جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بل اعترف غير واحد بعدم معروفية القائل بتعيين القصر وإن كان يفهم من المتن ، بل صرح بعضهم بنسبته الى القيل ، بل في السرائر « أنه لم يذهب الى ذلك أحد ، ولم يقل به فقيه ، ولا مصنف ذكره في كتابه لا منا ولا من مخالفينا » الى آخره : لكن يدل عليه بعض النصوص (١) السابقة إلا أنه يجب رفع اليد عنها أو تأويلها ببعض ما عرفت ، لمعارضته بمثل ما مر حتى الإجماع المحكي مع زيادة عظم الشهرة هنا ، ومعروفية انقطاع السفر بالمرور بالمنزل نصا وفتوى ، وصحيح العيص بن القاسم (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر ثم يدخل بيته قبل أن يصليها قال : يصليها أربعا ، وقال : لا يزال يقصر حتى يدخل بيته » وأما القول بالتخيير أو التفصيل فهما وإن نسب أولهما إلى الشيخ وثانيهما الى ابن الجنيد إلا أنه لم نتحققهما أيضا ولكن دليلهما مع الجواب عنه يظهر مما عرفت ، بل هذا المقام أولى بجميع ما ذكرناه في ذلك المقام كما لا يخفى.

ويستحب أن يقول عقيب كل فريضة مقصورة ثلاثين مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر جبرا للنقصان العارض للفريضة بلا خلاف أجده ، لخبر سليمان المروزي (٣) قال : « قال الفقيه العسكري عليه‌السلام : يجب على المسافر أن يقول في دبر كل صلاة يقصر فيها : سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ثلاثين مرة لتمام الصلاة » إذ هو وإن كان مشتملا على لفظ الوجوب إلا أنه لما لم يقل به أحد كما اعترف به في الرياض وكان الخبر ضعيف السند اتجه حمله على إرادة مطلق الثبوت أو تأكد الاستحباب منه ، على أنه يمكن منع كون لفظ الوجوب حقيقة في المعنى المصطلح بحيث يحمل عليه إذا ورد في الكتاب والسنة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٣٦١

ثم إنه لا ريب في ظهور النص كالمتن في اختصاص المقصورة بذلك ، لكن قيل إنه روي (١) استحبابها عقيب كل فريضة ، فيكون استحبابها هنا آكد ولا بأس به ، وهل يتداخل الجبر والتعقيب أم يستحب التكرار وجهان أحوطهما الثاني ، والأمر سهل.

ولا يلزم المسافر متابعة الحاضر إذا ائتم به بل يقتصر على فرضه ويسلم منفردا كما تقدم تفصيل الحال فيه في فصل الجماعة.

وأما اللواحق فمسائل : الأولى إذا خرج من منزله إلى مسافة فمنعه مانع عن قطعها اعتبر ، فان كان بحيث يخفى عليه الأذان أو الجدران بناء على الاكتفاء بأحدهما قصر إذا لم يرجع عن نية السفر بتردد أو عزم على العدم بلا خلاف ولا إشكال لأنه مسافر حينئذ ، كما أنه فاقد للشرط مع فرض عدم استمرار قصده ، نعم قيده بعضهم بما إذا لم يمضي عليه ثلاثون يوما أو ينوي الإقامة ، وهو في محله بالنسبة الى الثاني ، وأما الأول فقد يناقش بأن ظاهر الأدلة السابقة المقتضية للتمام بسببه اعتبار التردد من المسافر نفسه في السفر لا العازم الذي يكون منعه من غيره ، ولعله لذا حكي عن المحقق الثاني هنا الحكم بالتقصير وإن مضى له ثلاثون يوما ، إلا أنه قد يدفع بأن ظاهر تلك هو عدم علم المسافر بأنه يسير غدا أو بعد غد ولو للتعليق على أمر ليس من قبله كما ذكرناه سابقا ، فلاحظ.

وإن كان بحيث يسمعه أي الأذان أو بدا له عن نية السفر ولو لتردده فيه وفي عدمه أتم لأنه لم يخرج عن محل الترخص ولفقدان الشرط وهو استمرار القصد ويستوي في ذلك كله المسافر في البر والبحر للاشتراك في الأدلة.

المسألة الثانية لو خرج الى مسافة فردته الريح قبل أن يقطعها فان بلغ سماع الأذان أو رؤية الجدران أتم لأنه في البلد حينئذ وإلا قصر إذا لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب التعقيب.

٣٦٢

يكن قد رجع عن نيته لأنه مسافر حينئذ ، ونحوه لو رجع لقضاء حاجة ، وفي المدارك وعن الموجز وكشفه أنه لا يلحق في هذا الحكم موضع الإقامة ، بل قال في الأول : « يجب التقصير وإن عاد اليه ما لم يعدل عن نية السفر ، أما مع العدول فيجب الإتمام في الموضعين » قلت كأن وجه الأول أنه بخروجه عنه بقصد السفر ساوى غيره ، فلا مدخلية له في نفسه فضلا عن محل الترخص ، لكن قضية ذلك أنه لا يرجع الى التمام وإن عدل عن السفر ما لم ينو إقامة جديدة ، ولعله المراد ، وإلا فالقول بالإتمام حينئذ لا يخلو من نظر ، وربما تسمع في المسألة الثالثة ما ينفعك هنا إن شاء الله ، فارتقب وتأمل‌

المسألة الثالثة التي اضطربت فيها الأفهام وذلت فيها أقدام كثير من الأعلام ، وهي إذا عزم المسافر على الإقامة في غير بلده عشرة أيام وقد صلى فيه فريضة تماما ثم أنه خرج عنه الى ما دون المسافة لأمر قد بدا له ، فهل يبقى على حكم التمام أو يعود الى التقصير الثابت له قبل المقام ، وأن جمعا من الفضلاء المتأخرين وجملة من مشايخنا المحققين قد عدلوا في المسألة عما عليه الأصحاب ، وخالفوا ما هو المعروف عندهم في هذا الباب ، فمنهم من أوجب التقصير في جميع صورها ، ومنهم من ذهب الى الإتمام في شقوق المسألة عن آخرها ، ولم أقف على موافق لهذين القولين كما اعترف به العلامة الطباطبائي في مصابيحه فيما اطلعت عليه من الأقوال ، ولا نقله ناقل من الفقهاء في كتب الخلاف والاستدلال ( فـ ) ان المستفاد من كلامهم الإجماع على أنه إن عزم على العود والإقامة في ذلك المكان أتم ذاهبا وعائدا وفي البلد كما حكاه عليه في الروض والمصابيح وعن المقاصد العلية ، بل عن الغرية عليه عامة الأصحاب ، بل عن كشف الالتباس أنه لا شك ولا خلاف فيه ، وهو الحجة بعد ظهور النصوص (١) أو صراحتها في انقطاع سفره بنية الإقامة ، وأنه لا يعود الى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر.

