جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وأيضا فالرجوع المأخوذ شرطا في‌ قوله عليه‌السلام : « ورجع بريدا » مطلق غير مقيد باليوم ، فيكون شغل اليوم المترتب عليه بالجزاء مطلق الشغل سواء كان بالفعل أو بالقوة ، والمعنى أنه إذا ذهب بريدا ورجع ليومه أو بعده بريدا فقد شغل يومه ، أي وجد منه ما يشغل اليوم وما من شأنه ذلك وإن لم يتحقق الشغل بالفعل ، فان شغل اليوم بالفعل مع تأخر الرجوع عنه مستحيل قطعا ، وتأويل الشرط بما يطابق الجزاء ليس أولى من العكس ، فان في كل منهما موافقة للظاهر من وجه ومخالفة له من وجه آخر ، فلا يصلح التمسك به ما لم يعلم رجحان الأول ، وهو ممنوع.

اللهم إلا أن يدفع بأن الرجوع الواقع في الشرط وإن كان مطلقا إلا أنه يجب تقييده بما كان ليومه بقرينة الجزاء الدال على شغله بالفعل ، وحمله على وجود ما يشغل اليوم ليطابق إطلاق الشرط وإن كان ممكنا إلا أن الترجيح للأول ، لقوة الدلالة في جانب الجزاء ، فيكون تحكيمه على الشرط أولى من العكس ، ولأن تقييد المطلق كثير شائع ، فهو كالتخصيص خير من المجاز ، بل هو في معناه المقدم عليه بالإجماع ، بل لعله أولى منه لعدم وضع المطلق للعموم ، فيكون تقييده أهون من تخصيص العام ، خصوصا مثل هذا المطلق الذي قيل : إنه بنفسه ينصرف إلى الرجوع في اليوم لغلبته ، وفيه أن ارتكاب هذا التقييد في المنطوق بل والمفهوم كما سمعت يتوقف على تبادر الفعلية من هذه الشرطية من دون تردد ، حتى يتعين الحمل عليها لحجية المعنى المتبادر من اللفظ وإن استلزم التقييد في المنطوق والمفهوم من وجوه فضلا عن وجه ، وهو في حيز المنع ، بل لعل المتبادر لما عرفت خلافه ، على أن أقصى ما يدل عليه بعد تقييد الرجوع باليوم هو وجوب التقصير في البريد لكونه مسافة إذا رجع فيها المسافر ليومه كان شاغلا له ، وهذا لا يدل على تحقق الرجوع في اليوم ، ولا على فعلية الشغل له ، لأن صدق الشرطية لا يتوقف على وجود الشرط والجزاء بل على وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط ،

٢٢١

ومقتضى ذلك تحقق شغل اليوم على تقدير تحقق الرجوع ، وأين هذا من القطع بتحققه في الواقع.

ودعوى أن الشرطية من حيث هي وإن كانت كذلك إلا أنها تختلف باختلاف أدوات الشرط ووجود القرائن والأدلة المقتضية ليقين الوجود والعدم وانتفائها ومن المعلوم المصرح به في علم المعاني وغيره أن « إذا » للجزم بالوقوع ، كما أن « لو » للجزم بعدمه ، و « ان » للشك ، والمراد فرض الأمر الواقع وتقديره أو الأمر المجزوم بعدمه كي يتحقق فيهما معنى الشرط الموضوعين له الذي هو بمعنى الفرض والتقدير المنافيين للقطع والجزم ، فيكون الرجوع المشروط بإذا في الموثق المزبور متحققا على ما هو الأصل في « إذا » ومن هنا عبر عنه بلفظ الماضي الذي هو أدل على التحقق من غيره ، وعطف على الذهاب المعلوم تحققه ليكون تابعا له في ذلك ، بل يؤيده أيضا أنه أولى في رفع الاستبعاد الواقع للسائل من القصر في بريد من فرض الرجوع بلا تحقق ، بل قد يقال بعدم رفعه الاستبعاد ، ومنه يعلم وضوح فساد القول بدلالة هذا الموثق على الاكتفاء في القصر بالبريد وإن لم يرجع ، وإن وقع من بعض الأعلام تمسكا بصدره وحملا للتعليل فيه على التقريب لأذهان دون التحقيق ، إذ هو كما ترى من غرائب الكلام ، لأنه ـ مع أن الأصل في العلل التحقيقية دون التقريبية ـ لا فرق بينهما في اعتبار صلاحية العلة في كل منهما في الجملة وإن افترقا بجواز تخلف الثانية كالمشقة في القصر ونحوها بخلاف الأولى ، أما مع عدم صلاحيتها للتعليل بالمرة فلا تصلح تقريبية إذ هي كالتعليل بالأمور الباطلة التي لا مدخلية لها أصلا ، وكتعليل القصر في الثمانية بأنها تكون ستة عشر ونحو ذلك ، ولا ريب في كونه من الخرافات التي يجل عنها ألفاظ أرباب الكلمات حتى لو تعسف وقيل : إن المراد من التعليل لازم المذكور في اللفظ أي المشقة لا نفسه ، فيكون التعليل تقريبيا حينئذ.

