جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كل حال فلا إشكال في الترخص بعوده الى محله عن سفر المعصية إلا أن يكون قصد به المعصية أيضا.

ولو عاد إلى الطاعة بعد قصده المعصية في الأثناء وضربه في الأرض ففي ضم ما بقي إذا كان قاصرا عن المسافة الى ما مضى ، مسافة كان بنفسه أو بتلفيقه مع الباقي وطرح المتخلل بينهما من المصاحب لقصد المعصية وعدمه قولان ، ينشئان من أن المعصية مانع من الترخص وقد زالت ، وأن أقصى ما دل عليه الدليل كون المعصية تقطع الترخص وتبطله لا المسافة ، وليس كلما يوجب الإتمام يقطع المسافة ، ولإطلاق‌ قول أبي الحسن عليه‌السلام في مرسل السياري (١) : « ان صاحب الصيد يقصر ما دام على الجادة ، فإذا عدل عن الجادة أتم ، فإذا رجع إليها قصر » خصوصا إن أريد بالجادة فيه الكناية عن الطاعة والخروج عنها المعصية لا الجادة الأرضية ، لعدم الفائدة ، إذ الصيد إن كان حلالا استمر على التقصير وإن خرج عن الجادة ، وإن كان حراما لم يقصر وإن كان عليها ، ولاستصحاب حكم القصر ، ومن بطلان حكم ما قطعه من المسافة أو بعضها بالعصيان في الأثناء ، لاشتراط الإباحة في السفر ابتداء واستدامة ، فلا تصلح حينئذ لإثبات الترخص بعد الرجوع الى الطاعة لا منضمة ولا مستقلة لو فرض قصد المعصية بعد قطع تمام المسافة ، ولا جابر لضعف الخبر سندا بل ودلالة ، سواء فسر بما سمعت ، أو بأن من لم يكن سفره للصيد وانما بدا له في الأثناء أن يصيد فعدل عن الطريق للصيد لهوا وأدركه وقت الصلاة أتم ، فإذا عاد الى الطريق رجع الى القصر ، إذ لا يلائمه‌ قوله عليه‌السلام في صدره : « صاحب الصيد » وإن كان يشهد له المحكي من عبارة الصدوق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٦.

٢٦١

لا أقل من حصول الشك في اندراج مثل هذه المسافة في الأدلة لذلك كله ، والأصل في الصلاة التمام ، والأحوط الجمع ، وإن كان قد يقوى في النظر الأول كما تقدم نظيره في الشرط الثاني.

بل ينبغي القطع بالترخص لو قصد المعصية في الأثناء ولما يضرب في الأرض ثم عاد إلى الطاعة ، بل يمكن دعوى عدم تأثير ذلك القصد في بقاء الترخص الأول إذا لم يضرب في الأرض ، فلا يتم حينئذ بمجرد قصد العصيان فيما بقي من سفره مع فرض مكثه في محل عروض هذا القصد ، فتأمل.

ثم إن ظاهر المتن كصريح غيره كون التمام في السفر لصيد اللهو لأنه معصية ، فهو حينئذ من السفر للمعصية ، ولعله لأن الصيد من الملاهي كما هو صريح‌ خبر زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام « سألته عمن يخرج بأهله بالصقور والبزاة والكلاب يتنزه الليلة والليلتين والثلاثة هل يقصر من صلوته أم لا يقصر؟ قال : إنما خرج في لهو لا يقصر قلت : الرجل يشيع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان قال : يفطر ويقصر ، فان ذلك حق عليه » فيندرج فيما دل حينئذ على حرمتها ، ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر ابن بكير (٢) : « ان التصيد مسير باطل لا يقصر الصلاة فيه » وفي‌ خبر عبيد بن زرارة (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « يتم لأنه ليس بمسير حق » ومرسل ابن أبي عمير (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « قلت له : الرجل يخرج الى الصيد مسيرة يوم أو‌

__________________

(١) ذكر صدره في الوسائل ـ في الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١ وذيله في الباب ١٠ منها الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ في الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ في الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥ وهو مرسل عمران القمي كما في الكافي ج ٣ ص ٤٣٨ المطبوع عام ١٣٧٧.

٢٦٢

يومين أو ثلاثة يقصر أو يتم فقال : إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصر ، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة » وخبر حماد (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى (٢) ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) قال : « الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها ، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين ، وليس لهما أن يقصرا في الصلاة » إلى غير ذلك مما يدل عليه من النصوص المعتضدة بالفتاوي التي لا أجد خلافا فيها في ذلك ، إلا أنه لم يستوضحه المقدس البغدادي بعد أن حكاه عن الفاضلين والشهيدين وغيرهم.

بل قال : « وما شككنا فلا نشك في جواز الصيد للتنزه ، ولا يترخص ، بخلاف التنزه في الغياض والرياض والأودية العطرة والأندية الخضرة ، أترى أن التنزه هاهنا محظور ، نعم اللعب منه ذاك هو اللعب المحظور ، لا التنزه بالتفرج في الجنان والخضر والبساتين ، بل في الصحاح والقاموس وشمس العلوم وغيرها أن اللهو هو اللعب ، وفي المصباح المنير عن الطرطونس أن أصل اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة ، ومعلوم أن التنزه بالمناظر البهجة والمراكب الحسنة ومجامع الأنس ونحو ذلك مما تقتضيه الحكمة ، فلم يبق خارجا منه عن مقتضى الحكمة إلا اللعب ، ونحن نمنع صدق اسم اللعب على مثل هذا التصيد ، والحكمة هي الصفة التي تكون بها الأفعال على ما ينبغي أن تكون عليه ، وهي المراد هنا ، وإن كانت تطلق على غير ذلك أيضا ـ الى أن قال ـ : وإذا كان اللهو في اللغة هو اللعب كما عرفت فنحن نمنع صدق اسم اللعب على التصيد ونقول : إن إطلاق اسم اللهو عليه كما وقع في الأخبار (٣) وكلام الأصحاب انما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

(٢) سورة البقرة الآية ١٦٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥ والباب ٩ منها الحديث ١ والمستدرك ـ الباب ـ ٧ منها الحديث ١.