٣٦٣

التقصير إلا إذا خرج قاصدا للمسافة ، لا أقل من استصحاب حكم التمام حتى يثبت المزيل ، بل على ذلك لا فرق بين أن ينوي العشرة في بلد الإقامة وغيرها مما هو دون المسافة كما عن مجمع البرهان التصريح به ، لاشتراكهما معا في المقتضي المزبور وإن كان ظاهر عبارات الأصحاب الأول كما في الذكرى الاعتراف به ، إلا أنه لا يبعد عدم إرادتهم ذلك على وجه الشرطية ، بل كأنه مقطوع به.

وكذا المستفاد من كلامهم الاتفاق على وجوب القصر على مريد العود دون الإقامة في الإياب ومحل الإقامة كما اعترف به العلامة الطباطبائي وتلميذه شيخنا في مفتاح الكرامة ، بل قيل هو ظاهر حصر الخلاف في المسألة بقولين في المسالك والروض وجامع المقاصد وكشف الالتباس وفوائد الشرائع ، بل عن الأخير وإرشاد الجعفرية نفي الخلاف فيه ، بل قيل إنه صريح كلام ثاني الشهيدين في نتائج الأفكار حيث قال في أثناء كلام له : « إن أقوال أصحابنا منحصرة في هذا القسم في قولين : أحدهما القصر مطلقا ، والثاني القصر في العود ، فالتفصيل بالتمام في بعض الأقسام إحداث قول ثالث رافع لما وقع عليه الإجماع المركب ، كما أن أولهما نسبه الى المتأخرين في ذكراه ».

قلت : ويؤيده تتبع ما وصل إلينا من كلمات الأصحاب بواسطة وبدونها من المبسوط والقاضي والسرائر والمختلف والمنتهى والتذكرة والنهاية والتحرير والقواعد والدروس والبيان والموجز وجامع المقاصد وفوائد الشرائع وحاشية الإرشاد والجعفرية والميسية وإرشاد الجعفرية والمدارك والغرية والدرة السنية والذخيرة والكفاية وغيرها وإن كان المفروض في عبارات الشيخ والقاضي والسرائر المقيم في مكة إذا أراد الخروج الى عرفات ومنى لقضاء نسكه إلا أنه من المقطوع إرادتهم المثال من ذلك وأنه لا خصوصية له كما يومي اليه تعليلهم الحكم المزبور ، بل هو كصريح كلماتهم ، كما لا يخفى على من لاحظ عباراتهم ، كما أنه من المقطوع به بملاحظتها أيضا أن بناء المسألة‌

٣٦٤

في الفرض على كون الخروج الى عرفات دون المسافة ، لعدم ضم الذهاب إلى الإياب لغير يومه المعلوم انتفاؤه في المقام لمكان قضاء النسك ، أما بناء على اعتبار الضم مطلقا كما سمعته سابقا فليس الفرض مما نحن فيه قطعا.

نعم يبقى إشكال على خصوص كلام الشيخ ، لحكمه بالتخيير بين القصر والإتمام لقاصد الأربع ، فكيف يتجه له حينئذ القول بتعين الإتمام هنا مع إرادة العود والإقامة ، وعرفات على أربع فراسخ من مكة ، اللهم إلا أن يريد الإتمام على أنه أحد فردي الواجب المخير أو أنه بنى الكلام هنا على القول الآخر ، وهو تعين الإتمام في قاصد الأربعة الذي لم يضم الذهاب إلى الإياب في يوم واحد ، أو أنه لم يثبت عنده كون عرفات على أربع فراسخ وإن صرح به في القاموس ، ودلت عليه النصوص (١) كما قيل ، أو غير ذلك ، ولا يرد مثل هذا على حكمهم بالقصر إذا لم يرد العود والإقامة ، وذلك لأن بناء الاشكال على كون التخيير للمسافة التلفيقية ، وليس كذلك في المقام ، إذ الفرض أنه قاصد مسافة أما بخروجه الى المقصد أو بعوده منه على القولين ، وبالجملة لم نقف على قائل بالإتمام في المقام ، ولا من حكي عنه ذلك سوى ما يحكى عن حواشي الشهيد على القواعد ناقلا له عن مصنفها فيمن خرج من الحلة إلى زيارة الحسين عليه‌السلام يوم النصف من رجب عازما على الرجوع الى الحلة لزيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم السابع والعشرين منه أنه يقصر مطلقا ويتم احتياطا ، والتمام أرجح ، قيل وهذا هو المنقول عنه في أجوبة مسائل السيد السعيد المهنا ابن سنان المدني ، وعن ولده فخر الإسلام في بعض الحواشي على الهوامش ، وفي بعض نسخ إيضاحه كما قدمنا نقله سابقا ، مع أن الأول لا صراحة فيه بكون الحكم التمام ، بل لعل ظاهره القصر ، أو أن كلامه من المجملات ، والثاني لم يثبت النسبة اليه ، مع انه شاذ ، خصوصا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر.

٣٦٥

وظاهره الإتمام حتى لو كان في ابتداء نيته التردد فيما دون المسافة ، وقد عرفت ما فيه سابقا ، وكفى بذلك دليلا على الحكم المذكور ، إذ هو إن لم يكن إجماعا كاشفا عن رأي المعصوم فلا ريب في حصول العلم من مثل هذا الاتفاق بوصول دليل معتبر دلهم على ذلك بحيث لو اطلعنا عليه لقلنا كمقالتهم ، وكلما يفرض من الاحتمالات ينفيه القطع العادي بعدمه من المجموع.