٢٢٢

يدفعها ـ بعد إمكان منع اعتبار ذلك في « إذا » أولا كما يشهد له استعمالها في العرف وغيره في الأعم من ذلك ، واحتمال اختصاصها بعد التسليم في الكلام الملاحظ فيه النكت البديعية والمحسنات البيانية وسبق بقصد إظهار القدرة على البلاغة والفصاحة لا الكلام المقصود به مجرد التفهيم ، وجار على مقتضى كلام غالب الناس وسوادهم ، بل من المحتمل أنه كلام الراوي ناقلا بالمعنى للفظ المعصوم ـ أن المنساق من هذا الخطاب اشتراط الرجوع مطلقا وإن لم يكن ليومه بتقييد إطلاق البريد في الصدر بالتعليل الظاهر في اشتراط الرجوع ، وحمل شغل اليوم فيه على مطلق الشغل دون الشغل بالفعل ، لا أن المفهوم منه الاكتفاء بالبريد من دون الرجوع أصلا ، وإن توهم أخذا بإطلاقه في الصدر وحملا للتعليل على التقريب إلى الأفهام يجعل شغل اليوم كناية عن المشقة التي هي علة تقريبية للقصر ، إذ هو كما ترى ، ولا أن المفهوم اشتراط الرجوع لليوم بتقييد إطلاق البريد بظاهر التعليل ، وتقييد إطلاق الرجوع فيه بما دل منه على شغل اليوم بالفعل ، وتقييد إطلاق المفهوم بالسير الملفق ، واستقامة الفهم واعتداله مع كثرة ممارسته لأخبارهم ومعاني كلماتهم عليهم‌السلام الشاهد على ما ذكرنا ، فتأمل وتدبر.

ومنها‌ موثق زرعة وسماعة (١) « سألته عن المسافر فيكم يقصر الصلاة؟ فقال له : في مسيرة يوم ، وذلك بريدان ، وهما ثمانية فراسخ ، ومن سافر قصر الصلاة وأفطر إلا أن يكون مشيعا لسلطان جائر ، أو خرج إلى صيد ، أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم ببيت إلى أهله لا يقصر ولا يفطر » وعن بعض نسخ الاستبصار « متبعا » بدل قوله : « مشيعا » كما أنه عن كتابي الصلاة والصوم من التهذيب « إلا أن تكون رجلا مشيعا » من دون ذكر السلطان ، وفي الصوم منه « من سافر فقصر الصلاة‌

__________________

(١) ذكر صدره في الوسائل في الباب ١ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٨ وذيله في الباب ٨ منها ـ الحديث ٤ لكن رواه عن زرعة عن سماعة.

٢٢٣

أفطر » فجعل الإفطار تابعا للقصر ، وفيه مكان قوله : « يبيت » « لا يبيت » بزيادة « لا » وعن بعض النسخ « لا يلبث » باللام موضع « لا يبيت » إذ الظاهر إرادة المسافة التلفيقية من مسيرة اليوم على أن يكون الأهل الذي يبيت عندهم الذين خرج منهم لا في القرية ، لعدم الإشعار في الرواية بأن له فيها أهلا ، ولا هي مظنة ذلك وإن كانت ملكا له ، بخلاف بلده الذي هو وطن ، فان وجود الأهل له فيه كالمعلوم بالعادة ، فيكون في قوة التصريح به في العبارة ، وقد يطلق الأهل ويراد الوطن لاتخاذ الأهل به غالبا ، وهو كثير في المحاورات ، فلا يتوقف صدقه حينئذ على وجود الأهل بالفعل ، بخلاف الملك والقرية ، فإنه لا يطلق ذلك إلا مع العلم بوجود الأهل فيهما بالفعل ، فالمراد ببيتوتته إلى أهله حينئذ في بلده ، وهو قرينة واضحة على أن المسافة بينه وبين القرية دون سير اليوم ، إذ لو كان مسيرة يوم لشغلها في الذهاب ، فلم يتأت له الرجوع إلى البلد بحيث يبيت فيه إلى أهله مع قضاء وطره من القرية ، خصوصا إذا أريد ببيتوتته إلى أهله كل الليل كما هو ظاهر اللفظ.

وأيضا لو كان المراد بلوغ المسافة بينهما مسير اليوم لزم اختصاص الحكم بنفي القصر والإفطار بنفس القرية ، فلا يتناول الطريق إليها ، لبلوغه حد المسافة الموجبة للقصر والفطر من دون قاطع في الأثناء ، ولا ريب أن الظاهر تناول الحكم للطريق ، كما يدل عليه استثناء هذا السفر من السفر الذي يجب فيه الأمران مطلقا ، ويشهد له قصد الطريق فيما قرن به من التشييع والخروج إلى الصيد ، بل الظاهر أن قوله : « لا يقصر ولا يفطر » متوجه إلى الجميع ، فيكون الحكم في الكل على نهج واحد ، وإلا لزم التفكيك الركيك ، وبالجملة فالرواية مسلطة على فهم دخول الطريق في المستثنيات كلها ، ولا يتأتى ذلك إلا إذا قصد التلفيق في الأخير ، لانقطاع المسافة حينئذ بالوصول‌

٢٢٤

إلى القرية الواقعة في الأثناء ، ويكون حاصل المراد بالرواية أن المسافر يقصر ويفطر إلا في ثلاثة مواضع : التابع للسلطان الجائر ، لأنه سفر معصية ، وقاصد للصيد للهو ، ومريد السفر إلى قريته وإن كان سفره بالذهاب والإياب ليومه يبلغ البريدين ومسيرة يوم ، لانقطاع سفره بالوصول إلى القرية ، ولولاه لكان فرضه التقصير ، وفيه ـ مع أنه محتاج في انطباقه على الأحكام المعلومة بين الأصحاب إلى تقييدات كثيرة ، وفي صحته بالنسبة إلى ما نحن فيه إلى تجشمات عديدة طويناها مخافة التطويل من غير طائل ـ انه لا يكاد يظهر منه ظهورا معتبرا في استفادة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية اعتبار الرجوع ليومه على وجه يكون شرطا لوجوب القصر ، كما لا يخفى على من مارس النصوص وراعى الانصاف ، وإن أطنب العلامة الطباطبائي في مصابيحه في بيان ذلك ، وادعى ظهوره في ذلك ، لكنه كما ترى ، فتأمل.

