جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

نعم قد يناقش فيه بظهوره باشتراط القصر والإفطار بالإقامة في المكانين ، وباضطرابه ، لأنه رواه في التهذيب بسند غير معتبر بغير هذا المتن ، فأسقط فيه قوله : « وينصرف » الى قوله : « قصر في سفره وأفطر » فحينئذ لا يكون فيه دلالة على الإقامة في بلده.

لكن قد تدفع الثانية بأن مثله لا يعد اضطرابا ، ويستفاد حكم البلد حينئذ بالأولوية الواضحة ، والأولى ـ خصوصا بملاحظة المرسل الآخر (١) ومتنها في التهذيب ، ومعلومية عدم اعتبار ذلك بين الأصحاب ، ضرورة عدم مدخلية الإقامة اللاحقة في التقصير السابق ـ بأن المراد اعتبار ذلك في التقصير والإفطار ذهابا وإيابا ومنه يعلم حينئذ أن إقامة العشرة تخرجه عن حكم كثير السفر في السفرة الأولى خاصة كما صرح به في السرائر والمدارك والرياض وبغية الطالب إذا لم تنقطع بإقامة العشر ، خلافا لبعضهم فاعتبر في رجوعه الى حكم كثير السفر حينئذ السفرات الثلاثة ولعله لزعمه إخراج الإقامة المزبورة إياه عن الموضوع ، فلا يعود حينئذ إلا بما أثبته له ابتداء من الدفعات الثلاث التي لم يتخللها إقامة عشرة مثلا ، وفيه ـ مضافا الى ما سمعته سابقا من عدم اعتبار ذلك في الابتداء أنه من الواضح عدم إخراج ذلك له عن الموضوع ، فيبقى حينئذ فيما عدا السفرة الأولى مندرجا في إطلاق ما دل على التمام الذي يجب الاقتصار في تقييده على المتيقن ، وهو السفرة الأولى ، على أن استصحاب حكم التمام الثابت له في منزله أو ما في حكمه لا معارض له هنا ، إذ معارضة ذلك كله بإطلاق ما دل على التقصير بإقامة العشرة الذي من المعلوم عدم إرادة الإطلاق فيه ـ بل هو أشبه شي‌ء بالمقيد بالمجمل يقتصر في معارضته للإطلاق الأول على المتيقن ـ كما ترى ، ونحوها معارضة استصحاب حكم الإطلاق الأول بحكم الإطلاق الثاني ، لوجوب الاقتصار في الخروج عن حكم اليقين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ١.

٢٨١

الأول بيقين ، وليس هو إلا السفرة الأولى ، فتأمل.

ولا فرق في إقامة العشرة بين البلد وغيره ، للصحيح (١) والمرسل (٢) السابقين المنجبرين هنا أيضا بالشهرة المحكية في الرياض إن لم تكن محصلة ، لكن ظاهرهما كبعض العبارات الاكتفاء بإقامتها ولو بغير نية ، وهو متجه في البلد ، أما غيره ففي الروض وعن المجلسي الإجماع على اعتبارها فيه ، ولعله لأنه بها يكون محل الإقامة كالمنزل ، وبدونها كأثناء المسافة فيتجه حينئذ تقييد الخبرين بهما ، بل الظاهر اعتبار عدم تخلل الأقل من المسافة في أثنائها بناء على إبطال ذلك حكم التمام إذا لم يعزم على إقامة عشرة مستأنفة ، أما بناء على عدم تأثير ذلك في حكم الإقامة وإن لم يكن من نيته الإقامة المستأنفة فلا يقدح هذا التخلل حينئذ في أثنائها في الاجتزاء بالتلفيق وإن قل المفتي به هنا ، بل في الروض لم أقف على مفت من الأصحاب عدا ما حكي عن المحقق الثاني ، لكنه متجه ، وجزم به في ظاهر الروضة أو صريحها ، ضرورة كونها حينئذ كالعشرة في المنزل التي لا تحتاج إلى نية ، ولا يقدح تخلل ما دون المسافة بينها ولو بقي أياما ، لإطلاق الخبرين ، فيجزي الملفق حينئذ كالعشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما التي بها يكون غير المنزل منزلا ، فلا يشترط حينئذ في العشرة الحاصلة بعده نية ونحوها كما صرح به بعض ، ويومي اليه إطلاق آخر ، خلافا للأستاذ في بغية الطالب فلم يعتبرها من دون نية ، وهو ضعيف.

كضعف احتمال الاكتفاء بالتردد ثلاثين يوما من غير إقامة عشرة بعدها ، بل في الروض أن المحقق الثاني قواه ، بل فيه أيضا أنه صرح به ابن فهد في المهذب مدعيا أنه المشهور ، ولعله لصيرورته بالتردد ثلاثين يوما فيه كالمنزل ، ولذا وجب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٨٢

عليه التمام فيه بعدها ، لكن فيه أن ذلك لا يوجب انقطاع حكم كثرة السفر ، إذ أقصى ما يقتضي أن يكون ذلك كمنزله الذي قد عرفت توقف انقطاع حكم الكثرة على إقامة العشرة فيه ، ولا يكفي الأقل حتى الخمسة في قصر النهار خاصة فضلا عن غيرها كما ستعرف ، ودعوى أن التردد ثلاثين يوما كإقامة العشرة ممنوعة ، بل أقصاه كنية الإقامة لا كتمام الإقامة ، ولا دلالة في الصلاة تماما بعده على الثاني ، إذ هي أعم منه ومن الأول الذي حكى الإجماع في الروض على عدم قطعه لحكم كثرة السفر حتى يتم ما نواه ، وإلا فلا تكفي النية وإن صلى تماما أياما ، فيقوى حينئذ اعتبار إقامة العشرة بعد التردد ثلاثين يوما وفاقا للدروس والروض والروضة والرياض وعن الموجز.

