جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

على ما حكي عن بعض المتأخرين ممن ألف في ضبط المقادير ، فإنه حينئذ ينقص عن المقدار المزبور ألف وخمسمائة إصبع ، إذ مثل هذه النقيصة والزيادة مما يتسامح فيها.

ولعل ذلك أولى مما عن المهذب من طرح الخبر المزبور ، قال : « للميل تقديران مشهوران ، شرعي وهو أربعة آلاف ذراع باليد ، وفي بعض الروايات ثلاثة آلاف وخمسمائة ، وهي متروكة ، ووضعي وهو قدر مد البصر في الأرض المستوية لمستوي البصر » وأولى مما حكاه في المصابيح عن جماعة من التحديد بذلك ، قال : وصححه ابن عبد البر ، وذكر غيره أنه المطابق لتحديد ما بين مكة ومنى والمزدلفة وعرفة ، وما بين مكة والتنعيم والمدينة وقبا ، ضرورة مخالفة ذلك للمعروف بين العلماء كما عرفت.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر أن الأذرعة أربعة : ذراع القدماء وهي اثنان وثلاثون إصبعا عبارة عن ثمان قبضات ، وذراع المحدثين وهي ست قبضات أربعة وعشرون إصبعا ، وذراع بعض الأكاسرة وهي سبع قبضات ثمانية وعشرون إصبعا ، والذراع الأسود الذي حدث في الدولة العباسية أو هي والأموية سبع وعشرون إصبعا ومنه يظهر وجه مناسبة حمل الخبر المزبور عليه ، لكن في السرائر عن المسعودي في كتاب مروج الذهب أنه قال : « الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الأسود ، وهو الذي وضعه المأمون لذرع الثياب ومساحة البناء وقسمة المنازل ، والذراع أربعة وعشرون إصبعا » وعليه تكون الأذرعة ثلاثة ، إلا أن الظاهر خلافه إن كان المراد بها ما في أيدي الناس الآن من الذراع الحديد ، إذ هي تزيد على ذلك قطعا.

كما أنه ينبغي القطع بسهو ما في الفقيه من رواية الخبر المزبور « ألف وخمسمائة ذراع » بدل « ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع » لمخالفته لما عليه العلماء من الفقهاء وأهل اللغة ، بل ولما يشاهد بالوجدان كما قيل بين الجبلين المسميين بعير ووعير.

وعلى كل حال فالمراد بالإصبع عرضه لا طوله ، وقدر بسبع شعيرات من وسط‌

٢٠١

الشعير متلاصقات بالسطح الأكبر أي يوضع بطن كل واحدة على ظهر الأخرى ، وربما قيل ست ، وكأنه لاختلاف الشعير أو الوضع أو الأصابع ، وقدر عرض كل شعيرة بسبع شعرات من أوسط شعر البرذون.

ثم لا فرق مع ثبوت المسافة بالمساحة بين قطعها في يوم أو أقل وإن كثر ، للصدق ، إلا أن يتمادى فيه بما يخرجه عن صدق اسم المسافر ، كما إذا قطع في كل يوم مرمى سهم للتنزه ونحوه وإن كان القصد البلوغ إلى المقصد ، فيتم كما في الذكرى ، للشك في شمول الأدلة له ، فيبقى استصحاب التمام سالما ، نعم لو لم يخرجه ذلك عن اسم المسافر بأن كان ذلك لصعوبة المسير مثلا كما إذا كان السير في الماء على خلاف مجراه قصر.

ولو قارب المسافر بلده فتعمد ترك الدخول إليها للترخص ولبث في قرى متقاربة يخرج بها عن اسم المسافر ففي الذكرى أن ظاهر النظر يقتضي عدم الترخص ، ولعله لعدم صدق المسافر عرفا أو الشك فيه ، لكن على الثاني يتجه استصحاب القصر ، بل قيل : وعلى الأول أيضا ، لانحصار انقطاع السفر في القواطع الثلاثة ، وفيه أنه كذلك مع بقاء صدق اسم المسافر عليه.

ومن ذلك ينقدح الشك في صدق المسافر أيضا في القاطن بنفسه أو بعياله في مكان واحد لا ملك له فيه سنين متعددة لا بقصد الوطنية ، وإن كان هو المأوى له والمقر حتى يحتاج في إتمام صلاته فيه إلى نية الإقامة فيه أو التردد ثلاثين يوما ، وإلا قصر فيه إذا لم يحصل شي‌ء منهما ولو بلغ ذلك إلى خمسين سنة أو أزيد كما وقع من بعض علماء العصر من غير إنكار من الباقين عليه ، ولعله لانحصار قواطع السفر في الثلاثة المعلومة ، لكن لا ريب في أن الاحتياط خلافه بناء على ما سمعت من اعتبار صدق المسافر أيضا ، فالأولى حينئذ الجمع بين القصر والإتمام في أمثال ذلك.

وكذا لا فرق في المسافة بين البر والبحر ، فإذا قصد الثمانية في أحدهما قصر‌

٢٠٢

وإن بلغ في الآخر فرسخا أو أقل بلا خلاف أجده فيه كما عن المنتهى الاعتراف به ، لإطلاق النصوص والفتاوى.