ومنها ما عن البحار عن شرح السنة للحسين بن مسعود أنه ذهب قوم إلى إباحة القصر في السفر القصير ، روي عن علي عليه‌السلام (١) « انه خرج إلى النخيلة فصلى بهم الظهر ركعتين ثم رجع من يومه » ولا يقدح فيه الإرسال بعد الانجبار ، ولا أنه من طرق العامة ، إذ هو ـ مع أن راويه ابن مسعود منهم المعتبر في النقل بيننا كما يومي اليه الاعتماد على كتبه في التواريخ والسير ـ منجبر أيضا بما عرفت ، ولا بأس في الموافق لفتاوى الأصحاب ولو كان من طرقهم ، خصوصا إذا كان مخالفا لما عندهم ، على أنه ورد الأمر (٢) بما يروونه عن علي عليه‌السلام ، نعم قد يخدشه أنه لم يثبت كون النخيلة على بريد من الكوفة مثلا كي يكون من المسافة التلفيقية ، بل قد يشهد ما قيل من أنها معسكر الكوفة ، وأنه خرج عليه‌السلام يوما إليها راجلا لما غضب‌

__________________

(١) البحار ج ١٨ ص ٦٨٦ من طبعة الكمباني.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٤٦ من كتاب القضاء.

٢٢٥

على أهل الكوفة لتقاعدهم عن حرب أهل الشام بأنها كانت قريبة من المصر ، فتكون الرواية مهجورة ، على أنه لو سلم كون النخيلة على بريد فصاعدا من الكوفة ـ كما يومي اليه بعض الأمارات التي ليس هنا محل ذكرها ، إذ هي وإن كانت معسكرها لكنه لا بأس ببعدها عنها لعظم المصر ، بل الظاهر من ملاحظة بعض الأخبار وغيرها أن النخيلة هي المسماة الآن بذي الكفل أو مكان قريب منه ، فتكون على بريد من المصر ـ لكن لا دلالة في الخبر على اشتراط ذلك في القصر ، بل أقصاه أنه عليه‌السلام قصر في هذا الحال ، وهو مجمع عليه ، اللهم إلا أن يستفاد من ذكر الراوي أنه رجع ليومه اعتبار ذلك ، وإلا لم تكن فائدة في ذكره ، بل يكون كذكره بعض الأمور التي لا مدخلية لها من دخول البيت ونحوه ، لكن ذلك مبني على حجية فهم الراوي خصوصا مثل هذا الراوي الذي لم نعلمه ، إذ الخبر مرسل ، ومثل هذا الفهم الذي هو بمنزلة الحكم منه إذا لم يرجع إلى تفسير لفظ أو تعين ( تعيين خ ل ) مراد أو نحوهما مما يكون فهمه حجة فيه بعد التسليم ، فاستفادة هذا الحكم من أمثال ذلك كما ترى.

ومنها ما عن كتاب الصوم من المقنع‌ المرسل (١) قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أتى سوقا يتسوق بها وهي من منزله أربع فراسخ ، فان هو أتاها على الدابة أتاها في بعض يوم ، وإن ركب السفن لم يأتها في يوم ، قال : يتم الراكب الذي يرجع من يومه صومه ، ويقصر صاحب السفن » بناء على عدم إمكان صحة ظاهره ، إذ هو دال بمنطوقه على وجوب الصوم لقاصد الأربعة الراجع لليوم ، وهو إنما يتمشى على القول بتخيير الراجع ليومه في الصلاة دون الصوم ، أو القول بسقوط اعتبار الأربعة ولو مع الرجوع لليوم مع إلغاء المفهوم على الأخير ، وهما خلاف الأقوال المعتبرة في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٣.

٢٢٦

المسألة ، والقول بهما على تقدير ثبوته مرغوب عنه.

وأيضا مفهوم الخبر يقضي باختصاص الراجع لليوم بوجوب الصوم دون غير الراجع ، وهو خلاف إجماع العلماء كافة ، بل خلاف المعلوم بالضرورة من عدم اشتراط القصر فيهما بانتفاء الرجوع لليوم عكس المشهور من اشتراط الرجوع فيه ، كما هو واضح.

وأيضا فالسائل قد سأل عن رجل خرج متسوقا ، وظاهر الحال فيه عدم الرجوع ليومه ، فالجواب غير مطابق للسؤال ، كما أنه لا يطابقه بالنسبة للصوم ، إذ ظاهر سؤال السائل الصلاة ، لأنها الغالب ، أو الأعم منها ومن الصوم ، ولا مخلص من هذه الإشكالات إلا بتقدير النفي قبل « يرجع » إما لأنه سقط من النساخ ، أو أنه كقوله تعالى (١) ( تَاللهِ َفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ) وقول امرئ القيس : « فقلت يمين الله أبرح قاعدا » أو بدعوى أن المراد من « يرجع » التمكن من الرجوع ولما يرجع مجازا من غير حذف وإسقاط ، وحينئذ تتجه دلالته على اعتبار الرجوع لليوم في الإفطار ، وفيه أنه حينئذ من المأول الذي ليس بحجة ، بل من أخس أفراده ، ودعوى أنه ظاهر في ذلك ولو بملاحظة قرائن تعذر الصحة ومخالفة الإجماع أو لمطابقته للسؤال ونحو ذلك كما ترى.

ومنها عبارة الفقه الرضوي (٢) المتقدمة سابقا التي يبنى الاستدلال بها على حجيته المفقودة عندنا.

لكن قد يقال : إن جميع هذه الاشعارات التي أشيرت ( أشير ظ ) إليها مع ملاحظة الشهرة العظيمة وإجماع الأمالي وغيره مما تقدم سابقا يكفي في حصول الظن باعتبار الرجوع ليومه ، إلا أنه لا يخفى عليك أن المتبع الدليل لا هذه الخرافات ، نعم‌

__________________

(١) سورة يوسف (ع) ـ الآية ٨٥.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٢٧

لا ينبغي ترك ما أوصينا به من الاحتياط الذي جعله الله ساحل بحر الهلكة.