وكيف كان فلا فرق في انقطاع حكم الكثرة وغيرها مما ذكرنا بين المكاري وغيره بلا خلاف محقق أجده فيه وإن اختص النص بالأول ، لعموم معقد الإجماع والقطع بعدم الفرق بعد أن كان المناط عملية السفر المنقطع حكمها بإقامة العشرة ، ولكن في المتن وقيل ذلك مختص بالمكاري بالمعنى الأعم فيدخل في جملته الملاح والأجير ولا ريب أن الأول أظهر لما عرفت ، بل اعترف غير واحد بعدم معرفة هذا القائل ، وأنه لعل المصنف سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف ، بل في الرياض ربما احتمل أنه المصنف ولو قام خمسة أيام قيل والقائل المشهور نقلا وتحصيلا ، بل ربما استظهر من بعضهم الإجماع عليه يتم لإطلاق الأدلة ، ومفهوم المرسل (١) السابق والاستصحاب وغيرها وقيل والقائل الشيخ وابنا حمزة والبراج على ما حكي عن ثانيهما يقصر صلاته نهارا دون صومه ، ويتم ليلا لصحيح ابن سنان (٢) المتقدم ، لكن لم ينص في المبسوط والوسيلة على الصوم ولا ريب أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، ضرورة قصور الصحيح المزبور عن تقييد الأدلة المزبورة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

٢٨٣

وأدلة تلازم الإفطار والتقصير بسبب الاعراض عنه واشتماله على ما لا يقول به أحد من الاكتفاء بالأقل من خمسة ولو يوما أو أقل ، إذ ابن الجنيد وإن حكي عنه الاكتفاء بذلك لكنه جعله كالعشرة في القصر والإفطار لا التفصيل المزبور ، على أنه في غاية الضعف يمكن دعوى الإجماع على خلافه ، فضلا عن مخالفته لظاهر النصوص بل والاعتبار ، إذ عليه لم يبق موضوع لكثير السفر غالبا ، كل ذا مع أنا لا نعرف له دليلا بل ولا وجها ، فلا ريب في فساده ، بل لعله لا يرجح الاحتياط من جهته ، نعم لا ينبغي تركه بالنسبة إلى الأول لصحة مستنده ، وعمل جماعة به وميل بعض المتأخرين كما قيل اليه ، واشتماله على المجمع على خلافه لا يخرجه عن الحجية في غيره كما لم يخرجه عن الحجية في المسألة السابقة ، والله أعلم‌ الشرط السادس للقصر أنه لا يجوز للمسافر التقصير بمجرد خروجه من منزله على المشهور شهرة كادت تكون إجماعا كما عن الذكرى ، بل لا خلاف محقق معتد به وإن نسب الى والد الصدوق كما ستسمع حتى استثناه خاصة من معقد نفي الخلاف في الرياض بل هو إجماع نقلا عن الخلاف إن لم يكن تحصيلا ، للأصل واعتبار الضرب في الأرض في الآية (١) وعدم صدق المسافر فعلا ، والنصوص (٢) التي سيمر عليك بعضها ، فما عن علي بن بابويه ـ من التقصير بمجرد الخروج عن المنزل الى أن يعود اليه ـ منزل على إرادة محل الترخص من المنزل كما يومي اليه غلبة تعبيره بفقه الرضا عليه‌السلام وقد عبر فيه كما قيل تارة بما سمعت (٣) وأخرى بما إذا غاب عنه أذان المصر (٤) فهو كالكاشف حينئذ عن إرادته بالمنزل في العبارة الأولى ذلك ، فلعل الصدوق كذلك ،

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ١٠٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) المستدرك الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ١.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٨٤

وإلا كان شاذا ضعيفا كما عن معتبر المصنف الاعتراف به ، كمستنده من‌ المرسل (١) عن الصادق عليه‌السلام « وإذا خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه » وما قيل من‌ الموثق (٢) « أفطر إذا خرج من منزله » لوجوب إرادة محل الترخص من المنزل فيهما ، أو تقييدهما بغيرهما من النصوص المعمول عليها بين الأصحاب.

فلا ريب حينئذ إن لم يكن لا خلاف في أنه ليس له أن يقصر بذلك بل يبقى على التمام حتى يتوارى عنه جدران البلد الذي يخرج منه ، أو يخفى عليه الأذان فأيهما حصل كفى في وجوب القصر كما هو مذهب أكثر الأصحاب على ما في المدارك والمشهور بين القدماء على ما في الرياض وعن غيره ، بل عن شرح التهذيب للمجلسي حكاية الشهرة عليه من غير تقييد ، واختاره جماعة من المتأخرين ومتأخريهم ، للجمع بين‌ صحيح ابن مسلم (٣) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يريد السفر فيخرج متى يقصر قال : إذا توارى من البيوت » وبين‌ صحيح ابن سنان (٤) سأله « عن التقصير فقال : إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع الأذان فقصر وإذا قدمت من سفرك مثل ذلك » والآخر المروي عن‌ المحاسن بسند صحيح الى حماد بن عثمان (٥) عن رجل عنه عليه‌السلام ، وفيه « إذا سمع الأذان أتم المسافر » والموثق (٦) الذي مر في المباحث السابقة ، فإن فيه « أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ـ ١٠ من كتاب الصوم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٧ لكن روى عن حماد بن عثمان عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

٢٨٥

أذان مصرهم » وما مر من المحكي عن فقه الرضا (ع) (١) بإرادة التخيير بين الأمرين.

