جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وكيف كان فلا ريب في عدم اعتبارهما معا هنا للإجماع ظاهرا عليه من أرباب القولين السابقين ، اللهم إلا أن يدعى أن المصنف والفاضل في التحرير قائلان بذلك بناء على اعتبارهما خصوص الأذان الذي يلزمه سبق رؤية الجدران عليه ، إذ الظاهر أنه بناء على عدم اتحاد العلامتين يثبت حصول الانفكاك من جانب الأذان خاصة ، لكن قد عرفت حقيقة الحال في ذلك ، بل وفي أنه لا يقصر عند الذهاب حتى يبلغ محل الترخص وان ما قيل من أنه يقصر عند الخروج من منزله كما نسب الى علي بن بابويه مأول أو ضعيف ، لما عرفت فيما تقدم ونحوه في ذلك قوله أيضا في أن المسافر لا يتم إلا عند دخوله منزله وإن وافقه هنا أبو علي وعلم الهدى فيما حكي عنهما ، بل مال اليه أو اختاره بعض متأخري المتأخرين ، لاعتبار مستنده وتعدده من‌ صحيح العيص (١) عن الصادق عليه‌السلام « أنه لا يزال المسافر يقصر حتى يدخل بيته » وآخر (٢) « ان أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا ، وإن لم يدخلوا منازلهم قصروا » وموثق إسحاق بن عمار (٣) « سألته عن الرجل يكون مسافرا ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصرا حتى يدخل أهله قال : بل يكون مقصرا حتى يدخل أهله » وغيرها من مرسل الفقيه (٤) ونحوه مما تقدم سابقا ، خصوصا وتعارضها مع بعض أدلة المشهور بالعموم والخصوص ، والبعض الآخر غير صريح الدلالة ، لاحتمال إرادة بيان وجوب القصر عند خفاء الأذان خاصة من التشبيه لا عدمه عند العدم ، كما يؤيده ما عن بعض النسخ من عدم ذكر التمام إذا لم يبلغ موضع خفاء الأذان في الذهاب كي يكون الإياب حينئذ مشبها به في ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ٥.

٣٠١

لكنك خبير بأن ذلك كله في مقابلة الترجيح بالشهرة مخالف لأصول المذهب خصوصا مثل هذه الشهرة التي قيل إنها كادت تكون إجماعا ، وخصوصا بعد اعتضادها بما سمعت ، وخصوصا بعد إمكان المناقشة في دلالة الأخبار المزبورة بإرادة ما يشمل محل الترخص من البيت والمنزل فيها ، إذ إرادة المنزل حقيقة حتى أنه لو دخل المصر لا يتم بعيدة جدا ، مع أن الصحيح الأول (١) مساق لبيان أن العبرة في القصر والإتمام حال أداء الصلاة لا دخول الوقت كما لا يخفى على من لاحظه ، والآخر (٢) مجمل الدلالة عند التأمل ، والموثق (٣) يمكن تنزيله على من وصل بعض القرى من بلد الكوفة أو محالها بناء على أن فرض مثله التقصير حتى يدخل محل الترخص من محلته ، خصوصا وقد عرفت أنهم مثلوا بالكوفة للبلاد المتسعة التي يكون فرض المسافر منها المحلة لا المصر بل يمكن تنزيل الجميع على التقية كما عن الوسائل وصرح به المقدس البغدادي ، بل في الرياض المناقشة فيما عدا الموثق منها ـ زيادة على ما سمعت بورودها مورد الغالب ـ من أن المسافر إذا بلغ الى حد الترخص يسارع إلى أهله من غير مكث للصلاة كما هو المشاهد غالبا من العادة ، فلا يطمئن بشمول إطلاق الحكم بالقصر الى دخول الأهل لمحل البحث انتهى ، وإن كان فيه نوع تأمل.

فطرح أدلة المشهور حينئذ المعتضدة بما سمعت لمثل هذه الأخبار كما ترى ، ولذا قال المصنف والأول أظهر ومثله ما مال اليه بعض متأخري المتأخرين من التخبير لمن بلغ الى محل الترخص في إيابه بين القصر والإتمام عملا بالدليلين ، بل هو أضعف من الأول بوجوه ، بل يمكن دعوى الإجماع المركب على خلافه ، وكذا ما يقال من تنزيل هذه النصوص على من أراد المرور بمصره مستطرقا غير مستقر وكان قد أنشأ سفرا من مكان آخر ، لخصوص بعض النصوص (٤) الواردة في خصوص ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٢ و ٦.

٣٠٢

التي قد ذكرها في الشرط الثالث ، وبينا أن المذهب والعمل على خلافها ، فلاحظ وتأمل ، والله أعلم.

ولو نوى المسافر الإقامة في مكان من قريته أو باديته أو بلد غير بلده عشرة أيام كاملة أتم صلاته إجماعا إن لم يكن ضرورة مذهب محصلا ومنقولا ، ونصوصا (١) معتبرة صريحة مستفيضة إن لم تكن متواترة ، والمراد بالنية هنا مجرد عزمه على ذلك ، ولذا اكتفي في النص والفتوى بمجرد علمه وتيقنه بالبقاء في المدة المذكورة ، لا أن المراد منها قصد خاص بحيث لا يكفي فيه العلم المزبور قطعا ، ففي‌ الصحيح (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام بعد أن سأل عمن قدم بلدة الى متى ينبغي له أن يكون مقصرا؟ ومتى ينبغي له ، أن يتم؟ فقال : « إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام فأتم الصلاة ، وإن لم تدر ما مقامك بها تقول : غدا أخرج أو بعد غد فقصر ما بينك وبين أن يمضي شهر ، فإذا تم لك شهر فأتم الصلاة وإن أردت أن تخرج من ساعتك » وهو كغيره ظاهر فيما ذكرنا ، كما أنه ظاهر أو صريح في أنه لا فرق بين ناوي السفر بعدها أولا. بل ولا بين من نواها اقتراحا أو علق خروجه على قضاء حاجة يعلم عدم تيسرها بالأقل من عشرة ، أو على شرط من رؤية زيد مثلا وقد تحقق.