ثم إنه على تقدير اعتبار الرجوع ليومه فالظاهر أن المعتبر منه قصد ذلك حين الذهاب ليتحقق حينئذ قصد المسافة التلفيقية ، ولخبر صفوان (١) عن الرضا عليه‌السلام المتضمن إرادة الرجل لحوق صاحبه حتى بلغ النهروان ، وغيره من النصوص ، فلو كان عازما على العدم أو مترددا لم يقصر وإن اتفق أنه رجع ، بخلاف الأول فإن فرضه التقصير إلى أن يذهب عزمه على الرجوع ، ولو لمانع يمنعه قهرا عليه فيتم حينئذ ، ولا يعيد ما وقع منه لقاعدة الاجزاء ، وفحوى بعض النصوص (٢) نعم لو كان قصده التلفيقية ثم تغير إلى الامتدادية بقي على التقصير كالعكس المعلوم حكمه من خبر إسحاق ابن عمار (٣) المروي عن العلل المتقدم سابقا ، وصحيح أبي ولاد (٤) عن الصادق عليه‌السلام الآتي المشتمل على السؤال عن الخروج في سفينة إلى قصر ابن أبي هبيرة وغيرهما ، ومن صدق قصد المسافة وإن لم تكن شخصية ، إذ احتمال اعتبار المشخصة في التقصير وإن توهمه بعضهم لا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، ولعلك تسمع إن شاء الله زيادة تحقيق له.

ولو تردد يوما في أقل من أربعة كثلاثة فراسخ أو أقل أو أكثر ذاهبا وجائيا وعائدا لم يجز له القصر إجماعا وإن كان ذلك من نيته إذا وصل في تردده إلى حيث يسمع الأذان ويرى الجدران ، لانقطاع المسافة حينئذ ، بل وإن لم يصل بلا خلاف أجده فيه عدا ما في التحرير من التقصير على إشكال ، وقد رجع عنه لأصالة التمام ، وعدم صدق المسافر على كثير من أفراده ، وظهور الأدلة في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٢٨

حصر المسافة بالبريدين ، أو خصوص البريد ذاهبا وجائيا ، والتعليل بشغل اليوم لم يرد منه التسرية بحيث يشمل التردد في نصف الميل أو ربعه قطعا ، وإلا كان معارضا بغيره مما دل على أن أقل المسافة بريد من النصوص الكثيرة المعتضدة بالفتاوي.

ولو كان للبلد طريقان والأبعد منهما مسافة فسلك الأبعد قصر إجماعا ونصوصا (١) إن كان لداع غير الترخص ، بل الظاهر ذلك أيضا وإن كان سلوكه له ميلا إلى الرخصة بلا خلاف أجده من غير ابن البراج ، لعدم حرمته ، ولإطلاق الأدلة أو عمومها ، واحتمال أنه كاللاهي بسفره للصيد ـ إذ قطع هذه الزيادة لا لداع كقطع تمام المسافة كذلك ، وكلاهما لهو ، بل قد يشك في صدق المسافر عليه ، فان الهائم على وجهه قاصدا للبريد والرجوع ليومه لا يعد مسافرا ـ يدفعه عدم اندراجه فيه عرفا ، بل الفرق بينهما عنده من الواضحات ، إذا الفرض وجود الداعي له في البلاد إلا أنه سلك الأبعد للترخص ، على أنا نمنع عدم صدق السفر مع فرض عدم الداعي إلا الترخص ، إذ هو مقصد صحيح عند العقلاء ، وربما تمس الحاجة إليه في بعض الأوقات ، وكذا احتمال الشك في شمول الأدلة للفرض ، فيبقى على أصل التمام ، لمنع الشك ، خصوصا مع ملاحظة اعتضاد الإطلاقات بإطلاق جملة من الفتاوى وصريح أخرى.

ولو سلك الأقرب وكان دون الأربعة أو كان ولم يقصد الرجوع ليومه بناء على اعتباره في القصر لم يقصر ، لعدم المسافة بقسميها ، فيبقى على أصل التمام ، وكذا لو سلك الأقرب ثم رجع بالأبعد ولو ليومه إلا أنه لم يكن من قصده ذلك من أول خروجه ولم يكن في نفسه مسافة ، نعم هو مع الأقرب يتلفق منه ذلك ، كما لو فرض كون الأبعد سبعة والأقرب فرسخا.

أما لو كان قصده ذلك من أول الأمر فلا يبعد عدم القصر أيضا ، اقتصارا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر.

٢٢٩

في المعتبر من التلفيق على المتيقن منه ، وهو البريد الذهابي دون غيره ، فيبقى على أصل التمام ، وإن كان يوهمه التعليل بشغل اليوم ، إلا أنك عرفت عدم إرادة التعميم منه.

ولو كان الأبعد مسافة قصر حال سلوكه له ، لحصول المقتضي وارتفاع المانع ، إذ احتمال تخصيص المسافة بالذهابية لا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، ولو فرض أن قصده الرجوع به من أول الأمر احتمل ترخصه في حال سلوكه في الأقرب وفي البلد وفي حال الرجوع به وإن لم يكن ليومه ، لتحقق قصد المسافة وزيادة من دون مراعاة التلفيق ، لكن قد يشكل التقصير قبل سلوكه أيضا ، بل جزم بالعدم في المسالك والمدارك ، بل في الرياض أنه ظاهر الأكثر وحكى عليه الإجماع بعدم مدخلية الأقرب في المسافة ، وعدم شروعه فيما يتحقق به ، ومجرد قصده الرجوع به قبل الضرب فيه غير مجد في رفع أصالة التمام كما يومي اليه عدم التقصير في قاصد دون المسافة إلى أن قطعها فقصد دون المسافة مرة أخرى وهكذا حتى بلغ مسافات إلى أن يأخذ في الرجوع فيقصر ، ولو أن ذلك مجد قبل الأخذ فيه وجب عليه التقصير عند قصده الثاني أو الثالث الذي تتحقق المسافة فيه لو رجع منها ، فتأمل ، وتسمع فيما يأتي مزيد تحقيق له إن شاء الله.

