جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ) (١) « و ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) » مضافا إلى الإجماع محصلا ومنقولا على ذلك ، فينوي الصلاة ويستقبل القبلة بتكبيرة الإحرام ثم يستمر إن أمكنه الاستمرار وإلا استقبل ما أمكن ، وصلى مع التعذر للاستقبال حتى بالتكبيرة إلى أي الجهات أمكن لما عرفت ، ول‌ صحيح الفضلاء (٢) عن الباقر عليه‌السلام « في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة يصلي كل إنسان منهم بالإيماء حيث كان وجهه وإن كانت المسايفة والمعانقة وتلاحم القتال ، فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلة صفين وهي ليلة الهرير لم تكن صلاتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند وقت كل صلاة إلا التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء ، وكانت تلك صلاتهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة » معتضدا بظاهر الاتفاق ، وبالمستفاد من سبر باقي روايات المقام وإن لم يكن فيها تصريح بذلك ، فاحتمال سقوط الصلاة إذا لم يتمكن من الاستقبال بالتكبيرة للأصل لا يلتفت اليه ، كاحتمال وجوب الاستقبال في خصوص التكبيرة وإن خشي ، لظاهر‌ صحيح زرارة (٣) عن الباقر عليه‌السلام « قلت : أرأيت إن لم يكن المواقف على وضوء كيف يصنع ولا يقدر على النزول؟ قال : يتيمم من لبده أو سرجه أو معرفة دابته فان فيها غبارا ، ويصلي ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ولا يدور إلى القبلة ، ولكن أينما دارت دابته غير أنه يستقبل القبلة بأول تكبيرة حين يتوجه » لوجوب حمله على التمكن من الاستقبال في التكبيرة خاصة كما هو الغالب ، وإلا فلا ريب في عدم الوجوب مطلقا مع التعذر ، كما أنه لا ريب في وجوب ما يتمكن منه من الاستقبال ، ونحوه الركوع والسجود ، فلو فرض إمكان‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٨١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٨.

١٨١

نزوله للركوع أو للسجود حال الركوب وجب ، ضرورة تقدير الضرورة بقدرها ، فما دل على وجوبهما على الوجه المخصوص لا معارض له ، وكثرة الفعل مغتفرة هنا كما في باقي الأحوال ، وبه صرح في المسالك.

نعم إذا لم يتمكن من النزول صلى راكبا وسجد على قربوس فرسه كما هو من معقد إجماع المنتهى ، بل والغنية على الظاهر ، فان تم كان هو الحجة ، وإلا فللنظر فيه مجال ، لخلو النصوص عن تعيين السجود على القرابيس ، بل ربما كان قضية إطلاقها خصوصا الصحيح السابق خلافه ، واحتمال الاستدلال بعدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه كما ترى ، إلا أنه ومع ذلك كله فلا ريب في أنه أحوط في الفراغ عما اشتغلت به الذمة بيقين ، ومقتضى إطلاق المتن ومعقد الإجماعين عدم الفرق بين كون القربوس مما يصح السجود عليه أولا ، لكن في المسالك « أنه إن كان لا يصح السجود عليه فان أمكن وضع شي‌ء منه عليه وجب ، وإلا سقط » وهو جيد ، وألحق في الذكرى بالقربوس عرف الدابة ، وفيه تأمل.

وإذا لم يتمكن من ذلك أيضا لالتحام القتال واختلاف السيوف أومأ إيماء بلا خلاف أجده ، بل هو من معقد إجماعي الغنية والمنتهى ، للصحيحين السابقين والموثق (١) عن الصادق عليه‌السلام « إذ التقوا فاقتتلوا فإنما الصلاة حينئذ بالتكبير فإذا كانوا وقوفا فالصلاة إيماء » وغيره من النصوص التي يمر عليك بعضها إن شاء الله وينبغي أن يكون الإيماء بالرأس لقول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٢) : « صلاة الزحف على الظهر إيماء برأسك وتكبير ، والمسايفة تكبير بغير إيماء ، والمطاردة يصلي كل رجل على حياله » وغيره مما تسمعه إن شاء الله ، بل هو المنساق من الإطلاق خصوصا وقد كان بدلا في المريض ونحوه ، ومن هنا قال في المسالك بل والروضة :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

١٨٢

« إنه إن تعذر فبالعينين كالمريض » فتأمل.

وكيف كان فإن خشي من الإيماء المزبور بأن بلغ الحال إلى حد لا يتمكن منه صلى بالتسبيح ويسقط الركوع والسجود حينئذ وأذكارهما والقراءة وبالجملة يقول بدل كل ركعة : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لصحيح الفضلاء السابق المتضمن لفعل أمير المؤمنين عليه‌السلام كالمرسل (١) « فات الناس مع علي عليه‌السلام يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأمرهم فكبروا وهللوا وسبحوا رجالا وركبانا » وخبر البصري (٢) عن الصادق عليه‌السلام في صلاة الزحف ، قال : تكبير وتهليل لقول الله عز وجل ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً )‌ والموثق السابق (٣) ومرسل ابن المغيرة (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « أقل ما يجزي في حد المسايفة من التكبير تكبيرتان لكل صلاة إلا المغرب ، فان لها ثلاثا » إلى غير ذلك مما يفيد تصفحه المطلوب ، وإن كان هو بعد جمع مضامينها ، لعدم منافاة النقصان الزيادة ، أو يحمل التكبير في بعضها على إرادة الكيفية المزبورة تماما تسمية للكل باسم الجزء.