وبالجملة المدار على العزم المزبور والعلم المذكور اللذين لا ينافيهما الاحتمالات البعيدة التي لا ينظر إليها في العرف والعادة ، كما أنه لا ينافي العزم المزبور الفعلي انطواء ضمير الناوي على أنه إن حدث به حادث أو عرض له عارض يسافر ولا يبقى إذا لم يعلق نية الإقامة على ذلك ، بل لو علقها أيضا وكان مطمئنا بعدمهما ، بل قد يقال بكفاية الأصل في ذلك وإن كان لا يخلو عن نظر أو منع فيما لو ظهر أمارات العارض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٩.

٣٠٣

المزبور ، والأولى إناطة ذلك بالعرف وبصدق عزم الإقامة فيه والعلم بها ، إذ هو واف في تحقق ذلك ، والنصوص علقت الحكم عليه ولم تشترطه بشرط ، فلو ظن حينئذ أنه يقيم عشرة لم ينقطع حكم سفره ، وكذا لو عزم على الإقامة فيما إذا قدم مكة ليلة الثامن والعشرين من ذي القعدة مريدا للحج ، فإنه لا بد له من الخروج يوم الثامن ، ولا وثوق له بأن ذا القعدة كان تاما ، فلم يعلم العشرة حينئذ ، والاستصحاب غير مجد هنا لا لأنه حجة في النفي الأصلي دون إثبات الحكم الشرعي ، ولذا قالوا إنه حجة في الرفع لا في الإثبات ، حتى أن حياة المفقود بالاستصحاب حجة في بقاء ملكه لا لإثبات الملك له في مال مورثه ، بل لتعليق النصوص الإقامة على العزم والجزم بإقامة العشرة التي لا يكفي في تحققها عرفا الاستصحاب ، ومثله لو أراد الاعتكاف لثلاث بقين من شهر رمضان ، ولذلك وشبهه كان الأولى إناطة الحكم المزبور بصدق العزم والجزم على إقامة عشرة.

كما أن الأولى إناطته بذلك أيضا بالنسبة إلى محل الإقامة كما في المدارك والكفاية والرياض وعن الذخيرة والبحار ومجمع البرهان ، فالمدار حينئذ في الإتمام على صدق الإقامة في البلد ونحوه.

والظاهر أنه لا يتوقف على قصد عدم الخروج عن خطة سور البلد ، ولا على عدم فعل الخروج للصدق العرفي بدونهما ، فلو نوى الإقامة في البلد قاصدا للتردد في بعض الأحيان في بعض بساتينها ومزارعها ونحوها مما لا ينافي صدق الإقامة في البلد عرفا معها أتم ولا بأس ، وكذا لو لم يقصد حال النية ، من غير فرق بين الوصول الى محل الترخص أو الزائد عليه بعد الصدق المزبور ، إذ لا تلازم بين التحديد به لخروج المسافر وبين ما نحن فيه ، ضرورة عدم صيرورته حقيقة شرعية ، بل ومن غير فرق بين قطع مثل النيل والفرات وعدمه مع صدق اتحاد البلد كبغداد والحلة الفيحاء ، بل الظاهر عدم‌

٣٠٤

المدخلية للجسر في الاتحاد المزبور وإن كان هو معه أوضح من عدمه ، وكذا لا فرق أيضا بين كثرة التردد وقلته إذا لم يناف الصدق المذكور ، فما عن الفاضل الفتوني من اعتبار خطة سور البلد بل عن الحدائق أنه اشتهر ذلك في هذه الأزمنة المتأخرة غلط قطعا ، ولقد أجاد في نفيه الخلاف والاشكال في التردد الى ما دون محل الترخص فيما حكي من الحدائق. لكنه ينبغي تقييده بما إذا لم يناف الصدق المذكور ، وأما ما عن البيان والمقاصد العلية ونتائج الأفكار من اعتبار عدم تجاوز المقيم حد الترخص بل عن الحدائق أنه المشهور فلعله ليس خلافا لما ذكرنا ، إذ مبناه الصدق العرفي أيضا وإن زعموا أنه ينتفي بتجاوز ذلك ويتحقق فيما دونه.

نعم الأولى عدم التعرض لتحديده بذلك ، بل يوكل الى العرف المختلف باختلاف الأمكنة ، كما أوكلته اليه النصوص ، ضرورة أنه المرجع في كل ما ليس له حقيقة شرعية ، ولو أن التحديد بالترخص شرط لوجب التعرض لبيانه ، وإلا لزم الإغراء بالجهل ، إذ إيكال ذلك الى اعتباره في خروج المسافر إيكال لما لا يستفاد منه ، كما هو واضح ، إذ ليس هو إلا تحديدا شرعيا محضا ، أو كاشفا عن العرف لقاصد المسافة لا مطلقا ، ودعوى أن العادة في ناوي العشرة عدم الخروج الى ذلك المحل فصارت بمنزلة الشرط وأغنت عن النص عليه كما ترى.

ولقد أفرط الفخر فيما يحكى عنه في بعض الحواشي المنسوبة إليه من عدم البأس في خروج المقيم الى ما دون المسافة سواء كان ذلك في نيته من ابتداء الإقامة أو عرض له في الأثناء ، وسواء نوى إقامة عشرة أيام مستأنفة أولا ، ووافقة عليه الكاشاني في الوافي والأستاذ الأكبر في مصابيحه على ما حكي عنه ، بل قال المقدس البغدادي ـ بعد أن حكاه عن الفخر في حواشيه على القواعد من نسخة معتبرة عنده ـ انه الفخر وحده (١)

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصواب « انه ليس القائل به الفخر وحده ».

