جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لكن يقوى في النظر الأول ، لانصراف ارادة خصوص التمام من المنزلة فيه لا ما يشمل ما نحن فيه ، فيندرج في عموم ما دل على القصر بالسفر المتحقق في الضرب بالأرض ، وأضعف من ذلك احتمال مساواة محل ما عزم على الإقامة فيه قبل الوصول اليه للمنزل في انقطاع السفر بمجرد الوصول الى محل الترخص قبل الدخول اليه ، كما اعترف به في الروض ، وإن جعله في الذكرى أيضا وجها مساويا لاحتمال عدم المساواة في ذلك بل اختاره في المسالك ، إلا أنه كما ترى في غاية الضعف ، لاقتضائه رفع اليد عن الأصل وإطلاق الأدلة بلا دليل معتبر حتى عموم المنزلة السابقة ، ضرورة كون موردها تحقق الإقامة في البلد لا العزم عليها قبل الوصول إليها ، ولذا لو رجع عن نية الإقامة بعد الوصول إليها قبل الصلاة فيها تماما رجع الى القصر ، وصارت كغيرها من البلدان ، فضلا عما قبل الوصول.

اللهم إلا أن يقال إنه : بسبب عزمه المستمر على الإقامة في ذلك البلد الشامل لحدوده التي هي محل الترخص ينقطع سفره بمجرد الوصول لأنه حينئذ كمن بلغ نفس البلد ونوى الإقامة فيه ، لكن ذلك مبني على صحة نية الإقامة في البلد بحيث يشمل حدوده ، أما بناء على نية الإقامة انما هي في البلد نفسه وان ساغ له التردد بعد ذلك في الحدود ، فلا يتم ، وفرق واضح بين الأمرين ، إذ محل الإقامة على الثاني البلد نفسه ، وعلى الأول هو وحدوده.

هذا كله إذا كان عازما على إقامة العشرة في الأثناء أو المرور بالمنزل المزبور ، أما إذا كان مترددا في ذلك فلا يبعد عدم الترخص أيضا ، لوضوح عدم القصد إلى المسافة في الثاني ، بل والأول أيضا لعدم الجزم بالمسافة المستمرة فيه ، وأولى منه الظن ، ولا ينافيه ما سمعته في التابع الذي يتردد في زوال التبعية ، أما أولا فللاستصحاب هناك دونه هنا ، إذ لا يتصور تقريره مع فرض تردده من أول الأمر بقطع المسافة وعدمه ،

٢٤١

بخلافه في الأول ، فإن سبب التبعية مستصحب لا يزول بالاحتمال والظن ، وأما ثانيا فالفرق بين التردد في نفس القطع من أول الأمر وبين التردد في عروض ما يقتضي العزم على القطع معه ، لمنافاة الأول قصد المسافة دون الثاني.

نعم لا يقدح احتمال عروض مقتضي الإقامة لحصول بعض الأمارات المقتضية له ، بمعنى أنه لو جزم وعزم على المسافة من غير قاطع لكن يحتمل أنه يعرض له مقتض لنية الإقامة في الأثناء من مرض ونحوه أو المرور بالمنزل فان مثله لا ينافي صدق قصد المسافة عرفا والعزم عليها ، بل قد يقال بعدم قدح التردد في عروض مقتضي نية الإقامة بل ولا ظنه كما في التابع.

وكيف كان فلا إشكال ولا خلاف في كون كل من الأمرين قاطع للسفر سواء نواهما في ابتداء سفره أو حصلا فيه في الأثناء غير أنه على الأول لا يقصر في الطريق إذا فرض وقوعهما في أثناء المسافة ، وعلى الثاني يقصر في الطريق لتحقق قصد المسافة فيه التي لا ينافيها اتفاق وقوع الإقامة في الأثناء أو المرور بالمنزل فيتم حينئذ فيهما خاصة ، ولا يعيد ما صلاة قصرا قبل وإن تبين أنه كان فيما دون المسافة لقاعدة الاجزاء ، وخصوص صحيح زرارة (١) وغيره.

وكذا لا خلاف ولا إشكال في احتياج التقصير بعد الخروج منهما الى اعتبار مسافة جديدة ، ولا يكفي التلفيق بعد نحلل القاطع وإن كان لا صراحة في النصوص بذلك بالنسبة إلى محل الإقامة ، إلا أنه يكفي فيه ـ بعد الإجماع المحكي بل الإجماعات إن لم يكن محصلا ـ استصحاب حكم التمام الثابت له في محل الإقامة السالم عن معارضة نصوص المسافة بعد انسياق غير الفرض منها ، وتنزيل المقيم عشرا منزلة الأهل في الصحيح السابق.

ويلحق به بالنسبة الى ذلك التردد ثلاثين يوما في مكان واحد كما صرح به‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٤٢

في الروضة ، بل ظاهر الرياض أو صريحه مساواته لمحل الإقامة في حكاية الإجماعات عليه في عبائر الجماعة ، فينقطع حينئذ حكم السفر ، ويحتاج في تجدد الترخص إلى مسافة مستقلة ، للاستصحاب المزبور أيضا والتنزيل منزلة الأهل في‌ الصحيح (١) الآخر أيضا ، قال فيه « سألت أبا الحسن عن أهل مكة إذا زاروا عليهم إتمام الصلاة قال نعم ، والمقيم الى شهر بمنزلتهم » وذكره في النصوص مع الإقامة التي علم كونها من القواطع ، ولا ينافي ذلك اقتصار المصنف وغيره هنا على المنزل والإقامة دونه ، لأن المراد هنا بيان شرائط أصل وجوب القصر ، وهو يتم في الأولين بمعنى أنه يعتبر في وجوبه أن لا ينوي الإقامة أو المرور ، وإلا أتم بخلافه ، إذ لا يتصور فيه ذلك ، نعم هو قاطع للسفر والمسافة إذا اتفق في الأثناء.