وعلى كل حال فلا ريب في أن الأحوط له الجمع حتى لو قصد الرجوع ليومه ، لظهور عدم فائدته هنا بعد فرض قصور القريب عن البريد ، وفي المسالك بعد أن حكم بعدم الترخص في الفرض قال : ومن هذا الباب ما لو سلك مسافة مستديرة ، فإن الذهاب ينتهي فيها بالمقصد وإن لم يسامت قطر الدائرة بالنسبة إلى محل المسافة ، والعود هو الباقي سواء زاد أم نقص ، هذا مع اتحاد المقصد ، ولو تعدد كان منتهى الذهاب آخر المقاصد إن لم يتحقق قبله صورة الرجوع إلى بلده عرفا ، وإلا فالسابق عليه وهكذا ويحتمل كونه آخر المقاصد مطلقا.

٢٣٠

الشرط الثاني قصد المسافة ولو تبعا نصا (١) وإجماعا بقسميه ، ولأنه المتيقن من الأدلة بل المتبادر منها ، بل هو معنى اعتبار المسافة هنا بعد الإجماع محصلا ومحكيا في المدارك على انتفاء إرادة قطعها أجمع (٢) وللمرسل (٣) الذي لا يقدح إرساله في المقام عن صفوان « سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان ، فقال : لا يقصر ولا يفطر لأنه خرج من منزله وليس مريدا للسفر ثمانية فراسخ ، وإنما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه ، ولو أنه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا لكان عليه أن ينوي من الليل سفرا والإفطار ، وإن هو أصبح ولم ينو السفر وبدا له من بعد أن أصبح في السفر قصر ولم يفطر يومه ذلك » والموثق (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج في حاجته وهو لا يريد السفر فيمضي في ذلك يتمادى به المضي حتى يمضي ثمانية فراسخ كيف يصنع في صلاته؟ قال : يقصر ولا يتم الصلاة حتى يرجع إلى منزله » بل قد يظهر بملاحظته دلالة‌ الموثق الآخر (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا ، قال : « سألته عن الرجل يخرج في حاجته فيسير خمسة أو ستة فراسخ فيأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أخرى أو ستة لا يجوز ذلك ثم ينزل في ذلك الموضع قال : لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فليتم الصلاة » إذ الظاهر منه كما عن الشيخ في التهذيبين إرادة من خرج من بيته من غير نية السفر فتمادى به المسير إلى أن صار مسافرا من غير نية ، وإنما الاعتبار بقصد المسافة لا بقطعها ، والمراد إتمام الصلاة في الذهاب.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) أي بعد الإجماع على عدم اعتبار قطعها أجمع.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣.

٢٣١

( فـ ) ظهر حينئذ من ذلك أنه لا يقصر الهائم على وجهه لا يدري أين يذهب ولا طالب الآبق ، وكذا لو قصد ما دون المسافة ثم تجدد له رأي فقصد أخرى مثلها لم يقصر وإن زاد المجموع على مسافة التقصير فان المدار كما عرفت على القصد لا القطع نعم إن عاد وقد كمل المسافة فما زاد قصر بلا خلاف أجده لتحقق القصد فيندرج حينئذ في إطلاق الأدلة أو عمومها ، ولخصوص الموثق (١) السابق وغيرهما ، ودعوى انصراف الذهابية من النصوص دون الرجوع مما لا يصغى إليها ، كما أنه لا يصغى إلى ما سمعته سابقا من احتمال ضم ما بقي من الذهاب مما هو أقل من المسافة إلى الرجوع إن كان هو وحده بالغ المسافة ، للأصل ولإطلاق النصوص والفتاوى في عدم ترخصه حتى يرجع ، بل في الرياض بعد أن نسبه إلى ظاهر الأكثر حكى الإجماع عليه ، وأدلة التلفيق واضحة القصور عن تناوله حتى لو كان الرجوع وحده مسافة.

وكذا الحكم لو طلب دابة شردت أو غريما أو آبقا في الذهاب والإياب ، لاتحاد الجميع في المدارك.

نعم يكفي قصد المسافة النوعية ولا يعتبر الشخصية ، فلو سار حينئذ قاصدا بلدا مخصوصا به تتحقق المسافة فبدا له في الأثناء وأراد المضي إلى بلد آخر يبلغ ما بقي من الوصول اليه مع ما سلف منه من السير المسافة قصر كما صرح به غير واحد ، لتحقق القصد الذي بسببه يندرج في إطلاق الأدلة المعتضد بالأصل السالم عن معارضة ما دل من النص والفتوى على التمام إذا لم يقصد المسافة ، أو رجع عنها بعد اختصاصه بحكم التبادر وغيره في غير محل البحث ، وهو ما إذا لم يقصد المسافة أصلا أو قصد الرجوع في أثنائها إلى منزله ، فما في الروض من احتمال عدم الترخص اقتصارا على المتيقن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

٢٣٢

من المسافة الشخصية ضعيف.

بل الظاهر الترخص وإن انتقل قصده إلى المسافة التلفيقية ، كما لو قصد مسافة خاصة ثم بدا له في الأثناء وأراد الرجوع إلى محله وكان قد بلغ في مسيره بريدا قصر وإن لم يكن أراد الرجوع ليومه بناء على عدم اعتباره في ذلك ، وإلا اشترط ذلك ، لتحقق المقتضي وارتفاع المانع ، وعدم قصده الرجوع من أول الأمر غير قادح بعد ما سمعت من كفاية المسافة النوعية ، على أن الرجوع مقصود له ولو بعد بلوغ مقصده الذي هو مسافة.