٣٠٥

بل قد سبقه الى ذلك والده في أجوبة المسائل السنانية المشهورة ، وذلك أن الشريف العلوي سأله عمن نوى المقام في الحلة ثم زار الحسين عليه‌السلام في عرفة ثم عاد إلى الحلة يريد التوجه إلى زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام في يوم الثامن عشر من ذي الحجة هل يقصر في الحلة أم يتم؟ فأجاب بما نصه « جعل الشارع الإتمام على من نوى المقام في بلاد الغربة عشرة أيام فقد جعل حكم ذلك البلد حكم بلده ، فالمقيم عشرة أيام في الحلة يجب عليه الإتمام ، فإذا خرج الى مشهد الحسين عليه‌السلام فقد خرج الى ما دون المسافة ، فلا يجوز له القصر؟ فإذا نوى العود اليه كان كما لو نوى العود الى بلده من دون مسافة القصر ، فإذا عزم على السفر الى مشهد أمير المؤمنين عليه‌السلام وجب عليه القصر بالشروع فيه ».

لكنك خبير في أنه لا صراحة في كلامه ولا في كلام السائل في كون ذلك كان في نية المقيم ابتداء الإقامة ، بل ولا في أنه وقع منه ذلك في أثناء الإقامة ، بل ظاهر الجواب أنه بعد تمام الإقامة ، فتخرج حينئذ المسألة عما نحن فيه ، وتندرج في المسألة الأخرى التي اضطرب فيها كلام العلماء ، بل ربما صنف فيها رسائل ، وهي أن المقيم إذا خرج الى ما دون المسافة وقد قصد العود دون الإقامة فهل يقصر ذهابا وإيابا وفي المقصد ومحل الإقامة أو يتم ، وستسمع تمام البحث فيها عند تعرض المصنف لها ، والظاهر أن موضوعها تجدد قصد الخروج بعد نية الإقامة لا أنه كان ذلك في أثنائها ، كما يومي اليه تعليقهم الحكم فيها على المقيم وعزم الإقامة ونيتها ونحو ذلك ، بل قد يشعر بعض كلماتهم بكون وقوع ذلك بعد تمام الإقامة.

وكيف كان فهو غير ما نحن فيه ، إذ المراد بشرطية الأمر المذكور انما هو بالنسبة الى ابتداء نية الإقامة لا مطلقا حتى في الأثناء أو بعد الإتمام ، ولذا ذهب غير واحد ممن اعتبر الشرط المزبور هنا وبالغ في الإنكار على من جوز التردد للمقيم فيما دون‌

٣٠٦

المسافة إلى الإتمام في المسألة الآتية إما مطلقا أو في الذهاب والمقصد دون الإياب ومحل الإقامة ، لظنه أن ابتداء سفره يكون من المقصد ، ومروره بمحل الإقامة لا يصلح للقطع حال عدم نية الإقامة ، فلا يشتبه عليك الحال في موضوع المسألتين كي يشكل عليك الجمع بين اتفاقهم ظاهرا هنا على ما ذكرناه من الشرط المزبور ولم يحك الخلاف فيه إلا عن الفخر في بعض الحواشي ـ بل صرح غير واحد بأنه لا ينبغي التعويل على هذه النسبة ، لعدم ثبوتها ـ وبين المعركة العظمى في المسألة الآتية التي قد عرفت أن موضوعها من اتصف بوصف الإقامة والعزم عليها ثم بدا له الخروج الى ما دون المسافة ، لا أنه كان ذلك من عزمه في ابتداء النية ، فإنه لم يخالف أحد في عدم اعتبار مثل هذه الإقامة إلا ما سمعته من تلك النسبة إلى الفخر والكاشاني والأستاذ الأكبر فيما حكي عنهما ، ولا ريب في ضعفه ، لعدم صدق الإقامة في البلد على مثله عرفا قطعا ، وعدم ثبوت مشروعية نية الإقامة في البلد وما دون المسافة ، ولذا صرح في المحكي عن المنتهى بأنه لو عزم على إقامة طويلة في رستاق منه من قرية إلى قرية ولم يعزم على الإقامة في واحدة منها لم يبطل حكم سفره ، الى آخره ، ودعوى تناول الإطلاقات لمثل ذلك واضحة المنع ، ضرورة انسباق غير ذلك منها الى الذهن إن لم تكن صريحة فيه ، واستصحاب القصر محكم.

نعم قد يقال بتناولها للبلاد الخارقة للمعتاد في الاتساع ، وان له نية الإقامة فيها جميعها ، فله التردد حينئذ في جميع جوانبها ، ولا يتعين عليه نيتها في محلة منها كما صرح به بعضهم ، وتشهد له السيرة ، بل قد يظهر من المحدث البحراني وغيره كونه من المسلمات حيث أورده على حكمهم بابتداء السفر فيها بالمحلة ، ومراعاة محل الترخص بالنسبة إليها ذهابا وإيابا لا الى البلد لكن لا يخفى أنه لازم لهم ، ولعلهم يلتزمون بتعين نية الإقامة أيضا في المحلة كما صرح به بعض مشايخنا وإن كان واضح البطلان ، لإطلاق الأدلة ، بل قد يقال بعدم تعين نية الإقامة في المحلة فيما فرضناه سابقا من البلاد المنفصلة المحاليل‌

٣٠٧

كأصبهان التي وافقناهم في اعتبار السفر فيها من المحلة فضلا عن غيرها ، لتناول إطلاق أدلة الإقامة لها بخلاف السفر ، إلا أن الانصاف أنه لا يخلو من إشكال لأصالة عدم المشروعية ، والشك في تناول الإطلاق لمثله ، وصيرورتها بالانفصال كالقرى المتعددة وإن جمعها سور واحد ، فالاحتياط لا ينبغي تركه.