لكن ومع ذلك كله فظاهر المحقق البغدادي أو صريحه أنه ليس من القواطع للسفر ، بل هو من الأحكام اللاحقة للمسافر كالإتمام في مواضع التخيير ، فلا ينقطع قصد المسافة حينئذ به ، ولا يحتاج في تجدد الترخص إلى مسافة جديدة الى غير ذلك محتجا بعدم ذكر الأصحاب له من القواطع للسفر ، بل اقتصروا على الأمرين المزبورين ، وكان نظره الى نحو المقام وقد عرفت العذر فيه ، مع أنه نص عليه هنا في الدروس واللمعة والروضة ، بل صرح في الأخير كغيره باحتياج القصر بعده إلى مسافة جديدة ، ولتمام البحث معه محل آخر.

وعلى كل حال فقد اتضح لك من جميع ما تقدم ما في المتن من أنه لو كان بينه وبين ملكه أو ما نوى على الإقامة فيه مسافة التقصير قصر في طريقه خاصة لحصول المقتضي وارتفاع المانع ، فان لم يكن بينهما مسافة لم يقصر ، وخبر عمران بن محمد (٢)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤.

٢٤٣

المتقدم « قلت لأبي جعفر الثاني (ع) جعلت فداك : ان لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ ربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام فأتم الصلاة أم أقصر؟ فقال : قصر في الطريق وأتم في الضيعة » مطرح أو مأول بحمل الفراسخ فيه على الفراسخ الخراسانية أو غيرها ، ولا يمكن حمله على مراعاة الإياب هنا وإن لم نعتبر اليوم ، لأنهما سفران ، ولذا أمره بالتمام في الضيعة ، فتأمل.

وكذا اتضح ما فيه أيضا من أنه لو كان له عدة مواطن اعتبر ما بينه وبين الأول فإن كان مسافة قصر في طريقه أيضا وينقطع سفره بموطنه فيتم فيه ، ثم يعتبر المسافة التي بين موطنيه ، فان لم تك مسافة أتم في طريقه لانقطاع سفره الأول بالوصول الى وطنه الأول وفرض عدم مسافة له بالقصد الى الثاني وإن كان مسافة قصر في طريق الوطن الثاني حتى يصل الى وطنه فينقطع حينئذ سفره ، فلو كان له مقصد آخر متجاوز عن وطنه الأخير اعتبر ما بينهما ، فان كان مسافة قصر في الذهاب والمقصد والإياب حتى يصل الى الوطن ، وإلا أتم في الجميع. قال في المدارك : ولا يضم ما بين الموطن الأخير ونهاية المقصد إلى العود. بل لكل من الذهاب والإياب حكم برأسه ، فلا يضم أحدهما إلى الآخر ، وفيه أن الفرض مع كونه بريدا محل الضم ، نعم يأتي فيه البحث السابق من اعتبار الرجوع لليوم وعدمه كما هو واضح ، ولعله : يريد ما قدمناه وإن قصرت عنه عبارته ، ونص عليه في المسالك والروض هنا من عدم ضم الذهاب من آخر أوطانه إلى مقصده مع قصوره عن المسافة إلى الإياب البالغ مسافة ، كما لو أراد الرجوع الى وطنه الأول بغير ذلك الطريق الذي ينقطع سفره به ، إذ هو حينئذ كطالب الآبق ونحوه الذي بلغ المسافة من غير قصد ثم قصد بعد ذلك زيادة دون المسافة قبل العود ، فإنه لا يقصر فيها وإن كان برجوعه يقصر لعدم دليل على مثل هذا التلفيق ، قال في المسالك بعد أن ذكر اعتبار المسافة بين آخر أوطانه ومقصده في‌

٢٤٤

التقصير : « ولا فرق في ذلك بين ان يعزم على العود الى وطنه الأول على تلك الطريق وغيرها مما لا وطن فيه ، ولا ما في حكمه ، ولا يقصر فيما بين آخر أوطانه ونهاية مقصده مع قصوره عن المسافة وإن كان يقصر راجعا ، بل لكل من الذهاب والإياب حكم برأسه لا يضم أحدهما إلى الآخر ، وكذا القول فيما نوى فيه الإقامة سواء كانت النية في ابتداء السفر أو بعد الوصول الى موضع الإقامة ، ومثل ما لو بلغ طالب الآبق ونحوه المسافة من غير قصد ثم قصد الزيادة الى ما دون المسافة قبل العود » وهو كما ترى صريح في غير مسألة الرجوع ليومه وغير يومه ، والأمر سهل ،

والمراد بالوطن الذي يتم فيه وإن عزم على السفر قبل تخلل العشرة هو كل موضع يتخذه الإنسان مقرا ومحلا له على الدوام الى الموت ، لا أنه قصد استيطانه مدة وإن طالت مستمرا على ذلك غير عادل عنه كما نص عليه الفاضل والشهيد وغيرهما بل نسبه في المدارك إلى سائر من تأخر عن العلامة من غير فرق بين ما نشأ فيه وما استجده ليتحقق حينئذ معنى الوطن الذي نص في الصحاح والمصباح على أنه المكان والمقر ، وأمر في النص والفتوى بالتمام فيه ، ولا يعتبر في مفهومه عرفا الاتحاد وإقامة الستة أشهر فيه ، وإن قال في الذكرى : « إنه الأقرب معللا له بأنه ليتحقق الاستيطان الشرعي مع العرفي » ولم يستبعده في المدارك قال لأن الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبرا مع وجود الملك فمع عدمه أولى ، وذلك لظهور تحقق معنى الوطن والمسكن والمنزل لغة وعرفا بذلك قبل بلوغ الستة أشهر ، نعم يعتبر فيه الإقامة فيه في الجملة عرفا ولا يكتفى بالنية ، مع احتماله ، بل اكتفى بها شيخنا في بغية الطالب ولا يخلو من قوة وإن كان الأحوط الإقامة في الجملة ، وعلى كل حال فهو الذي أمر بالتمام فيه ، واعتبار الستة أشهر والملك ونحوهما في النص والفتوى انما هو في الوطن الذي لا يزول حكمه من الإتمام فيه وغيره بالاعراض عنه والعدول الى غيره ، أو في المكان الذي له ملك‌

٢٤٥

فيه ولم يقصد الاستيطان فيه كما ستعرف ، لا في مطلق الوطن بحيث يشمل محل الفرض ، فدعوى أنه وإن كان وطنا عرفا إلا أنه ليس وطنا شرعا واضحة المنع.