مع أنه يمكن أن يستدل عليه مضافا الى الإجماع المحكي الذي يشهد له ما سمعت باندراجه فيما دل على القصر على المسافر المقتصر في الخروج عنه على المتيقن ، وهو غير الفرض ، إذ نية الإقامة لا تخرجه قطعا عن صدق المسافر ، وبنحو صحيح أبي ولاد (١) السابق ، ضرورة صدق الخروج بالنسبة إلى الفرض ، إذ دعوى إرادة غير المشتمل على قصد العود عنه ممنوعة ، وبصدق قصد المسافة عليه عند إرادة العود ، أقصاه المرور بمحل الإقامة ، وهو ليس من القواطع ، ولا ينافيه كثرة إرادة (٢) المكث فيه بعد قصوره عن قصد الإقامة الشرعية ، إذ هو مار شرعا ، وكذا لا ينافيه عدم كون محل الإقامة في جهة البلد التي يريد السفر إليها ، ضرورة اختلاف الأغراض والمقاصد للمسافرين في محل مرورهم ، فتارة يكون غرضه في مكان على الجهة ، وأخرى على خلافها ، بل قد يقال وكذا لا ينافيه إرادة تكرار العود الى محل الإقامة وما دون المسافة بالنسبة إليها وعدمه ، كما هو قضية إطلاق الأصحاب وتعليقهم القصر على مجرد عدم قصد الإقامة ، إذ هو على كل حال قاصد قطع المسافة وان اتفق له التردد في أثنائها لبعض الأغراض ، سواء قصد ذلك ابتداء أو طرأ له في الأثناء ، كما إذا لم ينو الإقامة أصلا أو لم يكن عازما على العود إلا أنه طرأ له ، فان ذلك كله محسوب عليه من سفره ومسافته وإن لم يكن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصحيح « ارادة كثرة المكث فيه ».

٣٦٦

هو من المتعارف في الطريق الى البلد التي يريد الوصول إليها.

لكن الإنصاف أنه من المحتمل قويا تنزيل إطلاق الأصحاب على خصوص مريد العود دون الإقامة ثم الخروج بعد إلى مسافة من غير إرادة تكرار الخروج الأول ويؤيده ما في كشف التباس الصيمري من « أن كثيرا من الناس جهلوا مراد المصنفين بقولهم : « فان عاد لا بنية الإقامة قصر » وضلوا عن الطريق الواضح المستبين ، فزعموا أن مرادهم أنه إذا خرج بعد الإقامة عشرا الى ما فوق الخفاء ودون المسافة بنية العود الى موضع الإقامة لا يجوز له الإتمام إلا مع نية إقامة عشرة أخرى مستأنفة ، ولو عاد بغير نية إقامة عشرة مستأنفة وعزمه الخروج ثانيا الى ما فوق الخفاء ودون المسافة لا يجوز له الإتمام ويجب عليه التقصير ، وهو جهل وضلالة بمراد المصنفين ، لأن مرادهم بذلك القول هو ما إذا كان قصده بعد الرجوع الخروج إلى مسافة ، ولو كان قصده الخروج ولو كل يوم الى ما دون المسافة لم يجز له التقصير بإجماع المسلمين ، لما عرفت من أن نية الإقامة عشرا مع الصلاة تماما ولو فريضة واحدة تقطع السفر وتوجب الإتمام حتى يقصد مسافة أخرى ، وقد صرح به الأصحاب في مصنفاتهم ، قال الشهيد في دروسه : « لو خرج بعد عزم الإقامة وقد صلى تماما اشترطت مسافة أخرى » وقال في بيانه : « ولو خرج بعدها اعتبرت المسافة ـ الى أن قال ـ فعلى هذا لو خرج كل يوم الى ما فوق الخفاء ودون المسافة فهو باق على الإتمام حتى يخرج بقصد مسافة ، فإنه يقصر عند الخفاء » ولو عاد بقصد الخروج قبل العشرة إلى مسافة قصر عند الشهيد والمصنف ، وعند الخروج على مذهب العلامة والمحقق ، فقد تحقق الصواب وزال الارتياب » ووافقه عليه المقدس البغدادي ، إلا أن القطع بإجماع المسلمين على ذلك ـ مع إطلاق عبارات الأصحاب وظهورها في أن المدار في التقصير على عدم قصد الإقامة المستأنفة ، على أن الغالب حصول التكرار إذا بقي تسعة أيام مثلا ، خصوصا‌

٣٦٧

في مثل المقيم في بغداد بالنسبة إلى بلد الكاظمين عليهما‌السلام وفي مكة بالنسبة إلى منى وعرفة ـ محتاج إلى جرأة ، وكأن الذي ألجأه الى ذلك استبعاد احتسابه مسافرا وقاصدا للمسافة من ابتداء عوده مع إرادته التكرار ، كما أومأ إليه بقوله : « وقد صرح الأصحاب » الى آخره.

لكنك خبير بأنه يمكن أن يقال إنه وإن كان كذلك بادي الرأي إلا أنه مع التأمل ومراعاة قواعد الشرع في المسافر والمقيم التي هي لا تنطبق على ما في العرف في بعض الأحيان يرتفع ذلك الاستبعاد ، ويعلم أن مراد الأصحاب بقصد المسافة ما يشمل مثل المقام ، وانه لا يضره هذا التردد في الأثناء من غير فرق بين قصده ذلك ابتداء أو بدا له في الأثناء وإن كان ظاهر الكشف الاعتراف به في الثاني ، ولا بين قلته وكثرته ، ولا بين التردد الى مكان مخصوص أو غيره ، فلا تناقض حينئذ بين كلماتهم كي يلتجأ منه الى ما ذكره ، بل قد يقوى في النظر ، ان المتجه على كلام الشيخ ومن تبعه من القائلين بالقصر ذهابا وإيابا ومقصدا عدم الفرق بين التكرار وعدمه ، لاقتضاء دليلهم ذلك.