٢٦٣

جاء على ضرب من التسامح ، سلمنا أنه لهو ولكن المحرم من اللهو انما هو اللعب ، وليس هذا بلعب ، نعم يطلق اللهو على التلهي بامرأة أو ولد أو نحو ذلك ، قال الأزهري في التهذيب : اللعب اللهو ما يشغلك من هوى وطرب يريد من عشق وخفة من فرح أو حزن ، فان ذلك مما يشغل ، قال الله تعالى (١) ( لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ ) والظاهر أن هذا هو المراد باللهو هنا ، فان التصيد بالبزاة والكلاب ضرب من الهوى والعشق والطرب الذي يحصل به والخفة التي تعتريه والابتهاج والفرح مما لا يكاد يخفى ».

قلت : وهو على طوله كأنه اجتهاد في مقابلة النص حكما وموضوعا ، واستبعاد لغير البعيد ، ولا تلازم بين حرمة ما نحن فيه وبين حرمة سائر أفراد التنزه بالخضر والبساتين والأودية ونحوها كي يجب الحكم بعدم الحرمة هنا المستفادة من النصوص (٢) والفتاوى لعدم الحرمة هناك للأصل والسيرة القطعية وغيرهما.

نعم هذا كله لو كان لهوا كما يستعمله الملوك وأما لو كان أي الصيد لقوته وقوت عياله قصر بلا خلاف أجده ، بل هو مجمع عليه نقلا إن لم تكن تحصيلا لإطلاق الأدلة السالم عن المعارض هنا بعد ظهور تلك النصوص حتى المطلق منها في غيره ، وخصوص مرسل ابن أبي عمير (٣) المتقدم الذي هو كالمسند ، وغيره مما ستسمعه.

وأما لو كان للتجارة قيل والقائل بنو إدريس وحمزة والبراج وبابويه على ما حكي عن الأخيرين منهم كالشيخين يقصر الصوم دون الصلاة بل قيل‌

__________________

(١) سورة الأنبياء ـ الآية ١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) المتقدم في ص ٢٥٧.

٢٦٤

إنه مذهب أكثر القدماء ، بل لعله لا خلاف فيه بينهم ، إذ المرتضى وإن حكي عنه دعوى الإجماع على قاعدة تلازم القصرين إلا أنه من المحتمل خروج هذه المسألة منها عنده كما صرح به ابن إدريس ، فتخرج المسألة عن الخلاف فيها بينهم ، بل في السرائر أن أصحابنا أجمعوا على ذلك فتوى ورواية كما انه نسبه في المبسوط إلى رواية أصحابنا أيضا ، وهو الحجة ، مضافا الى المحكي عن‌ فقه الرضا (ع) (١) في المقام من النص على هذا التفصيل المزبور ، وإن حكي عنه في باب (٢) الصوم أنه قال : « وإن كان صيده للتجارة فعليه التمام في الصلاة والصيام ، وروي أن عليه الإفطار في الصوم » لكن قيل يمكن حمله وإن بعد على إرادته من كان ذلك دأبه ، فيندرج في كثير السفر حينئذ بقرينة أنه لم نعرف قائلا بوجوب التمام في الصوم هنا كما اعترف به بعضهم ، بل عن البيان الإجماع عليه ، ويكون قوله : « وروي » ابتداء كلام في سفر الصيد للتجارة الذي لم يكن دأبه ، وهو ما نحن فيه ، فهي حينئذ رواية مرسلة مؤيدة للتفصيل المزبور.

وربما يشهد للحمل المزبور ما حكاه‌ المقدس البغدادي عن أصل زيد النرسي (٣) قال : قد وجدت فيه أنه « سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله عليه‌السلام عن طلب الصيد وقال : إني رجل ألهو بطلب الصيد وضرب الصولج وألهو بلعب الشطرنج ،

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ١ من كتاب الصوم.

(٣) ذكر صدره في المستدرك ـ في الباب ٧ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ١ ووسطه في الباب ٨١ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ـ ٢ ـ وذيله في الباب ٧٩ منها ـ الحديث ـ ٤ من كتاب التجارة.

٢٦٥

قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أما الصيد فإنه سعي باطل وانما أحل الله الصيد لمن اضطر الى الصيد ، فليس المضطر الى طلبه سعيه فيه باطل ، ويجب عليه التقصير في الصلاة والصوم إذا كان مضطرا إلى أكله ، وإن كان ممن يطلبه للتجارة وليس له حرفة إلا من طلب الصيد فان سعيه حق ، وعليه التمام في الصلاة والصيام ، لأن ذلك تجارته فهو بمنزلة صاحب الدور الذي يدور في الأسواق في طلب التجارة ، أو كالمكاري والملاح ، ومن طلبه لاهيا وأشرا وبطرا فان سعيه ذلك سعي باطل وسفر باطل ، وعليه التمام في الصلاة والصيام ، وأن المؤمن لفي شغل عن ذلك ، شغله طلب الآخرة عن الملاهي ، وأما الشطرنج فهو الذي قال الله عز وجل (١) ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الغناء ، وان المؤمن عن جميع ذلك لفي شغل ، ما له وللملاهي ، فإن الملاهي تورث قساوة القلب وتورث النفاق ، وأما ضربك بالصولج فان الشيطان معك يركض ، والملائكة تنفر عنك ، وإن أصابك شي‌ء لم تؤجر ، ومن عثر به دابته فمات دخل النار ».