كما أنه لا ينبغي تركه لو أراد نيتها في البادية القفر التي لا حدود لها ، فيقتصر على المتيقن في صحة الإقامة فيه ، ولا يتوسع في جعل الحدود ، بل قد يرجح له الاحتياط في أصل الإقامة في مثل ذلك ، وان كان الظاهر عدم الفرق في محل الإقامة بين الأمكنة بعد علمه بالمكث في مكان واحد عشرة أيام كما يعطيه كلامهم في منتظر الرفقة ، لكن يحتمل قصر أدلتها على غير البادية القفر أو نحوها ، والاقتصار في محلها على البلاد والقرية ونحوهما مما هو محل جمع من الخلق ، كما عساه يفهم من اللمعة في التردد الى ثلاثين ، بل يكفي الشك في تناول الإطلاقات والأصل عدم المشروعية ، إذ هي وان كانت من أحكام الوضع إلا أنها أيضا شرعية متوقفة على دليل من الشارع ، ويكفي في حسن الاحتياط تحقق مثل هذا الاحتمال.

وعلى كل حال فالاستناد فيما نحن فيه الى أنه ناوي الإقامة في البلد وما دون المسافة منها فلا يضره التردد فيما نوى الإقامة فيه مما لا ينبغي الإصغاء إليه ، كالاستناد إلى أنه بنية الإقامة في البلد وصلاته تماما فيها ولو فريضة صارت كوطنه ومنزله كما صرح به في بعض النصوص (١) ولا يقدح تردده فيما دون المسافة بالنسبة إلى منزله فكذا هنا ، مضافا الى الإجماع المعلوم والمنقول على أن نية الإقامة قاطعة لحكم السفر ، وأنه لا يقطع حكمها إلا قصد سفر جديد ، إذ هو كما ترى خروج عن محل النزاع الذي قد عرفت أنه عبارة عن قصد ذلك حال النية لا أنه عزم على الإقامة وصلى تماما مثلا ثم بدا له الخروج الى ما دون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٠.

٣٠٨

المسافة ، فإنه حينئذ من المسألة التي وعدناك بها ، ودليل القائل بالتمام في الذهاب والإياب والمقصد ومحل الإقامة ما سمعته من الدليل وغيره ، كما أن دليل القائل بالقصر فيها مطلقا أو في الإياب ومحل الإقامة خاصة إذا لم يكن من عزمه الإقامة فيه بعد أنه قصد حينئذ مسافة وإن تخلل في أثنائها المرور بمحل الإقامة ، فلا ينافيه حينئذ اتفاقهم على عدم قطع حكم الإقامة إلا بقصد مسافة جديدة ، وستسمع تمام البحث فيها عند تعرض المصنف لها.

فقول المستدل هنا أن محل الإقامة كالمنزل والوطن إن أراد به أنه كذلك وإن كان في ابتداء نيته التردد فيما دون المسافة كان مصادرة محضة ، ضرورة أنه فرع صحة إقامته ، والكلام فيها ، وإن أراد أنه إذا لم يكن ذلك من نيته ابتداء إلا أنه قد بدا له الخروج فهو خروج عن محل النزاع كما عرفت ، بل الظاهر أنه كذلك حتى لو بدا له بعد النية قبل الصلاة تماما ، لعدم ظهور أثر تلك النية الذي يظهر من النصوص اعتباره في حصول أحكامها ، ولذا لو رجع الى قصد السفر في هذا الحال عاد الى التقصير ، فكذا لو أدخل في نيته التردد فيما دون المسافة قبل الصلاة تماما عاد الى التقصير بناء على ما قلناه من عدم صحة ذلك لو كان في الابتداء.

نعم الأولى في الاستدلال للمذهب المزبور بخبر محمد بن إبراهيم الحصيني (١) قال : « استأمرت أبا جعفر عليه‌السلام في الإتمام والتقصير ، قال : إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتم الصلاة ، فقلت له إني أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة قال : انو مقام عشرة أيام وأتم الصلاة » ضرورة عدم تصور النية منه بعد لزوم الخروج عليه لعرفات للحج قبل مضي العشرة إلا على المذهب المزبور من عدم قدح ذلك في النية.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٥ عن محمد بن إبراهيم الحضيني.

٣٠٩

لكنك خبير بقصور سند الخبر المذكور عن إثبات الحكم المسطور ، خصوصا بعد ما عرفت أنه لم يذهب إليه أحد هنا سوى من سمعت ، وببناء الاستدلال به على منع كون عرفات على أربعة فراسخ من مكة أو على عدم لزوم التقصير في الخروج لعرفات لكون المسافة ثمانية أو أربعة مع الرجوع ليومه ، فيتم حينئذ دلالته على ذلك ، أما على ما سمعته سابقا من كون المسافة أربعة مع قصد الرجوع ولو لغير يومه فلا يتجه الاستدلال به ، بل يجب حينئذ طرحه أو جعل ذلك من خواص مكة أو تأويله على التقادير الثلاثة المتقدمة ، إذ من الواضح منافاته لنية الإقامة على كل حال ، وكذا لو قلنا بالتخيير بين القصر والإتمام مع عدم قصد الرجوع ليومه كما هو المشهور بين المتقدمين ، إذ القائل المزبور كلامه مختص بمجامعة نية الإقامة لقصد الخروج عما دون المسافة خاصة ، أما المسافة فلا ريب في منافاته لنية الإقامة ، اللهم إلا أن يفرق بين المسافة الموجبة للقصر وبين المخيرة ، ويخص المنافاة بالأولى دون الثانية ، فيجعلها كدون المسافة في ذلك ، كما احتمله بعضهم بالنسبة إلى بطلان حكم الإقامة ، بل عن الأستاذ الأكبر أنه بباله عن بعض مشايخه أنه حكى ذلك عن العلامة ، فلا يرجع المقيم حينئذ إلى التقصير لو بدا له الخروج إلى المسافة التخييرية ثم عاد الى محل الإقامة.

ومنه ينقدح احتماله حينئذ فيما نحن فيه أيضا من عدم منافاة ذلك لو أخذه في النية ، ضرورة مساواته حينئذ لما دون المسافة ، لكنه كما ترى كلام قشري وحديث سوفسطائي.

وأما‌ صحيح زرارة (١) عن الصادق عليه‌السلام « من قدم قبل التروية بعشرة وجب عليه إتمام الصلاة ، وهو بمنزلة أهل مكة ، فإذا خرج الى منى وجب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣ لكن عن أبي جعفر عليه‌السلام.