ومبدأ تقدير المسافة أول آنات صدق اسم المسافر عليه ، والظاهر حصوله عرفا بالخروج عن خطة البلد كحصنه إذا لم يكن خارق المعتاد في السعة وإن كان بين بساتينه ومزارعه لا قبله ، خلافا للمحكي في الدروس عن علي بن بابويه من الاكتفاء بالخروج من المنزل ، فيقصر حتى يعود اليه ، ولا عبرة بالإعلام والأسوار ، لعدم صدق السفر بعد حتى تجري عليه أحكامه ، إذ أول آنات صدقه ما ذكرناه ، واحتمال أن العبرة بالخروج عن محل الترخص لانقطاع حكم السفر بالدخول فيه فيكون هو مبتدأة كما هو ظاهر الشهيد يدفعه حرمة القياس بعد اختصاص ذلك بالدليل الذي أخرج بسببه عما يقتضيه صدق اسم المسافر ، وضعف الاشعار المزبور ، ودعوى كشف ذلك الدليل عن عدم صدق اسم المسافر عليه حينئذ لا أنه (١) أخرجه عن الحكم خاصة مع بقاء الصدق عليه فيكون إطلاق اسم المسافر حينئذ في مثل هذا العرف من اشتباهاته أو تسامحاته عارية عن البرهان مخالفة للوجدان ، ولو سلمت فأقصاها الخروج عن الاسم في منتهى السفر لا في ابتدائه ، كدعوى ملازمة وجوب التقصير عليه الذي لا يكون إلا بالخروج عن محل الترخص لتقدير المسافة ، إذ هي كما ترى لا شاهد عليها أيضا ، فإن الخطاب بالتقصير شي‌ء وتقدير المسافة شي‌ء آخر ، فتوقف الأول على الخروج عن محل الترخص للدليل لا يستلزم الثاني ، فتأمل جيدا.

ولو كان خارجا عن البلد أو محل الترخص منها ثم قصد السفر كفاه الضرب بالأرض ، أما البلاد العظيمة المتسعة فقد صرح غير واحد بأن مبدأ التقدير فيها الخروج عن المحلة نفسها أو محل الترخص بالنسبة إليها على الوجهين السابقين في البلاد المعتادة ، لأنه به يتحقق اسم السفر والضرب في الأرض وإن كان هو مسيرة بين الدور من غير‌

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « لأنه » والصحيح ما أثبتناه.

٢٠٣

حاجة إلى الخروج عن حصن البلاد ، ولا يخلو من تأمل ، سيما في مثل البلاد المتصلة محالا ودورا ولها حصن ، لا ما كانت كأصبهان على ما قيل من تباعد المحال والدور وعدم السور ، فان التأمل فيه أضعف ، واحتمال كون الجميع كالسفر من منازل الأعراب المتحقق بمجرد الخروج عن الحي وإن كان أول الأحياء يدفعه ـ بعد تسليمه في المقيس عليه ، وصحة القياس ـ حصول الصدق فيه دونه ، وهو المدار ، لعدم النص بالخصوص كاحتمال توجيهه أنه لما لم يكن مثله متبادرا من الإطلاقات وجب الرجوع فيه إلى المتبادر المنساق منها ، وهو غير المتسع ، كالرجوع في وجه غير مستوي الخلقة إلى مستويها ، إذ هو مع أنه كما ترى مقتضاه كون العبرة بالمحلة إذا وافقت آخر البلد المعتدل تقديرا لا مطلقا كما يوهمه إطلاقهم ، اللهم إلا أن يدعى أنه الغالب الذي ينصرف الإطلاق اليه ، وعلى كل حال فالاحتياط ولو بالجمع بين القصر والإتمام الذي هو الأصل لا ينبغي تركه فيه وفي مثل المنزل المرتفع أو المنخفض أيضا ، وإن قال في الدروس : إنه يقدر فيه التساوي ، لعدم مدرك تطمئن النفس له به ، إذ ليس إلا إلحاقه بالغالب في البلاد.

ثم لا ريب في توقف القصر على العلم ببلوغ المقصد مسافة ولو بالشياع المفيد للنفس الاطمئنان الذي يجري مجرى اليقين الخالص عن الاحتمال قريبه وبعيده عند الناس ، ولعله لذا عطفه غير واحد من الأصحاب على العلم ، وإلا فاحتمال الاكتفاء به وإن لم يفد ذلك بل كان مفاده الظن لا دليل عليه ، بل ظاهر حصر المواضع المعتبر فيها الشياع في غيرها خلافه ، وما في الروض من احتمال العمل هنا بمطلق الظن القوي لأنه مناط العمل في كثير من العبادات لا شاهد له ، كاستظهاره أيضا أن الشياع المتاخم للعلم بمنزلة البينة ، بل ربما كان أقوى ، فيجوز التعويل عليه عند الجهل ، إلا أن يريد ما ذكرناه ، نعم تقوم البينة مقام العلم بلا خلاف معتد به أجده فيه ، لعدم اشتراط قبولها بالتداعي بين يدي الحاكم كما لا يخفى على المتتبع لكلمات الأصحاب في المقام وغيره.

٢٠٤

فما عن الذخيرة من التوقف في ذلك في غير محله ، بل في الذكرى والروض احتمال الاكتفاء بالعدل الواحد ، ومال اليه بعض علماء العصر ، لإطلاق أدلته ، وقبوله في الأعظم من ذلك ، وعدم كون ما نحن فيه من باب الشهادة ، وهو لا يخلو من قوة وإن كان ظاهر اعتبار الأصحاب البينة ينفيه.

ولو تعارض البينتان ففي الذكرى وعن المصنف تقديم بينة الإثبات ، لأن شهادة النفي غير مسموعة ، وفيه أن كلا منهما مثبت لو فرض استنادهما إلى الاعتبار مثلا ، كما لو قال أحدهما اعتبرتها فوجدتها ثمانية ، والآخر سبعة ، فلا يبعد مع فقد الترجيح التخيير أو الاحتياط أو الرجوع إلى أصل التمام ، ولعله الأقوى ، إذ هو حينئذ كالشاك الذي فرضه التمام بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في الرياض لا التخيير وإن أوهمه كلام المقدس البغدادي للأصل.