بل عن الشيخ في النهاية وجوب القصر على منتظر الرفقة إذا قطع أربعة فراسخ وإن لم يرد الرجوع ليومه ، مع أن مذهبه فيها عدم وجوب القصر إذا قصد في مبدء السفر التلفيق ثمانية لغير يومه ، بل التخيير ، ولعله للفرق بين المقامين بعدم ثبوت ما يوجب القصر من قصد الثمانية ولو مع التلفيق لليوم في الثاني بخلاف الأول فإنه كان قاصد الثمانية الممتدة الموجبة للقصر وإن عدل عن الجزم بها وانتظر الرفقة على الأربعة التي تكون ثمانية بالإياب ولو بغير يومه ، فيبقى حينئذ على ما وجب عليه من القصر فإنه يكفي فيه في الفرض الثمانية الملفقة ولو لغير اليوم ، ومال إليه هنا في الرياض.

ولعله للنصوص ، كصحيح أبي ولاد (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إني كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن أبي هبيرة ، وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء ، فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة ثم بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة فلم أدر أصلي في رجوعي بتقصير أم بتمام فكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال : إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريدا فكان عليك حين رجعت أن تصلى بالتقصير ، لأنك كنت مسافرا إلى أن تصير في منزلك ، قال : وإن كنت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

٢٣٣

لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريدا فان عليك أن تقضي كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تريم من مكانك ذلك ، لأنك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت ، فوجب عليك قضاء ما قصرت ، وعليك إذا رجعت أن تتم الصلاة حتى تصير إلى منزلك ».

واشتماله على ما لا نقول به من وجوب قضاء ما صلاة قصرا لمخالفته لقاعدة الاجزاء ، وصحيح زرارة (١) المعمول به بين الأصحاب لا يخرجه عن الحجية في غيره مع أنه يمكن حمله على ما لا ينافي ذلك ، كما أنه يمكن حمل ما فيه من الدلالة على فورية القضاء على أمر آخر ليس ذا محل ذكره.

وخبر إسحاق بن عمار (٢) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصروا من الصلاة ، فلما صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو أربعة تخلف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلا به فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم وأقاموا على ذلك أياما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون ، هل ينبغي لهم أن يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال : إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وإن كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة أقاموا أو انصرفوا ، فإذا مضوا فليقصروا ».

وخبر المروزي (٣) قال : قال الفقيه عليه‌السلام : « التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وجائيا ، والبريد ستة أميال ، وهو فرسخان ، فالتقصير في أربعة فراسخ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

٢٣٤

فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثنى عشر ميلا وذلك أربعة فراسخ ثم بلغ فرسخين ونيته الرجوع أو فرسخين آخرين قصر ، وإن رجع عما نوى عند ما بلغ فرسخين وأراد المقام فعليه التمام ، وإن كان قصر ثم رجع عن نيته أعاد الصلاة » بعد حمل الفرسخ والميل فيه على الخراسانيين بقرينة الراوي اللذين هما عبارة عن اثنين من الفراسخ والأميال عندنا ، وحمل المقام فيه على نية الإقامة ، فإنه لم ينفعه حينئذ نية الرجوع بعدها ، وما في ذيله من إعادة الصلاة لا يخرجه عن الحجية كخبر أبي ولاد.

لكن لم يعبأ بذلك كله المقدس البغدادي ، فلم يرخصه في التقصير إن بدا له في الرجوع ليومه فضلا عن غيره بعد ما قطع أربعة متمسكا بإطلاق الأصحاب عدم التقصير فيه وفي المتردد ومنتظر الرفقة ، إلا إذا كان ذلك منهم وقد قطعوا مسافة تامة ثمانية فراسخ ، لعدم اعتبار التلفيق من الإياب هنا إذا لم يكن مقصودا من قبل ، بل إنما تعلق به القصد عند إرادة الرجوع بل هو في المتردد والمنتظر لم يتعلق به القصد أصلا ، وقصد الإياب ولو بعد أيام أو سنين وأعوام غير مجد في تحقق المسافة عند الأصحاب كي يقال إنه كان قبل رجوعه أو تردده للمسافة سببان قصد الامتدادية والتلفيقية ، فلما بطل السبب الأول بقي الثاني ، وفيه أولا أنه غير تام بناء على ما ذهب إليه ابن أبي عقيل وغيره من الاكتفاء بقصد الإياب ولو بعد السنين ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع ، وقد عرفت قوته سابقا ، بل هذه النصوص ظاهرة فيه أو صريحة كما أشرنا إليه سابقا ، وثانيا أنه قد سمعت كفاية المسافة النوعية في القصر ، ودعوى إنكار مثل هذا التلفيق بعد أن لم يكن مقصودا من أول الأمر مسافة حتى يثمر العدول إليه في بقاء التقصير يدفعها ما سمعته من النصوص السالمة عن المعارض هنا ، حتى ما دل على عدم الترخص لغير قاصد المسافة أو المتردد في الأثناء قبل البلوغ بعد انسياق غير محل البحث منه ، كالنصوص الدالة على حصر المسافة في الثمانية المراد منها قصدها‌