وكيف كان فمن ذلك كله ومن أن مقتضى إطلاق الأدلة القصر في الصلاة أيضا ـ اقتصارا فيما دل على التمام فيها على سفر صيد اللهو كما هو الظاهر من تلك الأدلة ، فيندرج حينئذ فيما دل على وجوب القصر في قاصد المسافة إذا كان سفره سائغا من غيرها ، بل ظاهر ما سمعته من خبر زيد النرسي أن التمام من جهة كثرة السفر ، وإلا قصر لأنه سفر حق ، مضافا الى قاعدة تلازم وجوب القصر والإفطار وبالعكس التي هي مضمون صحيح معاوية (٢) وغيره ومحكي عليها الإجماع عن المرتضى المقتضية لقصر‌

__________________

(١) سورة الحج ـ الآية ٣١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب من يصح منه الصوم ـ الحديث ـ ١ من كتاب الصوم.

٢٦٦

الصلاة هنا أيضا ، ضرورة ثبوته بالنسبة إلى الصوم إجماعا ، فلا وجه حينئذ لاحتمال الإتمام فيهما ـ قال المصنف وفيه تردد بل قيل إن المعروف بين المتأخرين التقصير فيهما ، بل في الرياض نسبته الى عامتهم وإن لم نتحققه.

لكن لا يخفى عليك قوة الأول ، ضرورة عدم صلاحية معارضة المطلق للمقيد وهو الإجماع الذي سمعته في السرائر المعتضد بما تقدم من الرضوي والرواية المرسلة في المبسوط والسرائر وفقه الرضا عليه‌السلام بل قد عرفت دعوى الإجماع على روايتها من الثاني كظاهر الأول ، واحتمال وهن ذلك كله بالشهرة المتأخرة فلا يقوى على تخصيص القاعدة والإطلاقات يدفعه منع تحقق شهرة تصل الى الحد المزبور كما لا يخفى على من لاحظ وتأمل ، كما أنه يدفع ما أطنب به الفاضل في المختلف من بيان التلازم بين قصر الصوم والصلاة أن أقصاه أنها قاعدة كلية يجب الخروج عنها بالدليل ولكن ومع ذلك فالاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في خصوص الصلاة لا ينبغي تركه ولا فرق في جميع ذلك بين صيد البر والبحر ، لإطلاق النصوص والفتاوى ، اللهم إلا أن يدعى انصرافه الى المعهود المتعارف بين الملوك وأولاد الدنيا من صيد الأول بالبزاة والكلاب ، ومنه يتجه الاحتياط في الثاني ، بل والأول أيضا إذا لم يكن بالطريق المزبور بل بالبندق ونحوه ، فتأمل.

وكذا لا فرق في جميع أفراد الصيد السابقة بعد إحراز قصد المسافة بين كونه دائرا حول المدينة أو تباعد عنها ، ولا بين استمرار دورانه ثلاثة أيام أو أقل لإطلاق الأدلة ، فما عن ابن الجنيد ـ من أن المتصيد ماشيا إذا كان دائرا حول المدينة غير مجاوز حد التقصير لم يقصر يومين ، فان تجاوز الحد واستمر به دورانه ثلاثة أيام قصر بعدها ـ ضعيف جدا ، وخبرا صفوان (١) والعيص (٢) عن الصادق عليه‌السلام « عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٨.

٢٦٧

الرجل يتصيد فقال : إن كان يدور حوله فلا يقصر ، فان كان تجاوز الوقت فليقصر » محمولان على صيد القوت وتجاوز حد الرخصة من الوقت فيه ، وعلى قصد السير المعتبر في التقصير ، كما أنه يجب حمل‌ خبر أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « ليس على صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيام ، وإذا جاوز الثلاثة لزمه » على التقية كما قيل ، أو غيرها مما لا ينافي النصوص المعمول عليها التي لا يجوز الخروج عنها بمثل ذلك القاصر سندا ودلالة واعتضادا كما هو واضح.

والمراد بتبعية الجائر في المتن وغيره تبعيته في جوره اختيارا أما من تبعه لغرض تعلق له به من دفع مظلمة ونحوها أو كان مكرها في أتباعه فلا يتم في سفره قطعا ، لعدم معصيته بهذا السفر ، فيندرج حينئذ في إطلاق تلك الأدلة.

نعم لو كان معدا نفسه لطاعته وامتثال أوامره في جور أو غيره كالجندي لم يبعد عدم ترخصه في سفره المعد نفسه فيه لذلك ، حتى لو كان قصد الجائر في ذلك السفر طاعة من زيارة أو حج أو نحوهما ، فيترخص حينئذ هو دون جنده ، لأنه سفر طاعته بالنسبة إليه بخلافهم ، ضرورة حرمة تبعيتهم ، بل قد يقال بحرمة سفر التابع لو أرسله الجائر في أمر مباح من حيث أن قطعه هذه المسافة بأمر الجائر وباستعداد امتثال أوامره كائنة ما كانت التي هذا منها محرم عليه وإن كان هو في حد ذاته مباحا ، والله اعلم.