وفيه أنه لا شاهد عليه من نص أو غيره ، ولا ينتقل اليه من مجرد اللفظ ، إذ ظاهرهم إرادة التخيير كخصال الكفارة لا كتخيير الحائض بالعمل بالروايات والفقيه بإحدى الأمارتين ، وهو لو سلم الانتقال اليه من الخبرين ففي التكليف بالضدين ونحوه كصل عند الزوال ركعتين وامض إلى السوق لشراء اللحم عنده ولو بملاحظة تعذر الجمع بينهما مع حكمة المكلف ، لا في مثل المقام المساق لبيان ذكر علامة بلوغ الحد الموجب للتقصير الذي لا مانع فيه عقلا من كون العلامة فيه مجموع الأمرين ، بل لعله الظاهر هنا جعلا لكل من الواقعين بعد أداة الشرط شرطا أصوليا ، كما يؤيده استقراء أمثاله مما جاء في بيان الشرائط للعبادات أو المعاملات ، وظهور أداة الشرط في التسبيب بعد تسليمه انما هو إذا اتحدت لا مع التعدد كما في المقام ،

ودعوى كون المفهوم منها في الثاني أن السبب أحد الأمرين أو الأمور لا المجموع ـ إذ التعارض بينهما في خصوص اقتضاء العدم عند العدم ، فيتقيد حينئذ سببية عدم كل منهما للعدم بوجود الآخر ، أما تسبيب وجود كل منهما للوجود فيبقى على حاله لعدم التعارض فيه ، كتسبيب عدم كل منهما للعدم في غير محل وجود الآخر ، لعدم التعارض فيه أيضا ـ يدفعها أن ذلك حينئذ ليس من التخيير المحكي في الرياض وكتاب المقدس البغدادي عنهم ، قال في الثاني عند بيان مدرك ما ذكروه من الجمع المزبور : « إن الشارع جعل للترخص سببين ، فبأيهما أخذ امتثل » ولذا اعترض عليهم الأستاذ الأكبر على ما حكي عنه زيادة على ما عرفت بأن استقلال كل منهما بالسببية مستلزم للمحال ، وهو التكليف بالشي‌ء ونقيضه حيث يسمع الأذان ولا يرى الجدران أو بالعكس ، وربما أجيب بأنه لا تناقض أصلا ، لأن العمل على ما سبق منهما ، ورده المقدس البغدادي ـ بل جعله‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٤ و ٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٨٦

من الخطأ الفاحش ـ بأنه قد يقترنان كما إذا سمع الأذان حين خفي عليه الجدران ، سلمنا لكن إذا سبق أحدهما كالخفاء ولم يصل أو لم يسلم علي الثنتين حتى سمع الأذان كيف يصنع ، وقد تناقض عليه العلامتان ، قال : « والحق في الجواب أن التخيير بين الخبرين ، وإذا أخذ بأحدهما لم يلتفت إلى ما جاء به الآخر حتى كأنه لم يجي‌ء ـ ثم قال ـ وإذا أخذ بواحد منهما فهل يتعين الأخذ به ولا يسوغ له العدول الى الآخر من حيث أن الشارع خيره فاختار نصيبه ، أو لا زال على التخيير كما لو كان التخيير بين الفعلين كما في المواطن الأربع؟ وجهان » الى آخره.

لكن لا يخفى عليك أن ذلك كله من غرائب الكلام ، ضرورة أنه لا دلالة في شي‌ء من كلمات الجماعة على أصل التخيير فضلا عن هذا التخيير المزبور ، إذ لم يعبروا إلا بنحو المتن ، وهو ظاهر إن لم يكن صريحا في إرادة ثبوت التقصير بأحدهما ، فلا يقدح حينئذ تخلف الآخر ، إذ أقصاه أنه علامة ، فهي لا يجب اطرادها كما أوضحناه لك سابقا ، فان مفهوم كل منهما مقيد بمنطوق الآخر ، فلا تناقض حينئذ ، ولا تخيير حقيقة ، بل هو أشبه شي‌ء بتقديري الكر المساحة والوزن اللذين لا يقدح في تحقق الكرية بأحدهما تخلف الآخر على ما عرفته في محله.

ومنه يعلم فساد ما أطنب به الأستاذ الأكبر من بيان عدم جواز مثل هذا التخيير وأنه أوضح فسادا من القول بالتصويب ، وليت شعري كيف يحتمل إرادة التخيير بين العمل بكل من الروايتين هنا من عبارات الأصحاب ، ولو أرادوه لم يجز التعبير بذلك ، لاختلافه بحسب اختيار الفقيه لأي الروايتين على أن تكون تكليفه وتكليف مقلديه ، ولا دليل على أن التخيير هنا كتخيير الحائض بالرجوع الى الروايات وبالجملة كان المقام من الواضحات التي لا تحتاج الى مزيد إطناب.

ومنه حينئذ تعرف وجه اندفاع سائر ما تقدم مما أورد على هذا القول ، ضرورة‌

٢٨٧

أنك عرفت كون مبناه تقييد كل من مفهوم الخبرين بمنطوق الآخر ، وهو جار على مقتضى الضوابط والقواعد.

بل ومنه تعرف أيضا ضعف ترجيح الجمع بكون الشرط في التقصير خفاؤهما معا عليه ، كما ذهب إليه جماعة ، بل قيل إنه المشهور بين المتأخرين ، بل عن حاشية الألفية للكركي نسبته إليهم ، كما عن آخر نسبته إلى الشهرة والأكثر من غير تقييد ، بل عن الخلاف الإجماع عليه ، ضرورة كون مبناه تقييد كل من الخبرين بالآخر حتى يكون الشرط حينئذ اجتماعهما ، وفيه أن التعارض فيهما بين المنطوق والمفهوم لا المنطوقين ، فلا وجه لتقييد أحدهما بالآخر ، بل هو في الحقيقة إبطال للدليل من غير معارض ، ولعله لذا رجح في المدارك الجمع الأول عليه ، بل قال إنه بعيد جدا ، فما في الرياض حينئذ من ترجيح الجمع المزبور على الأول إما لرجحانه في نفسه عليه عند التعارض أو لأوفقيته باستصحاب التمام محل للنظر ، مع أن الأول مصادرة محضة ، والثاني غير مجد بعد ما عرفت من مخالفة الجمع المزبور لمقتضى الضوابط ، ومعارض بموافقة الأول لإطلاقات السفر وللضرب في الأرض ، بل وبما دل على التقصير بمجرد الخروج من المنزل كالمرسل السابق وغيره ، وأما إجماع الخلاف فهو ـ مع ما قيل من أنه مساق للرد على من اكتفى في التقصير بمجرد الخروج من المنزل كما يومي اليه استدلاله بعده بالآية ـ موهون بمصيره نفسه الى غيره في غيره ، فضلا عن مصير أكثر المتأخرين على ما قيل وبعض المتقدمين الى خلافه أيضا.