واقتصار كثير من الفتاوى على الملك المستوطن ستة أشهر ليس لانحصار الوطن فيه عندهم ، بل لذكرهم له في معرض قواطع السفر في أثنائه ، وهو الذي يتصور وقوعه في الأثناء لا الوطن الذي اتخذه مقرا ، إذ الخروج منه يكون ابتداء للسفر لا أنه قاطع له بوقوعه في أثنائه ، إذ هو فيه حاضر لغة وعرفا وشرعا ، واحتمال تصويره بمن نوى السفر الى الشام مثلا وقصده من البصرة وكان وطنه الكوفة فمر بها مجتازا الى مقصوده الأصلي يدفعه أن ابتداء سفره أيضا في الحقيقة من الكوفة وإن كان قد قصده من البصرة ، على أنه لو سلم فليس هو المنساق الى الذهن من قطع السفر في أثنائه بالوصول الى وطنه ، انما المنساق ما نص عليه الأصحاب مما بقي فيه حكم الوطن وكان غيره المقر والمسكن للمسافر ، كما هو واضح.

وكيف كان فلا ريب عندنا في وجوب الإتمام على المسافر بالوصول الى نفس منزله المزبور سواء قصد مجرد الاجتياز به أو إنشاء السفر منه ، أو الى البلاد الذي ( التي ظ ) فيها منزله وإن لم يصل الى نفس منزله بل أو الى محل الترخص من محل بلاده ، كل ذلك لانسلاخه عن صدق المسافر واندراجه في الحاضر بديهة لوروده الى موضع رحله ومقر أهله ومحل أنسه ومستراح بدنه ومأنس نفسه ، وإن كان قد يشم من بعض النصوص عدم الإتمام في الأخير إذا كان قد أنشأ السفر من مكان غيره وأراد الاجتياز به ، كموثق ابن بكير (١) « سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة يكون له فيها دار ومنزل وانما هو مجتاز لا يريد المقام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

٢٤٦

إلا بقدر ما يتجهز يوما أو يومين ، قال : يقيم في جانب المصر ويقصر ، قلت : فان دخل منزله قال : عليه التمام » والصحيح عن ابن رباب (١) المروي عن قرب الاسناد « أنه سمع بعض الواردين سأل أبا عبد الله (ع) عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة ، وله بالكوفة دار وعيال ، فيخرج فيمر بالكوفة ليتجهز منها ، وليس من رأيه أن يقوم أكثر من يوم أو يومين قال : يقيم في جانب الكوفة ويقصر حتى يفرغ من جهازه ، وان هو دخل منزله فليتم الصلاة » وغيرها ، وربما مال اليه المقدس البغدادي لذلك مقيدا بها غيرها من الأخبار مما ينافيها ، بل مال منها أيضا الى عدم اعتبار محل الترخص في القصر عند الخروج منه مريدا الرجوع الى أصحابه ، لكن هي ـ مع قصورها عن معارضة غيرها من النصوص المعتضدة بفتوى الأصحاب ، وبصدق الوصول عرفا الى وطنه ومسكنه ومنزله بالوصول الى حدود بلده ـ غير صريحة في ذلك ، لاحتمال ارادة ما يقرب من محل الترخص من الجانب فيه ، نحو ما ورد أيضا في الواصل الى بلده غير المجتاز ، على أنها ظاهرة في قصر التمام على الدخول للمنزل خاصة دون البلد ، كصحيح ابن عمار (٢) عنه (ع) قال : « إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا » وصحيح الحلبي (٣) قال : « إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجا قصروا وإذا زاروا البيت ورجعوا الى منازلهم أتموا » مما لا أعرف أحدا يقول به ، والأدلة صريحة بخلافه ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فالوطن ما عرفت أو كل موضع يكون له فيه ملك قد استوطنه فيما مضى من الزمان ستة أشهر فصاعدا كما هو المشهور نقلا وتحصيلا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٦ لكن رواه عن علي بن رئاب وهو الصحيح.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٨.

٢٤٧

بل لا خلاف فيه إلا من نادر ، بل في الروض وعن التذكرة الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا الى استفادته أيضا من مجموع النصوص كالمستفيضة (١) الدالة على التمام إذا مر بقرية أو ضيعة بعد تقييدها بغيرها من النصوص (٢) التي اعتبرت في الإتمام كون الضيعة والقرية وطنا له ، وإلا قصر ما لم ينو مقام عشرة أيام المعتضدة بفتوى الأصحاب عدا ابن الجنيد فيما حكي عنه من العمل بإطلاق عدم اعتبار الستة وغيرها ، بل حكي عنه أيضا الاكتفاء في الإتمام بكونه منزلا لزوجته أو ولده أو أبيه أو أخيه إن كان حكمه نافذا فيه ولا يزعجونه لو أراد الإقامة فيه ، لبعض النصوص (٣) القاصرة عن افادة تمام مدعاه ، مع أنها معارضة بغيرها مما هو أرجح منها من وجوه ، منها الاعتضاد بفتوى الأصحاب عداه ، وعلى كل حال فلا ريب في شذوذه.