فلو صلى حينئذ قصرا أعاد وإن ظهر بعد ذلك أنه مسافة ، إلا إذا فرض التقرب منه مع مصادفة الواقع ، نعم في وجوب الاعتبار عليه وجهان ، من أصل البراءة ، ومن توقف الامتثال عليه ، ولعل الأقوى وجوب ما لا عسر ولا حرج فيه وضرر كالسؤال وغيره عليه.

ولو صلى تماما ثم ظهر أنه مسافة ففي المدارك والرياض لم يعد لقاعدة الاجزاء ، وفيه بحث ، خصوصا إذا كان في الوقت ، للفرق بين الأمر حقيقة وبين تخيل الأمر ، وما نحن فيه من الثاني لا الأول ، اللهم إلا أن يدعى أن مقتضى أدلة الاستصحاب كونه من الأول ، ولتحريره مقام آخر.

ولو ظهر في أثناء السير أن المقصد مسافة قصر وإن لم يكن الباقي مسافة ، لتحقق المقتضي من قصد المسافة ، وعدم اعتبار سبق العلم بها ، فليس هو كالمتردد في السفر الذي لم يتحقق منه قصد أصلا ، وإن احتمله في الروض ، لكنه ضعيف جدا كما‌

٢٠٥

اعترف به هو ، وهل مثله لو سافر الصبي إلى مسافة فبلغ في أثنائها أو المجنون الذي يتحقق منه قصد لثمان حينئذ؟ جزم في الروض به ، ولا يخلو من إشكال ، ومع الاختلاف في المسافة عمل كل منهم بمقتضى عمله ، فيتم البعض ويقصر الآخر ، بل لبعضهم الائتمام ببعض ، لصحة الصلاة ظاهرا لكن قد يتجه العدم بناء على عدم جواز الاقتداء مع المخالفة بالفروع ، إلا أن الشهيدين هنا صرحا بالجواز ، مع أن المحكي عنهما المنع هناك ، والفرق بين المقامين مشكل كما اعترف به في المدارك ، بل لعل ما نحن فيه أولى بالمنع‌ ولو كانت المسافة أربعة فراسخ أو خمسة فصاعدا إلى ما دون الثمانية وقصدها وأراد العود ليومه فقد كمل مسير يوم بذهابه ببريد وإيابه ببريد ووجب القصر حينئذ بلا خلاف معتد به أجد فيه ، بل عن الأمالي أنه من دين الإمامية ، بل نص عليه أكثر الأعيان من الأصحاب إن لم يكن جميعهم ، بل هو ظاهر الجميع عدا الشيخ في كتابي الأخبار اللذين لم يعد الاستبصار منهما للفتوى فخير بينهما فيهما ، وإلا فقد نص على تعيين القصر في غير موضع من مبسوطة ونهايته ، وما في الذكرى ـ من حكاية التخيير عن المبسوط وكتاب الصدوق الكبير ، ثم قواه هو ـ لم نتحققه ، بل المتحقق خلافه ، كما أن ما في الروضة أيضا ـ من نسبة التخيير إلى جماعة ، وفي خصوص الصلاة إلى آخرين كذلك ـ لم نتحققه أيضا ، وقصر أبي المكارم المسافة المسوغة للقصر في الثمانية لا غير كالمحكي عن أبي الصلاح محتمل ، أو ظاهر في إرادة ما يشمل الملفقة من الذهاب والإياب ليومه ، ولذا لم يذكرهما أحد مخالفين هنا ، فانحصر الخلاف حينئذ في كتابي الشيخين مع أنهما ليسا بتلك الصراحة أيضا ، لاحتمال إرادة التخيير لمن لم يرد الرجوع ليومه كما هو المشهور بين قدماء الأصحاب على ما ستعرف.

وإن أبيت ذلك فهما محجوجان بالنصوص المعتبرة سندا ودلالة ولو بملاحظة‌

٢٠٦

إطباق الأصحاب على إرادة هذا الفرد منها ، كصحيح زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام « التقصير في بريد ، والبريد أربعة فراسخ » ومرسل الخزاز (٢) المتقدم آنفا ، وصحيح الشحام (٣) سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « يقصر الرجل الصلاة في مسيرة اثني عشر ميلا » والصحيح عن الهاشمي (٤) سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن التقصير ، فقال : في أربعة فراسخ » وخبر أبي الجارود (٥) « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فيكم التقصير؟ فقال : في بريد » وخبر ابن عمار (٦) قال لأبي عبد الله عليه‌السلام أيضا : « فيكم أقصر الصلاة؟ قال : في بريد ، ألا ترى أن أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير؟ » وخبر إسحاق بن عمار (٧) أيضا « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فيكم التقصير؟ فقال : في بريد ، ويحهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقصروا » والصحيح (٨) أيضا « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات ، قال : ويلهم أو ويحهم وأي سفر أشد منه ، لا تتم » والخبر (٩) عنه عليه‌السلام أيضا « أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا ، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا » وفي آخر (١٠) عنه عليه‌السلام أيضا « إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجا قصروا ، وإذا زاروا ورجعوا إلى منازلهم أتموا » وصحيح زرارة (١١) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التقصير ، فقال : بريد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٥.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٦.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ١.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ـ ٧.

(١٠) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٨.

(١١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤ وفي الوسائل عن أبى عبد الله عليه‌السلام ولكن الصحيح هو ما ذكره في الجواهر فان المذكور في الفقيه الذي هو مصدر الحديث كذلك.

٢٠٧

ذاهب وبريد جائي ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتى ذبابا ، قصر وذباب على بريد ، وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ ».