لا يقال ذلك كله مسلم لو أن ما ذكرته من الجمع كان هو الموافق لمقتضى الضوابط وفيه بحث بل منع ، إذ تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ليس بأولى من العكس ضرورة كون التعارض بينهما بالعموم من وجه ، فمن الجائز حينئذ أن يكون المراد خفاء‌

٢٨٨

الأذان موجب للقصر إلا إذا لم يخف الجدران ، وكذا العكس ، فالمتجه حينئذ إما إلغاؤهما والرجوع الى مقتضى الأصل ، ولا ريب في اقتضائه التمام حتى يخفيا معا ، أو ترجيح الثاني على الأول بالأصل.

لأنا نقول أولا إنه وإن سلمنا كون التعارض بينهما بالعموم من وجه إلا أن المفهوم عرفا من مثله في المقام ما ذكرناه من الجمع كما يوضحه لديك ملاحظة النظائر ، بل يزيده وضوحا ملاحظة تعدد الأسباب إذا ذكرت بلفظ السبب ونحوه ، ضرورة كون « ان » مفيد ة للتسبيب لا الشرط الأصولي كما حررناه في الأصول ، وثانيا لا ريب في رجحان المنطوق على المفهوم ، فهو أولى بأن يكون مخصصا من العكس ، خصوصا إذا انضمت اليه مرجحات أخر ، منها ما تقدم ، ومنها ما ستعرفها إنشاء الله ، فتأمل جيدا.

نعم قد يقال إن الجمع بأي وجه يكون مشروط بحصول التكافؤ بين الدليلين وليس ، إذ لا ريب في رجحان الأخير على الأول باعتبار اعتضاده بصحيح المحاسن (١) والموثق (٢) والرضوي (٣) وغلبة عدم الجدران في تلك الأزمان ، ولعله لذا اقتصر الحلبي والمفيد وسلار وأبو الصلاح عليه فيما حكي عما عدا الأول من غير تعرض لخفاء الجدران كالمحكي عن فقه الرضا عليه‌السلام بل وابن أبي عقيل ، بل عن الثاني نسبته الى آل الرسول ( عليهم الصلاة والسلام ) ويحمل حينئذ صحيح البيوت (٤) على إرادة بيان حكم ذلك في نفس الأمر ، وبيان الوجه والحكمة في تحديد الترخص بذلك ، إذ ما دام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٤ و ٥ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٨٩

لم يتوار لم يخرج عن حد الحضور ويدخل في حد الغيبة ، بخلاف ما إذا توارى ، لا أن المراد به اعتبار ذلك لمعرفة ابتداء قصره ، إذ لا يعرف أنه توارى من البيوت ، بل إذا أراد ذلك اختبره بالأذان ، فهو الامارة على التواري حينئذ ، فتأمل.

أو الصحيح الأول باعتبار اعتضاده بالاستصحاب بناء على دوام خفاء الأذان قبل الجدران ، وباتفاق المشايخ الثلاثة على روايته في الجوامع العظام ، وبأولويتها بالسببية من الأذان ، لتيسرها في كل وقت بخلاف الأذان ، إذ كثيرا ما يتفق الخروج في غير وقته مع تشابه الأصوات إذا بعدت ، وعسر التقدير على أكثر الناس أو أغلبهم ، ولعله لذا اقتصر في المقنع فيما حكي عنه على خفائها دونه ، بل ربما قيل بظهور عبارة المبسوط في أن المعتبر الرؤية ، فإن حصل حائل فالأذان ، وإن كان فيه نظر كما لا يخفى على من لاحظها.

لكنك على كل حال خبير بأنه حينئذ لا وجه لطرح كل منهما ، ضرورة حصول المرجح في الطرفين ، فيحصل التكافؤ الذي هو شرط الجمع ، سيما بعد ما عرفت من العمل بهما من أكثر الأصحاب وإن اختلفت بالوجهين السابقين ، على أن خبر المحاسن في إياب المسافر لاذهابه ، فتأييده حينئذ موقوف على اتحادهما في ذلك ، وفيه تأمل ، والموثق لا دلالة فيه على الشرطية كي ينافي ما اخترناه من الجمع الأول ، والبحث في الفقه الرضوي مشهور ، وكذا الكلام في المرجحات الثانية.

وكيف كان فلا ريب في أنه لا وجه لطرح أحدهما بعد الجمع لشرائط الحجية ، إنما الكلام في ترجيح الجمعين السابقين ، وقد عرفت أن الأول منهما هو الجاري على مقتضى الضوابط كما في سائر جمل الشرط المتعددة مع اتحاد الجزاء فيها ، بل قد يؤيده أيضا زيادة على ذلك الاقتصار في كل من الروايتين والموثق وغيره على أحدهما مع اختلاف الراويين أو الرواة ، وما ذاك إلا للاجتزاء بكل منهما ، إذ احتمال كون الاقتصار‌

٢٩٠

لعلم كل من الراويين مثلا بالفرد الآخر يدفعه بعد أصالة العدم ظهور سؤالهما في عدم علمهما بذلك ، كاحتمال تأخير البيان فيهما في ذلك الخطاب ثم علماه وقت الحاجة.