كما أنه لاريب في تنزيل إطلاق تلك النصوص على التقييد المزبور المذكور في عدة من المعتبرة أيضا ، ففي‌ صحيح ابن يقطين (٤) « قلت لأبي الحسن الأول (ع) الرجل يتخذ المنزل فيمر به أيتم أم يقصر؟ قال : كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل ، وليس لك أن تتم فيه » ونحوه صحيحه الآخر (٥) وفي‌ صحيح الحلبي (٦) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يسافر فيمر بالمنزل له في الطريق يتم الصلاة أم يقصر؟ قال : يقصر انما هو المنزل الذي توطنه » وفي‌ صحيح ابن أبي خلف (٧) قال « سأل علي بن يقطين أبا الحسن الأول (ع) عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمر بها قال : إن كان مما قد سكنه أتم فيه الصلاة ، وإن كان مما لم يسكنه فليقصر » الى غير ذلك ، بل في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٨ لكن روى عن حماد بن عثمان.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٩.

٢٤٨

بعضها (١) إطلاق الأمر بالتقصير وإن وجب تنزيلها أيضا على ما في هذه الصحاح كالمستفيضة (٢) الأولى لاشتراكهما في عدم القائل أو ندرته ، إذ قد عرفت أن الأولى لم يحك العمل بها إلا عن ابن الجنيد ، وأما الثانية فعن ظاهر ابن البراج في المهذب خاصة ، فلاحظ.

لكن المراد من الاستيطان في هذه الصحاح الإقامة ستة أشهر كما صرح به في‌ صحيح ابن بزيع (٣) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام « سألته عن الرجل يقصر في ضيعته فقال : لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه ، فقلت : ما الاستيطان؟ فقال : ان يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فإذا كان كذلك يتم فيها متى يدخلها ».

فمن مجموع هذه النصوص يستفاد الإتمام بحصول الشرطين المزبورين ، أما الملك فمن اللام في الصحيح المزبور وغيره ، والإضافات في غيرها المنساق منهما الملكية إلى الذهن ، وأما الاستيطان ستة أشهر فمن الصحيح أيضا كاستفادة أصل الاستيطان بدون التقييد من النصوص السابقة وغيرها ، وصرح بعضهم كالعلامة وغيره بعدم اعتبار الاستيطان في الملك ، بل وعدم اعتبار قابلية الملك للاستيطان ، بل يكفي النخلة ونحوها لإطلاق بعض تلك الأدلة السابقة ، وللموثق (٤) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يخرج في سفر فيمر بقرية أو دار له فينزل فيها قال : يتم الصلاة ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة ، ولا يقصر وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها » فيراد حينئذ بضمير ( استوطنه ) في المتن وغيره الموضع الذي فيه المنزل لا المنزل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٥.

٢٤٩

وكذا صرح المصنف وغيره بكفاية الستة أشهر متوالية كانت أو متفرقة لإطلاق الستة بل وإطلاق السكنى والاستيطان المقتصر على تقييدهما بالستة خاصة متوالية كانت أو متفرقة ، وربما أشكل ذلك كله بعدم اقتضاء اللام والإضافة التمليك خصوصا الثانية التي يكفي فيها أدنى ملابسة ، بل والأولى لغلبة مجيئها للاختصاص ، وبأن ظاهر الصحيح اعتبار فعلية الاستيطان وتجدده في كل سنة بقرينة المضارع الموضوع للتجدد والحدوث ، ومن هنا جزم به الصدوق في المحكي عنه من فقيهه ، ومال اليه بعض متأخري المتأخرين منهم سيد المدارك والرياض ، بل استظهره أو لهما من عبارتي النهاية والكامل للشيخ وابن البراج ، فلم يكتفوا بما مضى من الستة أشهر ، بل لا بد من دوام الاستيطان كالملك على وجه يعد وطنا ومنزلا له ، ويكون له وطنان فصاعدا ، وبأن الموثق ـ مع احتماله التقية ، لموافقته المحكي عن جماعة من العامة ، وكونه كغيره من الصحاح (١) المتضمنة للأمر بالإتمام بمجرد الوصول الى الملك من القرى والضياع التي لم يقل أحد بمضمونها من جهة معارضتها بالصحاح (٢) الأخر المستفيضة الدالة على التقصير بالقرية والضيعة له ما لم ينو مقام عشرة أيام أو يكن قد استوطنهما ، ومعارض بصحيح ابن بزيع (٣) السابق ، إذ هو كالصريح في أن العبرة بالاستيطان في المنزل دون الملك ، وإلا لعطفه على إقامة العشرة ، ولم يخصه بالمنزل ـ لا دلالة فيه على اشتراط الملك سواء في على إطلاقه أو قيد بالستة أشهر كما هو مقتضى الجمع بينه وبين الصحيح ، إذ أقصاه التمام مع الملك ، وهو لا ينافي التمام مع المنزل غير الملك إذا استوطنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢ و ٥ و ١٢ و ١٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