نعم يتجه الفرق على مختار المتأخرين من التفصيل بين الذهاب والعود ، فيقصر في الأخير خاصة ، ضرورة أنه لا يعقل منهم الفرق بين الذهاب الأول الذي حكموا بالتمام فيه وبين الذهاب الثاني أو الثالث ، إذ من المستبعد أن يحكموا بصدق السفر عليه مع هذا القصد ابتداء من حين الشروع في العود ثم الذهاب ثم الإياب وهكذا دون الذهاب الأول ، ولعله الى ذلك لوح المقدس الأردبيلي فيما حكي عنه ، حيث قال : « وأما مع عدم نية الإقامة فيكون قاصدا للرجوع مع عدم الإقامة المستأنفة أو مترددا أو ذاهلا ، فالظاهر وجوب الإتمام مطلقا إلا أن يكون في نفسه السفر الى بلد يكون مسافة بعد العود وقبل الإقامة ، ويكون بالخروج عن بلد الإقامة قاصدا ذلك بحيث‌

٣٦٨

يقال إنه مسافر الى ذلك البلد إلا أن له شغلا في موضع منها فيقضي شغله ثم يرجع الى بلد الإقامة ، فحينئذ يكون مقصرا بمجرد الخروج الى محل الترخص مع نية العود ـ ثم قال ـ : وبالجملة الحكم تابع لقصده ، فان صدق عليه عرفا أنه مسافر وتحققت شرائط القصر قصر وإلا أتم ـ الى أن قال ـ : وليس هذا بخارج عن القوانين ولا عن إجماعهم الذي نقل على وجوب القصر حين العود ، لاحتمال كلامهم ذلك ، فإنه مجمل غير مفصل ـ ثم قال بعد ذلك ـ إنهم قالوا : لا بد للقصر بعد الإقامة من قصد مسافة أخرى ومن الخروج الى محل الترخص بقصد تلك المسافة بحيث يكون هذا الخروج جزء من ذلك السفر ، ومعلوم عدم تحقق ذلك فيما نحن فيه ».

وإن كان في كلامه نظر أيضا من وجوه تعرف مما تقدم ، وأعظمها دعواه الإجمال في كلمات الأصحاب ، وتنزيله الإجماع المزبور على تلك الصورة المزبورة خاصة مع أنه لم يستقر عليها حتى قال ما سمعته أخيرا مما نسبه الى الأصحاب من اعتبارهم كون هذا الخروج جزء من ذلك السفر الذي هو واضح المنع إن أراد الجميع ، خصوصا بعد مراعاة كلامهم في المقام كوضوح المنع فيما يحكي عن بعض من تقدم على الشهيد الثاني حيث زعم التناقض في كلمات المقام بين من أطلق القصر فيه وبين ما تقدم لهم من أن ناوي الإقامة لا يعود الى القصر بعد أن صلى تماما إلا إذا خرج قاصدا للمسافة ، فأجاب بحمل كلامهم هنا على ما إذا خرج قبل الصلاة تماما ، بل هو من الغرائب التي لا يعذر العالم في وقوع أمثالها منه ، وكيف والمقطوع به من كلمات الأصحاب هنا إرادة خروج من كان فرضه التمام الى ما دون المسافة ، وإن لم ينص عليه بعضهم ممن هو معتبر له ، كما لم ينص على بعض الأمور الأخر اعتمادا على كون الناظر من أهل النظر ، وإلا فما ذكره يرجع الى القصر من غير حاجة للخروج الى ما دون المسافة ، بل وكذا ما ذكره الشهيد أيضا نفسه من التفصيل ، وحاصله الفرق بين ما يكون العود مما هو دون المسافة‌

٣٦٩

فيه قرب الى بلده مثلا أو صورة رجوع اليه وبين ما لا يكون كذلك ، فيقصر في الأول دون الثاني.

ثم قال : « لا يقال إن هذا خرق للإجماع المركب ، إذ الناس بين قولين ، فلا قائل حينئذ بالتفصيل المزبور ، لأنا نقول إن القائل به أكثر الأصحاب ، لأنهم قد أسلفوا قاعدة كلية ، وهي أن كل من نوى إقامة عشرة وصلى تماما ثم بدا له في الإقامة فإنه يبقى على التمام الى أن يقصد مسافة جديدة ، وما ذكرناه هنا من أفراد هذه القاعدة وإن كان ظاهرهم أنها مسألة برأسها » ومراده أنه لا يتحقق صدق قصد المسافة عليه إلا بما سمعته من التفصيل ، ضرورة أنه لو كان المقصد مثلا في بعض الطريق التي سلكها من بلده بحيث يكون الخروج اليه بعد نية الإقامة بصورة الرجوع الى البلد ورجوعه منه بصورة الذهاب لم يعقل كون الرجوع من محل هذا شأنه رجوعا الى بلد المسافر ، وهو طرف النقيض للرجوع.

وفيه أن المدار على صدق قصد المسافة والسفر والتغيير عن محل الإقامة بعد في مكان من الأمكنة التي هي دون المسافة بالنسبة إلى محل إقامته ، لا أن المدار على صدق الرجوع الى البلد وعدمه ، ولا ريب في تحقق الأول بمجرد قصده نزع ثوب الإقامة والاستقرار تلك المدة والرجوع الى حاله قبل الإقامة ، ثم ضرب في الأرض حتى خرج عن محل الترخص من محل إقامته ، سواء كان قطعه لهذه المسافة مستديرا أو متعاكسا أو ملفقا أو غير ذلك ، إذ المدار على أنه شرع فيما كان عليه قبل الإقامة من لباس ثوب السفر على مقتضى أغراضه ومقاصده التي تتعلق في بعض الأمكنة ذهابا وإيابا ، وليس المدار على صورة الرجوع أو قصده أو عليهما وعدمهما ، على أنه قد يكون المسافر على حالة يظن كل من رآه عليها أنه ذاهب عن بلده ، وهو في الواقع راجع إليها إلا أنه صدرت منه تلك الحالة لعارض من ماء أو خوف طريق أو غيرهما ، وبالعكس ،

٣٧٠

فان اشتباهات العرف خصوصا في المصاديق كثيرة بل من التأمل فيما ذكرنا يظهر قوة قول الشيخ ومن تابعه كالقاضي والحلي والفاضل في كثير من كتبه وعن الغرية والدرة السنية بالتقصير في الفرض في الذهاب والمقصد أيضا ، بل ربما قيل إنه ظاهر المتن ومن عبر نحوه أيضا ، بل نسبه الشهيد إلى المتأخرين.