٢٣٥

لا القطع ، ولذا مال إليه في الرياض أو قال به في الفرض مع أنه ممن لم يعين القصر والتلفيق لغير يوم الذهاب ، لا أقل من الشك في شمول أدلة الطرفين له ، فيبقى استصحاب تعين القصر عليه سالما عن المعارض ، نعم لا ينبغي الشك في عدم الترخص له لو نوى الرجوع أو تردد أو انتظر اتفاق الرفقة قبل بلوغ المسافة ولو التلفيقية ، كما لو حصل ذلك قبل الوصول إلى أربعة فراسخ ، للنصوص السابقة وظهور الاتفاق ، بل عن بعضهم دعواه صريحا على اعتبار عدم نقض العزم على المسافة في بقاء الترخص له ولو بالتردد ونحوه ، نعم لا يقدح الجنون والإغماء ونحوهما مما لا يعد نقضا للعزم ، ومن ذلك كله ظهر لك الحال في قول المصنف ولو خرج ينتظر رفقة إن تيسروا سافر معهم فان كان ما أراد انتظارهم فيه على حد مسافة قصر في سفره وموضع توقفه لتحقق القصد إلى مسافة فيه وإن كان دونها أتم حتى يتيسر له الرفقة ويسافر لكن يجب إرادة الأعم من التلفيقية من المسافة في المتن لو أردنا تنزيله على المختار ، كما أنه ظاهر أو صريح في أن الحكم المذكور إذا لم يكن جازما بمجي‌ء الرفقة أو عازما على السفر بدونهم ، وإلا قصر بمجرد خروجه عن محل الترخص ما لم ينو إقامة عشرة أيام ، أو يمضي له ثلاثون يوما مترددا ، وفي إلحاق الظن بمجيئهم بالجزم به وجهان ، أقواهما عدم الترخص للأصل ، كالظن في السفر بدونهم ، خلافا للذكرى فجعل غلبة الظن بذلك كالجزم ،

ولو تيسر له الرفقة فعزم على السفر اعتبر في جواز الترخص له بلوغ ما بقي من الذي أراد قطعه مع الرفيق مسافة ، لعدم اعتبار ما قطعه أولا حال خلوه عن الجزم بقصد المسافة ، فلا يضم حينئذ إليه ، بل هو كقطع طالب الآبق ونحوه ،

نعم لو قصد مسافة ثم تردد في أثنائها ولم يقطع بعد التردد شيئا ثم عاد الى الجزم رجع الى الترخص وإن صلى تماما أياما واكتفى ببلوغ ما قطعه وما بقي مسافة ، لتناول‌

٢٣٦

الأدلة حينئذ له ، بل الظاهر عدم احتياجه الى الضرب في الأرض ، لأنه ليس سفرا جديدا ، بل هو رجوع عين القصد الأول ،

أما لو قطع حال التردد جملة ثم رجع الى الجزم احتمل اعتبار بلوغ ما بقي مسافة في ترخصه ، لذهاب حكم ما قطعه أولا بالتردد ولو في بعضه ، ويحتمل ولعله الأقوى الاكتفاء ببلوغ ما قطعه حال الجزم وما بقي مسافة ، وإسقاط ما تخلل بينهما مما قطعه حال التردد ، أو العزم على الرجوع ، وأما احتمال الاكتفاء ببلوغ المجموع مسافة حتى ما قطعه حال التردد لرجوع القصد الأول الذي كان سببا في القصر فضعيف جدا كما هو واضح ،

ثم لا فرق في اعتبار قصد المسافة في الترخص بين التابع وغيره ، سواء كانت التبعية لوجوب الطاعة كالزوجة والعبد والولد أو لا ، بل كانت اختيارية كالخادم ونحوه ممن لا ولاية شرعية للمتبوع عليه أو قهرية كالأسير والمكره ونحوهما ممن أخذ ظلما ، لإطلاق الأدلة نصا وفتوى ، وما في الدروس وغيرها من أنه يكفي قصد المتبوع عن قصد التابع يراد منه كفاية ذلك بعد بناء التابع على التبعية وإناطة مقصده بمقصد متبوعة ومعرفته به ، فإنه حينئذ يتحقق قصده المسافة بذلك ، لا أنه يكفي وإن لم يكن التابع قاصدا له كما لو عزم على مفارقة متبوعة ، لعدم الدليل بالخصوص ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، حتى لو كان التابع ممن يجب عليه إطاعة المتبوع كالعبد والزوجة ، فإنهما لو كان من نيتهما الإباق والنشوز قبل بلوغ المسافة لم يترخصا ، ونص جماعة من الأصحاب على التابع ليس لأن له حكما مستقلا ثابتا بدليل مخصوص ، بل المراد التنبيه على اندراج مثله فيما تقدم من القاصد مسافة وإن كان قصده لها انما هو لقصد متبوعة لا لغرض متعلق به ، لا أن المراد أن له حكما بخصوصه كما لا يخفى على المتأمل لكلماتهم ،

فالمدار حينئذ على تحقق قصدهم المسافة بل عن نهاية العلامة « أنهما متى احتملا‌

٢٣٧

العتق والطلاق قبل بلوغ المسافة وعزما على الرجوع بحصولهما أتما » وقربه الشهيد إن حصلت إمارة لذلك وتبعه في مجمع البرهان والرياض ، قال في الذكرى « وإلا فالظاهر البناء على بقاء الاستيلاء وعدم دفعه بالاحتمال البعيد » وإن كان ضعف الأول واضحا ، ضرورة عدم منافاة مثل هذا الاحتمال لقصد المسافة فعلا ، كما أنه لا ينافي الاستدامة على العمل في سائر ما تعتبر فيه من العبادات ، فمن صام ناويا للصوم وعازما عليه لم يقدح في صحة صومه بناؤه من أول الأمر على القطع عند عروض المانع منه ، ولا تردده في حصول المبطل قهرا له.

بل قد يقال بعدم قدحه لو تردد فيه وكان احتمال العروض والعدم على حد سواء ، لصدق قصد المسافة قبل العروض ، وللاستصحاب ، بل وكذا لو كان احتمال العروض أقوى أيضا ، فمن سافر قاصدا للمسافة وعازما عليها إلا أنه يظن عروض اللصوص في طريقه الذين بسببهم يتردد في سفره أو يقصد الرجوع قصر فيه ، بل يمكن القول بذلك حتى لو علم العروض ، إذ القاطع لقصد المسافة نقض القصد الأول فعلا لا العلم بحصول ما يقتضي النقض فيما يأتي من الزمان ، وأوضح منه لو فرض عروض العلم بذلك له في الأثناء ، اللهم إلا أن يقال إنه لا يتصور الاستمرار على القصد معه ، كما أنه لا يتصور أصل القصد إلى المسافة لو كان ذلك معلوما له من أول الأمر ، وهو أمر آخر غير ما نحن فيه ، مع أنه يمكن منعه خصوصا في الأول ، وإلا لنفاه التردد أو الظن.