٢٥٠

المدة المزبورة ، ومن هنا جزم في الرياض بعدم اعتبار الملك ، وأنه يكفي الاستيطان في المنزل خاصة وإن لم يكن ملكا مستظهرا له من الصحاح السابقة وعبارة النافع ونحوها من عبائر الجماعة ، قال ومنهم الصدوق والشيخ وجملة ممن تبعه والشهيد في اللمعة ، بل صرح أيضا بأنه لا وجه لما ذكروه من اعتبار الملك كما صرح به من متأخري المتأخرين جماعة ، لكن قال بعد ذلك : « إنه يمكن الاعتذار لهم بأن اعتبارهم الملكية انما هو بناء على اكتفائهم في الوطن القاطع بما حصل به الاستيطان ستة أشهر ولو مرة من دون اشتراط الفعلية ، حتى لو هجر بحيث لم يصدق عليه الوطنية عرفا لزمه التمام بمجرد الوصول اليه ، ولذا اشترطوا دوام الملك أيضا إبقاء لعلاقة الوطنية ليشبه الوطن الأصلي الذي لا خلاف فتوى ونصا في انقطاع السفر به مطلقا ولو لم يكن له فيه ملك ولا منزل مخصوص ، وعلى هذا فلا ريب في اعتباره ، لعدم دليل على كفاية مجرد الاستيطان ستة أشهر مع عدم فعليته ودوامه أصلا ، إذ النصوص الدالة عليه ظاهرها اعتبار فعليته ، فلم يبق إلا الإجماع المحكي والفتاوي ، وهما مختصان بصورة وجود الملك ودوامه ، فعلى تقدير العمل بها ينبغي تخصيص الحكم بها ، ويرشد الى ذلك أنهم ألحقوا بالملك اتخاذ البلد أو البلدين دار إقامة على الدوام معربين عن عدم اشتراط الملك فيه وان اختلفوا في اعتبار الاستيطان ستة أشهر فيه كالملحق به كما عليه الشهيد في الذكرى وجملة من تأخر عنه ، أو العدم كما عليه الفاضل ، والوطن المستوطن فيه المدة المزبورة على الدوام أحد أفراده فلا يعتبر فيه عندهم الملكية كما عرفته ، ويتحصل مما ذكرنا أنه لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار الملك في الوطن المستوطن فيه المدة المزبورة كل سنة ، ولا في اعتباره في المستوطن فيه تلك المدة مرة ، وانما الخلاف والاشكال في كون مثل الوطن الأخير ولو مع الملك قاطعا ، والأقوى فيه العدم كما تقدم ، ويؤول إلى إنكار الوطن الشرعي‌

٢٥١

وانحصاره في العرفي ، وهو قسمان أصلي نشأ فيه أو اتخذه ، وطارئ يعتبر في قطعه السفر فعلية الاستيطان فيه ستة أشهر بمقتضى الصحيحة المتقدمة » انتهى.

وقد يدفع الأول بظهور اللام في الملكية ، خصوصا في الموثق المزبور بل وغيره من الصحاح السابقة التي كادت تكون صريحة في ذلك ، وخصوصا بعد الانجبار بالإجماع المحكي المعتضد بالفتاوى نصا وظاهرا حتى بعض من نسب إليهم عدم اعتبار الملك كالنافع وغيره ، لتعبيرهم أيضا باللام الظاهر منه الملكية ، ولا تنافيه الإضافة إن لم نقل بظهورها أيضا في الملك إذ كفاية الملابسة في الجملة فيها لا تقتضي الانسياق الى الذهن منها عند الإطلاق.

والثاني ـ بعد تسليم ظهوره في ذلك هنا ، وإلا فربما ادعي ظهوره في إرادة اتفاق الإقامة فيه ستة أشهر ، أو في إرادة رفع ما يظهر من لفظ الاستيطان في غيره من النصوص من الدوام بأن الذي يكفي في الإتمام استيطان الستة أو في غير ذلك ـ بأنه يجب الخروج عن ظاهره وإرادة إقامة ستة أشهر ولو مرة منه ، أو الاعراض عنه بالنسبة الى ذلك أي الاستمرار للإجماعين المعتضدين بالفتاوى وبصدر صحيح ابن أبي خلف (١) المتقدم ولا ينافيه ذيله ، لأن « لم » لنفي المضارع فيما مضى من الأزمنة ، ول‌ صحيح الحلبي (٢) إذا قرء « توطنه » فيه بصيغة الماضي ، ولأنه لو أريد من الصحيح المزبور التجدد والفعلية في كل سنة لم يكن جهة لاعتبار الملك ، لما عرفت من أنه لا خلاف صريح في عدم اعتبار الملكية حينئذ الظاهرة من اللام فيه ، بل ولا الاختصاصية ، بل ولا جهة للتقييد بالستة أشهر في كل سنة ، إذ مآله كما اعترف به في الرياض الى الوطن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٩.

(٢) المتقدم في ص ٢٤٨.

٢٥٢

العرفي ، ومن الواضح عدم اعتبار ذلك فيه عرفا ، بل لا دلالة في الصحيح المزبور عليه أيضا إذ أقصاه تكرير ذلك وتجدده ولو في السنتين أو في السنين ، بل لا خلاف فيه من غير ظاهر المحكي عن الصدوق والفاضل في الرياض ، نعم اختلف في اعتبار إقامة الستة أشهر فيه في ابتداء السكنى ، وأن الوطنية تتحقق بعدها ، وعدم اعتبار ذلك ، بل عرفت أن الأقوى الثاني.

ويدفع الثالث بأنه لا داعي إلى حمله على التقية بعد تقييده بصحيح الستة ، ودعوى أن الصحيح المزبور كالصريح في عدم اعتبار الملك ، وإلا لعطفه على الإقامة ممنوعة ، بل عرفت أن اللام فيه كالصريحة في اعتبار الملك ، نعم قد يدعى ظهوره في عدم كفاية هذا الملك في التمام ، بل لا بد من أن يكون منزلا وقد استوطنه لا غيره ، اللهم إلا أن يدعى إخراجه مخرج الغالب كغيره من النصوص ، مع احتمال الجمع بينهما بالعمل بهما معا تحكيما لمنطوق الموثق (١) على مفهوم الصحيح (٢) خاصة ، وإلا فلا دلالة في غيره بحيث ينافي الموثق المزبور ، على أن هذا المفهوم ـ بعد تسليم حجيته أو في خصوص المقام لكونه مذكورا في مقام البيان فهو كالقيد ـ ضعيف جدا ، ودعوى أنه لا دلالة في الموثق على اعتبار الملكية كي ينافي الصحيح بناء على عدم ظهوره في الملكية يدفعها أنه لا ريب في ظهور‌ قوله عليه‌السلام فيه : « ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة » في أن ذلك غاية ما يكتفى فيه في التمام مع الاستيطان ستة أشهر ، كما هو قضية الجمع بين الموثق والصحيح ، فينافيه حينئذ عدم اعتبار الملكية أصلا ، لكن الإنصاف أن الإتمام في القرية التي لا منزل مملوك له فيها واستوطنه ستة أشهر بل كان له نخلة أو نحوها وإن كان مالك الأرض المغروسة فيها لا عينها خاصة إلا أنها لم تكن له منزلا لا يخلو من إشكال ، فالاحتياط لا ينبغي تركه في ذلك ، وهو أمر آخر غير ما ذكره المعترض.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١١.