نعم ليس في شي‌ء من النصوص ترتيب أجزاء التكبيرة بالكيفية المزبورة في المتن وغيره ، بل ربما كان قضيتها كفايتها بأي ترتيب كان كما اعترف به بعضهم ، إلا أنه لما كان الإجماع كما في الذكرى على إجزاء الكيفية المزبورة وكانت الذمة مشتغلة بيقين لم يكن بأس بالقول بتعينها ، خصوصا وإطلاق النصوص مساق لبيان كفايتها لا كيفيتها والفتاوى متظافرة كما قيل بتعينها ، وليس اختلاف النصوص هنا وإطلاقها بأعظم منها في الأخيرتين ، مع أن الإجماع منعقد كما في الرياض على وجوب الكيفية فيهما ، بل لعل ذا مما يؤيده تعين الكيفية المخصوصة باعتبار أنها الواجبة في حال الاختيار ، وأولى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ٣.

١٨٣

من غيرها في البدلية عن الركعة ، والأولى إضافة الدعاء إلى هذه تأسيا بالمحكي من فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلة الهرير في الصحيح وإن كان في تعينه نظر ، كما أنه ليس في شي‌ء من النصوص الترتيب المذكور في أصل كيفية صلاة المطاردة والمسايفة ، إلا أنه يمكن استفادته بعد الإجماع كما في الرياض من الأصول والقواعد المقتضية وجوب مراعاة كل ما أمكن من الواجب دون المتعذر الذي علمنا عدم سقوط أصل الصلاة بسببه ، ومن قوله عليه‌السلام : « لا يسقط الميسور بالمعسور » « وما لا يدرك كله لا يترك كله » وكان مقتضى ذلك وجوب مراعاة الممكن من قراءة الركعة وأذكار ركوعها وسجودها ونحو ذلك عند تعذر الإيماء أيضا ، كما أنه لم يسقط شي‌ء مما يتمكن من القراءة والذكر ونحوهما عند تمكنه من الإيماء ، فلا يكتفي حينئذ بالتكبير المزبور عن الركعة بمجرد تعذر الإيماء وإن تمكن من القراءة مثلا كما هو ظاهر المتن وغيره ، إلا أنه يجب الخروج عن ذلك بمعقد إجماع الغنية الذي يشهد له تتبع الفتاوى ، ويعضده إطلاق بعض النصوص الصحيحة المتقدمة سابقا ، فمتى تعذر الإيماء حينئذ انتقل إلى التكبير المزبور بدل كل ركعة ، لكن قد يظهر من الروضة عدم سقوط القراءة في الفرض مع التمكن منها ، وهو لا يخلو من وجه.

ولو لم يتمكن من التسبيحة التامة اقتصر على التكبير وما يتمكن من باقي الأذكار ولم يتعرض له في النصوص لندرته.

ولا يدخل في الركعة تكبيرة الإحرام والتشهد والتسليم كما صرح به بعضهم كالشهيد في المسالك والروضة وغيره ، لعدم دخول شي‌ء منها في مسماها ، فيجب حينئذ عدم ترك شي‌ء منها ، لكن مقتضى إطلاق النصوص عدم وجوب شي‌ء غير التسبيح المزبور ، وأنه هو الصلاة ، ولعله هو الأقوى وفاقا لصريح رياض الفاضل وظاهر‌

١٨٤

غيره ، وإن كان الأول أحوط.

ولو شك في عدد التسبيح بطل كمبدله ، وبه صرح في المسالك وإن كان هو لا يخلو من بحث ، سيما والبدلية المزبورة لم تكن صريح شي‌ء من النصوص ، وإنما استفيدت من حيث الاكتفاء بها عوض الركعة ، فتأمل.

والظاهر بقاء مشروعية الجماعة في الصلاة المزبورة حتى لو بلغت إلى التسبيح كما صرح به الشهيدان ، وإن أوهم العدم ظاهر الإرشاد ، لإطلاق أدلة استحبابها ، ولا يقدح هنا اختلاف الامام والمأموم في القبلة وإن قلنا بعدم الجواز في المختلفين بالاجتهاد للفرق بينهما بأنه لا احتمال للخطإ هنا ، إذ كل منهم قبلته الحال المتمكن منها ، فهم كالمستديرين حول الكعبة ، بخلافه في المجتهدين ، نعم يعتبر عدم تقدم المأموم على الامام وعدم الحائل ونحوهما من الشرائط الأخر ، لعدم الدليل على سقوطها ، فقضية شرطيتها سقوط الجماعة عند عدم التمكن من أحدها كما هو واضح ، ولا يتحمل الامام هنا التسبيح عن المأموم ، إذ هي وإن كانت بدل القراءة التي يتحملها عنه لكنها بدل أمور أخر أيضا لا يتحملها عنه كالركوع والسجود وأذكارهما ونحو ذلك.

فروع : الأول إذا صلى مؤميا أو مسبحا مثلا فأمن أمانا ارتفع به العذر في الإيماء وإن بقي أصل الخوف أتم صلاته المقصورة عددا أو الثلاثية بالركوع والسجود فيما بقي منها إذ ما وقع منها كان صحيحا مجزيا لموافقته للأمر ولا يستأنف الصلاة ، فلو سبح تسبيحة حينئذ بدل ركعة فأمن بقيت عليه ركعة إن كانت ثنائية ، وركعتان إن كانت ثلاثية ، أما إذا ارتفع أصل الخوف أتم ما بقي غير مقصر في الكمية والكيفية إذا لم يكن مسافرا.