الشرط الخامس من شرائط تأثير المسافة القصر أن لا يكون قاطعها سفره أكثر من حضره كالبدوي الذي يطلب القطر ومنبت الشجر والمكاري بضم الميم وتخفيف الياء والملاح والتاجر الذي يطلب الأسواق والبريد المعد نفسه للرسالة ونحوهم ، فإنهم يتمون في سفرهم بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في الرياض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣ لكن رواه عن صفوان عن عبد الله.

٢٦٨

إلا ما يحكى عن ظاهر العماني حيث أطلق وجوب القصر على كل مسافر ، وهو مع عدم صراحته في ذلك محجوج بالإجماع المحصل والمنقول مستفيضا على ما قيل كالنصوص ففي (١) الصحيح عن الباقر عليه‌السلام « أربعة قد يجب عليهم التمام في السفر كانوا أو في الحضر : المكاري والكري والراعي والاشتقان ، لأنه عملهم » والكري كغني كثير المشي والظاهر إرادة الساعي الذي يكري نفسه للمشي منه ، وفي المختلف وغيره أنه بمعنى المكاري ، ويبعده جمعهما معا في الصحيح المزبور ، كما أنه يبعد أيضا ما حكاه في السرائر عن أبي بكر الأنباري من أنه من أسماء الأضداد ، فهو بمعنى المكاري والمكتري ، ضرورة عدم إمكان إرادة الثاني منه في الصحيح ، وقد عرفت انه لا وجه للجمع بينه وبين المكاري على الأول.

بل قد يقال إنه مما ذكرنا في تفسيره يعلم إرادة أمين البيادر ، وهو الذي يبعثه السلطان يحفظها من الاشتقان كما عن أهل اللغة النص عليه لا البريد كما قيل ، بل ربما توهم من ظاهر الصحيح لكن الظاهر أن تفسيره بذلك من الصدوق لا الرواية ، إذ يبعده مع أنه خلاف المنصوص عليه من أهل اللغة ـ أنه يغني عنه لفظ الكري ، إذ هو البريد أو ما يقرب منه ، لا يقال إن الإتمام في الاشتقان بناء على التفسير المزبور من حيث أنه من عملة السلطان لا مما نحن فيه من كثرة السفر لأنا نقول مع أنه لا بأس فيه بعد تسليمه ـ يمكن أن يقال بظهور الصحيح في أن إتمام الاشتقان لعملية السفر حتى لو فرض كونه على وجه محلل كما لو قهر على ذلك مثلا ، بل يمكن دعوى نصوصية الصحيح المزبور في ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

٢٦٩

وكيف كان ففي آخر (١) عن الصادق عليه‌السلام « المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان » وخبر علي بن جعفر (٢) عن أخيه موسى عليه‌السلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أصحاب السفن يتمون الصلاة في سفنهم » ومحمد (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام « ليس على الملاحين في سفنهم تقصير ولا على المكاري والجمال » ومضمر إسحاق بن عمار (٤) « سألته عليه‌السلام عن الملاحين والأعراب هل عليهم تقصير؟ قال : لا ، بيوتهم معهم » والمرسل (٥) عن الصادق عليه‌السلام « الأعراب لا يقصرون ، وذلك لأن منازلهم معهم » وخبر السكوني (٦) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « سبعة لا يقصرون الجابي الذي يدور في جبايته ، والأمير الذي يدور في إمارته ، والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق ، والراعي ، والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر ، والرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا ، والمحارب الذي يقطع السبيل » الى غير ذلك من النصوص الدالة على المطلوب ، لكن ظاهر ما سمعته منها أن عدم تقصير الأعراب ليس لاندراجهم في هذا العنوان المعروف بين الأصحاب ، بل لأن ذلك باعتبار كون بيوتهم معهم وعدم قعر معلوم لهم متخذ على الوطنية ، وحينئذ صار هذا السفر منهم ليس سفرا حقيقة ، بل هو وضعهم الذي عزموا عليه ما عاشوا في الدنيا.

ومن هنا يعلم أنه لو قصد بعضهم قطع مسافة لزيارة أو نحوها مما لا يندرج في الحال الأول يترخص ، لإطلاق الأدلة ، نعم قد يتوقف في ترخص من يمضي منهم لاختيار المنزل لقومه من جهة النبت ونحوه ، وفرض بلوغ المسافة بينه وبين ما أراد اختباره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ـ ٩.

٢٧٠

من خصوص ذلك المنزل ، لاحتمال عدم عد مثل ذلك بالنسبة إليه سفرا إذا لم يكن خارجا عن المعتاد ، واندراجه في البدوي الذي يطلب القطر ، مع أن الأقوى فيه الترخص أيضا ، لإطلاق الأدلة المقتصر في تقييدها على المتيقن ، وهو الأول.

كما أن ظاهر التعليل للإتمام في المكاري ونحوه بأنه عملهم ، ووصفه والجمال بالاختلاف الترخص لو أنشأوا سفرا للحج ونحوه مما لا يدخل في المكاراة ونحوها من أعمالهم اقتصارا في تقييد الأدلة أيضا على المتيقن ، لا انه يشترط في إتمامهم كراؤهم للغير ، فلو حملوا أمتعتهم وعيالهم من بلاد الى بلاد كان اختلافهم فيما بينهما ترخصوا ، بل المراد إنشاؤهم سفرا لا يعد أنه من عملهم الذي كانوا يختلفون فيه ، كما لو قصد مكاري العراق حج البيت الحرام أو زيارة مشهد الرضا عليه‌السلام ، وكان إيكاله إلى العرف أولى من التعرض لتنقيحه.