خلافا لجماعة من المتأخرين منهم الشهيد والمحقق الثاني وغيرهما فلا يقصر في الذهاب ويقصر في العود ، بل عن الحدائق الظاهر أنه المشهور ، بل نسبه العلامة الطباطبائي إلى أكثر المتأخرين وإن كان فيهما معا نظر لا يخفى على المتتبع.

نعم بين ما ذكره الشهيد منهم خاصة وبين غيره فرق من وجهين : أحدهما انهم صرحوا بوجوب الإتمام لغير ناوي الإقامة بعد العود في المقصد أيضا كما في الذهاب ، وأن التقصير إنما هو في العود خاصة ، بخلاف الشهيد فألحق المقصد بالعود في التقصير أيضا ، حيث قال في الدروس : « ولو خرج ناوي الإقامة عشرا الى ما دون المسافة عازما على العود والمقام عشرا مستأنفه أتم ذاهبا وعائدا ومقيما ، وإن عزم على المفارقة قصر ، وإن نوى العود ولم ينو العشر فوجهان أقربهما القصر لا في الذهاب » وقال في البيان : « وإذا عزم على الإقامة في بلد عشرا ثم خرج الى ما دون المسافة عازما على العود وإقامة عشرة أخرى أتم في ذهابه وإيابه وإقامته ، وإن عزم على مجرد العود قصر ، وإن عزم على إقامة دون العشر فوجهان ، أقربهما الإتمام في ذهابه خاصة » الى آخره.

ويمكن أن يقال إن المقصود من وجوب القصر في غير الذهاب وجوبه في العود والبلد ، ومن وجوب الإتمام فيه خاصة عدم وجوبه فيهما بقرينة حكمه بالإتمام في صورة العزم على الإقامة في الذهاب والعود والبلد ، فان التخصيص في صورة عدم العزم ينبغي‌

٣٧١

أن يكون في مقابلة التعميم في تلك الصورة ، فلا دلالة حينئذ في العبارة على القصر في المقصد وإن كانت قاصرة عن إفادة الإتمام فيه أيضا إلا أن دليل التفصيل على تقدير تمامه يقتضي عدم الفرق بين الذهاب والمقصد ، فتبعد التفرقة فيه بينهما ، ويقرب أن يكون سكوته عن حكم المقصد صريحا تعويلا على إفادة الدليل له » وعلى هذا فلا مخالفة بين قولهم وبين قول الشهيد من هذه الجهة ، كيف وقد صرحوا بموافقتهم فيما اختاروه مع تصريحهم بوجوب الإتمام في المقصد أيضا ، ولو لا ما قلناه لم يكن ما ذكروه موافقا لحصول المخالفة بينهما في حكم المقصد ، بل كان ذلك قولا ثالثا في المسألة.

وفيه مع ما ذكر أنه مخالف لتصريحهم بانحصار الأقوال فيما ذهب إليه الأكثرون من القصر مطلقا وما ذكره الشهيد من التفصيل.

وثانيهما أنهم أطلقوا التفصيل بوجوب القصر في العود والإتمام فيما عداه بحيث يتناول العازم على إقامة ما دون العشر بعد العود والعازم على مجرد العود والمرور بمحل الإقامة ، وخصه الشهيد في البيان بالقسم الأول ، وأوجب القصر على قاصد العود من غير إقامة مطلقا ، قيل : وكلامه في الذكرى يشعر بذلك أيضا حيث ذكر ما يقتضي تمريض قول الشيخ ومن تابعه في حكمهم بالقصر في القسم الأول مؤذنا بأن إطلاق القصر في القسم الثاني مما لا ينبغي التأمل فيه ، وكيف كان فهذا التفصيل من خواصه لم نعرفه لأحد قبله ولا بعده كما اعترف به بعض مشايخنا ، بل قال إنه قد نص بعضهم كالشهيد الثاني على عدم الفرق ، وهو الذي يقتضيه إطلاق غيره.

وكيف كان فحجة الشيخ ومن تابعه ـ مضافا الى إطلاق أدلة القصر على المسافر التي يجب في الخروج عنها الاقتصار على المتيقن ، وهو غير الفرض ممن نوى الإقامة ، والى إطلاق ما دل على إتمام المقيم حتى يخرج الشامل للفرض ـ أنه نقض المقام بالمفارقة ، فيعود الى حكم السفر ، لصدق قصد المسافة عليه ، بل هو كذلك في‌

٣٧٢

بعض الأفراد قطعا ، كما لو كان محل إقامته خانا أو شبهه مما هو من السبيل عرفا ثم قصد إتمام السفر على وجه الاعراض عن الإقامة الأولى والقصد الى ما كان عليه من إتمام السفر ، نعم عزم على العود بهذا الطريق التي يتعارف المرور فيها بمحل الإقامة على أنها مقر ومنزل من المنازل ، خصوصا إذا كان من قصده قيلولة ونحوها ، فإنه لا ريب في صدق المسافر عليه بأول خروجه وصدق قصد المسافة عليه كذلك ، ولا قائل بالفصل في الأعصار السابقة ، إذ قد عرفت حدوثه في مثل هذه الأزمنة ، فيتم المطلوب في الجميع حينئذ.

