الله بن سنان تحقق استحالة عذرته ترابا ، وحينئذ لا إشكال بلزوم نجاسة المسجد ، فالأولى حمل الحكم على ذلك ، أو على ما إذا كان الموقوف الظاهر خاصة ، أو على ما يمكن تطهيره ، وفي المنتهى بعد أن ذكر أنه لا بأس بوضع المسجد على بئر غائط أو بالوعة إذا طم وانقطعت رائحته معللا له بأن المؤذي يزول فتزول الكراهة ، قال : « لا يقال : روى الشيخ عن عبيد بن زرارة (١) عن الصادق عليه‌السلام « الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط أو مقبرة » لأنا نقول : نحن نقول بموجبه إنما يتخذ مسجدا مع الطم وانقطاع الرائحة » وأوضح منه في رفع المنافاة ما في كشف اللثام من التعليل بزوال الاسم والصفات.

لكن ومع ذلك كله فالإنصاف أنه لا صراحة في النصوص السابقة ، بل ولا ظهور في اعتبار تطهير ذلك الموضع في وقفه مسجدا ولو باستحالته ترابا ، وإن اشتمل بعض أسئلتها على التنظيف والإصلاح وأجوبتها على الطهارة ، إلا أن المراد منها المعنى اللغوي قطعا ، على أنه من المستبعد أو الممتنع طهارته بالمواراة المزبورة ، ضرورة نجاسة الأجزاء الترابية منه التي لا يجدي مزجها بالتراب ، إذ لا استحالة فيها ، كما أنه لا ظهور فيها أيضا بوجوب التطهير بعد الوقف مسجدا أو كون المسجد الظاهر دون الباطن كما سمعته من الفوائد ، بل ظاهرها جميعا أو صريحها عدم ذلك كله ، وأنه يكفي هذه المواراة وانقطاع الرائحة بالطعم المزبور في جعلها مسجدا ، ولا يجب التطهير بعد ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٨.

٩٩

ولا بأس بالفتوى به بعد ما سمعته من النصوص المعتضدة بإطلاق بعض الفتاوى إن لم يكن أكثرها ، إلا أنه ينبغي الاقتصار على ذلك بالخصوص لا أنه يتعدى إلى غير ذلك ، كما مال اليه المقدس الأردبيلي في المحكي من مجمعه ، حيث قال : وردت أخبار كثيرة في اتخاذ الحش مسجدا صحيحة وغير صحيحة ، ومنها يعلم عدم اشتراط الطهارة في المسجد بحيث يكون التحت أيضا طاهرا وكذا الفوق ، إذ هو كما ترى بعيد جدا ، بل كأنه مخالف للإجماع ، ضرورة عدم الفرق بين تحت المسجد أو فوقه قطعا ، نعم ينبغي استثناء خصوص موارد تلك النصوص للعسر والحرج في الإزالة على وجه التطهير ، بل قد يتعدى إلى كل أرض تعسر إزالة النجاسة منها ، أو تعذر وأريد وقفها مسجدا ، فلا يجب انتظار طهارتها إن أمكنت في صيرورتها مسجدا ، وإلا امتنع وقفها مسجدا ، بل لا يبعد القول بعدم اعتبار سبق إزالة النجاسة الممكنة في المسجدية ، فله وقفها حينئذ مسجدا ، ثم يزيل بعد ذلك النجاسة ، لأصالة عدم الاشتراط ، إذ الإزالة من أحكام المساجد لا من شرائطها ، كما هو واضح.

فما في البيان ـ من أنه لا تبنى المساجد على النجاسة إلا مع الإزالة ، ولو طمت قبل الوقف ثم بنى جاز ـ محل للنظر إن أراد ما يخالف ما ذكرنا ، ولعله يريد الإشارة إلى ما عساه يظهر من النصوص السابقة من اعتبار سبق الطم أو المواراة على المسجدية ، وهو ـ مع إمكان منعه عليه وإن كان ربما يوهمه بعضها في بادئ النظر ـ لا ينافي ما ذكرناه من عدم اشتراط التطهير السابق في الصحة ، اللهم إلا أن يقال : إن التطهير فيما يمكن تطهيره كالطم والمواراة فيما لا يمكن ، فكما وجب سبق الثاني على المسجدية فكذا الأول ، وفيه تأمل.

ولعله بالتدبر فيما ذكرنا يستفاد الوجه فيما صرح به في القواعد والمنتهى والتذكرة والذكرى والدروس والبيان والنفلية والموجز الحاوي وجامع المقاصد وكشف الالتباس‌

١٠٠