أما من كان مكاريا في مكان مخصوص ثم كارى في غيره مما لم يكن معتاد المكاراة له ولا لصنفه مثلا كمن عنده بعض الأتن يكريها في الأماكن القريبة إلى بلاده مما يبلغ مسافة فكراها الى الشام أو الى حلب أو الى الحج ونحوها مما لا ينبغي مكاراة مثله فيها فالظاهر أنه يتم أيضا للصدق ، وأما‌ المرسل (١) في الكافي « المكاري إذا جد به السير فليقصر » كالصحيح (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام « المكاري والجمال إذا جد بهما السير فليقصرا » والآخر (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المكارين الذين يختلفون فقال إذا جدوا السير فليقصروا » فلا يراد منها إنشاؤهم السفر غير المعتاد لهم وإن حكي عن الذكرى ، ضرورة كونها عنه بمعزل ، ولا كون التقصير لقيام ( لمقام ظ ) العشرة كما في المختلف ، أو لعدم تحقق أصل الكثيرة كما في الروض ، بل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

٢٧١

المنساق منها إرادة شدة السير لهم والعنف فيه ، أو بأن يجعلوا المنزلين منزلا كما نص عليه في الكافي بعد المرسل السابق.

فيجب حينئذ طرحها ، لعدم ظهور عامل بها من الطائفة عدا ما يظهر من الشيخ في التهذيب والاستبصار من العمل به على الثاني محتجا له بعد ما حكاه عن الكليني أيضا بمرفوع محمد بن عمران الأشعري (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الجمال والمكاري إذا جد بهما السير فليقصرا فيما بين المنزلين ، ويتما في المنزل » وربما مال اليه أو الى ما يقرب منه سيد المدارك والمقدس البغدادي ، ولعله لأنه مقتضى الجمع بين الإطلاق والتقييد ، ولما يلاقونه في الفرض من شدة الجهد والتعب المناسبين لشرعية القصر ، ولانصراف تلك الإطلاقات إلى السير المتعارف.

لكن لا يخفى عليك أنه لا شهادة في الخبر المزبور على ذلك ، بل أقصاه مساواته للنصوص السابقة في المضمون ، فاما أن تطرح جميعها لقصورها بسبب الاعراض عن تقييد تلك الإطلاقات الممنوع انصرافها الى غيره ، أو تحمل على ما ذكرناه أولا من إنشائهم السفر الذي لا يدخل في عملهم وصنعتهم عرفا بتقريب إرادة اتصال السفر كسفر الحج ونحوه من الجد فيها كما عن الذكرى وإن كان بعيدا جدا ، بل في الرياض التأمل ، في المحمول عليه نفسه ، قال : « لعدم دليل صالح عليه إلا بعض التلويحات والاشعارات المستخرجة من جملة من المعتبرة المعللة وجوب التمام على كثير السفر بأنه عمله وأن بيته معه ، وبعض الصحاح الذي لم أفهم دلالته ، وفي الاعتماد عليها بمجردها إشكال يصعب معه الخروج عن مقتضى الأدلة العامة ، والاحتياط مما لا ينبغي تركه في المسألة » وهو عجيب ، إذ ليس دليل أعظم من قصور أدلة كثير السفر عن تناوله ، فيبقى حينئذ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣ لكنه مرفوع عمران بن محمد الأشعري.

٢٧٢

على مقتضى ما دل على القصر في كل مسافر ، مضافا الى ما سمعته منا ومنه من التعليل وغيره ، والى تصريح غير واحد من الأصحاب به من غير إشكال وتردد ، بل عن ابن جمهور الإجماع عليه في غوالي اللئالي ، وكذا قضية التعليل بالعمل والاختلاف المزبورين عدم وجوب التمام على مثل الذين يحملون الحجيج من العراق أو الشام المسمين بالحملدارية في عرفنا وإن اتخذوا ذلك حرفة ومعاشا ، لعدم صيرورته عملا بالنسبة إليهم وعدم دخولهم بسببه تحت شي‌ء مما سمعته في النصوص من المكاري والجمال ونحوهما ، بل أقصاه اتخاذهم ذلك عملا في أشهر الحج وما يكنفها من الشهور ، على أنهم مما يقيمون في بلادهم كلما رجعوا أشهرا ، فلا مخرج لهم حينئذ عن إطلاق ما دل على إيجاب قصد المسافة القصر.

بل قد يشهد له أيضا خصوص‌ خبر ابن جزك (١) قال : « كتبت الى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أن لي جمالا ولي قواما عليها ، ، ولست أخرج فيها إلا في طريق مكة لرغبتي في الحج أو في الندرة الى بعض المواضع فما يجب علي إذا أنا خرجت معهم أن اعمل أيجب علي التقصير في الصلاة والصيام في السفر أو التمام؟ فوقع عليه‌السلام إذا كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا إلى مكة فعليك تقصير وفطور »

نعم قيل في الذين يحتملون الأعاجم من بلادهم ويرجعون بهم إليها حتى يذهب في كل حجة عامة الحول إلا قليلا أنه يجب عليهم التمام إذا لم يقيموا عند أهلهم عشرة أيام ، ولعله لصدق العملية فيه ، وظهور اندراجه في نصوص المقام كما هو واضح ، وكذا قضيتهما أيضا اعتبار كون السفر عملا لهم في الإتمام ، فمن كان التردد فيها دون المسافة عملا له ترخص لو أنشأ سفرا ، لإطلاق الأدلة أيضا ، ولعله على هذا يحمل‌ خبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٤.