٣١٠

عليه التقصير ، فإذا زار البيت أتم الصلاة ، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع الى منى حتى ينفر » وقريب منه آخر (١) على ما قيل ، فلا دلالة فيه على ذلك ، إذ الفرض ان نيته إقامة العشرة تامة لقدومه قبل التروية بعشر ، وتقصيره في خروجه إلى منى لبطلان حكم إقامته بقصده المسافة لقضاء نسك عرفات ، وفيه شهادة على كون المسافة أربعة وإن لم يرد الرجوع ليومه ، وعلى كونها محتمة للقصر لا مخيرة ، اللهم إلا أن يقرر الاستدلال به بأنه لا وجه لإتمامه في البيت عند رجوعه للزيارة بعد هدم إقامته الأولى إلا بأن يكون قد نوى الإقامة فيه بعد الحج كما هو المعتاد على ما قيل ، ولذا ترك التقييد به في النص ، وإتمامه حينئذ بمنى حتى ينفر لا يتم إلا إذا قلنا بعدم منافاة قصد مثل ذلك في ابتداء الإقامة لها ، لكنه كما ترى شك في شك وتأويل في تأويل فالأولى طرحه بالنسبة الى ذلك ، أو حمله على خصوص مكة ، أو على غير ذلك مما لا ينافي المختار ، والله أعلم.

وكيف كان فالمراد بالعشرة التامة بلياليها عدا الليلة الأخيرة والأولى ، لتحقق الصدق بدونهما مع فرض حصول الإقامة بابتداء اليوم ، سواء كان من طلوع الفجر الثاني كما هو الصحيح أو من طلوع الشمس ، فلا يجزي الناقص حينئذ ولو يسيرا لعدم الصدق قطعا ، فما يقال ـ من احتساب يوم الدخول والخروج كيف كان حتى لو كان الأول قبل المغرب بساعة أو ساعتين ، والثاني بعد طلوع الفجر كذلك أو إذا كان الذاهب من الأول يسيرا والباقي من الثاني كذلك ضعيف جدا ، والتسامح العرفي في الإطلاق لا تحمل عليه الخطابات الشرعية ، ضرورة عدم صيرورته حقيقة عرفية ، إذ بعض اليوم لا يسمى يوما قطعا ، ولذا نفى الخلاف والاشكال في الحدائق كما قيل عن ذلك ، وإن كان قد حكى فيها عن بعض مشايخه أن المرجع في ذلك الى العرف كباقي الأمور الغير المحدودة في الشرع ، ولا ريب في عدم اعتبار أهل العرف مثل الساعة والساعتين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٩.

٣١١

في صدق ذلك ، نعم لو كان دخوله عند الزوال وخروجه بعده بقليل لم تصدق العشرة في العرف ، بل عن الأستاذ الأكبر احتماله ، بل قد يؤيده منع عد مثله من المسامحات بل هو حقيقة عرفية للتركيب وإن كان اليوم حقيقة من طلوع الفجر الحقيقي إلا أنه يصدق إقامة عشرة أيام (١) كعمل الأجير يوما من طلوع الشمس الى المغرب فإنه يصدق عليه حقيقة عمل يوم وإن كان لا يصدق عليه عمل في اليوم الحقيقي ، ومثله مبيت ليلة وإن لم يستوعبها من غروب الشمس الى طلوع الفجر فتجزى به في مثل القسم ونحوه.

بل مثله ضربت زيدا وجرحته ورأيته ونحو ذلك من الأفعال التي لا تقع على تمام المسمى فإن الأصح عدم المجازية بإطلاق اسم الكل على البعض كما تخيل حتى ادعي بسببه أن أكثر اللغة مجازات ، وفيه أن ذلك وإن سلم في مثل رأيت زيدا وضربته وجرحته ونحوها لصدق ضربه حقيقة وجرحه ورؤيته بوقوع الفعل على بعضه من غير تجوز في لفظ زيد بإرادة ذلك منه ، بل المراد منه معناه ، وهو تلك الذات المشخصة إلا أن ضربها ورؤيتها وجرحها يصدق عرفا بوقوع ذلك على بعضها لكنه ممنوع فيما نحن فيه ، ضرورة عدم صدق إقامة اليوم عرفا عند إرادة المداقة إلا مع استيعابه تماما وإن أطلق على فائت الساعة والدقيقة فهو من مسامحات العرف وتنزيل الفائت كالموجود باعتبار قيام الأغلب ، كما يومي اليه اقتصارهم في هذا الإطلاق على ما إذا كان الفائت مما يتسامح فيه ، ولذا لم يجتز به في مثل العدة والاعتكاف والرضاع وأيام الحيض ونحوها ، مضافا الى أصالة القصر في المقام التي ينبغي الاقتصار في الخروج منها على المتيقن.

نعم الظاهر إجزاء الملفق للصدق العرفي ، فلو نوى المقام عند الزوال كان منتهاه‌

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « عشرة يوم » والصحيح ما أثبتناه.

٣١٢

زوال اليوم الحادي عشر كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، بل لا أجد فيه خلافا من غير المدارك ، قال فيها : « وفي الاجتزاء باليوم الملفق من يومي الدخول والخروج وجهان ، أظهرهما العدم ، لأن نصف اليوم لا يسمى يوما ، فلا يتحقق إقامة العشرة التامة وقد اعترف الأصحاب بعدم الاكتفاء بالتلفيق في أيام الاعتكاف وأيام العدة ، والحكم في الجميع واحد » وفيه أن ظاهر تعليله الأول يقضي بعدم التلفيق مما مضى بمعنى عدم احتساب الناقص من يومي الدخول والخروج يومين كاملين ، ولا كلام لنا فيه كما عرفت ، انما الكلام في احتساب النصفين مثلا بيوم على معنى تلفيق الأول من الثاني وهكذا حتى ينتهي ، فتكسر حينئذ الأيام العشرة ، وعدم الاجتزاء بمثله في الاعتكاف والعدة لو كان فمن مانع خارجي من إجماع أو غيره.