٢٥٣

ومن ذلك كله ظهر لك ما في الرياض ، وأنه محل للنظر من وجوه ، خصوصا ما يفهم من التدبر في مجموع كلامه من جعله النزاع في اعتبار الملك وعدمه في الوطن المستوطن فعلا المدة المزبورة ، حتى نسب الأول للفاضلين ومن تأخر عنهما ، والثاني الى الصدوق والشيخ وجملة ممن تبعه والشهيد في اللمعة وظاهر عبارة النافع ونحوها من عبائر الجماعة ، وهو واضح الفساد كما اعترف به في ذيل كلامه ، كوضوح منع ما فهمه من نحو عبارة النافع من إرادة استيطان المدة فعلا ، بل ظاهرها كغيرها من عبارات الأصحاب كفاية استيطان المدة مرة ، واحتمال تنزيل هذه العبارات على إرادة الاستيطان مدة العمر لكن يشترط في صيرورته وطنا بذلك مضي السنة فيكون بحثا في المسألة السابقة مقطوع بفساده ، نعم اعتبار الملك في المستوطن فعلا المدة المزبورة في كل سنة ظاهر الصدوق خاصة أو هو مع بعض الأصحاب ، ولذا نسبه بعض علماء العصر الى الشذوذ ،

فالتحقيق حينئذ المستفاد من ملاحظة الجمع بين مجموع النصوص المعتضدة بالإجماعين والفتاوى إثبات الوطن الشرعي مع العرفي ، لكن الأحوط الاقتصار فيه على ملك المنزل الذي استوطن ستة أشهر ولو مرة ، بل الأحوط الاقتصار فيه على الملك المزبور الذي قصد فيه الاستيطان مدة العمر وجلس فيه ستة أشهر بهذه النية إلا أنه عدل عنه الى غيره ، لا الذي قصد من أول الأمر الجلوس فيه ستة أشهر ولو لغرض أو تجارة أو نحوهما ، إذ ظاهر لفظ الاستيطان والسكنى ونحوهما في المعتبرة السابقة ذلك ، لا المراد منهما المكث فيه ستة أشهر ،

ويدل عليه حينئذ ـ مضافا الى الأدلة السابقة ـ الاستصحاب وإن لم أجد أحدا صرح بذلك ، بل ظاهر جعل الستة ظرفا لاستوطن في الصحيح والفتاوى خلافه ، إلا أن الجميع لا يأتي الحمل على ما ذكرنا ، بل يظهر من الأستاد في بغية الطالب أن محل‌

٢٥٤

النزاع بين الأصحاب في ذلك ، وحينئذ لا يكون هذا وطنا شرعيا بل هو عرفي إلا أن الشارع أجرى الأحكام عليه وإن أعرض عنه واستوطن غيره ، إذ لعل القاطع عنده للسفر ما يشمل ما كان وطنا ، بخلافه على الأول ، فإنه يكون اصطلاحا من الشارع على الوطن أو ما يقرب من الاصطلاح ، وهو لا يخلو من بعد في الجملة كما هو واضح.

بل من ذلك يظهر أيضا وجه اعتبار مضي الستة أشهر في وطنية ما اتخذ في غير الملك ولم يعدل عنه ، لا مكان دعوى ظهور أن اعتبار الستة في إجراء حكم الوطنية على الملك المعدول عنه الى غيره ليس إلا لتحقق الوطنية التي يراد استصحاب حكمها وإن أعرض عنها ، فيعتبر حينئذ مضيها في إجراء الأحكام على غير المعدول عنه ، لتساويهما بالنسبة الى ذلك ، وإن كان الأقوى في النظر منعها على مدعيها ، لتحقق الوطنية عرفا بدون مضيها ، فتكون حينئذ هي شرطا شرعيا في جريان الأحكام على الأول لا لتحقق معنى الوطنية ،

وكيف كان فصريح العبارة كغيرها عدم اعتبار التوالي في الستة ، نعم يجب إقامتها ولو متفرقة على وجه الصلاة تماما بنية الإقامة كما صرح به في المسالك والروضة لكن قد يشكل بانصراف التوالي من الإطلاق وما ماثله من الفتاوى كما قيل في أمثاله من أقل الحيض وغيره خصوصا مع إمكان دعوى ظهور لفظ الاستيطان في ذلك ، وبأن قضية الإطلاق بناء على عدم انسياق التوالي منه الاكتفاء بإقامتها مطلقا وإن كان بعضها على وجه القصر ، ولو سلم فلا يعتبر الإتمام بنية الإقامة ، بل يكفي فيه ما يحصل بالتردد ثلاثين يوما أو بسبب نية الإقامة التي عدل عنها بعد الصلاة تماما ، كما صرح بهما بعضهم ، بل قد يقال بكفايته إذا كان منشأه الرخصة في ذلك من جهة المكان ، كحائر الحسين عليه‌السلام وغيره ، أو العصيان أو كثرة السفر وإن كان بعيدا بل الأقوى خلافه ، ولا ريب في أن الأحوط إن لم يكن الأقوى اعتبار التوالي وإن لم أجد‌

٢٥٥

أحدا صرح به ، لكن قال المقدس البغدادي بعد أن اختار عدم اعتباره : « إنه لا يتجاوز في المتفرقة الى ما دون شهر ، وبالجملة ينبغي أن يراعى الصدق عرفا ، ولا ريب أنه إذا قصد إقامة الستة وكان يخرج في الأثناء إلى مسافة مؤلفة من الذهاب والإياب في يوم واحد وهو على عزمه لم يعرض يصدق عليه انه أقام الستة عرفا » انتهى.