وقيل والقائل الشيخ فيما حكي عنه : إنه يتم ما بقي من صلاته عند حدوث الأمن ما لم يكن استدبر القبلة في أثناء صلاته وإلا استأنفها ، قال : « لو صلى‌

١٨٥

ركعة مع شدة الخوف ثم أمن نزل وصلى بقية صلاته على الأرض ، وإن صلى على الأرض إما ركعة فلحقته شدة الخوف ركب وصلى بقية صلاته إيماء ما لم يستدبر القبلة في الحالين ، فان استدبرها بطلت صلاته » إلى آخره. ولا ريب أن الأقوى الصحة مع الحاجة إلى الاستدبار ، لأنه موضع ضرورة وانقلاب تكليف ، والشرائط معتبرة مع الاختيار وكذلك الحكم لو صلى بعض صلاته ثم عرض له الخوف أتم صلاته خائفا كما وكيفا على حسب ذلك العارض له ولا يستأنف الصلاة لعدم المقتضي ، بل قاعدة الإجزاء تقضي بما ذكرنا كما هو واضح.

الفرع الثاني من رأى سوادا فظنه عدوا فقصر عددا أو عددا وكيفية بأن صلى مؤميا مثلا ثم انكشف بطلان خياله بأن ظهر إبلا لم يعد صلاته وإن بقي الوقت لقاعدة الاجزاء ، ضرورة تحقق السبب ، وهو الخوف الذي لا يتفاوت في حصول مسماه الاشتباه في أسبابه ، بل هو مبني على ذلك ، ومن هنا كان لا وجه لاحتمال وجوب الإعادة في المقام باعتبار أنه من تخيل الأمر كالصلاة بظن الطهارة لا الأمر حقيقة ، للفرق الواضح بين الخوف وغيره ، إذ بانكشاف الخطأ في مسببه لم ينكشف عدم تحقق مسماه في الواقع بخلاف غيره.

وكذا الكلام لو أقبل العدو فصلى مؤميا لشدة خوفه ثم بان أن هناك حائلا يمنع العدو لم يعلم به ، نعم لو قصر وفرط في عدم معرفة الحائل لسهولة الاطلاع عليه ففي الذكرى أنه لا تصح الصلاة ، ومثله الأول أيضا إذا قصر وفرط في النظر اليه أو كان الخوف من مثل ذلك السواد في ذلك الوقت والمكان من الأوهام السوداوية وشدة الجبن ، مع أن وجوب الإعادة أيضا فيهما معا خصوصا خارج الوقت لا يخلو من بحث.

الفرع الثالث إذا خاف من سيل أو سبع أو حية أو حرق أو غير ذلك‌

١٨٦

جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف فيقصر حينئذ عددا وكيفية ، لعدم الفرق في أسباب الخوف المسوغة لذلك بعد التعليق في بعض النصوص (١) على مسمى الخوف المشعر بالعلية ، مضافا إلى أولوية البعض من خوف العدو ، وإلى خصوص‌ الموثق (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ) كيف يصلى؟ وما تقول إن خاف من سبع أو لص كيف يصلي؟ قال : يكبر ويومي إيماء » لظهور سياقه في اتحاد الصلاتين ، والصحيح (٣) عن الباقر عليه‌السلام « الذي يخاف اللصوص والسبع يصلي صلاة المواقفة إيماء على دابته » والمرسل (٤) عن الصادق عليه‌السلام « في الذي يخاف السبع أو يخاف عدوا يثب عليه أو يخاف اللصوص يصلي على دابته إيماء الفريضة » وفي الفقيه « أنه رخص في صلاة الخوف من السبع إذا خشيه الرجل على نفسه أن يكبر ولا يومي رواه محمد (٥) عن أحدهما عليهما‌السلام » وغير ذلك ، والخصوصية فيها يدفعها عدم القول بالفصل فيما عدا خوف العدو من الأسباب كما اعترف به في الرياض.

والضعف في سند البعض وفي دلالة الجميع باعتبار انسياق التشبيه إلى إرادة قصر الكيفية المتفق عليه في جميع أسباب الخوف نقلا وتحصيلا تجبره الشهرة العظيمة المحكية في الرياض على التعميم المزبور إن لم تكن محصلة ، بل في المعتبر نسبته إلى فتوى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، بل في مجمع البرهان الإجماع على عدم الاختصاص بالكفار ، مع أنه تردد فيه بعد ذلك.

لكن الإنصاف أنه مع ذلك كله لا يخلو من نظر وتأمل ، خصوصا فيما قيل : إنه يندرج في إطلاقهم الأسير في يد المشركين ، والمعسر العاجز عن البينة إذا هرب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٥.

١٨٧

خشية الحبس ، والخائف من الظالم إذا هرب ، بل وإذا استتر في بيته مثلا أيضا منه وخصوصا فيما ذكره في الذكرى من أنه لو كان المحرم يخاف فوت الوقوف بإتمام الصلاة عددا أو أفعالا ويرجو حصوله بقصرهما أو أحدهما فالأقرب جوازهما ، لأن أمر الحج خطير ، وقضاءه عسير ، إذ أصالة التمام وإطلاق أدلته يجب عدم الخروج عنهما إلا بدليل معتد به ، وليس ، والآية (١) إن لم يكن ظاهر المفهومين فيها خلاف ذلك فلا دلالة فيها على شي‌ء منه.