لكن ومع ذا فالاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام إذا علم أن مقدار مكثه في البلد ذلك لا غير لا ينبغي تركه ، خصوصا بعد ما يحكى من توقف صاحب الحدائق فيه أيضا لعدم النص ، ومن استشكال العلامة في احتساب يومي الدخول والخروج أيضا قال : « لأنهما من نهاية السفر وبدايته ، لاشتغاله في الأول بأسباب الإقامة وفي الأخير بالسفر ، ومن صدق الإقامة واليومين » ثم احتمل التلفيق ، وإن كان لا يخفى عليك ما في التعليل الأول بل والثاني ، إذ المدار على صدق إقامة العشرة لا الإقامة فيها كي يكتفى بالإقامة في بعض يومي الدخول والخروج لصدق الإقامة في اليومين.

كما لا يخفى عليك ما في كلام الخراساني في كفايته حيث قال : « والظاهر ، أن بعض اليوم لا يحسب بيوم كامل بل ملفق ، فلو نوى المقام عند الزوال كان منتهاه زوال اليوم الحادي عشر ، وهل يشترط عشر غير يومي الدخول والخروج؟ فيه وجهان » ضرورة عدم انطباق استفهامه أخيرا مع ما حكم به أولا من الاجتزاء بالتلفيق ، ولا تلفيق من الليل قطعا لعدم الصدق ، ولذا صرح في المحكي عن نهاية الأحكام أنه لو دخل ليلا لم يحتسب بقية الليل ، وهو واضح ، نعم لو نوى الإقامة من أول الليل وجب إتمام صلاة‌

٣١٣

تلك الليلة لصيرورتها زائدة على العشرة المنوية.

وبالجملة فمدار الإتمام العزم على إقامة العشرة لا دونها فإنه يقصر حينئذ حتى لو كان خمسة فصاعدا الى ما دون العشرة وفاقا للمشهور نقلا وتحصيلا ، بل عن الخلاف الإجماع عليه ، وعن المنتهى أن عليه عامة أصحابنا ، بل في المدارك أن رواية الخمسة لا تعارض الإجماع والأخبار الكثيرة ، بل قيل إن الإجماع ظاهر عبائر كثيرة بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن أبي علي خاصة كما عن الذكرى الاعتراف به أيضا فيتم لو نوى مقام خمسة ولا ريب في ضعفه للأصل والإجماع السابق المعتضد بتتبع كلمات الأصحاب وتعليقهم الحكم على العشرة الذي كاد يكون صريحا في عدم اعتبار الأقل ، بل هو كذلك والنصوص الكثيرة التي هي كالصريحة أيضا في اعتبار العشرة لا الأقل.

والخروج عن ذلك كله بحسن أبي أيوب (١) « سأل محمد بن مسلم أبا جعفر عليه‌السلام وأنا أسمع عن المسافر إن حدث نفسه بإقامة عشرة أيام قال : فليتم الصلاة فان لم يدر ما يقيم يوما أو أكثر فليعد ثلاثين يوما ثم ليتم ، وإن أقام يوما أو صلاة واحدة فقال له محمد بن مسلم : بلغني عنك انك قد قلت خمسا قال : قد قلت ذلك قال أبو أيوب : فقلت أنا : جعلت فداك يكون أقل من خمسة قال : لا » مخالف لأصول المذهب وقوانين العلم ، خصوصا بعد احتماله التقية عما يحكى عن ظاهر كلام الشافعي ولرجوع الإشارة إلى الكلام السابق ، وهو الإتمام عشرة ، ولما عن الشيخ من تنزيله على خصوص الحرمين ، كما عن الأستاذ الأكبر موافقته في ذلك مستشهدا عليه بشواهد منها خبر ابن مسلم (٢) الآخر الذي ستسمعه ، وهو لا يخلو من وجه ، أو الاستحباب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٢ ـ لكن عن ابى عبد الله عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٦.

٣١٤

وإن كان قد يناقش في أولهما بعدم اشتراط التمام فيهما بالخمسة إلا أن يحمل النهي على إرادة بيان مرجوحية الإتمام قي الناقص عنها ، وفي ثانيهما بأنه لا وجه للاستحباب بعد كون القصر عزيمة لا رخصة كما ستعرف ، واحتمال إرادته إثبات التخيير بالخبر المزبور وجعله أفضل فردي الواجب المخير يدفعه أنه قاصر عن إثبات ذلك أيضا ، لقصوره عن إثبات إلحاق الخمسة بالعشرة في تعين التمام ، وإن حكي عن الذخيرة أنه استوجهه تبعا للمحكي عن منتقى الجمان من أنه لو لا قصور الخبر من جهة السند عن مقاومة ما دل على اعتبار إقامة العشرة لما كان عن القول بالتخيير معدل ، إلا أنك خبير بما في ذلك فالأولى طرحه أو حمله على بعض ما عرفت مما لا يستلزم إثبات حكم جديد به ، سيما وأوله كالصريح في المشهور ، بل فيه شهادة على ظهور مفهوم العدد هنا في نفي ثبوت الحكم للناقص ، فتأمل ، والله أعلم.

وإن كان المسافر قد تردد عزمه وهو في البلاد مثلا فلم يعلم متى خروجه غدا أو بعد غد قصر ما بينه وبين شهر ثم يتم ولو صلاة واحدة بلا خلاف صريح أجده بين القدماء والمتأخرين كما اعترف به في الرياض ، بل في المدارك وعن الخلاف وظاهر المنتهى والذخيرة الإجماع عليه ، وهو الحجة في قطع الأصل ، وإطلاق أدلة القصر في المسافر ، مضافا الى المعتبرة المستفيضة إن لم تكن متواترة الصريحة في ذلك كصحيح زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام المتقدم في أول البحث ، وحسن ابن مسلم (٢) المتقدم آنفا وحسنه الآخر (٣) قال : « سألته عن المسافر يقدم الأرض فقال : إن حدثته نفسه أن يقيم عشرة فليتم ، وإن قال : اليوم أخرج أو غدا أخرج ولا يدري فليقصر ما بينه وبين شهر ، فان مضى شهر فليتم ، ولا يتم في أقل من عشرة إلا بمكة والمدينة ، وإن أقام بمكة والمدينة خمسا فليتم » وخبر أبي بصير (٤) قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٣.