وللنظر فيه مجال ، إذ من الواضح الفرق بين التسامح العرفي والصدق ، على أن قضية إطلاق القائل بكفاية المتفرقة عدم اعتبار ذلك ، بل ولا اعتبار قصد التوطن هذه المدة ، بل يكفي اتفاق وقوعه منه ولو تدريجا ، اللهم إلا أن يدعى ظهور لفظ الاستيطان في ذلك ، فتأمل ، نعم لا يعتبر استيطانها قبل الملك أو بعد زواله ، لظهور الأدلة في اعتبار دوام الملك كما صرح به غير واحد من الأصحاب وأن الاستيطان هذه المدة وهو مالك.

ولو زال ملكه الذي كان مقارنا للاستيطان لكن قبل زواله أو عنده دخل ملكه شي‌ء آخر غيره بناء على الاكتفاء به فالظاهر احتياج الإتمام إلى تجدد الاستيطان لعدم صدق استيطان الملك ستة أشهر ، وعدم صدق دوام الملك الذي اشترطناه في تأثير الاستيطان تلك المدة القصر ، لظهوره في شخص المملوك لا النوع أو الصنف ، ومن هنا قال في المسالك : « ولو تعددت المواطن كفى استيطان الأول منها ما دام على ملكه ، فلو خرج اعتبر استيطان غيره » ومراده من التعدد التجدد بقرينة لفظ الأول في كلامه ، لكن حكي عن الذكرى أنه يظهر منها الاكتفاء بالأول وإن خرج.

وفي اندراج الاستيطان المدة تبعا كالزوجة المستوطنة في ملكها ذلك تبعا لزوجها وجهان ، أقواهما ذلك ، بل ينبغي القطع به فيمن لا ولاية عليه شرعية ، كالخادم‌

٢٥٦

الحر للاندراج في إطلاق الأدلة التي لا يتفاوت فيه اختلاف دواعي الاستيطان.

الشرط الرابع من شرائط القصر أن يكون السفر سائغا ولغير الصيد واجبا كان كحجة الإسلام ، أو مندوبا كزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام أو مباحا كالأسفار للمتاجر أو مكروها كبعض الأسفار لها أيضا ، فإنه لا ريب في القصر حينئذ نصا وفتوى ولو كان السفر معصية لم يقصر كاتباع الجائر وصيد اللهو بلا خلاف معتد به أجده فيه ، بل هو مجمع عليه تحصيلا ونقلا مستفيضا كالنصوص ففي‌ الصحيح عن حماد بن مروان (١) قال : « سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : من سافر قصر وأفطر إلا أن يكون سفره الى صيد أو في معصية الله أو رسولا لمن يعصي الله عز وجل أو في طلب شحناء ، أو سعاية ضرر على قوم مسلمين » والموثق عن عبيد بن زرارة (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج الى الصيد أيقصر أم يتم؟ قال : يتم لأنه ليس بمسير حق » الى غير ذلك من النصوص التي سيمر عليك بعضها إنشاء الله ، على أن مشروعية القصر للإرفاق بالمسافر والإكرام له كما يومي اليه مرسل ابن أبي عمير (٣) عن الصادق عليه‌السلام الآتي إنشاء الله وهما لا يستأهلهما العاصي بسفره قطعا.

ولا فرق في المستفاد من النصوص ومعاقد الإجماعات التي يشهد لها ظاهر الفتاوى بين العصيان بنفس السفر كالفرار من الزحف وإباق العبد وهرب المديون مع القدرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣ لكن رواه عن عمار بن مروان كما في الفقيه ج ٢ ص ٩٢ ـ الرقم ٤٩ وفي الكافي ج ٤ ص ١٢٩ المطبوع عام ١٣٧٧ عن محمد بن مروان.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٥ وهو مرسل عمران بن محمد.

٢٥٧

على الأداء والزوجة للنشوز ، بناء على حرمة المذكورات بالخصوص عليهم لا من جهة وجوب ما ينافيها عليهم ، وبين العصيان في السفر لغايته ، ضم إليها طاعة أولا ، اللهم إلا أن يكون المقصد الأصلي الذي ينسب السفر له الطاعة ، مع احتمال الاكتفاء بمطلق ضم المعصية على أي وجه يكون على إشكال ، وبالجملة فالمراد تحريم السفر لغايته كالسفر لقطع الطريق أو لنيل المظالم من السلطان ونحو ذلك مما هو مصرح به في النصوص ، بل لا تعرض فيها على الظاهر لغيره ، فالمناقشة حينئذ في ذلك بأن مقدمة المحرم غير محرمة فلا يعد السفر الذي غايته المعصية حينئذ محرما ضعيفة جدا ، بل هي اجتهاد في مقابلة النص بل النصوص ، إذ مع إمكان منع عدم الحرمة وتخرج هذه النصوص شاهدا عليه يدفعها أن الإتمام معلق على كون السفر للمعصية ، سواء كان هو معصية أو لا كما هو واضح.