واستصحاب التمام قد يمنع جريانه في المقام وغيره مما علق الشارع فيه استمرار الحكم إلى غاية علم بعض مصداقها وشك في غيره ، كما أنه يمنع في المقام ما اشتهر عندهم في غيره ـ حتى قيل إنه حكى الإجماع عليه ثاني الشهيدين في نتائج الأفكار وصاحب الغرية ـ من عدم ضم الذهاب إلى الإياب وإن كان الإياب يبلغ وحده مسافة في غير مسألة الأربع ليومه أو مطلقا بعد تسليمه لهم ذلك هناك في ذي المنازل ، وفي الهائم الذي قطع مسافة في هيمانه وقصد الوصول بعد الى مكان خاص لا يبلغ المسافة ثم العود ، وفي من ذهب ثلاثة ثم آب في سبعة وغير ذلك ، إلا أنا نمنعه في المقام ، لان دليله بعد التسليم ما حكى من الإجماع ، وهو لو سلم هناك فلا ريب في منعه هنا كما اعترف به في الرياض وغيره لذهاب الشيخ والأكثر إلى خلافه ، بل لعله كذلك عند الجميع ، كما يومي اليه ظهور كلماتهم في أن محل البحث هنا إذا قصد العود الى محل الإقامة ، أما إذا قصد الفراق فلا إشكال عندهم في وجوب القصر عليه بخروجه عن محل الإقامة أو الى أن يتجاوز محل الترخص منها على الوجهين السابقين ، بل حكى الإجماع عليه غير واحد ، ومن أفراده ما لو قصد العود لكن لا الى محل الإقامة بل الى مكان آخر مثلا محاذيه في الجهة بينهما مقدار محل الترخص أو أزيد ، فيعلم منه حينئذ عدم‌

٣٧٣

تناول تلك المسألة لمثل المقام ، بل هو كالمسافر الذي قصد في أثناء سفره الميل الى مكان ثم الرجوع الى ذلك الطريق الذي كان سالكه ، فإنه لا إشكال في وجوب القصر عليه في ذلك الميل ذهابا وإيابا ومقصدا ، إذ قد عرفت سابقا أنا لم نعتبر في المسافة كونها امتدادية ، بل يكفي المستديرة والمتعاكسة وغيرهما.

وبالجملة دعوى الإجماع على عدم ضم الذهاب إلى الإياب بحيث يشمل المقام على وجه يستكشف منه قول المعصوم عليه‌السلام واضحة المنع ، ولعله لذا ضعفها في الرياض وعن الحدائق بمصير الشيخ وأتباعه إلى عدمها ، وكأنهما لحظا مذهبهم في المقام ضرورة استلزامه القول بالضم المزبور ، إذ احتمال بناء قوله بالقصر هنا في الذهاب والإياب على عدم قطع الإقامة مع الصلاة تماما السفر ، أو على انقطاع حكمها ولو بالخروج الى غير مسافة يدفعهما مخالفة الأول للإجماع وظاهر النصوص ، بل ولحكمه نفسه بإتمام ناوي العود والإقامة ، ولو لا أنها غير قاطعة للسفر لم يتجه ذلك ، كما أنه لم يتجه هو أيضا بناء على انقطاع حكمها عنده بمطلق الخروج ، بل كلامهم في ذي المنازل المحكوم بمساواة المقيم له صريح في خلافه ، كصراحة استدلال الشيخ على ما نحن فيه بأن نقض مقامه بالسفر بينه وبين بلده يقصر في مثله بخلافه أيضا ، بل كأنه مجمع على خلافه كما ادعي ، بل قد يدعى كون عدم تقصير المقيم إلا بقصد المسافة من الواضحات ، فلم يبق إلا بناؤه على اعتبار الضم المزبور هنا.

ومن هنا قيل إن الجميع متفقون على كون القاطع لحكم الإقامة قصد المسافة وتحقق السفر ، لكن البحث في صدق ذلك عليه بمجرد الخروج مطلقا ، أو بالشروع في العود كذلك ، أو بالخروج عن محل الإقامة بعد العود مما دون المسافة ، أو التفصيل ، فالشيخ وأتباعه على الأول ، والشهيد ومن تأخر عنه على الثاني ، وبعض أهل العصر على الثالث ، والبعض الآخر وبعض من تقدم عليهم بيسير على الرابع على اختلافهم في‌

٣٧٤

وجوهه ، لزعم اختلاف العرف في الحكم عليه بالسفر وعدمه ، إلا أنك قد عرفت فيما مضى دعوى الإجماع المركب على خلافه ، وأن الناس بين قائل بالتقصير بمجرد الخروج وقائل به بالعود ، أو هو مع المقصد ، وإن كان الأخير في غاية الضعف بل لم نعرفه لغير الشهيد ، مع أنك سمعت إمكان تأويل عبارته ، كما أنا لم نعرف ما يدل عليه ، ضرورة اقتضاء دليلهم على تقدير تمامه الاختصاص بالعود وإلحاق المقصد بالذهاب ، فانحصر الخلاف حينئذ بالقولين كما اعترف به من عرفت من الأساطين.

ولو لا ذلك لكان التفصيل في الجملة متجها ، لوضوح عدم صدق السفر ، وقصد المسافة والخروج لها على من خرج بلا فاصل معتد به بعد نية الإقامة والصلاة تماما الى ما فوق محل الترخص بيسير ورجع في الحال عازما على إتمام إقامته بأول خروجه ، كوضوح صدق اسم السفر على من خرج بعد إتمام أكثر إقامته الى ما بقي له مما شد الرحال له مثلا بقصد نزع لباس ذلك الاستقرار والرجوع الى لبس ما كان عليه من ثياب الأسفار إلا أنه قصد مع ذلك المرور بمحل اقامته آنا ما على حسب مرور المستطرق من القوافل وغيرها ولم يكن له غرض أصلا إلا الاجتياز ، خصوصا إذا كان محل الإقامة محلا لذلك كالخان ونحوه ، وتارة يختص صدق اسم السفر عليه بأول شروعه في العود دون الذهاب فينبغي حينئذ إيكال الأمر الى ذلك ، ومع الشك يستصحب التمام الذي هو الأصل في الصلاة ، ولعله نظر الى بعض ما ذكرنا فيما تقدم عن البيان من التفصيل بين نية إقامة ما دون العشر وبين من كان قصده المرور حسب ، وإن كان لم يعرف ذلك لغيره ، كما أنه لم يعرف ما ذكرناه من التفصيل لأحد قبلنا عدا ما سمعته من الأردبيلي وبعض من تأخر عنه ، وإلا فالمعروف القولان السابقان.