فما وقع لبعضهم من الاستدلال بمنطوقها على خوف العدو وفحواها على باقي الأسباب كما ترى ، ودعوى الأولوية القطعية أو المساواة في غاية المنع ، لأن حكم الشرع ومصالحه في غاية الخفاء ، والتعليق على الخوف مع أن المنساق منه خصوصا مع ملاحظة باقي النصوص العدو لا ظهور فيه في المطلق سيما مع عدم وضوح التعليق وعدم سوقه لبيان ذلك ، ونصوص السبع ونحوه ظاهرة في قصر الكيفية ، والشهرة فضلا عن الإجماع لم نتحققها ، إذ جملة من المحكي من عبارات القدماء محتملة لإرادة قصر الكيفية كالأخبار ، وموثق سماعة المضمر (٢) « سألته عن الأسير يأسره المشركون فتحضره الصلاة فيمنعه الذي أسره منها ، قال : يومي إيماء » كموثقه الآخر (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يأخذه المشركون فتحضره الصلاة فيخاف منهم أن يمنعوه فيومئ إيماء ، قال : يومي إيماء » إنما يدل على قصر الكيفية ، ولذا نص الشهيد في الذكرى ـ مع أنه عمم أسباب الخوف ذلك التعميم المزبور ـ على عدم جواز تقصيره في العدد ، وكأنه للفرق بين التقصير خشية استيلاء العدو مثلا لو أتم وبين الخوف من أدائها بمحضر منه ، والأول هو الذي يقصر العدد لأجله ، ويسمى بصلاة الخوف‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ١٠٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١.

١٨٨

لا الثاني ، ومنه يظهر ضعف القول بتقصير المستتر المختفي في مكان ، إذ لا يخشى من الهجوم عليه لو أتم ، فإن الفرض بقاؤه في ذلك المكان بعد الصلاة.

ولعله مما سمعته كله تردد الفاضل كما قيل بل وغيره فيه ، بل حكي عن السرائر وغيرها وجوب مراعاة العدد في جميع هذه الأسباب ، والمراد أنه إن لم يتمكن من الركعات ولو بقصر الكيفية يسقط أداء الصلاة حينئذ لا أنه مكلف بذلك على كل حال كي يستغرب ذلك ، على أنه من الفروض النادرة جدا بناء على جريان صلاة التسبيح في المقام كما يومي اليه معاقد إجماعاتهم ، وخبر الفقيه المتقدم سابقا ، بل وغيره من النصوص السابقة.

نعم قد يقال هنا بوجوب مراعاة الممكن من القراءة وأذكار الركوع والسجود وإن تعذر الإيماء ، فلا ينتقل إلى التسبيحات بمجرد تعذر الإيماء كما قلناه في صلاة المسايفة ، لاختصاص ذلك الدليل فيها ، مع أن ظاهر الأصحاب عدم الفرق في المقامين في جميع ما تقدم من قصر الكيفية ، ويؤيده فحاوي النصوص المعتضدة بالاتفاق ظاهرا.

والاحتياط لا ينبغي تركه في ذلك كله حتى في الخوف من العدو إذا لم يكن مخالفا في الدين وإن كان باغيا بالخروج على غير إمام العصر ، للشك في شمول الأدلة ، أما لو كان عليه فلا ريب في تقصير العدد حينئذ ، كما يدل عليه فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام في حرب صفين والحسين عليه‌السلام في كربلاء.

كالشك في تناول الأدلة لمشروعية صلاة الخوف بالنسبة إلى الباغي نفسه وإن كان يمكن أن يقال إنه وإن عصى ببغيه إلا أن تكليفه حينئذ صلاة الخوف ، إذ لا مانع من انقلاب تكليفه بعصيانه ، كمن أراق الماء عمدا فصار فرضه التيمم ، ومن أتلف الساتر فانقلب تكليفه إلى الصلاة عاريا ، فالمسافر حينئذ عاصيا يقصر إن اعتراه الخوف وإن كان فرضه التمام قبله ، اللهم إلا أن يقال : إن الحكمة في مشروعية صلاة الخوف‌

١٨٩

المراعاة لحرمة النفس وأهمية حفظها ، ولا حرمة لنفس الباغي.

وكذا الشك في شمول الأدلة للخوف من العدو على غير النفس من تلف المال أو هلاك العيال أو الخوف على البضع ، بل في مجمع البرهان زيادة التردد في الأول ، قال : « لاستبعاد صيرورته سببا لذلك ، مع أنه ما صرح به غير الفاضل مترددا في الأعظم منه كالخوف من السبع وشبهه ، إلا أن يقيد بالمال الذي يخاف بهلاكه هلاك النفس » إلى آخره. لكن الإنصاف في خصوص ذلك تناول الأدلة له حتى الآية ، لصدق خوف فتنة الذين كفروا عليه ، والله أعلم.

الفرع الرابع لا إشكال على الظاهر في صلاة الجمعة بصلاة عسفان‌ ، لوجود المقتضي وارتفاع المانع ، كما أنه لا إشكال في العدم بصلاة بطن النخل ، لأنها لا تشرع نفلا ولا في مكان واحد مرتين ، أما بذات الرقاع إذا صليت خطرا فالظاهر الصحة ، ففي الذكرى « فيخطب للأولى خاصة بشرط كونها كمال العدد فصاعدا ، ولا يضر انفراد الامام حال مفارقة الأولى في أثناء الصلاة ، لأنه في حكم الباقي على الإمامة من حيث انتظاره الثانية ، وعدم فعل يعتد به حينئذ ، ولا تعدد هنا في صلاة الجمعة ، لأن الإمام لم يتم جمعته مع مفارقة الأولى ، فالفرقتان تجريان مجرى المسبوقين في الجماعة الذين يتمون بعد تسليم الامام ، ولذا لا يحتاجون إلى إعادة الخطبة ، نعم لو خطب بالأولى وانصرفت قبل أن تصلي ثم جاءت الثانية احتاجت إلى إعادة الخطبة ، لعدم صلاة الأولى كي تتصل بها فتستغني عن الخطبة » ولعله مراد الشيخ في المحكي عنه في الذكرى وغيرها ، وإن كان ربما توهم في بادئ النظر اعتبار الخطبة للثانية وإن اتصلت صلاتها بصلاة الأولى التي خطب بها ، حتى عد مخالفا في المقام ، فلاحظ وتأمل.