أما إذا كان المعصية في السفر لكونه ضدا للواجب المضيق بناء على اقتضاء الأمر به النهي عنه فقيل بمساواته للسابقين ، لإطلاق معاقد الإجماعات والصحيح والتعليل السابقين ، وإشعار‌ المرسل (١) به « لا يفطر الرجل في شهر رمضان إلا بسبيل حق » وخبر ابن بكير (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصيد اليوم واليومين والثلاثة أيقصر الصلاة؟ قال : لا إلا ان يشيع الرجل أخاه في الدين وأن التصيد مسير باطل لا يقصر الصلاة فيه ». وأولويته من الإتمام في سفر الصيد ، وإمكان دعوى القطع بالمساواة بينه وبين الأولين.

وقيل كما مال إليه في الروض وتبعه المقدس البغدادي باقتضائه الترخص ، بل قد يظهر من أولهما ذلك في القسم الأول من القسمين السابقين مدعيا ظهور الأدلة في الثاني منهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٧.

٢٥٨

خاصة حتى الصحيح السابق ، إذ صدره وإن كان يمكن دعوى ظهوره في الأعم لكن ذيله كالصريح في إرادة الثاني خاصة ، فيبقى الأول حينئذ منهما فضلا عما نحن فيه على مقتضى أدلة وجوب القصر على المسافر ، ضرورة صدقه عليه وإن كان عاصيا ، ولا ريب في ضعفه بالنسبة الى هذا القسم ، للقطع بإرادته من الفتاوى ومعاقد الإجماعات على وجه يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل هو مندرج في بعض النصوص أيضا ، بل هو مستفاد منها جميعها ولو بالأولوية أو المساواة لما فيها المقطوع بهما.

نعم هو لا يخلو من وجه بالنسبة إلى القسم الأخير ، لإمكان دعوى عدم صدق السفر في معصية الله عليه عرفا ، أو انسياق غيره منه ، ولا كونه ليس بحق ، إذ المراد به ما قابل الباطل ، لا المعصية كالسفر لصيد اللهو لا للقوت ونحوه ، خصوصا على ما ستسمعه من عدم المعصية في سفر صيد اللهو وإن أوجبنا التمام فيه للدليل على أحد الوجهين ، ولا ريب أن السفر للتجارة فضلا عن الحج والزيارة ليس بباطل بهذا المعنى وإن كان محرما لاستلزامه ترك الواجب الفوري بناء على اقتضائه ذلك ، ولاستلزامه وجوب الإتمام على سائر الناس إلا الأوحدي لاستلزام سفرهم غالبا لترك واجب من الواجبات ، لا أقل من ترك تعلم العلم الواجب ونحوه ، مع أن الأقوى خلافه ، إذ هو إن لم يندرج في منطوق النصوص ولم يقطع بمساواته ، لما اشتملت عليه من حيث انسياق كون المعصية سبب ذلك فهو مندرج في الفتاوى ومعاقد الإجماعات التي هي كالصريحة في دوران الترخص وعدمه على إباحة السفر بالمعنى الأعم وعدمها ، ومن المعلوم أنه بناء على النهي عن الضد يثبت عدم اندراج مثل هذا السفر في السائغ المباح واندراجه في غير السائغ لكن يسهل الخطب أن التحقيق عندنا أن النهي عن الأضداد تبعي كوجوب المقدمات على وجه لا يندرج في الأدلة هنا من النصوص ومعاقد الإجماعات وغيرها ، كما أفرغنا البحث فيه في محله.

٢٥٩

ثم من المعلوم أن المدار على كون السفر سفر معصية لا على مطلق حصول المعصية حال السفر ، فشرب الخمر حينئذ وفعل الزنا ونحوهما حاله لا تقدح في الترخص ، لإطلاق الأدلة من غير معارض ، ضرورة عدم تأديته إلى حرمة السفر نفسه ، أما لو فرض كونه كذلك كركوب دابة مغصوبة بل مطلق التصرف بمغصوب بنفس السفر حتى نعل الدابة أو رحلها وبالجملة ما يؤدي الى حرمة نفس قطع المسافة قدح فيه ، لا ما إذا لم يؤد الى ذلك وإن كان هو محرما في نفسه ، بل حتى لو كان معه شي‌ء مغصوب إلا أنه لم يتصرف فيه بنفس قطع المسافة ، كما لو كان معه متاع مغصوب أو دابة مغصوبة جعلهما عند غيره من رفقائه في الطريق أو نحو ذلك ، فتأمل جيدا فإنه قد يدق الفرق في بعض المقامات بين المقارن للقطع وبين ما يكون مقدمة للقطع أو القطع مقدمة له ، وقد علمت أن المدار على اقتضائه حرمة شخص القطع.

ثم لا فرق في سفر المعصية بين الابتداء والاستدامة ، فلو كان ابتداء سفره طاعة فقصد به المعصية في الأثناء انقطع ترخصه قطعا وإن كان قد قطع مسافات ، كما أنه يترخص لو عدل عن سفر المعصية في الأثناء إلى قصد الطاعة لكن يعتبر في هذا بقاء مسافة ، إذ لا عبرة بما مضى قطعا وإن تجاوز المسافة لفقده الشرط ، نعم صرح بعضهم هنا بالاكتفاء فيها بالتلفيق مما بقي من المقصد بعد العدول إلى الطاعة ومن العود ، بل نفى الخلاف عنه آخر ، وكأنه مناف لما ذكروه في نظائره ، كغير قاصد المسافة ابتداء ونحوه من عدم ضم ما بقي له من الذهاب الى الرجوع وإن كان هو في نفسه مسافة ، بل جعلوا للرجوع حكما مستقلا عما بقي من الذهاب بلا فرق بين قصد الرجوع ليومه وغيره ، والفرق بين المقامين مشكل ، ولعله لذا لم يعتبر الضم المزبور هنا في الروضة أيضا ، اللهم إلا أن يقال إن مقتضى الضوابط الضم في المقامين كل على مختاره في اعتبار الرجوع ليومه وعدمه ، خرج عنها في غير المقام بالدليل ، وبقي هو على مقتضاها ، وعلى‌

٢٦٠