لكن قد يناقش في بلوغ ذلك حد الإجماع الكاشف عن الحكم الواقعي كما لا يخفى على من تأمل ونظر الى ما ذكروه مستندا للحكم المزبور ، كما أن المناقشة واضحة‌

٣٧٥

فيما ادعي من الإجماع دليلا للقول الثاني أي التقصير بالعود دون الذهاب والمقصد الذي عن فوائد الشرائع أنه المستفاد من الاخبار ، ومن قواعد الأصحاب في المدارك ، وهو مركب من دعويين إحداهما الإتمام في الأخيرين وثانيهما القصر في الأول ، ففي الكفاية عن بعضهم الإجماع على الأولى ، وفي الذخيرة حكايته عن الشهيد الثاني ، لكني لم أجده فيما حضرني من كتبه كما اعترف به في مفتاح الكرامة ، مع أنه من المستبعد جدا دعواه عليه ، وقد عرفت أن القصر مذهب من تقدم على الشهيد ، بل نسبه الشهيد إلى المتأخرين أيضا ، ولذا قيل كأنه توهمه مما في نتائج الأفكار من الاتفاق على عدم الضم المزبور الذي قد عرفت البحث فيه ، فلا ريب في ضعف دعوى الإجماع المذكور.

نعم قد يدل عليها الاستصحاب ، وتنزيل محل الإقامة منزلة البلد ، وإطلاق أدلة وجوب التمام على قاصد الإقامة ، وظهور ما دل على اعتبار قصد المسافة المعلوم انتفاؤه في محل الفرض في انقطاع حكم الإقامة ، وانسياق إرادة السفر من لفظ الخروج في خبر أبي ولاد (١) بل ظاهره إرادة المقابل للدخول منه ، فلا بد أن يكون مستجمعا كالدخول لشرائط السفر ، بل ينبغي القطع بعدم إرادة مطلق الخروج منه ، خصوصا والسائل أبو ولاد الكوفي ، وخروجه على الظاهر إنما يكون الى العراق ، ولذا قال له : « حتى تخرج » بالتاء المثناة مضافا إلى شهادة الاعتبار ، وذلك لان السفر لما انقطع حكمه بنية الإقامة مع الصلاة تماما كان الماضي كأنه لم يكن ، فلا بد في العود من اجتماع شرائطه التي من جملتها قصد المسافة ، والى غير ذلك.

كما انه يدل على الدعوى الثانية ـ مضافا الى نفي الخلاف عنه في المحكي من فوائد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٣٧٦

الشرائع وإرشاد الجعفرية ، والى ما سمعته سابقا من دعوى عدم القول بالفصل التي يشهد لها ما عرفت ـ انه يصدق عليه قصد المسافة الذي لا ينافيه إرادة المرور بمحل الإقامة ، ودعوى تحقق صدق هذا القصد بمجرد الخروج يدفعها بعد التسليم ما سمعته من أن كلا من الذهاب والإياب له حكم برأسه ، ولا يضم أحدهما إلى الآخر ، هذا.

والانصاف يقتضي عدم ترك الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام وإن كان هو في حال العود ومحل الإقامة أضعف منه في حال الذهاب والمقصد بمراتب ، لكن لا ينبغي تركه بحال ، لعدم إمكان الاطمئنان بحكم الله في خصوص المسألة ، لعدم نص فيها لا صريح ولا ظاهر ، وعدم وفاء ما سمعته من الأدلة بجميع تفاصيلها ، وناهيك بالشهيد في الذكرى فضلا عن غيره لم يرجح في المقام على متانته وقوته وعمله بكل ظن على الظاهر ، وإن كان قيل إن الظاهر أن تردده بالنسبة إلى خصوص ما ذهب اليه الشيخ وموافقوه وما ذهب اليه غيرهم ، لا في مثل القصر في العود الذي اتفق عليه القولان ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا قصد العود دون الإقامة ، أما إذا كان مترددا أو ذاهلا ففي التقصير والإتمام وجهان بل قولان.

وتفصيل سائر شقوق المسألة أن ناوي الإقامة بعد الصلاة تماما إذا قصد ما دون المسافة إما أن يقصد العود الى محل الإقامة مع إقامة عشرة مستأنفة ، أو يقصد العود من دون الإقامة ، أو لا يقصد العود في خروجه بل عزم على المفارقة عن محل الإقامة والمضي الى بلده مثلا ، أو يقصد العود مترددا في الإقامة وعدمها ، أو يخرج مترددا في العود وعدمه ، أو يذهل عن جميع ذلك ، فهذه ست صور ، أما الأولى فقد عرفت أنه لا إشكال في الإتمام فيها ذهابا وإيابا ومقصدا ومحل الإقامة ، وأما الثانية فقد عرفت البحث فيها مفصلا ، وأن الأساطين من المتقدمين والمتأخرين على القصر في العود فيها ،

٣٧٧

انما البحث فيها في خصوص الذهاب أو هو المقصد ، وأما الثالثة فالظاهر أنه لا خلاف في وجوب القصر فيها مطلقا ، فان الباحثين عنها والمتعرضين لها اتفقوا على ذلك من دون نقل خلاف ولا إشكال ، بل اعترف بعضهم بظهور الاتفاق عليها ، وانما ذكروا الخلاف في مبدأ التقصير فيها وأنه مجرد الخروج عن محل الإقامة أو التجاوز عن محل الترخص كما تقدم البحث فيه سابقا ، نعم ينبغي تقييد القصر بما إذا كان مسافة ولم يعزم على نية الإقامة فيما دونها.