٣١٥

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا عزم الرجل أن يقيم عشرا فعليه إتمام الصلاة ، وإن كان في شك لا يدري ما يقيم فيقول اليوم أو غدا فليقصر ما بينه وبين شهر ، فإن أقام بذلك البلد أكثر من شهر فليتم الصلاة » وصحيح ابن وهب (١) عنه عليه‌السلام أيضا قال : « إذا دخلت بلدا وأنت تريد مقام عشرة أيام فأتم الصلاة حين تقدم ، وإن أردت المقام دون العشرة فقصر ، وإن أقمت تقول : غدا أخرج وبعد غد ولم تجمع على عشرة فقصر ما بينك وبين شهر ، فإذا تم الشهر فأتم الصلاة ، قال : قلت : دخلت بلدا أول يوم من رمضان ولست أدري أن أقيم عشرا قال : قصر وأفطر ، قلت : فان مكثت كذلك أقول غدا أو بعد غد فأفطر الشهر كله وأقصر قال : نعم هما واحد إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت » الى غير ذلك.

وهي كغيرها ظاهرة أو صريحة في أن مدار الإتمام في ذلك على تمام الشهر لا الأقل ، فما في‌ خبر حنان (٢) عن أبيه عن الباقر عليه‌السلام « إذا دخلت البلدة فقلت : اليوم أخرج أو غدا أخرج فاستتممت عشرا فأتم » لا ينبغي الالتفات اليه.

نعم قيل إنه لا دلالة فيها على كون ذلك من القواطع للسفر بحيث يحتاج الى العود في التقصير مثلا إلى مسافة جديدة ، ولذا لم يذكره الأصحاب هناك ، بل ذكروه في الأحكام واقتصروا فيها على الإقامة والوصول الى البلد ، ولا تلازم بين كونه فرضه التمام بعد التردد شهرا وبين كونه قاطعا ، ضرورة أن القاطعية أمر آخر شرعي يتوقف على دليل خاص لا مدخلية للإتمام فيه ، وإلا وجب عد المرور بأحد المواطن الأربعة قاطعا أيضا.

وفيه ما عرفته سابقا ، ونزيد هنا أنه لا يخفى على من لاحظ أدلة المقام اشتراك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤.

٣١٦

الإقامة والشهر في النصوص المعتبرة بالنسبة إلى الحكم المزبور حتى في التنزيل منزلة أهل البلد ، كما في موثق إسحاق بن عمار (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام المصرح بأن المقيم الى شهر بمنزلة أهل مكة ، فاستفادة قاطعية الإقامة منها دون الشهر كأنه تحكم ، ودعوى اقتصار الأصحاب في القواطع على الأمرين وعد الشهر خاصة في الأحكام يدفعها التتبع ، فلاحظ وتأمل.

ثم إن تعليق الحكم في المتن على الشهر هو الموجود في أكثر النصوص وبعض الفتاوى ، بل قيل الأكثر كالمقنع وجمل العلم والمبسوط والخلاف والمراسم والوسيلة والسرائر والمنتهى والبيان وغيرها ، وعبر في النافع بالثلاثين يوما كغيره من العبارات بل حكي عن النهاية وأكثر كتب المتأخرين ، بل صرح الفاضل بأن العبرة بها لا بما بين الهلالين وإن نقص عنها ، وتبعه غيره ، فلو كان ابتداء تردده حينئذ من أول يوم من الشهر الهلالي إلى هلال الآخر واتفق نقصانه لم يتم في صلاته حتى يكمله من الشهر الآخر ، لأن لفظ الشهر وإن عبر به في كثير من النصوص إلا أنه هو إما مشترك لفظي بين ما بين الهلالين والثلاثين ، أو معنوي أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، وعلى كل حال يجب إرادة الثلاثين منه هنا ، بحسنة محمد بن مسلم (٢) المتقدمة ، فهي إما بيان له أو تقييد أو قرينة تجوز ، بل قد يقال بوجوب تنزيله على ذلك مع قطع النظر عنها هنا ، لندرة اتفاق وقوع التردد في أول الشهر الهلالي ، فيحمل المطلق أو المشترك على الفرد الغالب من وقوع التردد في غير أول الشهر ، وقد قيل لا خلاف حينئذ في اعتبار الثلاثين ، وانه لا يلفق هلاليا ، فيبقى حينئذ تلك الصورة خاصة ، وهي ما إذا اتفق وقوع التردد في أول الشهر على مقتضى إطلاق أدلة القصر واستصحابه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٢.

٣١٧

وقد يناقش فيه بأنه بناء على اشتراك لفظ الشهر بينهما اشتراكا معنويا لم تصلح الحسنة المزبورة لتقييده ، ضرورة اقتضاء تعليق الحكم على الشهر الاجتزاء بكل من فرديه لا على التخيير ، بل على الاكتفاء بأيهما تحقق ، وهما يمكن اجتماعهما وانفراد كل منهما عن الآخر ، ولا ينافيه الأمر بعد الثلاثين في الحسنة بعد تسليم الخصم كون الغالب غير الصورة المذكورة المقتضي لخروج الأمر حينئذ مخرج الغالب ، فلا ينافي ذلك الإطلاق كي يجب حمله عليه وإبطال دلالته على ما عداه ، مع أن من شرط حمل المطلق على المقيد تحقق التعارض الموجب لذلك.