٢٧٣

إسحاق بن عمار (١) « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الذين يكرون الدواب يختلفون كل الأيام أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال : نعم » كخبره الآخر (٢) بتفاوت يسير ، وربما يومي اليه : قوله « إذا كانوا في سفر » ضرورة إشعاره بأن ذلك الاختلاف منهم ليس في سفر ، أو يحملان على ما ذكرناه أولا من إنشاء المكاري مثلا سفرا لا يدخل في عمله وصنعته عرفا ، أو غير ذلك مما لا ينافي ما تطابقت عليه الفتاوى وباقي النصوص من إتمام من كان عمله السفر من غير فرق بين المكاري والجمال والكري وصاحب السفينة ـ كما في خبر علي بن جعفر (٣) المتقدم ملاحا كان أو غيره كما نص عليه في المسالك ، بل لعل المراد بالملاح في النصوص السابقة ما يشمل كل عامل بالسفينة لا المشتغل بجرها خاصة كما في عرفنا ، إذ كثير من السفن لا تحتاج الى جر كالمراكب البحرية وغيرها ، مع أنه لا كلام في أن عمالها يتمون ـ وبين غيرهم ممن يكون عملهم السفر ، كالتاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق بحيث صار ذلك عملا له وحرفة يستعملها في تمام سنته ، ولعله الذي يسمى في عرفنا بالساساني.

أما إذا كان يستعمل ذلك في الصيف دون الشتاء أو بالعكس ففي إتمامه وقصره وجهان ينشئان من إطلاق الدليل ، وصدق العملية له في هذا الحال مع اختلافه ذهابا وإيابا متكررا ، ومن أن المتيقن الأول ، فيبقى غيره على أدلة القصر ، والأحوط له الجمع ، لا يقال إنه كأمير البيادر وأمير الفلاليح والشحناء والجابي للخراج ونحوهم ممن لم يكن عملهم متصلا تمام السنة ، بل هو في أوقات دون أوقات ، لاحتمال الفرق بأن وضع هذه الاعمال على هذا الحال ، إذ عملية كل شي‌ء ، بحسب حال ذلك الشي‌ء ، بخلاف التاجر ونحوه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٧.

٢٧٤

وبالجملة المدار على صدق كون السفر عملا له كما هو ظاهر تلك النصوص السابقة ، لا أنه اتفاقي له وإن كان قد تواصل سفره كثيرا لكنه لم يكن على وجه اتخاذه عملا له ، ولا يصدق عليه أنه عمله السفر ، هذا.

ولكن في الروض ـ بعد أن حكى عن الأصحاب عدهم في هذا للشرط مثل البدوي والتاجر والراعي والأمير ـ أشكلهم بأنه وإن تضمنت النصوص ذكرهم لكن لا دلالة فيها على أن إتمام هؤلاء لكونهم ممن عمله السفر ، بل الظاهر أنه لعدم قصدهم المسافة غالبا ، بل لا يصدق عليهم أصل السفر ، ويرشد اليه أن نصوص المقام قد اشتملت على مثل المحارب واللاهي بالصيد ممن هو معلوم كون الإتمام فيه لغير هذا الشرط ، وهو كما ترى نزاع في موضوع ، إذ لا مانع من فرض البحث فيهم إذا كان أعمالهم تلك في المسافة ، وإلا فبناء على ما ذكر فلا خصوصية لهم بذلك.

وكيف كان فمما ذكرنا يظهر لك أن عنوان هذا الشرط بذلك أي اتخاذ السفر عملا كما هو المستفاد من مجموع النصوص وعبر به الأستاد في بغية الطالب أولى مما في المتن وغيره من أنه بأن لا يكون سفره أكثر من حضره ، إذ هو ـ مع خلو النصوص عنه وإجمال المراد بالأكثرية ، بل هي على بعض الوجوه غير معتبرة قطعا ، بل قد يكون المكاري فضلا عن غيره حضره أكثر من سفره أو مساويا ، كما لو كان من عادته السفر ثلاثة أيام والحضور عند أهله دون العشرة ـ يقتضي وجوب التمام على من اتفق أكثرية سفره على حضره وإن لم يكن عملا له ولا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه وإن كان قد توهمه بعض عبارات القدماء كالسرائر وغيرها ، بل وبعض عبارات المتأخرين كالروضة وغيرها.

ولعله لذا عدل في المعتبر على ما قيل عن التعبير بذلك عن هذا الشرط بعد أن حكاه عن المفيد وغيره ، وطعن عليه بأنه يقتضي الإتمام لمن أقام عشرة وسافر عشرين ،

٢٧٥

ولم يقله أحد ، ثم قال ولو قيد ذلك بأن لا يقيم في بلد عشرة لم يبق حينئذ لكثرة السفر اعتبار ، واستحسن التعبير عنه بأن لا يكون ممن يلزمه الإتمام سفرا ، لكنه كما ترى فيه من الاجمال وإدخال غير المراد ما لا يخفى ، بل لعل ما عدل عنه من التعبير أولى منه ، خصوصا إن قلنا بإرادة من عبر به منشيئة كثرة السفر إما لأنه عمله وحرفته كالمكاري والملاح ، أو ان تلك عادته ، بل قيل إن كثير السفر حقيقة متشرعية فيمن كان عمله السفر كما جزم به في الروض ، إلا أن الانصاف أن ما ذكرناه من التعبير أولى وأوفق بظاهر النصوص ، لكن ينبغي إخراج البدوي عنه كما أشرنا سابقا في أن جهة إتمامهم كون بيوتهم معهم لا عملية السفر ، مع إمكان إدراجهم فيه أيضا.