وخبر إسحاق بن عمار (١) المروي عن العلل وغيرها « سألت أبا الحسن موسى ابن جعفر عليهما‌السلام عن قوم خرجوا في سفر لهم فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصروا من الصلاة ، فلما أن صاروا على رأس فرسخين أو ثلاثة فراسخ أو أربعة تخلف منهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلا به ، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم ، وهم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم ، وأقاموا على ذلك أياما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون هل ينبغي لهم أن يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ أقاموا أم انصرفوا ، وإن كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة ما أقاموا ، فإذا مضوا فليقصروا ، ثم قال عليه‌السلام : هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت : لا أدري ، قال : لأن التقصير في بريدين ، ولا يكون التقصير في أقل من ذلك ، فلما كانوا قد ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا كانوا قد ساروا سفر التقصير ، وإن كانوا قد ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة ».

وصحيح عمران بن محمد (٢) « قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : جعلت فداك إن لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ ، فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام فأتم الصلاة أم أقصر؟ قال : قصر في الطريق وأتم في الضيعة » بناء على حمل الأمر فيه بالإتمام في الضيعة على التقية ، لعدم إيجابها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤.

٢٠٨

بنفسها القصر عندنا كما ستعرف ، فيكون القصر فيه حينئذ للتلفيق.

وصحيح ابن وهب (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أدنى ما يقصر فيه الصلاة ، فقال : بريد ذاهبا وبريد جائيا » وموثق محمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « سألته عن التقصير قال : في بريد ، قال : قلت : بريد ، قال : إنه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا شغل يومه » إلى غير ذلك من النصوص المروية في الكتب الأربعة وغيرها الظاهرة فيما ذكرنا إن لم تكن صريحة ، وحملها على التخيير لو سلمنا قبول بعضها له فلا ريب في عدم قبول الآخر له كأخبار مكة ونحوها.

واحتمال إرادة الويل والويح فيها على التزامهم بالتمام وعدم مشروعية القصر تبعا لما سنه عثمان وتبعه معاوية ـ بعد أن التمس على ذلك وباقي الأمراء كما رواه زرارة في الصحيح (٣) عن الباقر عليه‌السلام مفصلا لا على أصل الجواز ، ولذا لم يفت أحد بمضمونها من وجوب التقصير إذا لم يرد الرجوع ليومه ، ضرورة كونهم حجاجا إلا النادر ، بل أعرضوا عنها أو حملوها على ما ذكرنا ـ ممكن في خصوص هذه الأخبار مع عدم صراحة بعضها في كونهم حجاجا ، ودعوى قابلية الجميع عداها للحمل على التخيير ولو بمخالفة الظاهر ممنوعة كل المنع.

على أنه لا داعي إلى ارتكاب هذه التعسفات ، ولا شاهد على هذه التأويلات سوى معارضتها لأخبار الثمان ومسير يوم المتقدمة سابقا ، والجمع بينها بإرادة ما يشمل الملفقة من الثمان كما شهدت به النصوص التي سمعتها أولى من الحمل على التخيير من وجوه بعد اشتراكهما في منافاة الظاهر ، ضرورة تبادر تعيين كون المسافة ثمانية ذهابية ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر الحديث ٩.

٢٠٩

خصوصا‌ مرسل ابن بكير (١) منها عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يخرج من منزله يريد منزلا آخر أو ضيعة له أخرى قال : إن كان بينه وبين منزله أو ضيعته التي يؤم بريدان قصر ، وإن كان دون ذلك أتم » ولو لا إشارة ما سمعته من النصوص السابقة إلى الجمع بينهما بإرجاع المسافة الرباعية للثمانية بإرادة التلفيقية لكان المتجه العمل بكل منها من دون إرجاع بعضها إلى بعض ، فيكون إثبات كون المسافة ثمانية ذهابية من النصوص الأولة ، وتلفيقية على الوجه المفروض من الثانية ، ولعلنا نلتزمه فيما لا يقبل إرادة الملفقة من الثمانية ، لظهوره أو صراحته في ذلك ، كما أنه ينبغي التزام طرح ما يدل على عدم جواز القصر والإفطار فيما دون الثمانية الذهابية ، أو تأويله ولو بعد فيه.

وعلى كل حال هو أولى من التخيير العاري عن الشاهد ، بل المخالف للشواهد كما هو واضح ، فميل الشهيدين حينئذ إليه في الذكرى والروض وسيد المدارك في غير محله ، وإن ظن ثانيهم أن القول بالتخيير في مريد الرجوع ليومه وغيره من خواصه ، متخيلا أن الشيخ يخص التخيير بالأول ، وإلا فهو يعين التمام في الثاني ، وملاحظة كتابي الشيخ تشهد بفساد زعمه ، وأن الشيخ قائل بالتخيير مطلقا ، فيتجه حينئذ الرد على الجميع بما سمعت من عدم الشاهد وغيره ، ورفع الجناح في الآية بعد ورود الصحيح (٢) في إرادة الأمر منه لا يصلح شاهدا له ، وإلا لاقتضى التخيير في الثمانية الذهابية المجمع على عدمه عندنا كما ستسمع إن شاء الله.

والمعارضة بأنه لا شاهد للجمع المزبور أيضا ، ضرورة خلو نصوص الأربعة عن التقييد بالرجوع لليوم ، بل فيها ما يخالفه كأخبار أهل مكة يدفعها ما ستسمعه إن شاء الله من المانع للأخذ بإطلاقها عند مدعيه ، على أن الشاهد عنده على ذلك ـ بعد تطابق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

٢١٠

الفتاوى ، ودعوى الإيماء إليه في خبري ابني وهب (١) ومسلم (٢) المتقدمين ـ الرضوي (٣) بناء على حجيته ، قال فيه : « فان كان سفرك بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصرت ، لأن ذهابك ومجيئك بريدان ـ إلى أن قال ـ : فان لم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار إن شئت تممت وإن شئت قصرت » مع أنك ستسمع قوة القول بوجوب التقصير مطلقا من حيث النصوص.