ودعوى أنه وإن لم نقل بتحكيم الحسنة المذكورة إلا أنه يجب صرف إطلاق الشهر الى الثلاثين لهذه الغلبة أيضا كما صرف إطلاق الأمر بالعد في الحسنة الى ذلك ، وإلا لو أبقي على إطلاقه الشامل لما لو كان التردد من أول الشهر لم يكن إشكال في التقييد يدفعها وضوح الفرق بين المقامين ، ضرورة كفاية غلبة الوقوع في صرف الثاني ، لأن مرجعه الى وجود حكمة لتخصيص الأمر بأحد الفردين ، وهي تكفي فيه ، خصوصا مع اعتضادها بحكمة أخرى ، وهي نفي احتمال التلفيق هلاليا لو كان التردد في غير الأول بخلاف المطلق الأول الذي لا يجوز العدول عن مقتضى إطلاقه إلا في الأفراد النادر إطلاقه عليها لا النادر وجودها ، خصوصا إذا كان النادر اتفاق الفعل فيها لا هي ، كما إذا كان المطلق من أسماء الأزمنة نحو ما نحن فيه ، على أن هذه الندرة انما هي بملاحظة كثرة مصاديق الأخر المقابل لها ، وإلا فأول الشهر كثانية ، وثالثه ورابعه بالنسبة إلى اتفاق التردد فيه.

نعم لما جعل الأول خاصة مقابلا لسائر تلك الأيام كان اتفاق وقوع التردد فيه نادرا بالنسبة إليها جميعها.

وكذا يناقش لو كان الشهر حقيقة فيما بين الهلالين ، إذ دعوى صرفه عن‌

٣١٨

حقيقته بالحسنة المزبورة ممنوعة ، بل أقصاه استفادة كفاية الثلاثين منها ، وهو لا ينافي كفاية المعنى الحقيقي أيضا.

فمن ذلك كله يظهر لك أن ما عن مجمع البرهان من الاكتفاء بما بين الهلالين وإن كان ناقصا لو اتفق وقوع التردد في أول الشهر وتعين الثلاثين لو كان التردد في غيره لا يخلو من قوة ، بل ربما يؤيده في الجملة عند التأمل زيادة على ذلك ما في صحيح ابن وهب (١) السابق وإن كان الأحوط إن لم يكن الأقوى خلافه ، وهو تعين الثلاثين مطلقا لأصالة القصر وإطلاق أدلته ، ولفظ الشهر وإن كان حقيقة في القدر المشترك بينهما إلا أنه يجب صرف إطلاق الأمر بالتقصير فيما بينه وبينه الى الغالب من وقوع التردد في غير الأول ، ولو نوقش في اقتضاء الغلبة المزبورة ذلك لكان مثله متوجها أيضا في صرف إطلاق الأمر في الحسنة الى ذلك ، فان لم يصرفا كان إطلاقها محكما على إطلاق الشهر ، وإن صرفا معا بقي ما بين الهلالين مع فرض نقصانه على أصالة القصر ، فتأمل جيدا.

ولا فرق على الظاهر في محل التردد بين البلد والقرية ونحوهما وبين المفازة كما صرح به بعضهم ، بل هو صريح الأكثر أو الجميع في منتظر الرفقة على رأس المسافة أو دونها فوق محل الترخص مع جزمه بالسفر ، فضلا عن إطلاق المتن ونحوه وعده فردا مساوقا للإقامة كالنصوص ، فما في الدروس واللمعة من التقييد بالمصر منزل على إرادة مطلق المكان المعين ، كتنزيل ما عساه ينساق من النصوص من كون المحل غير المفازة بقرينة ذكر الخروج والدخول ونحوهما على الغالب أو المثال لا الشرطية ، بل لعل الثاني هو المتعين بقرينة فهم الأصحاب ، فلا جهة حينئذ لما يقال من أنه بعد تنزيل ما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٧.

٣١٩

النصوص على الغالب تبقى صورة المفازة حينئذ على مقتضى أصالة القصر وإطلاق أدلته مع احتمال كون المراد من التنزيل على الغالب إلغاء خصوص المفازة والعمل على مقتضى ذلك الإطلاق المقيد به ، فتأمل.

فالمسافر حينئذ الذي عرض له في أثناء سفره ما يقتضي تعطيله من عدو وغيره حتى مضى عليه الثلاثون متوقعا زواله كما يتفق في طريق الحج في مثل زماننا يتم ولا يقصر إلا أنه ومع ذلك فالاحتياط الذي ذكرناه في محل الإقامة آت هنا أيضا.

وكذا لا فرق بعد بلوغ المسافة بين أن يكون تردده في وقت مضيه في سفره أو في إبطاله والرجوع الى محله ، لإطلاق الأدلة ، نعم قد يقال إن ظاهرها إن لم يكن صريحها كالفتاوى في اعتبار كون التردد المزبور وهو مقيم في مكان واحد ، أما لو كان ذلك منه وهو يسير في سفره فلا إتمام ، بل يبقى على التقصير وان نظر فيه الشهيدان على ما قيل ، إلا أن الأقوى ذلك ، لأصالة القصر وإطلاق أدلته الذين يجب الاقتصار في الخروج عنهما على المتيقن.

نعم لو كان ذلك منه قبل بلوغ المسافة فقطعها على التردد أتم لا لمضي الثلاثين بل لعدم الاستمرار على قصد المسافة الذي هو شرط كما عرفت.

وهل يعتبر الوحدة في محل التردد بحيث يقدح فيه الخروج عنه الى ما كان دون المسافة عنه حتى لو كان من قصده الرجوع ليومه أو ليلته؟ إشكال أقواه ذلك ، اقتصارا على المتيقن أيضا ، إلا أنه لا يقدح فيه مطلق الخروج حتى لمحل الترخص ونحوه مما لا ينافي صدق اسم الوحدة عرفا ، ومثله البلاد المتسعة على حسب ما سمعته في نية الإقامة.

ومنه حينئذ يظهر ما في الروض ، قال : « وهل من التردد ثلاثين يوما ما يتردده الى دون المسافة أو يسلكه من غير قصدها وإن بلغها نظر ، من وجود حقيقة السفر‌

٣٢٠