الفرع الخامس الظاهر عدم اعتبار التأخير إلى آخر الوقت في صلاة الخوف‌ إذا كانت بإحدى الكيفيات الثلاثة السابقة ، ضرورة أن عدم النقصان في نفس الصلاة ، إنما‌

١٩٠

هو إن كان ففي كيفية الجماعة في خصوص ذات الرقاع وصلاة عسفان ، وإطلاق الأدلة يقتضي جوازه في أول الوقت مع علم التمكن بعد من غيره فضلا عن اليأس منه أو رجائه هذا إن قلنا باختصاص الكيفيتين في الاضطرار ، وإلا فلا إشكال أصلا.

إنما البحث في اعتبار التأخير إلى وقت الضيق في صلاة شدة الخوف التي قد عرفت نقصانها عن صلاة المختار في الأجزاء والشرائط وعدمه ، فظاهر جماعة منهم الشيخ فيما حكي من مبسوطة ونهايته الثاني ، بل في الرياض أنه المشهور ، لإطلاق الأدلة كتابا وسنة ، بل ظاهر مساواة الخوف للسفر المعلوم عدم اشتراط الضيق فيما يوجبه من القصر وظاهر سلار وأبي الصلاح فيما حكي من كلامهما الأول ، لعدم صدق الاضطرار مع سعة الوقت ، وللاقتصار في سقوط الشرائط والأجزاء على محل اليقين ، وظاهر‌ قوله عليه‌السلام في خبر عبد الرحمن (١) : « ومن تعرض له سبع وخاف فوت الصلاة استقبل القبلة وصلى بالإيماء » وصريح المحكي (٢) من فقه الرضا عليه‌السلام في صلاة الخائف من اللص والسبع ، ولا ريب في أنه أحوط وإن كان في تعينه نظر ، خصوصا مع اليأس عن ارتفاع العذر ، لتعليق الحكم في النصوص والفتاوى على الخوف الذي لا يتوقف صدقه على الضيق ، لا على الاضطرار كي ينافي صدق التوسعة ، على أن الغالب فيما نحن فيه تحقق الخوف الذي يخشى منه عدم التمكن من أصل الصلاة فيما بعد من الوقت ، فيتحقق التضييق ، والله أعلم.

تتمة‌ الموتحل والغريق ونحوهما كالحريق وغيره يصليان بحسب الإمكان من الكيفية بلا خلاف ولا إشكال ، لعدم سقوط الصلاة بحال ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، فيتركان القراءة إذا لم يتمكنا منها ويوميان لركوعهما وسجودهما على حسب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٤.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

١٩١

ما تقدم سابقا ، لأن الظاهر اتحاد جميع ذوي الأعذار في قصر الكيفية ، نعم قد يتوقف في بدلية التسبيح هنا ، مع أنه ربما يقوى ذلك أيضا ، خصوصا بعد ما عرفته في مثل الخوف من اللص والسيل والسبع ونحوها ، لكن في البدلية على الوجه المتقدم في صلاة الخوف من الاكتفاء فيها بمجرد تعذر الإيماء وإن تمكن من القراءة والأذكار توقف وتأمل ، ومراعاة الأصول تقضي بمراعاة الممكن من القراءة والأذكار وإن تعذر الإيماء.

وكيف كان فـ ( لا يقصر واحد منهما عدد صلاته إلا في سفر أو خوف ) موجبين له كما صرح به جماعة ، بل في الرياض نفي الخلاف فيه ، لأصالة التمام السالمة عن معارضة أدلة صلاة الخوف ، حتى لو قلنا بالتعميم في أسبابه ، ولذا صرح بالتمام هنا من قال بالتقصير في جميع أسباب الخوف كالمصنف والشهيد وغيرهما ، نعم في الذكرى « لو خاف من إتمام الصلاة استيلاء الغرق ورجا عند قصر العدد السلامة وضاق الوقت اتجه القصر » واستحسنه في المسالك معللا له بأنه يجوز له الترك ، فقصر العدد أولى قال : « لكن في سقوط القضاء بذلك نظر ، لعدم النص على جواز القصر هنا ، فوجوب القضاء أجود » انتهى.

وفيه أنه لا تلازم بين جواز الترك للعجز وجواز قصرها على هذا الوجه ، إذ التمكن من الركعتين بعد انتفاء دليل القصر كالتمكن من الركعة الواحدة خاصة التي من المعلوم سقوطها مع عدم التمكن من غيرها ، وأن المتجه بعد مشروعية القصر له ولو بإطلاق أدلة الخوف سقوط القضاء عنه ، لاقتضاء الأمر الاجزاء ، ولا حاجة إلى دليل خاص بعد حجية الإطلاقات عندنا ، فاستحسانه القصر مع إيجابه القضاء مما لا يجتمعان ، اللهم إلا أن يريد الاحتياط ، فيتجه حينئذ وجوبهما ، كما أنه يتجه القصر فيما فرضه‌

١٩٢

في الذكرى بناء على التعميم في أسباب الخوف لمثل السيل والسبع واللص والحرق ونحوها إلا أنه أطلق هنا عدم القصر في العدد كجماعة من الأصحاب ، بل في الرياض أنه لا خلاف فيه وإن كان يشهد بخلافه التتبع ، إذ المحكي عن سلار ظاهر أو صريح في التقصير فيهما غير مقيد له بما سمعته من الذكرى ، وإن كان لا ريب في ضعفه ، والله أعلم.