ومن ذلك كله يظهر لك فساد احتمال إرادة عدم مشروعية القصر فيما نحن فيه المتوهم من عبارة أبي المكارم والمحكي عن أبي الصلاح ، إذ حمل كلامهما على مثل ذلك الذي هو ضروري الفساد بين الطائفة ، والنصوص به متظافرة إن لم تكن متواترة يأباه جلالة قدرهما وعظم منزلتهما.

وقد أطلق اليوم في المتن وأكثر عبارات الأصحاب لكن ينبغي القطع بمساواة الليلة عندهم له أيضا ، فمن قصد الأربعة فيها وأراد الرجوع فيها أيضا قصر ، لإطلاق النصوص السابقة وتصريح جماعة من الأصحاب به منهم الشهيدان ، بل صرحا أيضا كغيرهما ، بل في ظاهر المصابيح أو صريحها الإجماع عليه بمساواة الملفق من اليوم والليلة لذلك أيضا ، إلا أنهما اعتبرا اتصال السفر لا ما إذا سافر في أول اليوم وأراد الرجوع في آخر الليل ، بل الظاهر أن مرادهم بالرجوع الوصول لا الشروع فيه حسب وإن بات في الأثناء ، إذ هو حينئذ مساو للمبيت في المقصد.

وكأنهما عقلا من هذه النصوص خصوصا خبري ابني وهب ومسلم أن وجه إلحاق الثمانية الملفقة بالمسافة صدق اسم قطع مقدار بياض يوم ، وهو لا يتحقق إلا باتصال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٩.

(٣) ذكر صدره في المستدرك في الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١ وذيله في الباب ٣ منها ـ الحديث ٢.

٢١١

السعي وعدم انفصاله بالمبيت ونحوه من القواطع المقتضية عدم صدق شغل اليوم معها.

وفيه أنه لا ظهور في شي‌ء من النصوص بذلك حتى الخبرين المزبورين ، إذ ليس في أولهما إلا الذهاب بريدا والمجي‌ء بريدا ، وهو صادق وإن تأخر المجي‌ء عن ذلك اليوم ، بل هو كصحيح زرارة (١) المشتمل على مثل هذا التعبير مع زيادة حكاية فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سافر إلى ذباب الذي هو كالصريح في عدم الرجوع ليومه ، لظهور لفظ « كان » فيه في أن ذلك عادة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المستبعد رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليومه في جميع سفره إلى ذباب ، ولعدم صحة التعليل المشتمل عليه الخبر المزبور لو لوحظ الرجوع ليومه ، ضرورة عدم مدخلية ذلك في بلوغ الثمانية ، ولذا حكي عن بعض شراح الفقيه دعوى صراحة الخبر المزبور في عدم الرجوع ليومه ، إلا أن يكون‌ قوله فيه : « وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » إلى آخره ، ليس منه عليه‌السلام بل من كلام الصدوق ، ولا يخفى عليك بعد الاحتمال المزبور أو فساده.

وليس في ثانيهما سوى بيان إرادة أنه لو فعل هذا الذي كان قصده من الذهاب والمجي‌ء لتحقق صدق شغل بياض يوم الذي هو مدار المسافة ، خصوصا وقد عرفت سابقا أن المعتبر في المسافة قصدها لا قطعها في يوم واحد ، فمن كان من قصده السير بريدين أو مقدار بياض يوم قصر وإن قطع ذلك في أيام ، كما أنك عرفت الإشارة في هذه النصوص إلى إرادة إرجاع التلفيقية إلى الثمانية الذهابية بالطريق الذي سمعته فالمتجه الاكتفاء فيها بما يكتفى في الثانية من اعتبار مجرد القصد وإن كان القطع في أيام على أن أخبار أهل مكة كالصريحة في عدم إرادة الرجوع لليوم ، لظهور بعضها وصراحة الآخر في إرادة الخروج إلى عرفة للحج الذي لا يجوز معه الرجوع ليومه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤.

٢١٢

فمن الغريب تنزيل بعضهم إياها على الرجوع ليومه أيضا كغيرها من النصوص كما أنه من الغريب أيضا دعوى انصراف إطلاق جملة من هذه النصوص إلى إرادة الرجوع لليوم ، لأنه الغالب في السفر المفروض في هذه الأخبار ، إذ هو إنما يكون إلى الضياع والزيارة والتقاضي ونحو ذلك ، كما يسير الناس من أطراف الكوفة إلى الحيرة أو من بعض ضياعها إلى مسجدها الأعظم للزيارة والصلاة ثم الرجوع ، إذ هي واضحة المنع.

ومن هنا ذهب ابن أبي عقيل في المحكي عنه إلى وجوب القصر بمطلق قصد الرجوع قبل عشرة أيام ، قال : « كل سفر كان مسافته بريدين وهو ثمانية فراسخ أو بريد ذاهبا وبريد جائيا وهو أربعة فراسخ في يوم واحد أو ما دون عشرة أيام فعلى من سافره عند آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلي صلاة المسافر ركعتين » بل ظاهره أو صريحه دعوى الإجماع على ذلك ، وهو الحجة له بعد إطلاق النصوص التي كاد يكون بعضها صريحا في عدم اعتبار الرجوع ليومه في التقصير ، وكأن مراده بما قبل العشرة أن لا يقطع سفره بقاطع شرعي من الإقامة عشرا ، أو البقاء مترددا ثلاثين يوما ، أو المرور بوطن له أو نحو ذلك ، ضرورة عدم خصوصية العشرة من بين قواطع السفر وإن كان لا يساعده صحيح عمران بن محمد المتقدم (١) سابقا ، اللهم إلا أن يحمل الأمر فيه بالإتمام بالضيعة على التقية ، لعدم كونها بنفسها عندنا من القواطع من دون الاستيطان ستة أشهر ، بل هو مذهب جماعة من العامة كما قيل.