نعم قد يقال إن الاقتصار لعدم التفاوت المعتد به في العلامتين ، إذ متى وصل الحد الذي يخفى فيه الأذان خفي عليه الجدران ، وبالعكس بعد إرادة الوسط من كل منهما وكون الأذان على مرتفع أيضا وأنه في طرف البلاد من ناحية المسافر وإرادة صور الجدران لا شبحها ، بل ينبغي الجزم بذلك بناء على كون المراد من رواية الجدران تواريه عنها بمعنى خفائه بحيث لا تتميز صورته دون شبحه ، لا تواريها عنه كما فهمه سيد المدارك من الصحيح المزبور وتبعه عليه الكاشاني صريحا في الوافي وظاهرا في المفاتيح ، حيث عبر فيها بما في الصحيح كاللمعة وعن البيان والحدائق ، ولعله أوفق به وإن كان المعروف بين الأصحاب الثاني كما اعترف به في الرياض ، ومن هنا لم يكن مناص عن متابعتهم في ذلك ، ولعله لأنه وإن كان في الصحيح تواريه عنها لا تواريها عنه لكن المراد بتواريه عنها استتاره بحيث لا تراه لو كانت مبصرة ، ومن المعلوم أنه متى توارى عنها كذلك توارت هي عنه أيضا ، وإلا لم يتوار عنها ، كما هو واضح ، لأنه من باب المفاعلة (١).

ولعل اختيار الأصحاب هذا التعبير على ما في الصحيح لإرادة بيان كون المراد به ذلك ، إذ المواراة عن البيوت لا سبيل إلى معرفة المسافر لها على التحقيق إلا باستتاره عنهما ، واحتمال إرادة من في البيوت من البيوت في الصحيح يدفعه ـ مع أنه إضمار بلا قرينة ، وعدم معلومية كون من في البيوت على السطوح أو الأرض ، ومقدار الارتفاع والانخفاض ونحو ذلك ـ أن المناسب حينئذ أن يقدره باستتار من في البيوت عليه لأنه هو الذي يستطيعه المسافر حتى يكون علامة ، ضرورة عدم معرفته أنه استتر‌

__________________

(١) اي من باب التفاعل.

٢٩١

عن أهل البيوت أو لا ، إذ ذاك أمر لا يرجع اليه ، اللهم إلا أن يجعل ذلك على سبيل التخمين ، وفيه أنه لا وجه له مع تمكنه منه على طريق التحقيق بأن ينظر الى من في البيوت ولم ير أحدا منهم ، فيعلم أنه توارى عنهم ، لأن الغالب مساواة الأشخاص والأنظار ، فلو كان ذلك هو العلامة لاعتبر الشارع الطريق إليها ، فعلم كون المعتبر خفاء نفس البيوت لا من فيها.

فالوجه حينئذ بناء ذلك على التسامح في مثل هذا التفاوت اليسير ، ولعله لاختلاف المسافرين باعتبار سهولة كل من العلامتين عليه ، بل عدم تيسر الأخرى له إلا بمراعاة التقدير الذي يصعب الاطمئنان به في كثير من الأمكنة ، بل جزم بعض فضلاء المعاصرين بأن السبب في ذكر العلامتين التسهيل والتخفيف على المكلفين بالاكتفاء في التقصير بأيهما حصل من غير التفات إلى صورة الاجتماع وحصول أحدهما وتخلف الآخر ، وانما المراد كون خفاء الأذان سببا في الجملة وكذا الجدران ، فيكفي في صدق ذلك إذا كان كل منهما منفردا بدون الآخر كما هو الغالب على ما في الرياض بل جعل المعاصر المزبور ذلك هو مراد الأصحاب حتى من ذكر الواو فضلا عن « أو » لكن فيه أنه مبني على أن اعتبار المعية في كلام بعضهم مخصوص بما إذا اجتمعا ، أما إذ سافر عن مكان لا جدران فيه أولا أذان وجب الاكتفاء بأحدهما من غير ملاحظة الآخر كما جزم به الفاضل في الرياض والمقدس البغدادي وغيرهما ، بل ظاهر الأخير منهما أنه من القطعيات التي لا شك فيها ، وهو وإن كان على تقديره فيه نوع تأييد للمطلوب عند التأمل إلا أنه للنظر فيه مجال ، لظهور مثل هذه العبارات في أمثال هذه المقامات نصا وفتوى في إرادة التقدير عند الفقدان.

فالمتجه حينئذ بناء على اعتبار المعية التي جعلت وجه جمع بين الخبرين اعتبار تقدير المفقود كما إذا فقدا معا ، فإنه لا ريب في التقدير حينئذ وإن ذكره في الروض‌

٢٩٢

احتمالا ، اللهم إلا أن يقال فرق بين المقامين ، ضرورة انحصار الطريق في الثاني في التقدير ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر بخلاف ما إذا وجد أحدهما وفقد الآخر ، فإنه لا مانع من الاكتفاء به عملا بما دل عليه ، ولا حاجة الى تقدير الآخر ، بل لا معنى له ، إذ أقصى ما يسلم من ظهور الخبر في التقدير انما هو فرض وجوده في خصوص ذلك الوقت بعد أن يكون أصله موجودا ، أما إذا كان لا وجود له أصلا فلا معنى لتقديره خصوصا إذا كان البناء على المعتاد في تلك البلاد في مقدار ارتفاعه ومكان الأذان ، كما يومي اليه إضافة الأذان إلى المصر مثلا ونحو ذلك ، فتأمل.

وكيف كان فالمتجه على المختار الاكتفاء بالموجود منهما ، ولا حاجة الى مراعاة تقدير الآخر ، وإذا فقد اكتفي بما يتحقق منهما على فرض وجوده ، وهل يكفي الظن حال التقدير أو يعتبر القطع؟ وجهان ، أحوطهما إن لم يكن أقواهما الثاني ، هذا.

وقد يشكل التقدير زيادة على ما عرفت بأنه بناء عليه تكون العلامتان ممكنتين دائما لا تنفك إحداهما عن الأخرى ، ضرورة جريان التقدير في كل مقام ، فلا وجه حينئذ لجعل الشرط أحدهما لا على التعيين ، بل كان يكفي خصوص الأذان أو الجدران ، سيما مع اختلافهما وحصول خفاء الأذان قبل خفاء الجدران غالبا إن لم يكن دائما ، بخلاف ما إذا لم نعتبر التقدير ، إذ وجه التعدد حينئذ اختلاف الأمكنة في حصول كل منهما ، فأريد التعميم بذكر العلامتين لكل من المكانين ، وإذا اتفق اجتماعهما في مكان اعتبر خفاؤهما معا ، لأنه المتيقن ، فلا يقدح التفاوت المزبور حينئذ.