ومن ذلك كله ظهر لك ما في تقييد الشهيد ، إذ حصول الامارة لا ينافي التبعية المقصودة فعلا المقتضية للعزم على مسافة المتبوع والقصد إليها ، ولعله لذا أطلق الفاضل في المنتهى على ما حكي عنه قصر الزوجة والعبد وإن عزما على الرجوع بعد ارتفاع اليد عنهما ، بل وظهر ما في كلامه في الذكرى أيضا من أنه لو بلغه خبر عبده أو غائبة في بلد يبلغ مسافة فقصده جزما فلما كان في أثناء الطريق نوى الرجوع إن ظفر به قبل‌

٢٣٨

البلد ، فهو حينئذ في حكم الراجع عن السفر ، فان كان قد قطع المسافة لم يخرج عن السفر ، وإلا خرج ، مع أنه كان عليه تقييده بما إذا قامت إمارة لذلك لا مجرد الاحتمال أو الفرض كما هو واضح.

نعم يعتبر علم التابع بقصد المتبوع مسافة كما صرح به في الذكرى والروض ومجمع البرهان وغيرها كي يتحقق قصده الى ذلك عند الانحلال ، أما لو جهله واحتمل كون مقصد المتبوع غير مسافة لم يترخص ، لعدم حصول الشرط ، إذ إناطة قصده بقصد متبوعة مع فرض الجهل به واحتمال كونه غير مسافة لا تجدي في تحققه وفي صدق كونه قاصد مسافة ، وإلا لصدق على طالب الآبق ونحوه الذي في علم الله انه لا يصيبه حتى يقطع مسافات أنه قاصد مسافة مما هو معلوم البطلان ، فحينئذ يتم وإن قطع مسافات ، إذ قد عرفت أن تبين كون قصد المتبوع مسافة بعد ذلك لا يوجب القصر حال الجهل ولا حال العلم ، لأن الشرط قصد المسافة ابتداء ، وفي وجوب تعرف قصد المتبوع بالسؤال عنه ونحوه وعدمه وجهان ، مقتضى الأصول الثاني كما أن مقتضاها أيضا عدم وجوب الاخبار والتعريف على المتبوع حتى لو سئل واستخبر فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو من مزلقة للإقدام والعلم عند الملك العلام.

الشرط الثالث لأصل وجوب القصر على حسب ما سمعته وتسمعه من الشرائط المذكورة في هذا المقام ، لا أنه شرط للاستمرار على القصر من بينها ، كما هو ظاهر اللمعة بقرينة ذكره مضي الثلثين يوما الذي لا يتصور فيه إلا شرطية الاستمرار ، بخلاف المصنف الذي اقتصر على الإقامة والمرور بالمنزل الذين يتصور شرطيتهما في أصل القصر على معنى أن لا ينوي في ابتداء قصده المسافة أنه يقطع السفر بإقامته عشرة كاملة ولو بالتلفيق ، أو مرور بمنزلة الذي يخاطب بالتمام فيه في أثنائه كما صرح به في الروضة والروض ومجمع البرهان وغيرها ، بل لا أجد‌

٢٣٩

فيه خلافا فلو عزم على مسافة وفي طريقه ملك له قد استوطنه ستة أشهر أتم في طريقه لعدم قصده المسافة المتصلة التي علم من الأدلة إيجابها خاصة القصر ، فيبقى حينئذ على أصالة التمام فيه وفي نفس ملكه الذي ستعرف ما يعتبر في وجوب التمام فيه وان كان التمام فيه في الجملة إجماعيا والنصوص به مستفيضة أو متواترة وكذا الحكم لو نوى الإقامة في بعض المسافة فإنه يتم في طريقه لأصالة التمام السالمة عن المعارض هنا بعد انسياق ما لا يشمل الفرض من أدلة القصر ، والمعتضدة بعدم الخلاف في ذلك نقلا في الرياض وغيره وتحصيلا ، بل فيه أن عليه وعلى سابقه الإجماع في عبائر جماعة حد الاستفاضة في الأول ، ودونه في الثاني ، ويتم أيضا في محل ما نوى الإقامة فيه إجماعا ونصوصا (١) مستفيضة أو متواترة ، لكن من المعلوم أنه يعتبر في ذلك بقاؤه على عزم الإقامة ، أما لو عدل عنها قبل الوصول الى محلها قصر إذا ضرب في الأرض وكان ما قصده من حين العدول يبلغ مسافة ، إذ لا عبرة بما قطعه أولا حال العزم على الإقامة ، فلا يتلفق منه المسافة ، نعم يبقى على التمام إذا لم يضرب في الأرض بعد عدوله أو كان ما عدل اليه لا يبلغ مسافة ، لانتفاء الموجب للقصر حينئذ ، وكذا لو عدل عن القصد الى المرور بمنزلة الذي في الأثناء قبل الوصول اليه ، فيكونان حينئذ كمن وصل الى محل الإقامة وأتمها فيه ، ومن وصل الى منزله ثم أراد أن يسافر ، فإنهما لا يقصران حتى يجتمع الشرطان المزبوران.

نعم قد يفرق بين محل الإقامة والمنزل باعتبار الخروج عن محل الترخص في القصر في الثاني دون الأول كما عن العلامة التصريح به ، مع احتماله كما في الذكرى ، بل اختاره في المسالك وظاهر الروض ، لأنه صار كبلدة ، كما في‌ صحيح (٢) القادم قبل التروية بعشرة أيام ، قال فيه « وجب عليه التمام ، وهو بمنزلة أهل مكة ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

٢٤٠