وكيف كان فقد وافقه على ذلك بعض مشايخنا المعاصرين والكاشاني حاكيا له في المفاتيح عن الشيخ أيضا وإن كنا لم نتحققه ، بل المتحقق خلافه ، ومدعيا أنه مما ألهمه الله ، وأنه لم يصل أحد من الأصحاب إليه سواه ، بل ربما صدر منه إساءة أدب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤.

٢١٣

وزيادة إنكار وعجب من غفلة جميع الأصحاب عن ذلك الذي جميع الأخبار دالة عليه من غير غبار ، ولا تناف بينها من وجه ، إذا المستفاد منها كما عرفت أن حد المسير المعتبر في التقصير ليس إلا ما يعبر عنه تارة ببريدين ، وأخرى بثمانية فراسخ ، وأخرى ببياض يوم كما صرح به في جملة من الأخبار السابقة ، مع تأكد بعضها بأنه لا أقل من ذلك ولا أكثر ، وبأنه أدنى ما يقصر فيه ، لكنه أعم من أن يكون قطع هذا المسير في حالة الذهاب خاصة أو مع الإياب ، وقع الإياب في يومه أو في يوم آخر ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع الآتية ، فيصير سفرين يكون كل منهما أقل من الثمانية ، وحينئذ فكما يصح أن يقال إنه ثمانية فراسخ نظرا إلى الفردين معا يصح أن يقال : إنه أربعة فراسخ نظرا إلى أحد الفردين وهو حالة الذهاب خاصة ، ولذا أطلق الأربعة في جملة من النصوص ، فان من سافر أربعة فراسخ فإنما يسافر في الحقيقة ثمانية ، لأنه إذا رجع صار سفره ثمانية ، وقد بين ذلك بيانا شافيا في‌ خبري زرارة ومحمد (١) حيث قيل : « بريد ذاهب وبريد جائي » وزيد بيانا في‌ خبر زرارة حيث قيل : « وإنما فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ » وأما‌ خبر ابن مسلم حيث تعجب من قوله : « بريد » لما كان قد سمع أنه بياض يوم فأجابه عليه‌السلام « بأنه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه » فلا دلالة فيه على أنه لا بد له الرجوع من يومه حتى يتحتم التقصير ، بل المراد به أن سفره حينئذ يصير بمقدار بياض يوم.

وإطلاق الأربعة في جملة من النصوص منزل على التقييد المستفاد من جملة أخرى كما عرفت ، على أن الغالب في السفر المراجعة ، فينصرف الإطلاق إليه ، قيل : ولهذا اقتصر صاحب الكافي على أخبار الأربعة ولم يتعرض أصلا لشي‌ء من أخبار الثمانية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤ و ٩.

٢١٤

لا أن مراده كفاية الأربع في التقصير مطلقا حتى إذا لم يرد الرجوع أصلا لا ليومه ولا لغير يومه ، فان الظاهر الاتفاق على وجوب التمام في مثل الفرض كما اعترف به المقدس البغدادي ، وصرح به ابن حمزة في وسيلته ، لظاهر النصوص ، خصوصا ما اشتمل منها على أن أدنى المسافة بريد ذاهب وبريد جائي ، وإطلاق القصر في الأربعة منزل على الغالب من إرادة الرجوع كما يومي اليه الموثق السابق الذي قد تضمن أن المسافة بريد ، فتعجب الراوي من ذلك فرفع عليه‌السلام عجبه بأنه إذا رجع شغل يومه ، إذ هو ظاهر في أن الأربعة حيث تطلق يراد بها ما يتعقبه الرجوع ، وكذا إطلاق الأكثر التخيير إذا لم يرد الرجوع ليومه يراد منه بقرينة قاعدة توجه النفي إلى القيد الزائد خصوص عدم إرادة الرجوع لليوم مع إرادة أصل الرجوع ، بل في الرياض أن الرضوي (١) الذي هو مستندهم في التخيير على الظاهر صريح في ذلك ، فما عن الحدائق ـ من إدراج الفرض في عبارة القائلين بالتخيير بدعوى رجوع النفي إلى المقيد مع قيده وبدونه ـ ضعيف جدا ، وإن كان ربما يوهمه عبارات بعض من مال إلى التخيير مطلقا ، لكن التحقيق بعد التأمل ما ذكرنا ، وعليه يحمل ما سمعته من الكافي فيكون هو من القائلين بوجوب القصر بقصد الأربعة وإرادة الرجوع وإن لم يكن ليومه ، نعم ينبغي تقييده كتقييد إطلاق القائلين بالتخيير أيضا بما إذا لم ينقطع سفره بأحد القواطع ، للإجماع المحكي إن لم يكن محصلا على وجوب التمام في رجوعه أيضا ، ولصيرورتهما منفردين حينئذ ، ولظهور الموثق المزبور في ذلك أيضا حيث أنه تعجب فيه من جعل المسافة بريدا ورفع عليه‌السلام عجبه بإرجاعه إلى الثمانية المعلوم كونها مسافة التقصير ، ولا ريب في أنها تنقطع بحصول أحد القواطع في أثنائها ، وكذا غيره من النصوص التي اعتبرت الإياب في التقصير.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٢.

٢١٥

بل في الرياض أن الرضوي صريح في ذلك ، وبه يقيد إطلاق بعض النصوص لو لم نقل بانصرافه إلى الغالب من الرجوع قبل القاطع ، خصوصا في مثل الأسفار إلى نحو الضياع والقرى ونحوها ، كما أنه يجب إرادة ابن أبي عقيل بما ذكره من دون العشرة سائر القواطع ، لعدم خصوصية لها من بينها على ما سمعت سابقا.

نعم لو فرض عدم انقطاع سفره كما لو فرض بقاؤه متنقلا في قرى قريبة لمقصده قصر وإن بقي سنة فصاعدا ، وأولى منه البقاء في المقصد مترددا إلى ما دون الثلاثين يوما ، ودعوى استبعاد التزامه بمثل ذلك لا شاهد لها ، بل لعل الشاهد من ظاهر بعض النصوص السابقة بخلافها قائم.