وقد يجاب بأن التعدد قد يكون للتسهيل والتخفيف في غالب الأمكنة ، لعدم حصول كل الاطمئنان بالتقدير لكثير من الناس فيوكل الفرد النادر حينئذ اليه وهو من فقدهما معا لا واجدهما أو الواحد منهما والتفاوت المزبور غير قادح في التقريبات من الشارع وإن صارت تحقيقية بعد تقديره تقريبا ، خصوصا إذا كان يسيرا وكان اتفاقي‌

٢٩٣

الحصول من كل منهما ، لا أنه لازم لواحد دون الآخر ، إذ المتجه عليه حينئذ حمل تلك الزيادة على الندب ونحوه ، إذ هو أشبه شي‌ء بالتخيير بين الأقل والأكثر مع احتمال أن يكون وجهها في المقام بناء على اختصاص خفاء الجدران بها هو عدم حصول الاطمئنان بخفاء الأذان عند فقده حسا إلا بخفائها ، على أن الاشكال انما يحسن لو أن الشارع أفاد الشرطية بأن قال : المعتبر خفاء أحدهما ، أما إذا كان ذلك حاصلا من جهة اتفاق الاجتماع وتعارض الدليلين وإلا فهو انما بين سببية كل منهما مستقلة فلا إشكال فيه أصلا ، كما يوضح ذلك لك فرض وقوعه من مثل السادات لعبيدهم وغيرهم فيندفع حينئذ إشكال التفاوت المزبور سواء قلنا بكون الشرط أحدهما كما هو المختار أو مجموعهما ، ضرورة اشتراكهما في وروده ، فيشتركان في دفعه ، وإن كان قد يتوهم مما سمعته في تقريره اختصاص المختار به ، بل قد يتوهم أيضا أنه بسبب هذا الاشكال قيل بالتخيير بين العلامتين على معنى أن تكليفه ما يختاره منهما الذي قد عرفت فساده مما تقدم لعدم الدليل عليه ، كما أنك عرفت هنا أنه لا إشكال يلجئ الى ارتكاب ذلك ، فتأمل جيدا فإنه ربما دق.

وإن أبيت عن ذلك كله فقل إن العلامتين راجعتان في الواقع إلى شي‌ء واحد مشخص لا اختلاف فيه ، كما اختاره الأستاذ الأكبر وإن أوجب أيضا اجتماعهما لتحصيل اليقين به ، وذلك لعدم معلومية المراد من التواري على التشخيص والتعيين بحيث لا يقبل الزيادة والنقيصة ، وكذا الأذان حتى لو أريد المتوسط منه ، لاختلافه أيضا باختلاف الأزمنة من الليل والنهار ، والأمكنة والأصوات والسامعين وغير ذلك ، ولا دليل على اعتبار التخمين.

لكنك خبير بما فيه بعد الإحاطة بما سمعت ، إلا أن الانصاف بعد ذلك كله عدم ترك الاحتياط بتأخير الصلاة الى خفائهما معا أو الجمع بينه وبين الإتمام.

٢٩٤

وعلى كل حال فالمدار في السماع والرؤية على المعتادين دون الخارقين ، وفاقدهما أو أحدهما يقدرهما ، كما أنه يقدر عدم الحائل لو كان بستانا أو غيرها ، ولو كانت خطة البلاد خاصة في شاهق أو واد منخفض قدرها في المستوي تنزيلا للإطلاق على الغالب ، فما في المدارك من احتمال الاكتفاء في المنخفضة بالخفاء المزبور للإطلاق ضعيف ، كضعف ما يحكى عن الذخيرة وبعض نسخ المدارك أيضا من الاكتفاء بحصول الحائل بينه وبين البيوت وإن كان قليلا في تحقق التواري بحيث لا يضر رؤيتها بعد ذلك ، ضرورة أن المعتبر التواري بسبب البعد كما هو واضح ، مع أنه لا وجه للتفرقة بينها وبين المرتفعة التي لم أعرف فيها خلافا بين من تعرض لها من الأصحاب عدا ما يحكى عن الفخر من اعتبار الخفاء فيها حقيقة ، ووالده من الاشكال فيها ، ولا ريب في أن الأحوط ذلك ولا عبرة بالإعلام والمنائر والقباب بلا خلاف معتد به ، بل عن مجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، وكذا سور البلد بعد اعتبار تواري البيوت في النصوص ، فما عن الموجز وكشفه من اعتبار خفاء السور ضعيف ، بل قد يدعى ظهوره أيضا في إرادة صور البيوت وأشكال جدرانها لا الشبح ، كما صرح به الشهيد الثاني وإن استشكله السيدان المعاصران بدعوى ظهور النص والفتوى في التواري المطلق ، لكن فيه أن ظهورهما في ذلك ممنوع ، لعدم صدق البيت على الشبح أو عدم انصراف إطلاقه اليه ، ولعله لذا حكي عن الأستاد الأكبر دعوى الإجماع على أن العبرة بالصورة لا الشبح ، بل قد يقال باعتبار مثله في الأذان على معنى اعتبار خفاء تمييز فصوله دون نفس الصوت ، لنحو ما سمعته أيضا من عدم صدقه على نفس الصوت أو عدم انصراف إطلاقه إليه.

لكن المقدس البغدادي وغيره اعتبر الصوت نفسه ، وهو لا يخلو من وجه بل قوة ، إذ الظاهر إرادة التمثيل من الأذان لكل صوت رفيع يشبهه ، وانما خص به لأنه في العادة أرفع‌

٢٩٥

الأصوات حتى تعارف في العرف الكناية به عن رفع الأصوات ولأنه على هذا التقدير تقرب العلامتان من الاتحاد.