( الفصل الخامس )

( في )البحث عن

( صلاة المسافر )

ومحل النظر منها في الشروط والتقصير ولواحقه ، أما الشروط فستة : الأول اعتبار المسافة فيها بلا خلاف فيه بيننا بل وبين سائر المسلمين ، بل هو إن لم يكن ضروريا عندهم فهو مجمع عليه بينهم ، وكتابهم ناطق به ، كما أن سنتهم متواترة فيه وداود الظاهري وإن لم يعتبر مقدارا مخصوصا في المسافة لكن اعتبر الضرب في الأرض قليلا كان أو كثيرا.

وكيف كان فـ ( هي ) تحصل عندنا والأوزاعي من العامة حاكيا له عن جميع العلماء بـ ( مسير يوم ) تام كيوم الصوم ، لقول الباقر عليه‌السلام في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم (١) : « قد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربع وعشرون ميلا » والصادق عليه‌السلام في خبر البجلي (٢) « قلت له : كم أدنى ما يقصر فيه الصلاة؟ قال : جرت السنة ببياض‌

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٢٧٨ ـ الرقم ١٢٦٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٥.

١٩٣

يوم ، فقلت له : إن بياض يوم مختلف ، فيسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم ، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم ، فقال : إنه ليس إلى ذلك ينظر ، أما رأيت سير هذه الأثقال بين مكة والمدينة ، ثم أومأ بيده أربعة وعشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ » والصحيح عن أبي بصير (١) قلت له عليه‌السلام أيضا : « في كم يقصر الرجل؟ قال : في بياض يوم أو بريدين » وأبي الحسن عليه‌السلام في صحيح ابن يقطين (٢) « سألته عن الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم ، قال : يجب عليه التقصير إذا كان مسير يوم وإن كان يدور في عمله » وموثق سماعة (٣) المضمر « سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ فقال : في مسيرة يوم ، وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ » إلى غير ذلك من النصوص الدالة عليه الظاهرة في إرادة يوم الصائم منه للتعبير فيها ببياض يوم ، وبه صرح بعضهم ، بل لم نعثر على خلاف فيه

ولو لا ذلك لأمكن إرادة ما بين انتشار الضياء إلى انكسار سورته بانحدار الشمس إلى الغروب من اليوم مع استثناء القيلولة في القيض وغيرها مما لا يقدح في صدق السير يوما عرفا ، لكن لا بأس بالأول بعد ما عرفت من دلالة النصوص المعتضدة بما عثرنا عليه من الفتوى عليه ، وعلى أن مقداره في الشرع أيضا بريدان اللذان أجمع الأصحاب على وجوب التقصير فيها تحصيلا ونقلا كاد يبلغ التواتر ، وكأنه لما كان سير اليوم مختلفا بحسب الأمكنة والأزمنة والسائرين ودواب السير والجد فيه وعدمه وغير ذلك ـ بل ربما حصل فيه اختلاف أيضا في تقديره لو وقع بالليل أو الملفق منه ومن النهار ، إذ لم يعلم أن المقدار يوم تلك الليلة أو يوم آخر ـ قدره الشارع بالبريدين دفعا لهذا الاختلاف بعد أن كانا متقاربين في الواقع ، ضرورة أن المراد السير العام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٨.

١٩٤

للإبل ، لخبر البجلي (١) السابق ، وقول الصادق عليه‌السلام في حسنة الكاهلي (٢) : « كان أبي يقول لم يوضع التقصير على البغلة السفواء والدابة الناجية ».

وأن المراد الاعتدال من الوقت والسير والمكان بمعنى اعتبار الوسط من الثلاثة كما صرح به بعضهم ، وإن ناقش في المدارك في ذلك بالنسبة للأخير ، ولعله لإطلاق النص فيه مع عدم الداعي إلى تقييده في ذلك ، بخلاف الأولين ، لغلبة السير في الليل وعدم التواني والجد في السفر ، وهو كما ترى.

وعلى كل حال فهو حينئذ تحقيق في تقريب كنظائره ، فالترديد بين بياض اليوم والبريدين في خبر أبي بصير (٣) السابق ترديد فيما يسهل على المكلف اعتباره ، وإلا فهما شي‌ء واحد في نظر الشارع لا أنهما أمران مختلفان كي يتجه البحث في أن مدار المسافة عليهما معا ، بمعنى كون المعتبر فيها اجتماعهما كما عساه يوهمه بعض العبارات فلو فرض قصور مسير اليوم عن البريدين أو بالعكس بأن حصل في بعض اليوم لم يكن ذلك مسافة.