ولا ريب في قوة هذا القول ومتانته كما اعترف به المولى في الرياض بعد أن حكى عن جملة من فضلاء متأخري المتأخرين الميل اليه ، لما سمعته من النصوص السابقة المعتضدة بغيرها مما هو ظاهر أو صريح وإن قل المفتي به ، حتى أنه لشذوذه ربما لم يحك عند نقل الخلاف ، كما أنه لم يلتفت اليه عند ذكر الاحتياط ، بل ربما ادعى الإجماع غير معتد به على ما ستعرف وإن كان ذلك ليس على ما ينبغي.

نعم المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا بل عن الأمالي أنه من دين الإمامية التخيير بين القصر والإتمام إذا لم يرد الرجوع ليومه ، غير أن الشيخ وابن حمزة منهم نصا على وجوب الصوم وعدم جواز الإفطار ، خلافا للمرتضى والحلي فأوجبا التمام ، واختاره الفاضلان في بعض كتبهما ، ولم يتعرضا في الآخر منها كغيرهما من متأخري الأصحاب إلا إلى أن المسافة الموجبة للتقصير ثمانية أو أربعة مع قصد الرجوع ليومه من غير نص على التخيير أو وجوب التمام.

وفي الأول منهما ـ بعد الإغضاء عن شبهة التخيير فيه بين الأقل والأكثر ـ

٢١٦

أنه لا شاهد له من النصوص المعتبرة ، إذ هي بين مطلق للتقصير في الأربعة وبين ملاحظ فيه الذهاب والإياب من غير تصريح باليوم أو غيره وبين ما هو صريح في عدم الرجوع ليومه ، مع التصريح فيه بالقصر والنهي عن الإتمام والويل والويح عليه ، بل هو مستلزم لطرح بعضها ، أو ارتكاب التعسف فيه بصرف النهي في أخبار عرفة إلى التمام بقصد الوجوب كما عليه الناس يومئذ ، وكذا الويل والويح ، فحمل بعضها حينئذ على إرادة الرجوع ليومه فيجب التقصير ، والآخر على إرادة الرجوع لغير اليوم فيتخير في الصلاة دون الصوم ، مع تلازمهما في ذلك كما هو ظاهر كل من لم يصرح بالانفكاك ، وهو الأكثر كما اعترف به في الرياض ومال اليه ، وطرح الثالث والتعسف في تأويله بما عرفت من غير شاهد كما ترى ، والرضوي بعد عدم حجيته عندنا لا يصلح لذلك وإن وافق الشهرة ، كما أنها هي بنفسها كذلك عندنا ، خصوصا في المقام المحتمل إن لم يكن المظنون خفاء بعض الأدلة ودلالة آخر كما لا يخفى على المتصفح لكلماتهم ، وإشعار الإضافة في خبر ابن مسلم بعد تسليمه ضعيف جدا لا يصلح للحكم على تلك الأخبار قطعا ، والنسبة إلى دين الإمامية لم يثبت إرادة الإجماع منها ، إذ من المحتمل إن لم يكن الظاهر إرادة ثبوته من دينهم وإن كان بطريق ظني ، ولو سلم فهي معارضة بنسبة ابن أبي عقيل وجوب التقصير إلى آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي أصرح في دعوى الإجماع.

وما عن التحرير من دعوى الإجماع على جواز التمام وحصول البراءة بلا خلاف منزل على إرادة الإجماع من المخيرين والملزمين بالتمام ، كاستدلاله في المختلف على التمام بأنه أحوط الذي ربما يوهم الاتفاق عليه باعتبار توقف الاحتياط عليه ، ضرورة إرادته بقرينة ذكره ذلك في ترجيح الإتمام على التخيير الاحتياط بالنسبة إلى هذين القولين ، ولعل من ذلك أو نحوه ما يحكى عن بعض رسائل الشهيد الثاني حيث قال في جملة كلام له : « ولو كان عدم العود على الطريق الأول موجبا لاتحاد حكم الطريق لزم منه كون‌

٢١٧

قاصد نصف مسافة مع نية العود إلى غير الطريق الأول يخرج مقصرا مع عدم العود ليومه ، وهو باطل إجماعا ».

ومن ذلك كله يعرف ما في الثاني منهما أيضا ، إذ هو وإن كان يؤيده الأصل لكنه إما مستلزم لحمل جميع تلك الأخبار على إرادة الرجوع لليوم ، وفيها ما لا يقبله في نفسه فضلا عن احتياجه إلى الشاهد ، وإما الطرح للنصوص المعمول بها بين الأصحاب ولو على التخيير ، وكلاهما كما ترى ، فالاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام والصوم وقضائه مما لا ينبغي تركه في المقام ، ومع عدم التمكن فلا ريب في أحوطية التمام من القصر ، لاتفاق من عدا العماني ومن تبعه على حصول البراءة به ، وإن كان القصر أحوط نظرا إلى النصوص ، إلا أن ملاحظة الفتاوى أولى ، هذا.

ولكن قد يقال إنه يكفي في الشاهد لما عليه الأصحاب هنا من التخيير ( التقصير خ ل ) لمريد الرجوع في غير يومه أو تعيين الإتمام دلالة بعض النصوص وإن ضعفت حتى وصلت إلى حد الاشعار لانجبارها بالشهرة العظيمة قديما وحديثا التي كادت تكون إجماعا فكيف وفي الروايات ما هو نص في ذلك ، منها موثق ابن مسلم المتقدم سابقا ، لأن قوله عليه‌السلام فيه : « شغل يومه » يقتضي تحقق شغل اليوم بالفعل ، ولا يكون إلا بالرجوع ليومه ، فيكون شرطا في وجوب القصر.