نعم اعتبر الفاضل في الرياض مع ذلك تكرر السفر وكثرته من غير فرق بين المكاري والملاح ونحوهما ممن ورد في النصوص من التاجر والأمير وبين غيرهم ممن يكون السفر عمله ، قال : « فلو صدق وصف أحد هؤلاء ولم يتحقق الكثرة المزبورة لزم التقصير ، خلافا للحلي فحكم بالتمام فيهم ، لإطلاق الأدلة من النصوص والفتاوى بوجوب التمام على هؤلاء ، ولقيام اتخاذهم ذلك صنعة مقام التكرر من غيرهم ممن كان سفره أكثر من حضره » وهو ـ مع ضعفه بأن المستفاد من النصوص بعد ضم بعضها إلى بعض أن وجوب التمام على هؤلاء إنما هو لأن السفر عملهم لا لخصوصية فيهم ، فلو فرض كثرة السفر بحيث يصدق كونه عملا لزم التمام وإن لم يصدق وصف أحد هؤلاء ، وبالعكس على ما عرفت ـ مقدوح بلزوم حمل المطلقات على الغالب الشائع منها ، وهو من تكرر السفر منه مرارا لا من يحصل منه في المرة الأولى.

ومنه يظهر ضعف ما في المختلف من حكمه بالإتمام في السفرة الثانية مطلقا ، ولجماعة فجعلوا المدار في الإتمام على صدق وصف أحدهم ، أو صدق كون السفر عمله ، ومنهم الشهيد في الذكري إلا أنه قال : « وذلك انما يحصل غالبا بالسفرة الثالثة التي لم يتخللها إقامة عشرة‌

٢٧٦

كما صرح به الحلي في متخذ السفر عملا » وفيه ما عرفته من أن المستفاد من النصوص أن وجوب التمام على هؤلاء انما هو من حيث كون السفر عملهم ، فلا وجه لجعله مقابلا.

ثم إن دعوى حصول صدق أحد العنوانين بمجرد السفر في الثالثة ممنوعة ، إذ قد يحصل السفر زائدا عليها ولا يصدق أحدهما ، كما لو اتفق كثرة السفر مع عدم قصده الى اتخاذه عملا ، ومثله يقصر قطعا كما صرح به بعض متأخري أصحابنا ، فقال بعد نقل الأقوال : « وإذ قد عرفت أن الحكم في الأخبار ليس معلقا على الكثرة بل على مثل المكاري والجمال ومن اتخذ السفر عمله وجب أن يراعى صدق هذا الاسم عرفا ، فلو فرض عدم صدق الاسم بالعشرة لم يتعلق حكم الإتمام ، نعم يعتبر السفرات الثلاث مع صدق العنوان ، فلا إتمام فيما دونها ولو صدق ، لما مر من لزوم حمل المطلقات على المتبادر ، وليس إلا من تكرر منه السفر ثلاثا فصاعدا ، ويمكن أن يكون مراد الشهيد في اعتباره التعدد ثلاثا هذا ، وبالجملة المعتبر عدم اتخاذ السفر عملا مع تكرره مرة بعد أخرى ، ومعه كذلك يجب التمام كما يستفاد من النصوص على ما قدمناه » انتهى

وفيه بعد الغض عن بعض ما ذكره أنه لا وجه لاعتبار تثليث السفر بعد صدق العملية كما هو ظاهر ذيل كلامه بل صريحه ، ضرورة ظهور الأدلة إن لم يكن صراحتها في أن مدار الإتمام ذلك ، كما أنها ظاهرة أو صريحة في أنه متى تحقق صدق اسم واحد من المكاري والملاح ونحوهما عرفا صدق عليه أنه عمله السفر قطعا ، بل يمكن منع اعتبار التثليث المزبور في تحقق أصل العملية أو المكارية عرفا ، بل ينبغي القطع بعدم اعتبار الرجوع الى بلاده في ذلك ، إذ لو بقي مدة طويلة يعمل في المكاراة ذهابا وإيابا الى غير بلاده صدق عليه الوصفان المزبوران قطعا ، بل قد يقال بعدم اعتبار الرجوع في ذلك أيضا ، كما لو كارى الى مقصد بعيد ، بل استظهر المقدس البغدادي تحقق وصف المكاري ونحوه بأول سفرة إذا اتبع الدواب وسعى معها سعي المكارين ، وهو‌

٢٧٧

لا يخلو من وجه.

وأوجه منه إيكاله إلى العرف كما حكاه عن ذلك المتأخر من بعض أصحابنا ولا فرق بين أن يتحقق في العرف صدق كون السفر عمله أو كونه مكاريا ونحوه بناء على ما سمعته من التلازم بين المفهومين بالنسبة الى الثاني ، ومفهوم الأول أعم من الثاني إذ قد يتحقق فيمن لم يندرج في شي‌ء من هذه المفاهيم كما هو واضح ، ولعل الشهيد أراد ذلك لا أن مقصوده المقابلة كي يتوجه عليه ما عرفت ، كما يومئ اليه اتخاذ عبارته مع عبارة المتأخر من أصحابنا الذي نقله الفاضل المزبور في ذلك ، ومن المعلوم إرادته ما ذكرنا ، والأمر سهل بعد وضوح المطلوب.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في قول المصنف وضابطه أن لا يقيم في بلدة عشرة أيام ، فلو قام أحدهم عشرة ثم أنشأ سفرا قصر ضرورة عدم كون ذلك ضابطا لكثير السفر ، إذ لا يخرج عرفا المكاري وغيره ممن عمله السفر عن صدق هذا العنوان بإقامة المدة المزبورة قطعا ، اللهم إلا أن يريد الإشارة بذلك الى الاكتفاء في تحقق الكثرة بالسفرتين اللتين لم يتخلل بينهما إقامة العشرة كما فهمه الشهيد الثاني في الروض من عبارة الفاضل ، قال : « فان من سافر مرة ولم يقم في بلده بعدها عشرة ثم سافر صدق عليه ذلك وأتم حينئذ في الثالثة التي لم يفصل بينها وبين الأولتين بعشرة أيام » لكن قد عرفت أن التحقيق عدم اعتبار شي‌ء من ذلك ، انما المحكم العرف.