أو أن المدار على مسير اليوم وإن قصر عن البريدين ، لأنه الأصل في المسافة والتقدير بالبريدين تقدير له ، ولأن دلالة النص عليه أقوى ، إذ ليس لاعتبارها بالأذرع على الوجه المذكور نص صريح ، بل ربما اختلفت فيه النصوص والفتاوى ، وقد صنف السيد السعيد جمال الدين أحمد بن طاوس كتابا مفردا في تقدير الفراسخ وحاصله على ما قيل لا يوافق المشهور ، ولأن الأصل الذي اعتمد عليه الفاضل وغيره على ما قيل في تقدير الفرسخ يرجع إلى اليوم ، إذ قد استدل عليه فيما حكي عن تذكرته بأن المسافة تعتبر بمسير اليوم للإبل السير العام ، وهو يناسب ذلك ، قيل وكذا الوضع اللغوي ، وهو مد البصر من الأرض.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١١.

١٩٥

أو أن المدار على التقدير بالبريدين كما عساه يلوح من الذكرى ، لأنه تحقيق ، والآخر تقريب ، أو أن المدار على حصول أحدهما عملا بكل من الدليلين كما استظهره في المدارك ، ضرورة أن ذلك كله مبني على أنهما تقديران مختلفان للمسافة ، أما بناء على ما ذكرنا من أنهما شي‌ء واحد عند الشارع ـ فمسير اليوم عنده عبارة عن قطع بريدين وبالعكس ، ومتى تحقق أحدهما تحقق الآخر في نظره ـ فلا يتأتى شي‌ء من ذلك ، إذ فرض مسير البريدين في بعض اليوم أو نقصان مسير اليوم عنهما حينئذ غير قادح في المراد شرعا ، لأن الأول مسير يوم عنده بخلاف الثاني كما هو واضح.

بل كاد يكون صريح بعض الأدلة السابقة كموثق سماعة وخبر البجلي ، ونحوهما‌ حسن الفضل بن شاذان (١) المروي عن الفقيه والعيون والعلل عن الرضا عليه‌السلام « إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر ، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال ».

وخبره الآخر (٢) عنه عليه‌السلام أيضا في كتابه إلى المأمون « والتقصير في ثمانية فراسخ وما زاد ، وإذا قصرت أفطرت » وخبر الأعمش (٣) عن الصادق عليه‌السلام المروي عن الخصال « التقصير في ثمانية فراسخ ، وهو بريدان ، وإذا قصرت أفطرت ، ومن لم يقصر في السفر لم تجز صلاته ، لأنه زاد في فرض الله » وخبر ابن مسلم (٤) المروي عن كتاب الرجال للكشي ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « التقصير يجب في بريدين » وخبر محمد (٥) عن الباقر عليه‌السلام « سألته عن التقصير ، قال : في بريد ، قال : قلت :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٩.

١٩٦

بريد ، قال : إنه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا اشتغل يومه » وغيرها.

بل قد يومي اليه النصوص (١) الكثيرة الدالة على تحقق المسافة بقصد بريد معللة له بأنه يتم له شغل يومه بإرادته الرجوع ، فيكون بريدا ذاهبا وبريدا جائيا حتى على ما فهمه الأصحاب منها من إرادة الرجوع ليومه ، ضرورة عدم صدق شغل اليوم حقيقة بالسفر إذا تخلل بين الذهاب والإياب الجلوس لقضاء الحاجة ونحوه ، فلا بد حينئذ من إرادة مقدار ذلك ، وهو البريدان ، فتأمل.

على أن الإجماع بقسميه متحقق على التقصير في قطع البريدين وإن كان في بعض اليوم ، ولعله اليه يرجع ما سمعته من الذكرى من تقديم التقدير على مسير اليوم ، وإن كان الظاهر أن مدركه غير ما ذكرنا إلا أنه لا بأس به بعد الاتحاد بالعمل.

بل لعله هو مراد الأصحاب كالمصنف وغيره ممن عبر بعبارته عن المسافة من أنها هي مسير يوم بريدين ثمانية فراسخ حتى قيل : إن ذلك معقد إجماع غير واحد منهم كالشيخ والسيد والشريف ابن زهرة وابن إدريس والفاضلين وغيرهم.

ومقدار البريدين من غير خلاف يعرف فيه أربعة وعشرون ميلا كل واحد منهما اثني عشر ميلا ، وكان البريد في الأصل لدابة الرسول الذي يستعملونه الملوك في حوائجهم ، ثم نقل إلى الرسول نفسه ، ثم إلى المسافة المذكورة ، وربما ظهر من بعضهم أن الجميع معان له من غير نقل.

وعلى كل حال فالمراد منه هنا المسافة المزبورة ، لموثق سماعة وصحيح زرارة ومحمد بن مسلم السابقين ، وحسنة الكاهلي (٢) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : التقصير في الصلاة بريد في بريد أربعة وعشرون ميلا » وغير ذلك ، فيتحد حينئذ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٣.

١٩٧

نصوص البريدين مع ما دل على تقدير المسافة بأربعة وعشرين ميلا ، كموثق العيص (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « في التقصير حده أربعة وعشرون ميلا » وغيره ، بل ومع ما دل على تقديرها بثمانية فراسخ ، لأنها بريدان كما هو صريح موثقة سماعة السابقة ، ولأن الفرسخ بإجماع العلماء كافة كما في المدارك ثلاثة أميال مضافا إلى تقديره بذلك أيضا لغة ، بل قيل ونصا (٢) فما في خبر المروزي (٣) عن الفقيه عليه‌السلام من تقدير البريد بستة أميال ، قال : وهو فرسخان شاذ أو محمول بقرينة السائل على إرادة الفرسخ الخراساني الذي هو كما قيل عبارة عن فرسخين على الضعف مما عندنا ، ونحوه الميل ، فتكون الستة عبارة عن اثني عشر ميلا عندنا ، كما أن الفرسخين عبارة عن أربعة ، وعليه تتضح دلالة الخبر المزبور على ما هو المعروف المشهور من كون المسافة ثمانية أو أربعة ذاهبا وأربعة جائيا ، نعم لا دلالة فيه على الرجوع لليوم كغيره من النصوص ، وينبغي حمل الأمر فيه بإعادة الصلاة على الندب جمعا ، فلاحظ وتأمل.