ودعوى أن الفرض رفع استبعاد السائل للقصر في البريد وإزالة تعجبه منه بأنه راجع إلى مسير اليوم المعلوم إيجابه للقصر بالنصوص السابقة من غير اعتبار الشغل بالفعل فيه ، فيكون قوله عليه‌السلام هذا صغرى قياس كبراه مطوية لا يعتبر فيها الشغل بالفعل قطعا فتوى ونصا ، فالصغرى كذلك أيضا ، ضرورة وجوب اتحاد الوسط في المقدمتين ، ويكون المقصود منه المقصود مما في‌ صحيح زرارة المتقدم « إنما فعل ذلك لأنه إذا رجع بريدا كان سفره بريدين ثمانية فراسخ » من إرادة مجرد‌

٢١٨

اشتراط الرجوع بريدا ليرجع بسببه إلى الحدود المعروفة المقررة للمسافة ، فيجب القصر حينئذ في التشاغل في الفعل وغيره ، ولا مدخلية للفعلية في العلية.

يدفعها أصالة تبعية المقدر للموجود ، والمحذوف للملفوظ ، وإذا كان ظاهرا في الشغل الفعلي وجب تقدير الكبرى كذلك ، ولا ضير فيه ، إذ أقصاه اعتبار الفعلية في المسافة التلفيقية ، وهو المقصود ، نعم هو غير معتبر في المسافة الابتدائية أي الذهابية لإطلاق أدلتها التي لا تشمل التلفيقية على الظاهر من موردها كما أشرنا إليه سابقا ، ولا يلزم من عدم اعتباره هناك عدمه هنا ، لجواز اختلافهما في الحكم ، وبطلان استبعاد الفرق إذا اقتضته الأدلة ، مع إمكان الفرق بظهور تحقق السفر في الامتدادية بنفسها ، فلا يحتاج إلى اشتراط أمر زائد ، بخلاف الملفقة فإن المسافة فيها حقيقة هي البريد ، فاعتبر معه شغل اليوم بالفعل ليتصل المسير ويتبين السفر وتظهر فيه المشقة التي هي علة القصر ، فاليوم في الموثق (١) غيره في تلك النصوص المقدرة للمسافة الامتدادية ، كما يؤيده أيضا وقوع المقصد هنا في أثنائه ودخوله في المعنى المراد منه ، فهو عبارة عن يوم يسع الذهاب إلى المقصد والعود منه إلى البلد والمكث فيه مقدارا يفي بالغرض الذي سافر لأجله ، وهو قدر معتد به من الزمان غالبا وإن اختلف طولا وقصرا بحسب اختلاف الأغراض والمطالب ، ولا ريب في أن هذا اليوم غير المعتبر في المسافة الامتدادية المقصور على قطع المسافة وما يتفق من الأمور العارضة كالأكل والشرب ونحوهما من دون تخلل مقصد في البين ، بل قد عرفت أنه قدرته النصوص بسير الجمال والإبل والقطار ، ومنه استفاد الأصحاب اعتبار اعتدال السير فيه واعتدال النهار لينطبق على التحديد بالبريدين والفراسخ.

ولو كان اليوم في السفر الملفق موكولا إلى ذلك لانطبق على أصل المسير وما يحصل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٩.

٢١٩

معه من الأمور المشتركة بين النوعين ، وخرج عنه المكث في المقصد مع أنه داخل فيه قطعا ، فاللازم أحد الأمرين : إرادة ما يتناول الليل من اليوم فيه ، أو ترك الاعتدال المأخوذ هناك ، وعلى التقديرين فالاختلاف حاصل بين الموضعين ، فلا يكون أحدهما تابعا للآخر موكولا اليه ، بل يكون كل منهما أصلا برأسه ومستقلا في محله ، فلا إشارة في نصوص بياض اليوم ونحوه إلى ما نحن فيه كالعكس ، بل تلك بالامتدادية وهذه بالتلفيقية ، هذا.

ولكن الإنصاف أن المنساق إلى الذهن من الموثق إرادة رفع استبعاد السائل بالأمر الثابت المعلوم المعهود المتقرر بغير هذا الحديث ، وليس إلا أخبار مسير اليوم وبياض اليوم ، فيكون شغل اليوم هنا أعم من شغله بالفعل بمقتضى الحوالة المقتضية للتوافق في المعنى ، ولا ينافي ذلك اختصاص مورد تلك الأخبار بالسير الممتد ، لأن الاستبعاد يرتفع بالمشاكلة والتنظير ، ولا يتوقف على الفردية والدخول ولا التوافق من كل وجه ، بل المراد أنه لا استبعاد في التقصير بالبريد لأنه يشغل بالعود ، فيكون كسير اليوم الواقع في الذهاب وإن لم يكن منه ، كما أنه لا ينافيه أيضا تخلل المقصد في أثنائه ، بخلافه يوم المسافة الامتدادية ، لأن المراد تقدير السير الواقع منه لو رجع بسير اليوم يعني البريدين.

ودعوى أن رفع الاستبعاد المقصود في الحديث لا يجب أن يكون بالأمر المتقرر في غيره بل يكفي فيه حصول شغل اليوم المقتضي لتضعيف المسافة وظهور المشقة التي هي علة التقصير في السفر ، وهذا معلوم من دون إحالة على التحديد ببياض اليوم ونحوه مما ورد في تلك الأخبار كما ترى واضحة المكابرة ، لما بري بالعيان من سبق ما ذكر إلى الأذهان ، على أنه إن لم يجعل إشارة إلى ذلك اقتضى بناء على عموم المفهوم اعتبار الشغل بالفعل في القصر بالمسافة الامتدادية ، إلا أن يرتكب تخصيصه أو تقييده بأدلة أخر.

٢٢٠