نعم قد يقال إن المعتبر سماع الصوت على أنه أذان وإن لم يميز بين فصوله ، ولعله المراد مما حكي عن إرشاد الجعفرية والميسية والمقاصد والروض وغيرها من أن المعتبر سماع صوت الأذان وإن لم يميز بين فصوله مع احتمال كون العبرة بعد السماع مطلقا حتى في المتردد بين كونه أذانا أو غيره ، لأصالة التمام ، ولأن الظاهر إرادة البعد عن البلد بحيث لا يسمع لها صوت أصلا ، وكني عن ذلك بالأذان لاقتضائه خفاء غيره بالأولى فتأمل.

ولو كانت بيوت البلد على خلاف الغالب من العلو أو الانخفاض ردت اليه مع ملاحظة صنف تلك البلدة أو القرية ، كما أنه لو كان صوت المؤذن خارق المعتاد علوا أو انخفاضا رد إليه أيضا ، لكن في ملاحظة حال القرية أو البلاد إشكال ، إذ عليه ينبغي أنه لو اتفق مؤذن رفيع الصوت في قرية لم يعتد بمثل ذلك فيها أو في صنفها أن يرد الى معتادها وإن لم يكن هو خارقا ، وكذا ينبغي لرد لو اتفق مؤذن في بلدة منخفض الصوت في الجملة وكان المعتاد فيها وفي أمثالها عدم مثل هذا الانخفاض ، وهو كما ترى ، إذ الظاهر اعتبار عدم التجاوز في الارتفاع والانخفاض في الصوت في نفسه لإطلاق الدليل ، كما أن الظاهر اعتبار كون الأذان على مرتفع ، لأنه المعتاد ، ولا يعتبر فيه كونه غير منارة وشبهها ، بل الظاهر اعتبارها في مثل البلاد المعتاد فيها أو في صنفها ذلك ، فلا يجزي السطح ونحوه فيها ، نعم يمكن دعوى اعتبار عدمها في مثل القرية التي لم يعتد مثل ذلك في صنفها مع احتماله لو كان معتادا فيها وإن لم يعتد في صنفها ، وخارق المعتاد في الارتفاع يرد اليه كخارقه في الانخفاض.

والظاهر اعتبار كون الأذان في آخر البلد كما صرح به بعضهم ، بل وكونه في ناحية المسافر ، إذ لو اكتفي به كيف كان لوجب القصر في بعض الأحوال قبل‌

٢٩٦

الخروج من البلد فضلا عن البعد عنها في الجملة ، فلا بد من إرادة سببية خفاء الأذان أنه يبعد عن البلاد بعدا يخفى بسببه عنه أذانها ، ولا يكون ذلك إلا بفرض كون الأذان في آخر البلد من ناحيته أو عدم اعتبار ما قطعه من نفس البلاد ، فيؤخذ بمقداره من الأرض الخارجة عن البلد.

نعم يمكن الاكتفاء بأذان البلد وإن لم يكن في آخرها إذا كانت البلاد صغيرة أو متوسطة ولها مأذنة مرتفعة كالنجف وكربلاء ، لأنه في الحقيقة كالأذان في الآخر ، بل لعله على مثل ذلك تنزل النصوص السابقة من حيث ظهور الإضافة فيها في المعهود من أذان المصر وإن كان في الوسط ، ويختص الأذان من بين الأمارتين حيث لا بيوت كالعكس بناء على اختلافهما وعدم تقدير المفقود بعد أن يختص أحدهما بالوجود ، وفي اعتبار خصوص الجدران في البيوت نظر ، بل قد يقوى عدمه كما عن الأردبيلي التصريح به ، فالبدوي وغيره ممن لا جدران لهم يعتبرون خفاء بيوتهم ، لإطلاق النص مع غلبة ذلك في الزمن السابق واحتمال تقدير الجدار لهم كما يحكى عن ظاهر المقاصد بعيد ، كاحتمال اختصاص إمارتهم بالأذان دون البيوت ، لكن من ذلك كله يظهر لك كون الأمارتين متحدتين في الواقع أو أنه لا يقدح مثل هذا التفاوت ، لابتناء الأمر هنا على التقريب والتسامح والتساهل ، فالأمر حينئذ سهل.

ومتسع البلاد يعتبر أذان محلته وبيوتها كما صرح به غير واحد ، بل نسب الى الفاضل وأكثر من تأخر عنه إن لم يكن جميعهم. إلا أنه قد يشكل بعدم صدق السفر والضرب في الأرض مع فرض اتحاد سورها واتصال دورها وأزقتها على نحو اتصال غير المتسعة أو أشد وإن عظمت ، ضرورة صدق كونها بلادا واحدة ، فيشملها إطلاق الأدلة حينئذ أو عمومها ، وإلا لاعتبر في نية الإقامة فيها ذلك أيضا ، ولعله لذا بالغ المحدث البحراني في الإنكار على الأصحاب بالنسبة للحكم المزبور بعد اعترافه بأنه كالمسلم‌

٢٩٧

عندهم ، وتبعه المقدس البغدادي ، لكن قد ينزل إطلاق الأصحاب على إرادة المسماة باسم بلاد واحدة ، إلا أنها هي كالقرى المتقاربة في انفصال محالها ودورها ، وأزقتها كما يحكى عن أصبهان ، وربما يومي الى ذلك تمثيلهم لها بالكوفة التي قيل إن بيوتها في ذلك الزمان ممتدة إلى أربعة فراسخ ، إذ الظاهر أن امتدادها كان كما ذكرنا ، وصدق الوحدة حينئذ عليها محل نظر بل منع وان كان ذلك عارضيا لها بسبب طرو الخراب لها كما في بلد الكاظم عليه‌السلام وبغداد ، ومنه يعلم حينئذ الحال في منازل أهل الحسكة وأهل البادية ونحوهم ، فان الظاهر التعدد في الجميع إلا مع الاتصال وشبهه في الأخيرين ، فيتحد وإن استطال على إشكال فيه أيضا ، ضرورة أولويته بالتعدد من محال البلاد الواسعة المتصلة الدور التي قد عرفت اعتبار الأصحاب فيها المحلة ، إذ تلك يشملها اسم البلاد الواحدة وإن عظمت بخلاف المنزلين المزبورين ، ولا ريب في أن الأحوط الجمع بين القصر والإتمام في الفرض إلا إذا انفصلت المنازل انفصالا معتدا به في الجملة.