وأما الميل فـ ( أربعة آلاف ذراع بذراع اليد ) من لدن المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى من مستوي الخلقة الذي طوله أربع وعشرون إصبعا تعويلا على المشهور بين العلماء من الناس بل في المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب ، كما عن غيرها أنه لا خلاف فيه بينهم يعرف ، وقد نص عليه المسعودي في كتاب مروج الذهب على ما حكاه عنه في السرائر كما ستسمع أو مد البصر من الأرض كما في المصباح والقاموس والصحاح حاكيا له عن ابن السكيت ، ولعلهما بناء على أن المراد ما يتميز به الفارس من الراجل للبصر المتوسط في الأرض المستوية أو المتوسطة من مد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ٤.

١٩٨

البصر متقاربان ، ولذا كان ظاهر المتن التخيير في الاعتبار بكل منهما ، وما في المدارك ـ من أن ظاهره التوقف في المعنى الأول حيث نسبه إلى الشهرة وذكر الآخر جازما به ـ ليس في محله ، بل ظاهره التخيير بقرينة لفظ التعويل ، بل لعل تقديمه مشعر بترجيحه على الأخير كما اعترف به في التنقيح ، لتقدم العرف على اللغة عند التعارض ، والشهرة هنا بناء على أن المراد منها غير الشهرة الفتوائية صالحة لإثبات ما نحن فيه ، لكونه من الموضوعات ، فنسبة ذلك إليها لبيان مدرك الحكم لا للتوقف فيه كما حكاه في الرياض عن بعض مشايخه.

مع أنه ربما يدل عليه ـ مضافا إلى الشهرة وغيرها مما عرفت ، ومناسبته للتحديد اللغوي بمد البصر ، ولتقدير المسافة بمسيرة اليوم أيضا ـ ما حكي عن القاموس « من أن الميل قدر مد البصر ، أو منار يبنى للمسافر ، أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد أو مائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع ، أو ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثني عشر ألفا بذراع المحدثين » إلى آخره. إذ من الواضح انطباقه على ما ذكره من المائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف ، ومنه يظهر أنه لا وجه لذكره الأربعة آلاف ذراع يعني مقابلا للمائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف ، بل الظاهر رجوع التقدير بالثلاثة آلاف ذراع إليه أيضا كما نبه عليه الفيومي في مصباحه ، قال هو على ما يقتضيه ما حضرني من نسخته أو حاكيا له عن الأزهري على ما عن أخرى : « والميل عند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع ، وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع ، والخلاف لفظي فإنهم اتفقوا على أن مقداره ستة وتسعون ألف إصبع ، والإصبع ستة شعيرات بضم بطن كل واحدة للأخرى ولكن القدماء يقولون : الذراع اثنتان وثلاثون إصبعا ، والمحدثون أربع وعشرون إصبعا ، فإذا قسم الميل على رأي القدماء كل ذراع اثنتين وثلاثين كان المتحصل‌

١٩٩

ثلاثة آلاف ذراع وإن قسم على رأي المحدثين أربعا وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عند الكل ثلاثة أميال ، وإذا قدر الميل بالغلوات وكانت كل غلوة أربعمائة ذراع كان ثلاثين غلوة ، وإن كان كل غلوة مائتي ذراع كان ستين غلوة » إلى آخره.

بل قد يقرب منه أيضا ما عن المهذب من أن الميل الهاشمي أربعة آلاف خطوة واثني عشر ألف قدم ، لأن ( وإن خ ل ) كل خطوة ثلاثة أقدام منسوب إلى هاشم جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يقرب منه أيضا‌ مرسل محمد بن يحيى الخزاز (١) عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام قال : « بينما نحن جلوس وأبي عند وال لبني أمية على المدينة إذ جاء أبي فجلس ، فقال : كنت عند هذا قبيل ، فسألهم عن التقصير فقال قائل منهم : في ثلاث ، وقال قائل منهم : يوما وليلة ، وقال قائل منهم : روحة ، فسألني فقلت لهم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزل عليه جبرائيل بالتقصير قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فيكم ذاك؟ فقال : في بريد ، قال : وأي شي‌ء البريد قال : ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير ، قال : ثم عبرنا زمانا ثم رأي بنو أمية يعملون أعلاما على الطريق ، وأنهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر عليه‌السلام فذرعوا ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير ثم جزؤه على اثني عشر ميلا ، فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كل ميل ، فوضعوا الأعلام ، فلما ظهر بنو هاشم غيروا أمر بني أمية غيرة ، لأن الحديث هاشمي ، فوضعوا إلى جنب كل علم علما » بناء على أن المراد بالذراع فيه ذراع الملك الكسروي القديمة التي مقدارها سبع قبضات عبارة عن ثمانية وعشرين إصبعا كما حكاه في المصباح المنير ، إذ عليه حينئذ يزيد على المزبور تقريبا من ألفين إصبعا ، أو على أن المراد بالذراع ذراع الحديد المسماة بالسوداء المقدرة بسبع وعشرين إصبعا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١٣.

٢٠٠