وأما الصورة الرابعة فكلام القدماء ومن تبعهم من المتأخرين بالنسبة إليها لا يخلو من احتمال ولا يصفو عن إجمال ، فإن قولهم في الفرع السابق الذي أطلنا الكلام فيه لا يزيد مقام عشرة أيام يحتمل أن يكون المراد منه عدم البناء والعزم على العشرة مطلقا ، ومرجعه الى عدم القطع بها المتحقق بإرادة النقيض أي الأقل من عشرة ، أو العبور والمرور بمحل الإقامة ، وبحصول التردد في الإقامة بل والذهول عنها أيضا ، فإن عدم إرادة الإقامة أعم من إرادة عدم الإقامة بمقتضى اللغة ، وحينئذ يستفاد من كلامهم وجوب القصر في هذه الصورة كما في الصورة الثانية حتى بالنسبة إلى الخلاف المتقدم فيها ، ومن هنا حكي عن الغرية وإرشاد الجعفرية الحكم بالقصر في العود في خصوص هذه الصورة كما هو مختارهما في تلك الصورة ، وعن فوائد الشرائع وحاشية الإرشاد أنه الأقوى ، ويحتمل أن يكون المراد منه خصوص الأمر الأول أي العزم على عدم الإقامة وإرادته دون الأعم منه ومن التردد والذهول ، لأن المتفاهم عرفا من عدم إرادة الإقامة البناء على عدمها خاصة ، وإن كان بحسب اللغة أعم من ذلك.

وعلى هذا فلا يظهر من كلامهم حكم هذه الصورة إلا من تعرض لها بالخصوص كمن عرفت ، وكجامع المقاصد والجعفرية ، فإنهما قالا فيما حكي عنهما : إن فيها وجهين ، وكالمدارك والذخيرة وعن المصابيح ، فقالوا : إن الحكم فيها التمام ، ولعله لا يخلو من‌

٣٧٨

قوة ، لعدم تحقق قصد المسافة التي هي الشرط في انقطاع حكم الإقامة ، بل لعله كذلك حتى على مذهب الشيخ ، لعدم تحقق الضم المعتبر عنده في مثل الصورة السابقة.

وأما الخامسة فالمتجه على مختار الشيخ التقصير فيها مطلقا بمجرد الخروج ، لتردده في الحقيقة بين موجبي القصر ، اللهم إلا أن يكون مع تردده في العود مترددا في نية الإقامة الجديدة أيضا ، فتكون حينئذ كالصورة الرابعة ، وأما على غيره فيقصر في غير المقصد لتردده أيضا بين الموجبين ، ولا يقصر في الذهاب لعدم تحقق قصد المسافة على وجه يوجب القصر بمجرد الخروج ، بل لعله كذلك إذا كان مترددا في الإقامة وعدمها على تقدير العود لما عرفت أيضا.

وأما السادسة فكذلك أيضا ، بل لم يفرق من تعرض لها بينها وبين الرابعة ، فيجري فيها حينئذ ما سمعته بتمامه.

ولو خرج بنية المفارقة ثم عن له قبل قطع تمام المسافة أن يعود ويقيم عشرا مستأنفة قصر بخروجه ، لوجود المقتضي وارتفاع المانع ، وأتم من ( حين ظ ) حصول النية ، لكونه حينئذ بعد تنزيل محل الإقامة منزلة المنزل ، كما إذا خرج المسافر من منزله إلى مسافة مقصورة ثم عن له المقام في أثنائها في موضع لم يصل اليه بعد ولكنه دون المسافة فإنه يتم في الطريق وموضع الإقامة ، ثم يعتبر نهاية مقصده بعد ذلك ، لعدم حصول الاستمرار الذي هو أحد شرائط التقصير ، وربما يحتمل انقطاع حكم الإقامة بمجرد قصد المسافة والضرب في الأرض من دون حاجة الى اشتراط الاستمرار عليه ، لعدم الدليل عليه ، بل لعل الدليل على خلافه ، وكونه كالمسافر من منزله قياس لا نقول به ، والأقوى الأول ، لظاهر النص والفتوى.

ولو فرض تجدد نية العود لا غير رجع الى التمام على مذهب الشهيد الى أن يأخذ في الرجوع فيقصر ، وبقي على التقصير على مذهب الشيخ ، ولو انعكس الفرض‌

٣٧٩

بأن رجع عن نية العود والإقامة المستأنفة بعد الخروج الى مقصده رجع الى التقصير ، لزوال المقتضي للإتمام ، وكذا لو رجع عن نية العود عند الشهيد ، أما لو رجع الى محل الإقامة من غير نية كمن ردته الريح ونحوها فقد سمعت ما ذكره في المدارك ، بل في مفتاح الكرامة أنهم قد صرحوا بوجوب القصر عليه في محل الإقامة ، كمن رد لقضاء حاجة ونحوها مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، وهو جيد إن بقي مستمرا على قصده الأول للمسافة.

ويلحق بجميع ما ذكرناه الخارج بعد مضي ثلاثين يوما عليه مترددا كما صرح به بعض مشايخنا ، لأنه من القواطع كما عرفت ، فيجري فيه حينئذ ما يجري في الإقامة ضرورة عدم اختصاصها بدليل مستقل ، بل جميع ما ذكرناه فيها انما هو لكونها من القواطع ، ولتوقف زوال حكمها على قصد مسافة جديدة ، وهما معا موجودان فيه ، نعم لا يجري فيه ذلك بناء على كون التردد المزبور من الأحكام لا من القواطع ، كما سمعته سابقا من المقدس البغدادي.

وقد ظهر لك الحال فيه مما تقدم كما أنه ظهر لك مما ذكرناه هنا أن القول بالإتمام مطلقا في المسألة ذهابا وإيابا ومقصدا ومحل الإقامة لم نتحققه لأحد من أصحابنا وإن ذهب إليه كما قيل جملة من مشايخنا المعاصرين ، وكيف وقد عرفت حدوث تلك التفاصيل المقتضية للإتمام في الجملة من زمن الشهيد الثاني في رسالته المعمولة في المسألة المسماة بنتائج الأفكار كما قيل فضلا عن الإتمام ، نعم قد عرفت فيما مضى نسبته إلى العلامة في أجوبة المهنا ابن سنان ، وهو مع مخالفته لما في كتبه المشهورة المتواترة ليس بتلك الصراحة بل لعل ظاهره خلاف هذه النسبة ونسبته الى ما قد يوجد في بعض الحواشي على الهامش المنسوبة إلى فخر المحققين ، وقد تقدم البحث فيه مفصلا ، والله أعلم.

المسألة الرابعة من دخل في صلاته بنية القصر ثم عن له المقام أتم بلا خلاف أجده‌

٣٨٠