هذا كله في المسافر من بلده ومحله ، أما غيره كالهائم والعاصي بسفره ونحوهما فلا محل ترخص لهما ، بل يقصران بمجرد قصد المسافة والضرب في الأرض ، لإطلاق الأدلة من غير معارض بعد ظهور أدلة المقام في غير ذلك ، بل المتبادر منها غير محل الإقامة أيضا كما هو أحد القولين على ما قيل ، لكن عن السرائر وظاهر التذكرة وغيرهما اعتبار ذلك فيه ، بل قيل إنه يستفاد من كلام الأكثر في مواضع ، بل هو صريح كلامهم في مسألة ناوي الإقامة في بلد حيث ذكروا هناك أنه لا يضره التردد في نواحيها ما لم يبلغ محل الترخص متسالمين عليه ، والأخبار (١) منطبقة الدلالة عليه ، بل في المدارك « أنه المتجه ، لأن‌ محمد بن مسلم (٢) سأل الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١.

٢٩٨

فقال له : « رجل يريد السفر فيخرج متى يقصر؟ فقال : إذا خرج من البيوت » وهو يتناول من خرج من موضع الإقامة كما يتناول من خرج من بلده » الى آخره ، وإن كان هو لا يخلو من نظر ، مضافا الى ما دل (١) على أنه كالمنزل حينئذ المقتضي مساواته له في أحكامه التي منها ذلك.

ومنه يظهر احتمال اعتبار محل الترخص في المسافر من المحل الذي بقي فيه بعد التردد ثلاثين يوما ، لتشبيه بالمنزل أيضا ، لكن قد يشك في شمول التشبيه لمثل ذلك بل قد يدعى أن المنساق منه غيره من الإتمام في البلد ونحوه ، وقد تقدم سابقا بعض الكلام في ذلك ، بل وفي حكم ( حكمه خ ل ) الدخول الى محل عزم فيه على الإقامة ، فهل ينقطع سفره بالوصول الى محل الترخص كما عن الأردبيلي لما عرفت من دخوله في محل الإقامة ، ولذا جاز له التردد حالها فيه ، ولا ينافي ذلك رجوعه الى القصر لو رجع عن نية الإقامة قبل الصلاة تماما ، لأن المراد مساواته للبلد ما دام متصفا بذلك الوصف أو يتوقف على الدخول الى البلد كما عن الشهيد الثاني وسبطه والخراساني؟ فلاحظ وتأمل ، وربما يأتي له تتمة إنشاء الله.

وكيف كان فقد بان لك أنه لا ريب في اعتبار الخفاء في مشروعية القصر عندنا وأنه لا يجوز له الترخص قبل ذلك وإن نوى السفر ليلا ضرورة عدم المدخلية لتبييت النية عند الإمامية وإن كان قد يشعر به ما في المتن من « إن » الوصلية إلا أنه لعله للعامة فلا يقصر حينئذ حتى يبلغ المحل المزبور وكذا في عوده من سفره لا يتم ، بل يقصر حتى يبلغ محل الترخص من سماع الأذان في مصره أو رؤية الجدران على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل في الرياض شهرة عظيمة ، بل عن الذكرى أنها كادت تكون إجماعا ، لانقطاع صدق السفر عرفا عليه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٠.

٢٩٩

واندراجه في الحاضر عند أهله وفي منزله ووطنه بالوصول الى الحد المزبور ، ول‌ قوله عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (١) السابق : « وإذا قدمت من سفرك مثل ذلك » الظاهر في إرادة القصر قبل سماعه ، والإتمام بسماعه ، وللقطع بكون المراد من التحديد بذلك عند الذهاب الكشف عن حال المسافر واقعا بأنه قبل الوصول اليه مندرج في الحاضر وخارج عن اسم السفر من البلد والضرب في الأرض عنها ، فلا يتفاوت بين الذهاب والإياب في ذلك.

لكن قد يقال إنه بناء على المختار ينبغي اعتبارهما معا حينئذ ، ضرورة أنه إذا كان أحدهما كافيا في وجوب القصر عند الذهاب فلا يرتفع ذلك إلا يرفع الموجب ، ولا يتحقق إلا برفعهما ، نعم هو يحصل برفع أحدهما على القول الآخر ، لارتفاع المركب بارتفاع أحد جزئية ، إلا أنه لم أعرف أحدا من الأصحاب اعتبر ذلك ، بل عن المعتبر والمنتهى نسبة الاكتفاء بأحدهما في الإتمام عند الإياب إلى الشيخ ومن تابعه ، وقد عرفت أن أكثر القدماء على اعتبار أحدهما في القصر ، بل المصنف نفسه قد اعتبر هناك أحدهما واكتفى به هنا ، بل ظاهره خصوص الأذان كالمحكي عن ظاهر التحرير ، بل هو صريح المدارك بعد أن قال إنه أظهر الأقوال ولعله لاختصاص الصحيح المزبور بالأذان ، فلا دليل على الجدران ، لكن فيه أن الدليل غير منحصر به كما سمعت مع احتمال إرادة المصنف المثال من ذكر الأذان كما يومي اليه قوله : « وكذا » ولعله لذا قال في الرياض ردا على المدارك إن الظاهر عدم القائل بالفرق كما قيل وإن كان ربما بتوهم من الفاضلين في الشرائع والتحرير ، أو أنه متلازمان عنده ، فمتى تحقق أحدهما تحقق الآخر كما سمعته منا سابقا بل لعل ذلك هو مقتضى كل من اكتفى بأحدهما في المقامين أو أن نظرهم الى غير مادة الاجتماع بل المراد المكان الذي لم يوجد فيه إلا أحدهما أو غير ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٣.

٣٠٠