ومنه يعلم سقوط ما أطنب فيه في الروض من بيان تحقق تعدد السفرات ، قال ويتحقق تعدد السفرات بوصوله من كل سفرة الى بلده أو ما في حكمه ، فإن ذلك انفصال بينهما حسي وشرعي ، وهل يتحقق بالانفصال الشرعي خاصة كما لو تعددت مواطنه في السفرة المتصلة بحيث يكون بين كل موطنين منها والآخر مسافة أو نوى الإقامة في أثناء المسافة عشرا ولما يتمها؟ وجهان ، من تحقق الانفصال الشرعي وهو‌

٢٧٨

أقوى من الحسي في أمثال ذلك ، ومن ثم اشترطت المسافة ، ومن عدم صدق التعدد عرفا ، هذا كله إذا كان في نيته ابتداء تجاوز الوطنين وموضع الإقامتين ، أما لو عزم على الوطن الأول خاصة فلما وصل اليه عزم على الآخر فاحتسابهما سفرتين أقوى ، وعلى التقديرين لا فرق بين كون السفرة الثانية صوب المقصد أولا ، ورجح الشهيد في الذكرى تعدد السفرات في صورة الإقامة وإن لم تكن الإقامة في نيته ابتداء ، وفصل في الوطن وأوجب التعدد مع متجدد قصد تجاوز الوطن بعد الوصول اليه والاتحال مع قصد التجاوز ابتداء ، وهو حسن ، والفرق بين موضع الإقامة والوطن أن نية الإقامة تقطع السفر حسا وشرعا ، والخروج بعد ذلك سفرة جديدة ، بخلاف الوطن فإنه فاصل شرعا لا حسا ، ولو كان الخروج بعد أحد الأمرين إلى وطنه الأول بمعنى العود إليه ففي احتسابه سفرة ثانية الوجهان.

وهل يشترط في فصل نية الإقامة الصلاة تماما أم يكفي مجرد النية؟ يحتمل الأول لتوقف تمام الفصل عليه ، ومن ثم كان الرجوع عن نية الإقامة قبل الصلاة موجبا للعود الى القصر ، وهو يدل على عدم تمامية السبب الموجب للقطع ، ولما تقدم من أن الفارق بينه وبين الوطن هو قطع السفر الحسي ، ولم يتحقق ، ووجه الثاني انتقال حكم السفر ، ومن ثم وجب الإتمام ما دام كذلك ، وللرجوع حكم آخر ، وأنت خبير بعد الإحاطة بما قدمناه بضياع هذه المتعبة بعد الغض عما في بعضها في نفسه ، فلاحظ وتأمل.

ومنه يتجه اعتبار ما في المتن حينئذ من عدم إقامة كثير السفر في بلده عشرا شرطا في الاستمرار على التمام كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا ، بل في المدارك وعن غيرها أنه مقطوع به في كلام الأصحاب تارة ، وأن ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه أخرى ، بل عن المعتبر نفي الخلاف فيه بينهم ، بل في شرح المقدس البغدادي أنه حكى الإجماع عليه غير واحد ، وهو الحجة التي يجب بسببها الخروج‌

٢٧٩

عن إطلاق أدلة التمام ، مضافا الى‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح عبد الله بن سنان (١) على ما في الفقيه « المكاري إن لم يستقر في منزله إلا خمسة أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم بالليل ، وعليه صوم شهر رمضان ، وإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصر في سفره وأفطر » وخبر يونس (٢) عن بعض رجاله عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم قال : أيما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه التمام والصيام ابدا ، وإن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار » والصحيح (٣) المتقدم سابقا في صدر البحث الذي وصف فيه المكاري والجمال بأنه الذي يختلف وليس له مقام ، إذ المراد بالمقام فيه الإقامة عشرا إجماعا كما في الرياض ، قال : إذ لا قائل بوجوب القصر مطلقا كما فيه بإقامة دونها ، على أنها هي المتبادر من مثل هذه اللفظة في النص والفتوى بشهادة التتبع والاستقراء ، بل لو أريد منها مطلق المقام لم يتحقق موضوع لكثير السفر غالبا إن لم يكن أصلا ، لعدم خلو أحد من أفراده من إقامة اليوم واليومين والساعة والساعتين ، هذا مع انجباره بتلك الشهرة العظيمة المعتضدة بالإجماع ونفي الخلاف السابقين كانجبار الخبرين الأولين بذلك سندا ودلالة ، على أن اشتمال أولهما على ما لا يقول به من الاكتفاء بالخمسة في التقصير نهارا دون الليل ودون الصوم بل وعلى ما لا يقول به أحد من الاكتفاء في ذلك بالأقل من الخمسة ولو يوما أو ساعة لا يخرجه عن الحجية فيما نحن فيه ، كما هو محرر في محله.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٨٠